رسائل الجاحظ



كتاب البغال
 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وعلى اسم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد خاصة، وعلى أنبيائه عامة.
كان وجه التدبير في جملة القول في البغال، أن يكون مضموما إلى جملة القول في الحافر كله، فيصير الجميع مصحفاً تاما، كسائر مصاحف " كتاب الحيوان " . والله المقدر والكافى.
وقد منع من ذلك ما حدث من الهم الشاغل، وعرض من الزماتة، ومن تخاذل الأعضاء، وفساد الأخلاط، وما خالط اللسان من سوء التبيان، والعجز عن الإفصاح، ولن تجتمع هذه العلل في إنسانٍ واحد، فيسلم معها العقل سلامةً تامةً.
وإذا اجتمع على الناسخ سوء إفهام المملى، مع سوء تفهم المستملى، كان ترك التكلف لتأليف ذلك الكتاب أسلم لصاحبه من تكلف نظمه على جمع كلِّ البال، واستفراغ كلِّ القوى.
فأما الهمّة وتشعب الخواطر المانعة من صحة الفكر، واجتماع البال، فهذا ما لابدَّ من وقوعه.
فليكن العذر منك على حسب الحال، والخيرة فيما صنع الله. وقد علمنا أن الخيرة مقرونة بالكره، وبالله التوفيق.
عناية الأشراف بالبغال

نبدأ إن شاء الله، بما وصف الأشراف من شأن البغلة، في حُسن سيرتها، وتمام خلقها، والأمور الدالَّة على السرّ الذي في جوهرها، وعلى وجوه الارتفاق بها، وعلى تصرُّفها في منافعها، وعلى خفّة مئونتها في التنقّل في أمكنتها وأزمنتها، ولم كلف الأشراف بارتباطها، مع كثرة ما يزعمون من عيوبها؟ ولم آثروها على ما هو أدوم طهارة خُلُقٍ منها؟ وكيف ظهر فضلها مع النقص الذي هو فيها؟ وكيف اغتفروا مكروه ما فيها، لما وجدوا من خصال المحبوب فيها؟ حتى صار الرجل منهم يُنشد العُذّال فيها كقول السَّعديّ:
أخٌ لي كأيَّام الحياة إخاؤه ... تلوَّن ألْواناً عليَّ خُطوبُها
إذا عبْت منه خصلةً فهجرْتُهُ ... دعتْني إليه خصْلةٌ لا أعيبُها
ولقد كلف بارتباطها الأشراف، حتى لُقِّب بعضهم من أجل استهتاره بها ب " روَّاض البغال " ، ولقَّبوا آخر: ب " عاشق البغل " ؛ هذا مع طيب مغارسهم، وكرم نصابهم، ولذلك قال الشاعر:
وتثعْلب الرَّوَّاضُ بعْد مراحه ... وانْسلَّ بيْن غرارتيْه الأعْورُ
وهجاه أيضاً الفرزْدق بأمر الحجَّاج، ففحُش عليه، حتى قال:
وأفْلت روَّاض البغال ولمْ تدعْ ... له الخْيْلُ منْ أحْراح زوجيْه معْشرا
وقال لشريف آخر:
ما زلْت في الحْلبات أسْبق ثانياً ... حتَّى رُميت بعاشق البغلِ
لو كان شاور ما عبأْت به ... يوم الرِّهانِ وساعة الحفْلِ
وشاور هذا: رائضٌ كان ببغداد، والشاعر رجلٌ من بني هاشم؛ ولم يعْنِ بقوله " ما زلت في الحلبات أسبق ثانيا " : أنه جاء ثانى اثنين، وإنما ذهب إلى أنه جاء متمهِّلاً، وقد ثنى من عنانه.
وكتب روْح بن عبد الملك بن مروان إلى وكيلٍ له: " أبغنى بغلةً حصَّاء الذَّنب، عظيمة المحْزم، طويلة العُنق، سوْطُها عنانها، وهواها أمامها " .
وكان مَسْلمة بن عبد الملك يقول: " ما ركب الناس مثل بغلةٍ قصيرة العذار، طويلة العنان " .
وقال صفوان بن عبد الله بن الأهْتم، لعبد الرحمن بن عبّاس بن ربيعة بن الحارث بن المُطَّلب، وكان ركَّاباً للبغلة: " مالك وهذا المركب الذي لا تُدْرك عليه الثار، ولا يُنجيك يوم الفرار؟ " قال: " إنها نزلت عن خُيلاء الخيل، وارتفعت عن ذِلّة العَيْر، وخير الأمور أوساطها " . فقال صفوان: " إنّا نُعلِّمكم، فإذا علمتم تعلَّمنا منكم! وهو الذي كان يُلقَّب: " روَّاض البغال " ؛ لحذقه بركوبها، ولشغفه بها، وحُسن قيامه عليها. وكان يقول: " أريدها واسعة الجُفرة، مُنْدحَّة السُّرَّة، شديدة العكْوة، بعيدة الخطوة، ليِّنة الظهر، مُكْرَبَة الرُّسْغ، سفْواء جرْداء عنقْاء، طويلة الأنقاء " .
وقال ابن كُناسة: سمعت رجلاً يقول: " إذا اشتريت بغلة فاشترها طويلة العُنق، نجْدةً في نجائها مُشرفة الهادى، نجْدةً في طباعها، ضخمة الجوْف، نجدةً في صبرها " .
والعرب تصف الفرس بسعة الجوف. قال الراجز:
غشمْشمٌ يَعْلو الشَّجرْ ... ببطْنه يعْدو الذَّكرْ
قال الأصمعيّ: لم يسبق الحْلبة قطُّ أهضم.
وقال يونس: كان نابعة الجعْديُّ أوصف النَّاس لفرس، قال: فأنشدت رُؤبة قوله: فإن صدقوا قالوا: جوادٌ مُجرَّبٌ ضليعٌ، ومنْ خير الجياد ضليعها فقال: ما كنت أظنُّ المرْهف منها إلا أسرع.
قالوا: ولم يكن رؤبة وأبوه صاحبيْ خيل.
وقال سليمان بن عليّ لخالد بن صفوان، ورآه على حمار: ما هذا يا أبا صفوان؟ قال: أصلح الله الأمير، ألا أُخبرك عن المطايا؟ قال: بلى. قال: " الإبل للحمل والزَّمْل، والبغال للأسفار والأثقال، والخيل للطَّلب والهرب، والبراذين للجمال والوطاءة، وأما الحمير فللدَّبيب والمرْفق " .
قالوا: وكانت للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بغلة تسمَّى " دُلْدُل " ، وحمار يُسمَّى " يعفْور " ، وفرس يُسمَّى " السَّكْب " ، وله ناقتان: " العضْباء " ، " والقصْواء " .
قالوا: وكان عليّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه، يُكثر ركوب بغلة عبد الله بن وهْب الشهباء، التي غنمها يوم النَّهْروان. هذا في قول الشيعة، وأما غيرهم فينكرون أن يكون عليّ، كرم الله وجهه، يرى أن يغنم شيئاً من أموال أهل الصلاة، كما لم يغنم من أموال أصحاب الجْمل.
قال البُقْطُريّ، ويُكنى أبا عثمان، واسمه فهدان:

لقى رجلٌ بكر بن عبد الله المُزنيّ، فقال له: رأيتك على فرس كريم، ثم رأيتك على عيْرٍ لئيم، ثم رأيتك قد أدْمنت ركوب هذه البغلة! قال: البغال أعدل، وسيرُها أقصد.
عليّ بن المدينيّ قال: حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدَّثني أبي إسحاق، قال: حدثني حكيم بن حكيم، عن مسعود بن الحكم، عن أُمه، قالت: كأني أنظر إلى عليّ بن أبي طالب، رضوان الله عليه، على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء، في شعْب الأنصار " .
وبروى عن عبد الرحمن بن سعْد، قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه، على بغلة بيضاء، يضفْر لحيته.
ومن حديث الزُّهْري وغيره، عن كثير بن العبَّاس، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنيْن على بغلته الشَّهْباء " في حديث طويل في المغازي.
وفي هذا الحديث: فخضَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " الآن حمى الوطيس " . وهذه كلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسبقْه إليها أحد، وكذلك قوله: " مات حتْف أنفْه " ، وكذلك قوله: " كلّ الصيد في جوْف الفرا " ، وكذلك قوله: " هُدْنةٌ على دخن " ، وكذلك قوله: " لا يُلسع المؤمن من جُحرٍ مرَّتين " . فصارت كلها أمثالاً.
قالوا: وكان ابن أبي عتيق يركب البغال، وكذلك ابن أبي ربيعة. وكان هشام بن عبد الملك أكثر الناس ركوباً لها.
وعن أبي الأشهب، عن الحسن قال: قال قوم وعثمان رضي الله عنه محصور: " لو بعثتم إلى أمّ المؤمنين رضي الله عنها فركبت، فلعلّهم أن يكفّوا " . فأرسلوا إلى أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها رمْلة، فجاءت على بغلة شهباء في محفَّة. قالوا: من هذه؟ قالوا: أمّ المؤمنين، أمّ حبيبة. قالوا: لا - والله - لا تدخل، فردُّوها.
وقالوا: وقع بين حيَّيْن من قريش منازعة، فخرجت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها على بغلة، فلقيها ابن أبي عتيق، فقال: إلى أين جُعلْت فداك؟ قالت: أُصلح بين هذين الحييَّن. قال: والله ما غسلنا رءوسنا من يوم الجمل، فكيف إذا قيل: يوم البغل! فضحكتْ وانصرفت.
هذا - حفظك الله - حديثٌ مصنوع، ومن توليد الرَّوافض، فظنَّ الذي ولّد هذا الحديث، أنه إذا أضافه إلى ابن أبي عتيق، وجعله نادرةً ومُلحة، أنه سيشيع، ويجري عند الناس مجْرى الخبر عن أمّ حبيبة وصفيّة. ولو عرف الذي اخترع هذا الحديث طاعة الناس لعائشة - رضي الله عنها - لما طمع في جواز هذا عنه.
وقال عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : " مُنيتُ بأربعة: مُنيت بأشجع الناس، يعني الزُّبيْر؛ وأجود الناس، يعني طلْحة؛ وأنضّ الناس، يعني يعْلى بن مُنْية؛ وأطوع الناس في الناس، يعني عائشة " .
ومن بعد هذا، فأيُّ رئيس قبيلٍ من قبائل قريش كانت تبعث إليه عائشة - رضي الله عنها - رسولاً فلا يُسارع، أو تأمره فلا يُطيع، حتى احتاجت أن تركب بنفسها؟ وأيّ شيء كان قبل الركوب من المراسلة والمراوضة والمُدافعة والتقديم والتأخير، حتى اضطرَّها الأمر إلى الرُّكوب بنفسها؟ وإنّ شرّاً يكون بين حيَّيْن من أحياء قريش، تفاقم فيه الأمر، حتى احتاجت عائشة - رضي الله عنها - إلى الركوب فيه، لعظيم الخطر، مُستفيض الذِّكر؛ فمن هذا القبيلان؟ ومن أيّ ضرْبٍ كان هذا الشرّ؟ وفي أيّ شيءٍ كان؟ وما سببه؟ ومن نطق من جميع رجالات قريش فعصوه وردُّوا قوله، حتى احتاجت عائشة فيه إلى الركوب؟ ولقد ضربوا قواديم الجمل، فلما برك ومال الهودج صاح الفريقان: " أُمَّكم! أُمَّكم " .
فأمر عائشة أعظم، وشأنها أجلّ، عند من يعرف أقدار الرجال والنساء، من أن يُجَوِّز مثل هذا الحديث المولَّد، والشرّ المجهول، والقبيلتين اللتين لا تُعرفان.
والحديث ليس له إسناد؛ وكيف وابن أبي عتيق شاهدٌ بالمدينة، ولم يعلم بركوبها، ولا بهذا الشرّ المتفاقم بين هذين القبيلين؟ ثم ركبت وحدها، ولو ركبت عاثشة لما بقي مُهاجريّ ولا أنصاريّ، ولا أمير ولا قاضٍ إلاّ ركب؟ فما ظنُّك بالسُّوقة والحُشْوة، وبالدَّهْماء والعامّة.
رواة الأخبار
وما هو إلاّ أن ولّد أبو مخْنف حديثاً، أو الشَّرْقيُّ بن القُطاميّ، أو الكلبيّ، أو ابن الكلبيّ، أو لقيط المُحاربيّ، أو شوْكرٌ أو عطاءٌ الملط، أو ابن دأْب، أو أبو الحسن المدائنيّ ثم صوَّره في كتابٍ، وألقاه في الورَّاقين، إلاّ رواه من لا يحصِّل ولا يثبِّت ولا يتوقف. وهؤلاء كلّهم يتشيَّعون.

وكان يونس بن حبيب يقول: " يا عجبا للناس، كيف يكتبون عن حمّاد وهو يصحِّف ويكذب ويلحن ويكسر " !.
ومن أراد الأخبار فليأخذْها عن مثل قتادة، وأبي عمرو بن العلاء وابنجُعْدبة، ويونس بن حبيب، وأبي عُبيْدة، ومسْلمة بن مُحارب، وأبي عاصم النَّبيل، وأبي عُمر الضَّرير، وخلاَّد بن يزيد الأرقط، ومحمد بن حفص - وهو ابن عائشة الأكبر، وعُبيْد الله بن محمد - وهو ابن عائشة الأصغر، ويأخذها عن أبي اليقْظان سُحيْم بن قادم. فإنَّ هؤلاء وأشباههم مأمونون، وأصحاب توقٍّ وخوْف من الزوائد، وصوْن لما في أيديهم، وإشفاق على عدالتهم.
الحاجة إلى البغال
ولما خرج قطر قطريّ بن الفُجاءة، أحبَّ أن يجمع إلى رأيه رأي غيره، فدسَّ إلى الأحْنف بن قيْس رجُلاً، ليُجرى ذكره في مجلسه، ويحفظ عنه ما يقول. فلما فعل قال الأحنف: " أما إنّهم إنْ جنبوا بنات الصَّهَّال، وركبوا بنات النَّهَّاق، وأمسوْا بأرضٍ وأصبحوا بأرضٍ، طال أمرهم " .
قالوا: فلا نرى صاحب الحرب يستغني عن البغال، كما لا نرى صاحب السِّلْم يستغني عنها، ونرى صاحب السَّفر فيها كصاحب الحضر.
قال الأصمعيّ عن جرير بن حازم عن الزُّبير بن الخرِّيت، عن أبي لبيد - واسمه لمازة بن زبَّار - قال: مرّ بنا زياد في سكَّتنا هذه، وهو على بغلةٍ قد لوى رسنها على عُنقها تحت اللِّجام، ومعه رجُل أو رجلان.
هذا وزياد على العراق أجمع.
قال: وتهيَّأ الناس لخالد بن عبد الله مقْدمه من الشام، وركب ابن هُبيْرة بغلته، ووقف له في المضيق. فلما طلع خالد غمز ابن هُبيْرة بغلته غمزةً فإذا ابن هبيرة بينه وبين الذي كان يُسايره، فقال: كيف أنت يا أبا الهيثم؟ وليت منَّا أمراً تولَّى الله أحسنه، ولك منا المكافأة! فقال له خالد: فررْت منيّ فرار العبد! فقال عمر: حين نمْت عن نوم الأمة! فانتهى الخبر إلى هشام، فقال: " قاتله الله " !.
حمل البغال للهدايا
قالوا: والهدايا النفيسة، والطُّرف العجيبة، والكرامات الثمينة، التي أهدتْها بلْقيس بنت ذي شرْح إلى سليمان بن داود، هي الهدايا التي أخبر الله عن سليمان بن داود - عليهما السلام - أنه قال: " بل أنتم بهديَّتكم تفرحون " . ولم تكن الملكة تبتهج بتلك الهدايا - وهي إلى سليمان، وسليمان هو الذي أعطاه الله مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده إلاَّ وهي هدايا شريفة.
قالوا: فهذه الهدايا الشريفة إنّما كانت على البغال الشُّهْب.
إيثار البغال في الركوب
وكان ممن يركبها كثيراً إسماعيل بن الأشْعث، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث.
قال: وقال حوْشب بن يزيد بن رُويْم لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث: دعْني أهيَّج عليك عمَّك أبا الفضل إسماعيل بن الأشعث.
قال: لا تعرِّضْني له، فإنه ضعيف، فأشفقْ عليه. فقال: يا أبا الفضل، إنّ ابن أخيك زعم أنّ بغلتك جلاَّلة. قال: لكنّ بغلته لو أفلتت ما تركتْ بيت زانية ولا بيت خمّار، إلاّ وقفتْ عليه! قال عبد الرحمن: ما كان أغنانا عمَّا أظهرت لنا من ضعْف شيخنا! ولمَّا وفدت عائشة بنت طلْحة على عبد الملك بن مروان، وأرادت الحجّ، حملها وأحشامها على ستِّين بغلاً من بغال الملوك؛ فقال عُروة بن الزُّبيْر:
يا عَيْش يا ذات البغال السِّتِّينْ ... أكلَّ عامٍ هكذا تحجِّينْ
وكان مروان أبو السِّمط يركب بغلةً له بالبصرة، لا يكاد يُفارقها. فقال الجمَّاز وهو يهجوه:
اجْتمع النَّاس وصاحوا: الحريق ... بباب عُثمان وسوق الرَّقيقْ
فجاء مروان على بغْلةٍ ... فأنشد الشِّعْر فأطْفأ الحريق
يرمي شعره بالبرْد. وكان حسده حين سمع قائلاً يقول: لم يُصبْ شاعرٌ قطُّ ما أصاب أبو السِّمْط، ولا أصاب حجَّامٌ ما أصاب أبو حرملة.
وقد هجاه أيضاً فقال:
يا أبا السِّمْط، حزيرا ... ن وتموز وآبُ
كنْ لنا منها مُجيراً ... لك في ذاك ثوابُ
بشُعيْرٍ يذْهب الحرَّ ويهنْينا الشَّرابُ
وقال ابن سيرين لرجلٍ: ما فعلتْ بغلتُك؟ قال: بعْتُها. قال: ولم؟ قال: لمؤونتها. قال: أفتراها خلَّفت رزقها عندك؟ وذكر يوسف بن خالد السَّمْتيُّ، عن مُجالد، فيما أحسبُ، قال: بال بغلي فتنحَّيْتُ. فقال الشّعْبيّ: ما عليك لو أصابك.

قال: وكانت لابن سيرين بغلتان: بغلة لخاصّة نفسه، وبغلة للعاريَّة.
وكتب سليمان بن هشام إلى أبيه: إنَّ بغلتي قد عجزت، فإن رأيت أن تأمر لي بدابة فافعل. فكتب إليه: " قد فهمت كتابك، وما ذكرت من ضعف بغلتك، وما ذاك إلاّ لقلة تعهُّدك، فتفقَّدْها، وأحْسن القيام عليها. ويرى أمير المؤمنين في ذلك رأيه " .
نوادر وأخبار في البغال
ومن النوادر، قال: ادَّعى رجل على الهَيْثم بن مُطهَّر الفأفاء أنه سرق بغلا؛ فقال له الوالي: ما يقول؟ قال: ما أعرف مما يقول شيئاً: قال: أصلحك الله، إنه سكران فاستنكْهه. قال: لأيّ شيءٍ يسْتنكهني؟ آكلْت البغل؟ وقال آخر يهجو رجلاً:
يا حابس الرَّوْث في أعْفاج بغْلته ... شُحّاً على الحبِّ من لقْط العصافير
وهذا شبيه بقول الشاعر:
رأيْت الخُبْز عزَّ لديك حتَّى ... حسبت الخبز في جوِّ السَّحابِ
وما روَّحْتنا لتذُبَّ عنَّا ... ولكنْ خِفْت مرْزئة الذُّبابِ
وهذا ليس من الهجاء الموجع، وإنما الهجاء ما يكون في الناس مُثْلة.
قالوا لحمدان أبي سَهْل اللِّحْيانيّ: علمت أن برْذون صاحب الحبْس نفق؟ قال: والهفاه! كنت أرجو أن يكسد فيخسر، فإذا هو قد باع وربح. فظنَّ أنَّ قوله: قد نفق، من نفاق السِّلعة.
ومثل هذا وليس من ذكر البغال في شيء، ما سمع رجلٌ رجلا يُنشد قوله:
وكان أخلاَّئي يقولون مرْحباً ... فلمَّا رأوْني مُعْدماً مات مَرْحبُ
فقال: مَرْحبٌ لم يمت، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام! ونظر أبو الحارث جُمَّيْن إلى أتانِ وحْش يُنْزى عليها حمارٌ أهليٌّ، فأنشد:
لو بأبانْين جاء يخْطُبُها ... رُمِّل ما أنْف خاطبٍ بدمِ
ونظر إلى برْذوْنٍ يُسْتقى عليه الماء، فأنشد:
وما المرْء إلاَّ حيْث يجعل نفسه ... ففي صالح الأعمال نفسك فاجْعلِ
هذا لو همْلج لم يصبْه ما أصابه.
قالوا: وكان لأبي الحارث بغلٌ قطوف، فلما أعياه استقى عليه الماء؛ فرآه يوماً في الطريق، وعليه مزداة ثقيلة، وهو يمشي تحتها مشياً وطيئاً؛ فقال: لو مشى تحت الخفيف كما يمشي تحت الثقيل، وكان الإنسان أحبَّ إليه من الرَّاوية، ربح هو الكرامة، وربحت أنا الوطاءة! قال: ونظر أعرابيٌّ إلى بغل سقَّاءٍ، وقد تفاجَّ ليبول، فاستحثَّه بالمقْرعة، وقطع عليه البول. فقال الأعرابي: إنّها إحدى الغوائل، قطع الله منك الوتين!.
قال إبراهيم بن داحة: كان في طريق الموْصل سكَّة بريد، وبقرب السكَّة مسجد ومُستراحٌ للمسافر، وفي تلك السكَّة بغل لا يُرام ولا يمانع، وكان إذا انقلت من قيْده وسلْسلته، وقد عاين برْذوْناً أو بغلاً أو فرساً، اغتصبه نفسه، واقتسره اقتسارا، فلا ينزع عنه حتى يكومه، وربما قتله، لعظم جُرْدانه، وإن كان عليه راكبُه صرعه، وربما قتله، حتى جاء شيخٌ أعرابيّ على فرس له أعرابيّ أعجف بادي الحراقيف، حتى نزل عن فرسه على دُكّان ذلك المسجد، وعلّق المخْلاة في رأسه، وحلّ حزامه، وترك عليه سرْجه، وأخذ مِخْلاته، وجاء البغل قد أدلى، يُريد أن يركب فرس الأعرابيّ، فجمع رجليْه، فواتر على جبهة البغل، وعلى حجاج عينيه، فرمحه خمس رمحاتٍ أو ستّاً متواليات، كلَّها يقع حافرا رجليه معاً، فنكص البغل شيئاً يسيراً، ثم عاوده، فنثر على وجهه وحجاج عينيه مثل ذلك العدد، في أسرع من اللَّحظ، وفرس الأعرابيّ في ذلك كلِّه واقفٌ لا يتحلحل، والأعرابي قد ضحك حتى استلقى، فولّى البغل يريد السكَّة، فشدّ عليه فرس الأعرابي من بين يديه، فلحقه الفرس فعضَّضه، وكامه الفرس، ورجع الفرس إلى موضعه، ودخل البغل السكَّة فكبَّروا عليه، ونثروا عليه الرّوث اليابس، وشمت به جميع السّاسة، وافترّوا عليه، فترك البغل ذلك الخُلق. وقال الأعرابيّ وكأنه يخاطب البغل:
ظننْت فُريْس الشّيْخ يا بغْل نهزْةً ... فجئْت مُدلاً كالهزبْر تطاولهْ
فولَّيْت مفْلولاً وطابقْت مُذْعناً ... كما طابقتْ للبغل يوماً حلائلهْ
قال: وقدَّموا إلى سليمان بن عبد الملك جدْياً سميناً، فقال: لأبي السَّرايا - وكان من مجانين الأعراب - كلْ منْ شحم كليته، فإنه يزيد في الدِّماغ. قال: لو كان الأكل من كُلى الجدي يزيد في الدِّماغ، كان رأس الأمير أعظم من رأس البغل!.

وإنما قال الأمير، لأن سليمان كان يومئذٍ وليّ عهد.
وقد غلط من زعم أنهم كانوا وضعوا قدّام سليمان جديا، وإنما كان يأكل ملوكهم الحملان، لأنها هناك أطيب ويسمّونها: " العماريس " .
ولما قدم عبد الملك بالكوفة، وضعوا بين يديه جدياً، قال: فهلا جعلتموه عمروساً؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، تلك عماريس الشام؛ فأما العراق فجداؤها أطيب وأكرم.
وتفاخر ناس بكبر الأيور، وشيخٌ جالسٌ لا يخوض معهم؛ فلما أكثروا قال الشيخ: لو كان كبر الأيور مجداً كان البغل من بني هاشم! وشهد مزبِّد المديني عند قاضي المدينة بشهادة؛ وكان ذلك القاضي مفرط الحدة، شديد البطش، سريع الطيرة، فقال له القاضي: أعليَّ تجترئ وعندي تشهد؟! جرَّا برجليه وألقياه تحت البغلة! فلما أمعنا به نحو البغلة، التفت إلى القاضي فقال: أصلحك الله، كيف خلقها؟ فضحك وخلّى سبيله.
وكان نميلة بن عكاشة النميري متكايساً؛ فدخل دار بلال بن أبي بردة، فرأى ثوراً مجللاً، فقال: سبحان الله! ما أفرهها من بغلة لولا أنّ حوافرها مشقوقة! قالوا: ورأى الطائف باليل شخصاً عظيما قد اخنس عنه، فشدّ نحوه، فإذا حمدوية المخنَّث قد جلس كأنه يخرأ، ولم يكن خراء، وكان قد جلس على روث؛ فقال له: أنت أيَّ شيء تصنع ها هنا هذه الساعة؟ قال: خرجت أخرأ. فنظروا فإذا تحته روثة، قالوا: مالك، صرت بغلاً؟ قال: هذا زيادة عليكم، كل إنسان يخرأ ما يشاء! قال أبو الحسن: نظر جحا إلى رجل بين يديه يسير على بغلة،فقال للرجل: الطريق يا حمصيّ! فقال الرجل: ما يدريك أني حمصيّ؟ قال: رأيت حر بغلتك، فإذا هو يشبه الحاء، ورأيت فقحتها فرأيتها تشبه الميم، ورأيت ذنبها فإذا هو يشبه الصاد، فقلت: إنك حمصيّ! قالوا: وابتاع عبّاديٌّ بغلاً، فمّر بالحيّ، فقالوا: بارك الله لك! قال: لا تقولوا هكذا. فكيف نقول؟ قال: قولوا: لا بارك الله لك فيه! قالوا: سبحان الله! أيقول هذا أحدٌ لأحدٍ له فيه رأي؟ قال: قولوا كما أقول لكم! قالوا:لا بارك الله لك فيه! قال: وقولوا: وأعضّك ببظر أمك! قالوا:نعم، قال: إن أنا أعرتكموه أبداً! وهذا يشبه حديث سندية الطحانة، وكانت تطحن بالنهار، وتؤدي الغلّة وتخدم أهلهاباليل، فانكسفت الشمس يوماً، فقالت لها مولاتها: اذهبي يا شهدة، أنت حرة لوجه الله! قالت: أليس قد صرت حرة! ثم عدت من بين يديها، فقامت على باب الدار رافعةً صوتها تقول: من قال لي زانية فهي زانية، من قال لي لصة فهي لصة، من قال لي قوّادة فهي قوّادة. هاتي الآن رحى لك! وأخبرني أبو الزبير كاتب محمد بن حسان، قال: وقف الهيثم بن مطهر الفأفاء على باب الخيزران ينتظر رجلا يخرج من عندها، فبعث إليه عمر الكلوذانيّ: قد نهينا أن نجعل ظهور دوابنا مجالس، فانزل عن ظهر دابتك؛ فالأرض أحمل لثقلك. فقال للرسول: إني أنتظر رجلا قد حان خروجه، فبعث إليه: أن انزل عن دابتك، فإذا خرج صاحبك فاركب والحق به. فقال للرسول: أعلمه أني أعرج، وأنا مع هذا رجل مثقل باللحم، ولا آمن أن يسبقني الرجل سبقاً بعيداً، فلا ألحقه. فرد الرسول، فقال: يقول لك: إنْ أنت نزلت، وإلاّ أنزلناك صاغراً. فقال الهيْثم: قُلْ له: إن كنت إنّما تنظر للبغل، فهو حبيسٌ في سبيل الله؛ إنْ أنزلتني عنه، إنْ أقضمته حبَّة شعيرٍ شهراً، فسلْه الآن: أيُّما أحبُّ إليه: ركوبي له ساعةً، أو حرْمان الشعير شهراً! فلما جاءته الرسالة قال: ويْلكم! هذا شيطان! دعوه في لعنة الله.
قال: ونظر إليه جعفر والفضل ابنا يحيى، وهو واقف في ظلّ قصر من قصور الشَّمَّاسيَّة، فنظر إلى شيخ عجيب الخلْقة، وإذا تحته بغلٌ أعجف، يكاد يسقط هُزالاً وضعفا؛ فقالا له: يا شيخ، لولا تعالج بغلك هذا حتّى يعود سميناً فارهاً في أيَّامٍ يسيرة، بأيسر مئونة؟ قال: بأيِّ شيء أُعالجه؟ قال: تأخذ عشرة أمْناء مسْك وعنْبر، وتعجنها بعشرة أمْناءٍ من بان الغالية، وتطْليه به طليةً واحدة. فتجافي عن سرجه فولَّى وجوههما ظهره، ثم ضرط ضرطةً صُلْبة؛ قالا: ما هذا؟ قال: هذا لكما على الصِّفة، ولو قد أنجع الدَّواء خرينا عليكم!.
وحدَّثونا عن هشام بن حسّان، عن محمّد بن سيرين، قال: كان رجلٌ عيّاب، فأبصر بغلةً تحت شريح، فقال: أبا أميَّة، إنَّ بغلتك لفارهة! قال: إنها إذا ربضتْ لم تقمْ حتى تُبْعث. قال: لا خير فيها إذنْ!.

قال أبو الحسن: كان هشامُ بن عبد الملك يوماً على باب يزيد بن عبد الملك ينظر إلى بغالٍ تُعْرض، فنظر إلى بغلٍ منها لم يرَ الناس مثله في تمام خلْق، وطهارة خُلُق، ولين سيرة، وحُسْن صورة، فقال: ما يصنع أمير المؤمنين بهذه الدوابِّ كلِّها؟ لو أن رجلاً اجتزأ بهذا البغل وحده، لكان مكتفياً.
قال: فلمّا ولى هشام، اتَّخذ البراذين البُخاريّة، والبغال الفُرْهة؛ فأذْكره رجلٌ ذلك الكلام، فقال: وأنا على الرأي الأول، ولكن تأتينا أشياء نحسد الناس عليها.
ما قيل من الشعر في البغال
قال: وكان عند محمد بن سليمان رجل مُغفَّل؛ فأنشد رجلٌ رجزاً قيل في عُمر بن هُبيْرة:
جاءت به مُعْتجراً ببرُْده ... سفواءُ ترْدي بنسيج وحدِهِ
تقْدَحُ قَيْسٌ كُلُّها بزنْدِهِ
فقال الشيخ: بأبي هو وأميّ صلى الله عليه وسلم! لأنه ظزَّ حين سمع بذكر البُرْد والبغلة، أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وإنما هذا كقول أبي دَهْبل:
تحمِلُهُ النَّاقُة الأدْمَاءُ مُعْتجراً ... بالُرْدِ، كالبَدْر جَلَّى ليلة الظُّلَمِ
ومثل قول ابن المَوْلى لجعفر بن سليمان:
أوْحشت الجمّاءُ منْ جعْفرِ ... فجانبا عيْنِ أبي مشعرِ
لمَّا غدا تحمْلُهُ بَغْلةٌ ... مُعْتجراً كالقمر الأزْهرِ
ولمّا قال المدينيّ وهو بالحجاز، وذكر أبا البخْتريّ وهو قاضٍ ببغداد، وإنما ضرب به المثل، ولم تكن قصيدته موجَّهة إليه، فلما سمع قوله أبو البَخْتَريّ:
لو كُنْتَ تَطْلُبُ شأْوَ الكرام ... فعَلْت فعال أبي البَخْتري
تتبَّع إخوانه في البلادِ ... فأغْنى المُقلَّ عن المُكْثرِ
قال: يا غلام، عليَّ بأربعمائة درهم، وتخْتٍ فيه أربعون ثوباً، وبغلة ناجية. فأعطاه، أو فبعث بها إليه.
وقال بعض المُحارفين الفقراء، أو الطِّياب الشعراء:
أتُراني أقُولُ يوْماً من الدَّهْرِ لِبعْضِ التِّجارِ أفْسَدْتَ مالي
أو تُراني أقولُ: مِنْ أيْنَ جَاءَتْ ... لدوابي بذا الشَّعيرِ جِمالي
أوْ تُراني أقُولُ: يا قهْرماني ... لْ غلامي مُوفَّقاً عنْ بِغالي
أو تُراني أمُرُّ فوْق رواقٍ ... لي عالٍ في مَجْلسٍ لي عالي
أسْرِجوا لي، فَيُسْرجُون دوابي ... فأقُولُ: انزْعوا السُّرُوجَ، بدالي
هذياناً كما ترى وفضولاً ... دائم النُّوك مِنْ عظيم المحالِ
ومن هذا الباب قول الآخر:
أخيَّ قدْ أوَّب الحجيج وما ... أمْلكُ لا بَغْلةً ولا فرسا
الله بيْني وبيْن كلِّ أخٍ ... يقول: اجْدَمْ وقائل: عدسا
وقال رجل من بني شيبان، واقترض، فندم بعد أن ركب البغال المقصَّصة بدلاً من النجائب والخيل:
بُدِّلْتُ بَعْدَ نجائبي وركائبي ... أعْواد سرج مُقصَّصٍ همْلاجِ
ووقعْت في عدسٍ كأنّي لم أزلْ ... شنقاً لقوْلي للنّجائب: عاجِ
والله لولا أنْ أُضيَّع غزْوتي ... لرجعْتُ مُنْقلباً لها أدْراجي
وقال الحسن بن هانئ:
غنيتُ بمرْكب البرْذونِ حتَّى ... أطاح الكيس إغْلاءُ الشَّعيرِ
فحُلْتُ إلى البغال فأعْوزتْني ... وحلْتُ من البغالِ إلى الحميرِ
فأعْيتْني الحميرُ فصرْتُ أمْشي ... أُزجِّي المشْي كالرَّجلِ الكسيرِ
وما بي، والحميد الله، كسْرٌ ... ولكنْ فقْدُ حُملانِ الأميرِ
وقال ربيعة الرَّقِّيُّ:
وبلائي أنَّ أُمِّي ... أثقْلتني بإزاري
فإذا ما قُمت أمشي ... همَّ خصْري بانبتارِ
كلَّ ذا أحملُ وحدي ... أيْن منْ أُمِّي فراري
أُمَّتا هذا وربِّي ... حْمل برْذوْنٍ بُخاري
أُمَّتا لسْت ببرْذو ... نٍ ولا بغٍل مُكاري
وقال الحكم بن عبْدلٍ:
مررْت على بغلٍ تزُفُّك ... كأنَّك ديكٌ مائل الرَّأْسِ أعْورُ
تخايلت في جنِّيَّةٍ لتروعنا ... وأنْت إلى وجْهٍ يزينك أفْقر
وقال حنظلة بن عرادة:

تخيّرْت الملوك فحُطَّ رحْلي ... إلى سلْمٍ ولمْ يُخْط اختياري
يقولون اعْتذرْ منْ حُبِّ سلمى ... إذنْ لا يقبلُ الله اعتذاري
إذا مرَّت بجسركم بغالي ... فقوموا فانظروا في شأْن داري
وقوموا ظالمين فهدِّمُوها ... وألقوا منْ صحيفتكم صغاري
وحمل أبو دُفافة بن سعيد بن سلْم دعْبلاً الشاعر على بغل، فوجده - زعم - ذا عيوبٍ فكتب إليه:
حُملْتُ على أعْرجٍ حارنٍ ... فلا للرُّكوبِ ولا للثَّمنْ
حملت على زمنٍ شاعراً ... فسوف تُكافأ بشكْرٍ زمن
وخرج أبو هرْمة الفراريّ من منزله على بغلةٍ فارهة، فشرب بكلّ ما معه واحتاج، فبادل بالبغلة حمارةً، وقال:
خرجْت ببغْلةٍ من عنْد أهْلي ... فجئْت بها وقدْ صارتْ حمارةْ
فمنْ يكُ سائلاً عنِّي فإنِّي ... أنا الغاوي خليعُ بني فزارة
وبادل محمد بن الحارث قيْنةً ببرذون؛ فألفاه صديقٌ له صلاة الغداة وقد ركبه، فقال:
عُجْتُ بالسَّاباطِ يوماً ... فإذا القيْنة تُلجمْ
قيْنةٌ كانتْ تُغنِّي ... مُسختْ برْذوْناً ادهمْ
وقال الآخر:
يا فتْحُ لو كنْت ذاخزٍّ أُجرِّره ... تحْتي سليم الشَّظا منْ نسْل حلاّبِ
أو كنت ذا بغْلةٍ سفْواء ناجيةٍ ... وشاكريَّين لم أُحبسْ عن البابِ
أزْري بنا أنَّنا قلَّتْ دراهمنا ... والفقرُ يُزْري بآدابٍ وأحسْابِ
وقال أبو العتاهية في عبد الله بن معْن بن زائدة:
أُخْت بني شيبْان مرَّتْ بنا ... ممْشوطةً كوْراً أبا بغْلِ
تُكْنى أبا الفضْلِ فيا من رأى ... جاريةً تُكنى أبا الفضلِ
وأشعار ذكروا فيها البغال بالتهجين، ولم يقصدوا إلى أعضائها بشيء، ومنها ما أرادوا بها من تحياز ركوبها، قال بعضهم في هجاء الموالي:
تأمَّلتُ أسْواق العراق فلمْ أجدْ ... دكاكينها إلاّ عليها المواليا
جلوساً عليها ينفضون لحاهم ... كما نفضت عُجْفُ البغالِ المخاليا
وقال طارق بن أُثال الطائي:
ما إنْ يزالُ ببغدادٍ يُزاحمنا ... على البراذين أمثْال البراذينِ
أعطاهم الله أموالاً ومنْزلةً ... من الملوك بلا عقْلٍ ولا دينِ
ما شِئت منْ بغْلةٍ سفواء ناجيةٍ ... ومنْ ثيابٍ وقوْلٍ غيْر موزونٍ
وقال بعضهم في تشبيه الشيء بالشيء، وهذا شعر ينبغي أن يُحفظ:
وهيَّجَ صوْت النَّاعجات عشيَّةً ... نوائح أمثال البغالِ النَّافرِ
يمخِّطْنَ أطراف الأنُوف حواسراً ... يُظاهرْن بالسَّوءات هُدل المشافرِ
بكى الشَّجْو ما دون اللَّهى من حُلُوقها ... ولمْ يبْكِ شجْواً ما وراء الحناجرِ
وما سمعنا في صفة النوائح المستأجرات، وفي اللواتي ينتحلن الحزن وهنَّ خليَّات بالٍ، بأحسن من هذا الشعر.
وها هنا باب من الشعر حسن، وليس من هذا بعينه، ولكنه قد يُشاكله من باب. قال الشاعر:
ألا لا يُبالي البُرْدُ منْ جرَّ فضْله ... كما لا تُبالي مُهْرةٌ منْ يقودها
وقال آخر:
لا يحفْلُ البُردُ منْ أبْلى حواشيهُ ... ولا تُبالي على من راحت الإبلُ
وقال آخر:
أهينوا مطاياكمْ فإنِّي رأيْتُهُ ... يهون على البرْذوْن موْت الفتى النَّدْبِ
وقال آخر:
وإنِّي لأرثي للكريم إذا غدا ... إلى طمعٍ عندَ اللَّئيم يُطالبُهْ
وأرْثي له منْ مجْلسٍ عند بابه ... كمرْثيتي للطِّرْفِ والعْلجُ راكبهْ
وقال مُسلم بن الوليد في برذون ابن أبي أُميَّة:
قلْ لابنِ أُميٍّ: لا تكن جازعاً ... لا يرْجع البرذون باللَّيتِ
طأْمن منْ جأْشك فقدانه ... وكنت فيه عالي الصَّوْتِ
وكنت لا تنْزل عن ظهْره ... ولو من الحشِّ إلى البيتِ
ما مات منْ سُقمٍ ولكنَّه ... مات من الشَّوق إلى الموتِ
وأنشد:

بكيتْ عيْني لبرْذوْني السَّمنْدي ... بُكاء أخي مُحافظةٍ ووُدِّ
وكان لنا حمولة كلِّ زقٍّ ... وكان لكلِّ سكبان مؤدِّي
طبائع البغال وما قيل فيها
قال: ركب صخْر بن عثمان بغلاً، ليبكِّر عليه في حاجة، فقال له عثمان بن الحكم، وهو سيِّد ثقيف في عصره: إن كنت تركبه على أنه عدوٌّ فاركبه، وإلا فدعْه.
وقال أبو الحسيْن النّخَّاس - واسمه الحارث، وهو الذي يقال له مؤمن آل فرعون - إنما يجمح البرذون ليصرع راكبه فقط، ألا تراه إذا سقط عنه، أو رمى بنفسه عن ظهره، وقف البرذون؛ إلاّ برذوناً واحداً، فأتّى رأيته شدَّ عليه بعد أن ألقاه، يكدمه ويرمحه، وكان الناس يُشدُّون عليه، فيتنحّى عنه ويشُدّ عليهم، فإذا أجفلوا من بين يديه رجع إليه يكدمه ويرمحه.
وقال من يذمّ البغال: البغل كثير التلوُّن، به يُضرب المثل، وهو مع هذا قتَّالٌ لصاحبه. قال ابن حازم الباهليّ:
ما لي رأيْتك لا تدو ... م على المودّة للرِّجالِ
مُتبرِّماً أبداً بمنْ ... آخيْت، وُدُّك في سفالِ
خُلق جديدٌ كلَّ بوْ ... مٍ مثْلُ أخلاق البغالِ
وقال آخر في تلوِّن أخلاقه:
ومتى سبرْت أبا العلاء وجدْته ... متلوِّناً كتلوُّن البغلِ
قال آخر:
يزيد تزْري به عنْدي سجيَّتُهُ ... كالبغْلِ، لا شاعرٌ فحْلٌ ولا راوي
وقال عثمان بن الحكم: كان عندنا في الحيّ فتىً ولدتْهُ امرأة مذكَّرة، لرجل مؤنَّث: فما رأيت ولا سمعت بخُلق رديٍّ من أخلاق البغال، إلاّ وقد رأيته فيه.
وقال آخر:
الشُّؤْمُ منْها في ذوات الحجْلِ ... وغُرَّةٍ تصْدعُ جمعَ الشَّمْلِ
وهو خلافُ الفرسِ الهبلِّ ... وكلِّ طرْفٍ ذائلٍ رفلِّ
قدْ حذر الناس أذاه قبْلي ... وعدّدوا كلّ قتيل بغلِ
من ناشئٍ غرٍّ وكهْلٍ جزْلِ ... وسائسٍ ورائضٍ مُدلِّ
وكلُّهمْ قال بقوْلٍ عدْلِ ... وليس يُحصى عيبه ذو عقلِ
إلاَّ الّذي يعْلم عدَّ الرَّملِ ... منهم أبو الفضل أخي وشكلي
مُجرَّحُ الوجْهِ كسير الرِّجلِ ... ومزْيدٌ وجابر المُسْتمْلي
كان مَعْبد بن أخضر المازنيّ - وهو أخو عبَّاد بن أخضر قاتل أبي بلال الخارجي - عند سعيد بن عبد الرحمن بن عتَّاب، فخرج من عنده يوماً على بغل فصرعه، وكسر سرجه، فركبه عُرْياً، وانصرف إلى أهله، فقال:
أما والله يا بن أبي سعيد ... جزاك الله شرّاً منْ عميدِ
فلو في دار طلْحة دُقَّ سرْجي ... لأدَّاني على سرْجٍ جديدِ
فبعث إليه طلحة بسرجٍ.
وأما ربيعة بن أبي الصَّلْت، فقتله بغلٌ على باب عبد الله بن عبَّاس. ومن ولده كلدة بن ربيعة، وكان شريفاً شاعراً.
وممَّن قتلتْه بغلته، خالد بن عثمان بن عفّان، رضي الله عنه؛ وذاك أن خالداً كان بالسُّقْيا، فقال: هذا يوم الجمعة، لئن لم أُجمِّع مع أمير المؤمنين إنها للسَّوْءة السُّوءى! فركب بغلةً له لا تُساير، فسار سبعين ميلاً، فأتى المدينة في وقت الصلاة: فخرَّ ميِّتاً، ونجت البغلة.
وممن قتلته البغال، المُنْذر بن الزُّبير، وكان يُكنى أبا عثمان؛ حمل على أهل الشام وهو على بغلةٍ ورْدةٍ، بعد أن ألحَّ عليه عبد الله بن الزُّبير يذْمُره؛ فلما سمعت البغلة قعْقعة السِّلاح نفرت، فتوقَّلتْ به في الجبل، حتى أخرجتْه من حدود أصحابه؛ فاتَّبعه أهل الشام؛ فناداه عبد الله: انجُ أبا عثمان، فداك أبي وأمِّي! فعثرت البغلة، ولحقه أهلُ الشام، فقتلوه. ولذلك قال يزيد بن مُفرِّغ في هجائه لعبيد الله بن زياد:
لابن الزُّبير غداة يذْمُرُ منْذراً ... أولى بغاية كلِّ يوْمِ دفاعِ
وأحقُّ بالصَّبْرِ الجميلِ من امْرئٍ ... كزٍّ أنامله قصير الباعِ
قال: وأردف عبَّاساً المشوق الشاعر، بعض الفتيان خلفه على بغلة له، ووعده أن يهب له ويكسوه، وحرن البغل، فسقط الرجل فاندقَّت فخذاه، فقال المشوق:
ليت ما أمْسى برجْليْك برجلي وبكفِّي
ليس للبغْلة ذنْبٌ ... إنمَّا الذّنْبُ لحُرْفي

وممن صرعته بغلته: البرْدخت الشاعر، واسمه عليّ بن خالد وهو الذي كان هجا بن جرير بن عطيَّة، فقال جرير: من هذا الهاجي؟ قالوا: البردخت. قال: وأيّ شيءٍ البردخت؟ قالوا: الفارغ؟ قال: فلست أوّل من صيَّر لهذا شُغلاً.
وكان زيْدٌ الضبّيّ هو الذي حمله على ذلك البغل الذي صرعه، فقال:
أقول للبغل لمَّا كاد يقْتلني ... لا بارك الله في زيْدٍ وما وهبا
أعطاني الحتْف لمّا جئْت سائله ... وأمسك الفضَّة البيضاء والذَّهبا
وهو الذي كان هجا زيداً بأنه حديث الغنى، وأتاه وهو أمير في يوم حفله، فقال:
ولسْتُ مُسلِّماً ما دُمْتُ حيّاً ... على زيْدٍ بتسْليمِ الأميرِ
فقال زيد: لا أُبالي والله! فقال هو:
أتذْكُرُ إذْ لحافُك جلْدُ شاةٍ ... وإذْ نعْلاك منْ جلْدِ البعيرِ
قال: إي والله! قال:
فسبحان الذي أعطاك ملكاً ... وعلمك الجلوس على السرير
قال زيد: نعم، سبحانه! فخرج وعليه فضل.
قالوا: ونفر بغلٌ كان تحت محمد بن هارون، أخي سهل بن هارون البليغ الكاتب الشاعر. قالوا: وإنما كان البغل ارتد فزعاً،فقطع من جوفه بعض العلائق، فمات على ظهره، في وسط مربعة باب عثمان نهاراً.
وقد تصدم الدابة، فيموت الراكبان والمركوبان.
الوقوع على البغال
وخبرني سعيد بن أبي مالك أن غلاماً كان لبعض أهل القطيعة ينيك بغلةً لمولاه؛ وأنها في بعض الأيام وقد أدعم فيها، فاستزادته، فتأخرت وتأخَّر، حتى أسندتْه إلى زاوية من الإصْطبل، فضغطته حتى مات. ودخل بعض الغلمان لبعض الحوائج، فرأى الباب عليهما مُغلقاً، فنادى باسم الغلام فلم يُجبْه؛ فقلع الباب، فإذا الغلام مُسند إلى الزاوية وقد مات، وهي تضغطه، فصاح فتنحَّت وسقط الغلام ميِّتاً.
ويقولون: إنها تفضح السائس الذي يكومُها، لأنها تتلمَّظ إذا عاينْته، ولا تفعل ذلك بغيره، فهي إمّا أن تقتل، وإمّا أن تفضح.
وأنشدوا لقيس بن يزيد، في هجائه ابن أبي سبْرة حين رماه بنيْك بغلته، قال:
نُبِّئْتُ بغْلتك الَّتي أتْلدْتها ... لا تسْتقرُّ لديك ما لمْ تُسْفدِ
تدْنو بمؤْخرها إليك إذا رأتْ ... أنْ قدْ علوْت لها جدار المذْودِ
قالوا: ولما أخذ فتْيانٌ من فتيان بني كُليْبٍ الفرزدق، وأتوه بأتانٍ، وقالوا: والله لتنزُونَّ عليها، كما رميت بذلك عطيَّة بن الخطفي، أو لنقتلنَّك! قال: إن كان فهاتوا الصخرة التي كان يقوم عليها إذا ناكها، حتى أنا لها! فضحكوا جميعاً من ظرْفه، وخلَّوْا سبيله.
من قتلته البغال
وممن قتلته البغال: زيد بن حُلْقٍ الرَّائض، وولد حُلْق معروفون عندنا بالبصرة.
وممن قتلت البغال: محمد بن سعيد بن حازم المازنيّ، وعمرو بن هدّاب أحد عمومته، قتله بغلٌ بتُسْتر.
ومات المهلَّب بن أبي صُفرة على ظهر دابته بالطَّالقان.
ومات إياس بن هُبيرة العبْشميّ صاحب الحمالة، على ظهر حمار.
ولم يمتْ على ظهر حمارٍ كريمٌ.
صرع البغال
وكانت بغلة أعْين المتطبِّب تُصْرع، وكان أعين يُصرع، فصُر عامرَّةً معاً قُبالة دور بني السَّمْهري، فقام رجالٌ منهم فأدخلوه الدار، فنوَّموه على فراش، ووكَّلوا بالبغلة من أدخلها الإصطبل، فلمَّا أفاق وفتح عينيه أنكر موضعه، فقالوا: إنما أنت في دار بني السَّمْهريّ وهم اخوتك وأهلك. فقال: كيف أشكركم وأنتم أعدُّ وأيسر؟ ولكن أُعلِّمكم بعض ما لا غنى بكم عنه: إذا أتى أحدكم الغائط فليمتسح بشقق القصب، فإنّه إن كان هناك شيء من هذه الأورام حلقه واستأصله على الأيام، وإن لم يكن هناك شيء لم تعرض له هذه العلَّة ما دام يستعمل القصب. وإن خرجتْ على أحدٍ منكم بثْرة فلا يحكَّها، وإن دغْدغته ووجد فيها أُكالاً، فإنَّ ذلك الحكَّ ربّما أنفر ذلك المكان، وجذب إلى مكانه من الفساد ما يصير به بثرة، فإنْ حكّ البثرة فربما صارت خُراجاً.
وقال لي كمْ شئت من أصحاب القصب والبواري: نحن لا تعترينا البواسير؛ لطول قعودنا على القصب والبواري.
ذكر الانتفاع بالبغال في البرد
في الجاهليّة والإسلام، وتعرُّف حقائق الأخبار، وأنّها آلة من آلات السلطان عظيمة، ولا بدَّ للسلطان والملوك من تعرُّف الأخبار.

قيل لشيخ ذي تجربة: ما أذهب مُلك بني مروان؟ قال: ما زال ملكهم قائما حتى عميتْ عليهم الأخبار. وذلك أن نصْر بن سيّار، كان صاحب خراسان، قبل خروج أبي مُسلم وقوَّة أمره، إلى أن قوي عليه حتى هرب منه. وذلك أنه، وإن كان والياً لأربعة خلفاء، فإنه كان مأموراً بمكاتبة صاحب العراق، وإن كان صاحب العراق لا يقدر على عزله، وقد كان يزيد بن عُمر يخاف أن يُولَّى مكانه نصر بن سيّار، أو مسْور بن عمرو بن عباد، فاحتال لمسْور، ولم تمكنه الحيلة في نصر، فكان إذا كتب إليه بالرأي الذي يحسم به من أسباب قوّة المسوِّدة، كتب بذلك إلى يزيد، فكان يزيد لا يرفع خبره ولا يمدّه بالرجال، طمعاً في أن يُهزْم أو يُقتل، ونسى يزيد أن غلبة أبي مُسلم على خراسان، سببٌ لغلبته على الجبال، وإذا استحكم له ذلك، لم يكن له همّة إلا صاحب العراق. فلما طوى أخبار نصر، سدَّ وجه الرأي والتدبير على مروان، حتى كان الذي كان.
قالوا: ولما بلغ المأمون اختلاطٌ من حال البريد، وجّه ثُمامة بن أشرس، ليتعرَّف له ذلك. فلما رجع إليه وسأله، قال: يا أمير المؤمنين، تركت بغلاً على مِعْلف كذا وكذا وهو يقرأ: " وما من دابَّةٍ في الأرض إلاَّ على الله رزْقها " .
ومررت بسكّة أُخرى، فإذا بغلٌ قد عدا على رجل عليه طيْلسانٌ أخضر، يظنّه حُزْمة علف، فعدا الرجل وعدا خلفه البغل، فصحْت بالرجل: اطرح الطيلسان! فلما طرحه وقف البغل يشمّه.
ومررت بسكَّة أخرى، وإذا على المعْلف بغلٌ، وإذا هو يغنِّي:
ولقدْ أبيت على الطَّوى وأظلُّهُ ... حتَّى أنال به كريم المأكلِ
ما قيل في البريد وبغاله
ومما قالوا في شأن البريد وأصحابه، قول ابن أبي أُميَّة:
إنَّ ابن شاهك قدْ ولَّيته عملاً ... أضحى وحقَّك عنه وهو مشْغولُ
بسكَّةٍ أحدثت ليستْ بشارعةٍ ... من دونها غيْضةٌ في وسطها غيلُ
ترى فرانقها في الرَّكض مُنْدفعا ... تجْري خريطته والبغل مشْكولُ
وقال دعْبلٌ في بعض رجال العسكر، ممن كان ولي البريد:
ألا أبْلغا عنِّي الإمام رسالةً ... رسالة ناءٍ عنْ جنابك شاحطِ
بأنَّ ابْنَ زيْدٍ حين يشحجُ شاحجٌ ... يُمرُّ على القرْطاس أقْلام غالطِ
أحبَّ بغال البُرْدِ حُبّاً مُداخلاً ... يُكلِّفُه إثْباتها في الشَّرائط
ولولا أمير المؤمنين لأصْبحتْ ... أُيٌورٌ بغال البُرْدِ حشْو الخرائطِ
وقال دعْبلٌ أيضاً:
من مُبْلغٌ عنِّي إمام الهُدى ... قافيةً للعرْضِ هتَّاكَةْ
لهذا جناحُ المُسْلمين الَّذي ... قدْ قصَّه بولْيك الحاكَةْ
أضحتْ بغالُ البرْدِ منظومةً ... إلى ابن زيدٍ تحمل النَّاكَةْ
وذكر الفرزدق في مرثية وكيع بن أبي سُود البُردَ، فقال:
لتبْك وكيعاً خيْلٍ مُغيرةٌ ... تساقي المنايا بالرُّ ديْنيَّةِ السُّمْر
لقوا مثْلهم فاسْتهزموهم بدعوةٍ ... دعوْها وكيعاً والجياد بهم تجري
وبين الَّذي يدعو وكيعاً وبينه ... مسيرة شهْرٍ للمُقصَّصة البُتْرِ
وقال ابن المُعذَّل في جاريةٍ لبعض ولد سعيد بن سلْم، وقد ولى البريد:
دهتْك بعلَّةِ الحْمَّامِ فوزٌ ... ومال بها الرَّسول إلى سعيدِ
أرى أخبْار دارك عنك تخْفى ... فكيْف وليت أخبار البريد
ولمّا فخّم ابن غسطة عظيم الروم شأن مُلكه، ثم قال للرسول: هل عندكم بعض ما تُعارضوني به؟ قال: نعم، لملكنا أربعون ألف بغل موقوفة على إبلاغ رسائله وأخباره، من واسطة مُلكه إلى أقطار سلطانه. فأفحمه.
يعني بغال البريد. قال هذا وحال البُرُد على غير هذه الحال، ولم يعرفوا توجيه الخرائط في الماء، وعلى أيدي الرجال.
وابن غسطة هو الذي ذكره سلْم الخاسر في قصيدته التي مدح فيها الرَّشيد، قال:
منع ابن غسطة رأْسَهُ بخراجه ... ولقد يكون وما عليه خراجُ
قالوا: ولمّا رأى نصرٌ أنّ يزيد بن عُمر يُميت أخباره، ليموت ذكره عند الخليفة كتب إليه:
أبلغ يزيد وخيْرُ القوْل أصدقه ... وقد علمت بأنْ لا خيْر في الكذبِ
وكنب إليه:

أرى تحت الرَّماد وميض نارٍ ... فيوشك أنْ يكون لها ضرامُ
فإنّ النَّار بالعُوديْن تُذْكى ... وإنَّ الحرب أوَّلها الكلامُ
فقلتُ تعجُّباً: يا ليت شعْري ... أأيقاظٌ أُميَّةُ أمْ نيامُ
حدثني عليّ بن المديني، قال: كان يزيد بن زُريْع إذا سمع أصحاب الحديث يخوضون في أبي حنيفة، وفي كيف عظُم شأنه بعد خموله، قال: هيهات! طارت بفتياه البغال الشُّهْب!.
قالوا: ووجَّه معاوية لما كلّموه في يزيد بن ربيعة بن مفرِّغ رجلا مجرَّداً، لإخراجه من السجن، فخرج حتى أتى سجسْتان فأخرجه، فبلغ ذلك عبَّاد بن زياد، فأرسل إلى حمْحام، فلما رأى عهد معاوية كفَّ، وأقبل حمْحام بابن مفرِّغ على بغلةٍ من بغال البريد، وأنشأ ابن مفرِّغ يقول:
عدَسْ ما لعبَّادٍ عليْك إمارةٌ ... نجوْت وهذا تحمْلين طليقُ
طليقُ الَّذي نجَّى من الكرْبِ بعد ما ... تلاحم في درْبٍ عليك مضيقُ
قولهم للبغلة عدس
قوله: " عدس ما لعبّاد عليك إمارة " ، فزعم ناس أن " عدس " اسم لكلّ بغلة كمن، وذهبوا إلى قول الشاعر:
إذا حملت بزَّتي على عدسْ ... على التي بين الحمار والفرسْ
فما أُبالي من غزا ومن جلسْ
قالوا: وإنما قوله " عدس " على مثل قول خالد بن صفوان حين فاخر اليمانية، وقال: " والله ما منهم إلاّ ناسجُ بُرد، أو سائس قرد، أو دابغ جلد، أو راكبُ عرد، غرَّقتْهم فأرة، وملكتهم امرأة، ودلَّ عليهم هُدْهُد " ..
وقال آخرون: قولهم: " عدس " للبغلة مثل قولهم: " سأسأ " للحمار، و " حا " للجمل، و " حل " للناقة. ألا تراه حين سخر الأعرابيّ من صاحبه، وحين جهَّله قال:
يقول للنَّاقة قولاً للجمل ... يقول حا ثمَّ يثنِّيه بحلْ
قالوا: إلا ترون أن الفرزدق لما خلع لجام بغلته، وأشرعها في ثغاب مسجد بني أُسيِّد، قال له جرنْفشٌ المجنون: نحِّ بغلتك، جدَّ الله ساقيْك! قال الفرزدق: ولم عافاك الله؟ قال: لأنك زاني الكمرة، كذوب اللسان. فلما سمع ذلك منه ركب بغلته، وقال: عدس، كما يقال للفرس " اجدم " ، وللثور: " وحْ " .
أشعار في البريد
وقد ذكر امرؤ القيس البريد، فقال:
ونادمت قيْصر في ملكه ... فأوْجهني وركبْت البريدا
إذا ما ازْدحمنا على سكَّةٍ ... سبقت الفرانق سبْقاً بعيدا
ومما قالوا في البريد، قول الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
طال ليْلي وبتُّ أُسْقى المداما ... إذْ أتاني البريدُ ينعي هشاما
وأتاني بحُلَّةٍ وقضيبٍ ... وأتاني بخاتمٍ ثمَّ قاما
وذكر البريد الكُميْت في مديح أسماء بن خارجة، فقال:
إذا ما مات أسماء بن حصنٍ ... فلا مطرتْ على الأرض السَّماءُ
ولا قام البريد بغنم جيشٍ ... ولا حملتْ على الطُّهر النِّساءُ
فيومٌ منْك خيرٌمن رجالٍ ... يروح عليهم نعمٌ وشاءُ
وقال أيمن بن خُريمٍ الأسديّ:
ركبت من المقطَّم في جمادى ... إلى بشرِ بن مروان البريدا
فلو أعطاك بشرٌ ألف ألفٍ ... رأى حقَّاً عليه أنْ يزيدا
وقال آخر:
إذا ما بريد الشام أقبل نحونا ... ببعض دواهي الدهر سار فأسرعا
فإن كان شرّاً سار يوماً وليلة ... وإن كان خيراً قصد السير أربعا
رؤيا البغال وتأويلها
سمعت أبا شعبة الأعمى المعبر، ونحن بالنهروان، سنة قدم الحسن بن سهل، وهو يقول لمويس بن عمران: اذكر لإخوانك هؤلاء رؤياك، وتعبيري لها. قال: نعم، قلتُ لك: رأيت فيما يرى النائم كأنِّي على بغل بريدٍ،فقلت لي: تحمُّ يومين وثُلُثي يوم، فكان كما قلت؛ فسألتك عن العلّة، فقلت: لأن تشريف ذنب البغلة تشريفتان وثلثا تشريفة.
وقال الأصمعيّ: أرسل الحجّاج إلى الجرْميّ المعبِّر، يسأله عن رجل رأى كأنّه على بغلة، وكأنّه على شرف، وكأنه يستفُّ تُراباً، فقال له: أما البغل فطول عُمُر، وأما الشرف فشرفٌ من شرف الدنيا، وأما التُّرابُ ففيْءٌ تأْكله.
وقالوا: وسأل بعض المصريِّين الفرّاء المعبّر، فقال: رأيت كأنّ معي درهماً بغلْيّاً. قال: لست تمُسي حتى تأكل شيئاً طيّباً. فكان كذلك.

ثم أتاه بعد أيّام، فقال: رأيت فيما يرى النائم كأنَّ معي درهماً بخيّاً. قال: لست تُمسي حتى تُضرب ضرباً وجيعاً! فكان كذلك. فسأله عن العلّة، فقال: الدرهم البغليّ مكتوب عليه بالفارسيّة: " خُشْ بخُرْ " ترجمة هذه الكلمة: " كلْ طيِّباً " . والدَّرهم البخيّ مكتوب عليه: " ضُرب هذا الدرهم " . وهما مختلفان.
وأنشد الحكم بن عبْدلٍ أسماء بن خارجة شعراً ذكر فيه أنه رآه في المنام، فقال:
أغْفَيْتُ قبْل الصُّبح نوم مُسهَّدٍ ... في ساعةٍ ما كُنت قبلُ أنامُها
فرأيت أنَّك رُعتني بوليدةٍ ... مغنوجةٍ حسنٍ عليَّ قيامُها
وببدْرةٍ حُملتْ إليَّ وبغلةٍ ... شهباء ناجيةٍ يصلُّ لجامُها
فدعوت ربيِّ أنْ يثيبك جنَّةً ... عوضاً يُصيبك برْدها وسلامُها
قال أسماء: كلّ ما رأيته في النوم فهو عندنا كما رأيت، إلاّ البغلة فإنَّها دهماء! قال: أعتق ما أملك إن كان رآها إلاّ دهماء، ولكنّه غلط.
استطراد لغوي يتعلق بالبغال
ومما اشتقَّ من اسم البغل: " الدرهم البغليّ " . وفي بني تغْلب " رأس البغل " وهو رئيس من رؤسائهم، وهو الذي كان إبراهيم بن هانئ الخليع نُسب إليه.
وإذا كان الإنسان عظيم الرأس لقَّبوه: " رأس البغل " .
والبغلات: جوارٍ من رقيق مصر، نتاج ما بين الصَّقالبة وجنس آخر، والواحدة منهنَّ يقال لها: " البغلة " ، ولهنَّ أبدان ووثارة وحدارة.
معنى البغلة عند المصريين
ويُروى عن بعض العراقيِّين، قال: كنت عند قاضي مصر، وهو يقول لبعض جُلسائه: عندي جارية أطؤُها منذ حين، وقد اعتراني شبق، وأنا على أن أشتري بغلة. قلت: وما تصنع ببغلة؟ قال: أطؤها، وأُصيبُ منها. فقلت في نفسي: هذا أمْجن الناس وأحمقهم، يتكلم بهذا وهو قاضٍ؟! ثم حكيت ذلك عند رجل من أهل مصر، فقال: عافاك الله، ما منّا من أحدٍ إلاّ وعنده بغلات ينيكهنّ! فتعجَّبت، فلما رأى إنكاري ذلك، فسَّر لي معنى البغلة عندهم.
ما قيل من الأمثال في البغال
قالوا: وإذا عظمت المرأة، وعظم بطنها، قالوا: " ما هي إلاّّ بغلة " ، وما رأْس فلان إلاَّ رأس بغل، وما أيره إلاَّ أير بغل، وما خُلُقه إلاَّ من أخلاق البغال.
بعض ما أضيف إلى الرأس والمثل السائر: " كأنه جاء برأس خاقان " ، " ورأس الجالوت " ، " ورأس الفاعوس " ، " ورأس الكتيبة والقبيلة " . فلذلك قال عمرو بن كُلثوم:
برأْسٍ منْ بني جشم بن بكرٍ ... ندُقُّ به السُّهُولة والحزُونا
وقال أبو المهوِّش الأسديّ:
تراه يطوِّف الآفاق حرْصاً ... ليأكل رأس لقْمان بن عادِ
ورأس بن أبي الرأس القائد، مشهورٌ معروف.
ويقولون: " هذا على رأس الثُّمام " .
وبالشَّام موضع يقال له: " بيت رأسٍ " تباع فيه الخمر؛ ولذلك قال الشاعر: مُجاجة كرمةٍ من بيت رأْسِ وبيت رأس بالشام مثل....أبيات، وبيت لهيْا.
ويقال: فلان رأس من الرءوس.
والرأس: رئيس السُّوَّاس.
التبغيل
ومن سير الإبل سيرٌ يُسمَّى: " التبغيل " ، قال الراعي:
وإذا ترقَّصت المفاوز غادرت ... ربذاً يبغِّل خلْفها تبغيلا
والبغيْلة: اسم ناقةٍ كانت لجميل بن معْمر، ولذلك قال:
أضرَّ بأخْفافِ البغيْلة أنَّها ... حذار ابن ربْعيّ بهنَّ تحومُ
ولذلك قال الرَّقاشيّ في صفة ناقةٍ له تسمّى " سرْوة " :
لعمْرك ما البغيْلة حين تغْدو ... وصيْدح حين تسْرح في الرِّحابِ
كسرْوة حين تذْرع عرْض خرْقٍ ... بعيدِ الآل مُشتبه الظِّرابِ
مما قالوا في البريد، قال رجل من الأنصار عند ولاية عُمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه:
ثمَّ جاء البريدُ يُخْبرُ أنَّ القوم طرّاً لم يُحرموا التوْفيقا
من سكونٍ وأُلْفةٍ واجتماعٍ ... لم يفارقْ منهم فريقٌ فريقا
قلَّدوا الأمر سيِّد النَّاس كلِّ النَّاسِ نفساً وأُسرةً وعروقا
من أبوه عبد العزيز بن مروا ... ن ومن كان جدُّهُ الفاروقا
وقال ابن أُذينة اللَّيثيّ:
أتانا البريد التَّغلبيُّ فراعنا ... له خبرٌ شفَّ الفؤاد فأنعما
بموت أبي حفصٍ فلا آب راكبٌ ... بموت أبي حفصٍ أخبَّ وأرْسما

وذكر يزيد بن معاوية البريد، فقال:
جاء البريدُ بقرْطاسٍ يخُبُّ به ... فأوْجس القلبُ من قرْطاسه فزعا
قلنا: لك الويل ماذا في صحيفتكم ... قالوا: الخليفةُ أمسى مُدنفاً وجعا
فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأنَّ أغبر من أركانها انقلعا
ضروب من البغال
وقد كان أيضاً بالكوفة نتاجٌ بين الخُراسانية والهنديّات، وكان أملح وأحسن قدوداً من البغلات اللواتي بمصر؛ وكانت ألوانهنّ تجيء ذهبيّة، لها حلاوة الهندية، وروعة الخراسانية.
جواري الكوفة والبصرة وكذلك مُطهِّمات جواري الكوفة، زُرقاً تجدهنَّ، إلاّ الواحدة بعد الواحدة، وإنَّما الثمينات المرتفعات، والغوالي الخطيرات بصريّاتٌ، مثل عجوز عُمير، ومتيَّم، وبذل، وعريب، وبذْل: جارية المراكبيّ، وشارية: جارية إبراهيم بن المهْدي، وزرْياب الكبْرى، وعساليج: جارية الأحدب، وفضْل: جارية العبديّ. وقبل هذا سلسل وأشباه سلسل.
أخبار في البريد
وبُرُد كُتب الملوك كانت ما بين فرْغانة القُصْيا إلى السُّوس الأقصى، وكانت البُرُد منظومة إلى كسرى، من أقصى بلاد اليمن إلى بابه، أيام وهرز، وأيام قُتل مسروقٌ عظيم الحبشة. وكذلك كان عظيم الروم. قال امرؤ القيس:
ونادمت قيصر في ملكه ... فأوْجهني وركبْت البريدا
إذا ما ازدحمنا على سكَّةٍ ... سبقت الفرانق سبقاً بعيدا
وكذلك كانت بُرُد كسرى إلى الحيرة: إلى النعمان وإلى آبائه. وكذلك كانت بُرُده إلى البحريْن: إلى المُكعبر مرزبان الزَّارة، وإلى مشكاب، وإلى المُنْذر بن ساوى، وكذلك كانت بُرده إلى عُمان، إلى الجُلندي ابن المستكبر. فكانت بادية العرب وحاضرتها مغمورتين ببُرُده، إلاّ ما كان من ناحية الشام؛ فإنَّ تلك الناحية من مملكة خثعم وغسَّان إلى الروم، إلاّ أيّام غلبت فارس على الروم. ولذلك صرنا نرى النواويس بالشَّامات إلى قُسطنطينية.
وهل كانت بُرُد كسرى إلى وهرز، وباذام، وفيروز بن الدَّيْلميّ، وإلى اليمن، وإلى المكعبر مرزبان الزارة، وإلى النُّعمان بالحيرة، إلاّ البغال؟ وهل وجدوا شيئاً لذلك أصلح منها؟
ما قيل من الشعر في البغال
ومما ذكروا به شأن البغال في الشعر وغيره، قول الشاعر:
جعل ابن حزْمٍ حاجبين لبابه ... سبحان من جعل ابن حزْمٍ يُحجبُ
وعجبت أنْ ركب ابن حزْمٍ بغلةٍ ... وركوبه فوق المنابر أعجبُ
وقال أعشى همدان، في خالد بن عتَّاب بن ورقاء وكنية خالد أبو سليمان، اكتنى بكنية خالد بن الوليد، فقال:
تُمنِّيني إمارتها تميمٌ ... وما أمِّي بأمِّ بني تميمِ
وكان أبو سليمانٍ خليلي ... ولكنَّ الشِّراك من الأديمِ
أتينا أصْبهان فهزَّلتنا ... وكُنَّا قبل ذلك في نعيمِ
أتذكرنا ومرَّة إذْ غزونا ... وأنت على بُغيْلك ذي الوشومِ
ويركب رأسه في كلِّ وهْدٍ ... ويعثُرُ في الطَّريق المستقيمِ
وليس عليك إلاَّ طيلسانٌ ... نصيبيٌّ وإلاَّ سحقُ نيمِ
بغلة عكرمة
وكان عكرمة بن ربعيّ التَّيمي، الذي يقال له " الفيّاض " ، يُعجب ببغلة عنده، وكان على شُرط الحجَّاج، وكان لا يأتي الحجَّاج في موكبا مع الأشراط والوجوه إلاّ عليها، وفيها يقول عكرمة:
لمْ أرَ شيْئاً بين شيْئين مثْله ... أشدَّ انتزاعاً للتَّشابه في الأصْلِ
تقسَّمه أطرافُهُ فاستزالها ... بقسمة عدلٍ من يدي حكمٍ عدلِ
وأنشد أبو زيدٍ النحوي:
فكيف بأطرافي إذا ما شتمتني ... وما بعد شتم الوالدين صُلُوحُ
شبه البغل بوالديه
وقال أصحاب البغال: لا نعلم شيئاً من الحيوان رُكِّب بين شيئين نزع إليهما نزعاً سواءً لا يغادر شيئاً غير البغل، فإنّ شبه أبويهْ عليه بقسمة عدْل، وقد ذكر ذلك محمد بن يسير في شعره الذي طلب فيه من مُويس بن عمران بغلةً لرحلةٍ، فقال:
اضمم عليَّ مآربا قد أصْبحت ... شتَّى بداد شتيتة الأوطانِ
بزفوف ساعات الكلال دليقةٍ ... سفواء أبدع خلْقها أبوانِ

لمْ يعتدل في المنصبين كلاهما ... عند التَّناسب منهما الجنْسانِ
إلاَّ تكن لأبٍ أغرَّ فإنَّها ... تنْمي إلى خالٍ أغرَّ هجانِ
نزعتْ عن الخيْل العتاق نجاءها ... منها، وعتق سوالفٍ ولبانِ
ولها من الأعيار عند مسيرها ... جدٌّ وطول صبارةٍ ومرانِ
قال ذلك لأن حافر العير أوْقح الحوافر، فأعطاه أبوه من الخصْلة التي بان بها من سائر الحوافر.
الخلق المركب
قالوا: وليس في جميع الخلق المركَّب مثل الراعبيّ، الذي هو من نتاج ما بين الورشان والحمام: لم يأخذ من هداية أُمّه شيئاً، ولم يُعْطه أبوه من طول عمره شيئاً.
ومن المركَّب: السِّمْع، والعسبار. وكما تحكي الفلاسفة والمجرِّبون عن الكوْسج، واللُّخْم.
والدَّجاج الخلاسيّ، من بين النَّبطيّ والهنْدي. وإذا كان مثل ذلك بين البيضاء والحبشيّ فهو خلاسيّ، فإذا كان بين البيضاء والسِّنْدي فهو بيْسريٌّ. وكذلك الخلاسيُّ من الكلاب الذي بين الكرْديّ وبين السَّلُوقيّ.
ومثل الجمَّازات التي تجيء بين فوالج البُخْت وقلاص العراب، ومثل البرْذون الشِّهريّ من الرَّمكة والفرس العتيق.
قالوا: فليس يعتدل في شيءٍ من ذلك الشَّبه، كما يعتدل في البغل.
ولذلك قال الشاعر السَّوّاق، وهو إبراهيم مولى المهالبة:
تساهم فيه الخالُ والعمُّ مثلما ... تساهم في البغل الحمارة والطِّرْفُ
فزعم في هذا الشعر أنّ هذا البغل أبوه فرس، وأُمّه أتانٌ. وهذا خلاف ما رواه أبو عُبيْدة. وأنشد أبو عبيدة:
وشاركها في خيمها وهو راغمٌ ... كما شاركتْ في البغل عيْراً حجُورها
لأنهم يقولون: إذا كانت الأم رمكةً، خرج البغل وثيجاً قوياً عريضاً، وإذا كانت الأم حجْراً خرج البغل مُسلَّكاً، طويل العنق، وفيه دقَّة.
وذكر عن بعض الناس أنّه شتم بعض الأشراف، فقال: " عجبتُ لقوم إذا قيل لهم: من أبوكم؟ قالوا: أُمُّنا فرس " .
رجع إلى ذكر بغلة عكرمة
ثم رجع القول بنا إلى ذكر بغلة عكرمة بن ربْعيّ.
قالوا: فلما ألحَّ عكْرمة في ركوب ذلك البغل إلى باب الحجَّاج، كتب إليه بعض بني عمِّه، يردُّ عليه امتداحه البغل باستواء الشَّبه فيه، ويُخوِّفه بالحجَّاج إن ارتفع إليه في الخبر أنَّ صاحب أشراطه يأتي بابه في فُرسان أهل العراق والشام ووجوههم، على بغل.
وقال في كلمةٍ له:
فكيْف بغرْمولٍ وعُمْرٍ سوى الَّذي ... يكون لعيْر الأهل والفرس الفحلِ
ورأْسٍ يجوزُ الخالَ والعمَّ بعد ما ... تحوَّل شحَّاجاً خلافاً على الأصلِ
وليس شحيج البغل من عزف ناهقٍ ... وقد باعد الله الشَّحيج من الصَّهْلِ
متى كان ذو الأشراطِ يركب بغلةً ... ويترك طرْفاً ذا تمامٍ وذا نُبْلِ
عذيري من الحجَّاج إنْ ذاكرٌ نعى ... عليك رُكوب البغل في ساعة الحفلِ
فما لك تجْتاب الهُويْني مُهمْلجاً ... إلى باب حجَّاجٍ على المرْكبِ الرَّذْلِ
أُعيذُك بالرَّحمن من زيِّ تاجرٍ ... شقيٍّ لئيم الكسْبِ ذي خُلُقٍ نذْلِ
بغيضٍ إلى جاراتهِ وبناتهِ ... وعرْسٍ له عرْجاء بارزةِ الرَّحلِ
إذا زارهُ منهم شقيٌّ لحاجةٍ ... توثَّق من باب الخزانة والقفْلِ
وأنْت امرؤٌ تندى بنانك باللُّهى ... إذا ساء ظنُّ النَّاس في الزَّمن المحْلِ
بقيَّة أشياخٍ كسوْك ثيابهم ... وأنت وليُّ القومِ في البأسِ والبذْلِ
صفة البغال في الشعر
ولمّا قال الحكم بن قنْبر في قصيدته في البغل، وفيما يصلح له، ويُرْتفق به منه، وفيها يقول:
وفي الرِّداغ، فإنَّ الوحل مزْلقةٌ ... وفي الطَّحين، وفي الحاجات، والرِّحلِ
وقال مُسلم بن الوليد الأنصاري والحكم بن قنبر مازنيّ، وكان الحكم قد عظُم شأنه في بني تميم، حتى كان يصلِّي على جنائزهم، فلما لجَّ في رأي الشُّعوبيَّة، وقال في ذلك الأشعار، ضربته بنو مازنٍ، وهم مواليه، فلما ألحُّوا عليه في الضرب، نادى: يا آل تميم! فقال أعرابيّ:

يدعُو تميماً، وتميمٌ تضربُهْ ... تلطُمهُ طوراً، وطوراً تركبْهْ
وقال مُسلم بن الوليد:
تركْت صفاتِ الخيلِ والخيلُ معقلٌ ... وأصبحت في وصف البغال الكوادنِ
حننْتَ إليْها رغْبةً في أُيورها ... فدونك أير البغل يا عبْد مازنِ
وبغلته ودابتَّه، قال بعض الشُّعراء يُخاطب دابتَّه:
فهبيها ليْلةً أدْلجتْها ... فكلي إن شئت تبناً أو ذري
قد أتى مولاك خُبزٌ يابسٌ ... فتغذَّى وتعزَّى واصْبري
وقال آخر:
بتُّ ظمْآن وباتت بغلتي ... تشتكي الخلوة في بيتِ عُمرْ
صُمت يا بغلة من غير تُقىً ... ابْشري بالصَّوْمِ في شهرِ صفرْ
وقال آخر:
وإنِّي إذا ما المرء آثر بغله ... على نفسه آثرْتُ نفسي على بغلي
وأبْذُلُهُ للمُسْتعيرين لا أرى ... له علَّةً ما دام ينقاد في الحبْلِ
وقال آخر:
أيا مُنزلي مالي عليك كرامةٌ ... إذا أنت لم يكرمْ عليك جوادي
وقال دعْبل:
أتيت ابن عمران في حاجةٍ ... هُويِّنة الخطب فالتاثها
تظلُّ جيادي على بابه ... تروثُ وتأكل أرْواثها
غوارث تشكو إليَّ الخلا ... أطال ابن عمران إغراثها
وقال ابن حازم:
وخلَّيْت برْذوني يلوك شكيمه ... خليطاه نعْفٌ دارسٌ وطُلُولُ
وقال سهل بن هارون: بُعثت وأنا صبيٌّ إلى جارٍ لنا أستعير منه بغلاً، فزعم أنه مبطون، فغبرْت أيَّاماً، ثم كتبت إليه:
نُبِّئت بغلك مبطوناً فزعْت له ... فهلْ تماثل أو نأتيه عُوَّادا
ما قيل في طول عمر البغل
قال أهل التجربة: ليس في جميع الحيوان الذي يُعايش الناس، أطول عمراً من البغل، ولا أقصر عمراً من العصفور، وظنُّوا أنّ ذلك لكثرة سفاد العصفور، وقلّة ذلك من البغل.
قالوا: ولذلك وجدنا طول الأعمار في الرُّهبان وأصحاب الصَّوامع خاصَّة، وفي الخصيان عامَّة. ولذلك قال الراجز:
أُحبُّ أنْ أصْطاد ضبّاً سحْبلا ... وخرباً يرعى ربيعاً أرملا
فجعله أرمل، ليكون أقوى له وأسمن.
قالوا: وقال معاوية: ما رأيا رجلاً قطُّ يستكثر من الجماع، إلاّ رأيت ذلك في مُنَّته.
وقال معاوية: كلّ خصال الشباب قد كان فيَّ، إلاّ أنِّي لم أكن نُكحةً، ولا صُرعة، ولا طُلعة، ولا ضُحكة، ولم أك سبّاً.
قالوا: والبغل أطول عمراً من كلّ شيء من الحيوان، ممَّا يُعاش الناس في دُورهم.
قالوا: وكلّ شيء يُنتج ويولد ويتربَّى في منازل الناس، من طائر وسبع وبهيمة، إذا تحوَّل صاحب الدار، لم يتحوَّل معه منها شيء، وآثرت الأوطان على صاحب الدار، إلاَّ الكلب، فإنه يؤثره على وطنه، ويموت دونه، ويصبر على جفائه وإقصائه.
قصيدة لابن داحة يذكر فيها أعمار الحيوان
الذي يعايش الناس
وأنشد إبراهيم بن داحة، لرجل ذهب عنِّي اسمه، قصيدةً وصف فيها أعمار الحيوان التي تعايش الناس، فقال لأخيه:
عزمْت على ذمِّ البعير موفِّقاً ... وأنْ ليس في المرْكوب أجمع من بغلِ
وأنَّ اقْتناء الإبل موقٌ وحُرْفةٌ ... يبيت على يُسْرٍ ويغْدو على ثكْلِ
وبين المنايا والبراذين نُسبةٌ ... وكُلُّ نتاج النَّاس خيرٌ من الإبْلِ
وقلت وشاهدت البغال وغيرها ... فأحمدتها في العمر والهرم المُبْلي
وليس لها بذْخُ الخيول وكبْرُها ... ولا ذِلَّةُ العيْر الضَّعيف عن الرَّحْلِ
ومؤْنته في الصَّيْفِ والشَّتْو واحدٌ ... ولا خيْر في المؤناتِ من حامل الكلِّ
ولا تُركب الأرماك والحجْرُ دونها ... لدى المصْر والبغلات ترْكبُ كالبغلِ
وقد فرَّق الرَّحمن بين شكولها ... كما بين عيْرِ الوحش والآخر الأهْلي
وفي البغْلِ في كلِّ الأمور مرافق ... ومرْكب قاضٍ أو شيوخٍ ذوي فضلِ
فيرْكبها والخيلُ مُحدقةٌ به ... ويؤثرها يوم المباهاة والحفلِ

وقد جاوزت في السَّومِ كلَّ مُثمَّنٍ ... من الرَّائع المنسوب والجامل البزْلِ
يفوت هماليج البراذين سيْرُها ... على قحة الأعْيار من شبه النَّجْلِ
ركوب البغلة والطمع في القضاء
ونحن بالبصرة إذا رأينا الرجل يطلب الرأي، ويركب بغلا، ويردف خلفه غلاماً، قضينا بأنه يطمع في القضاء. قال ابن الممزَّق:
إذا ركب الشَّيْخُ الشَّريفُ بُغيْلةً ... وناظر أهْلَ الرَّأي عند هلالِ
فداك الَّذي يبْغي القضاء بسمْته ... ......الذِّئْب أُمَّ غزالِ
فإنْ أرْدف العبْد الصَّغير وراءه ... فويلٌ لأيتامٍ وإرْث رجالِ
وإنْ ركب البرْذوْن واشتدَّ خلْفهُ ... فصاحب أشراطٍ وحمْلِ إلالِ
وقال ابن مُناذر في واحدٍ من هذا الشكل:
رأيت أبا موسى يغُرُّ بسمْته ... ويقسم في الجيران كُرَّ طعامِ
ويخْدعهمْ والله غالب أمره ... بقدٍّ كقدِّ المشرفيِّ حُسامِ
يُريد قضاء المصْر والمصْر مُنْكرٌ ... لكلِّ مُراءٍ مُهْترٍ بغلامِ
ببشْرٍ وسمتٍ واكتئابٍ وخشْعةٍ ... وكثرةِ تسْبيحٍ ولين كلامِ
ويرْكبُ بغلاً ثُمَّ يُرْدفُ خَلْفهُ ... غُلاماً كما أبْصرت شقَّ جلامِ
يريد هلالاً لا يُحاول غيره ... وقدْماً سما للرَّأي غير مسامِ
سواءٌ لذي الرَّأي الشَّريف وغيرُهُ ... إذا كُنت ذا حفظٍ فلجْ بسلامِ
يصير فقيهاً في شُهُور يسيرةٍ ... فيالك حفْظاً لم يُشبْ بغرامِ
ولو كان خيْراً كدَّ... ... كما كدَّ ذا الآثارِ بُعْدُ مرامِ
وما ضرَّ سلْماناً وكعْباً وبعْدهُ ... شُريْحاً وسوَّاراً ورهط هشامِ
وياساً وياساً والغلابيَّ بعده ... أُلاك الأولى كانوا نُجُوم ظلامِ
وما عرفوا النُّعْمان .... ... ولا زُفر المسْتقيَّ صوبَ غمامِ
لقد تاب ممَّا أحدث القوْم توبةً ... لساعة إخْلاصٍ ووقت حمامِ
تشبيه الأسد بالبغل
قالوا: ويشبِّهون الأسد بالبغل، إذا كان الأسد تامَّ الخْلق. قال نهْشل بن حرِّيّ:
وما سبق الحوادث ليْث غابٍ ... يجُرُّ لعرسه جزر الرِّفاقِ
كميْتٌ تعْجزُ الخُلعاءُ عنْهُ ... كبغْل السَّرْج حطَّ من الوثاقِ
وقال أبو زُبيْدٍ الطائيّ:
من الأسْد عاديٌّ يكاد لصوته ... رءوس الجبالِ الرَّاسياتِ تقعَّرُ
كأنَّ اهتزام الرَّعْدِ خيط بجوْفه ... إذا جُرَّ فيه الخيْزرانُ المُعتِّرُ
فأبصر ركباً رائحين عشيَّةً ... فقالوا: أبغْلٌ مائلُ الرِّجْل أشقرُ
أم اللَّيْث؟ فاسْتنجوا وأين نجاؤكم ... فهذا وربِّ الرَّاقصاتِ المُزعْفرُ
ولأبي زُبيدٍ مثلها، في قصيدته التي ذكر فيها شأن كلبه، وشأن الأسد، فقال:
فجال أكْدرُ مُشتالاً كعادته ... حتَّى إذا كان بين البئر والعطنِ
لاقى لدى ثُللِ الأطْواءِ داهيةً ... أسْرت وأكْدر تحت اللَّيْلِ في قرنِ
إلى مُقابل خطْو السَّاعديْن له ... فوق السَّراة كذفْرى الفالج الغضنِ
رئبال غابٍ فلا قحْمٌ ولا ضرعٌ ... كالبغل حطَّ من المحلين في شطنِ
الحمير الأخدرية
وزعم ناسٌ من العلماء أنّ الحمير الأخْدرية، وهي أعظم حمير الوحش وأتمُّها، زعموا أنَّ أصل ذلك النِّتاج أن خيلاً لكسرى توحَّشت، وضربت في العانات، فكان نتاجها هذه الحمير التي لها هذا التمام.
وقال آخرون: الأخدريّة هي الحُمرُ التي تكون بكاظمة ونواحيها، فهي كأنها بريّة بحريّة.
قالوا: ولا يجيء فيما بين الخيل والحمير إلاَّ البغال، وليس للبغل نسْل يعيش، ولا نجل يبقى، فكيف لقحت هذه الأُتُن من تلك الخيل حميراً، ثم طبَّقت تلك الصحارى بالحمرُ الخالصة؟

وقالوا: وكان الملك من الأكاسرة إذا اصطاد عيْرا وسمه باسمه، وبيومه الذي اصطاده فيه، وأطلقه، فإنْ تهيَّأ أن يصطاد ذلك العير بعينه ملكٌ من بعده، وسمه مع وسم الملك الذي قبله بمثل تلك السِّمة وخلاَّه يذهب، فكان هذا الصنيع بعض ما كانوا يعرفون به حمير الوحش. فعسى أن تكون هذه الحمير أو بعضها صار في ذلك الصُّقع الذي هذا صفته، فإنَّ للماء والتربة والهواء في هذا عملاً ليس يخفى على أهل التجربة.
وكلُّ عربيّ تراه بخراسان أصهب السِّبال، أحمر اللون، مفطوح القفا، فإنّ الأعرابيّ الذي انتقل إلى ما هناك كان على ضدّ ذلك.
أثر البيئة في الحيوان
وقد رأينا بلاد التُّرْك، فرأينا كلَّ شيء فيها تركيّاً. ومن رأى دوابِّهم وإبلهم علم أنّها تركيّة. وحرَّة بني سُليْم التي جميع طيرها، وسباعها وهوامّها وأهلها كلّهم سُود. وهذا كثير جدّاً.
وقد نرى جراد البقل وديدانه خُضْراً، ونرى قمل رأس الشابّ الأسود الشعر: أسود، ونراه في رأس الشيخ الأبيض الشعر: أبيض، ونراه في رأس الخاضب بالحمرة: أحمر. نعم حتى إنّك لترى في القملة شُكلْةً إذا كان خضاب الشيخ ناصلاً.
وهكذا طبع الله الأشياء.
ضربهم المثل في أير البغل
قال أبو شُراعة:
أيْرُ حمارٍ في حرامِّ شعْري ... وأيْر بغْلٍ في حِرامِّ قدري
لو كنت ذا مالٍ دعاني السِّدْري
وقال أبو فرعون:
أيْرُ حمارٍ في حِرِامِّ عدْنان ... وأيْرُ بغلٍ في حرامِّ قحْطانْ
ما النَّاس إلاَّ نبطٌ وخوزان ... ككهْمسٍ أو عُمر بن مهْرانْ
ضاق جرابي عن رغيف سلْمانْ
وأنشد:
وعُظمُ أير البغل في رهز فرسْ ... وطول دحسِ جملٍ إذا دحسْ
والمذكور بطول الكوْم: الخنزير، والورل، والذُّباب، والجمل.
وأنشد:
وما الخنزير والورل المُذكِّي ... ولا كوْمُ الذُّبابِ ككومِ بشرِ
والعصفور وإن كان كثير عدد السّفاد، فإن الإنسان أكثر منه إذا حُصِّلت الأمور؛ لأنَّ الإنسان إذا كان يهيج الليل والنهار، والصَّيف والشتاء، فليس ذلك لشيءٍ غيره؛ ويطأ الحبالي، ويريدها وتريده.
وقيل لشيخٍ أعرابيّ: امرأتك حُبلى؟ فقال: " لا والذي في السماء بيته، ما لها ذنب تشتال به، لا أتيتها إلاّ وهي ضبعة.
ومن النوادر في غير هذا، قال مسعدة: قيل لأبي القماقم بن بحرٍ السَّقَّاء: ويْحك! متى دخلت بامرأتك، ومتى حبلت؟ وإنما كان هذا أمس! قال: " كان الإناء ضارياً " .
وقيل لحفص مولى البكرات: بامرأتك حمل؟ قال: شيء ليس بشيء! وقال ابن النُّوشجاني: جئتُ من خراسان، فسرت في بعض الصحارى في غبّ مطر، فكنت قد أرى في الطين الذي قد قبَّ آثار أرجل البهائم والسبّاع الميل والميلين، وكنت لا أزال أرى أثر دابّةٍ لها ستّ أرجل، فلما طال ذلك عليّ سألت الجمّال - أو المُكاري - فقلت: ويلك، تعرف دابة لها ستُّ أرجل؟ وأشرت بيدي إلى تلك الآثار. فقال: إنَّ الخنزير طويل المكث في سفاده، وربمّا مكث على الخنزيرة طويلاً وهي ترتع، ويداه على كتفيها، ورجلاه خلف رجليها، فلا يكاد أن يقضي وطره إلاَّ بعد أن يقطع من الأرض شيئاً كثيراً، فمن هناك ترى ستَّ قوائم.
وقال الفرزدق في هجائه عُمر بن يزيد الأُسيِّدي، وكان طلب منه وقْر بغلٍ رطبةً، فلم يفعل، فقال:
يا عمر بن يزيدٍ إنَّني رجُلٌ ... أكْوى من المسِّ أقْفاء المجانينِ
يا ليت رطْبتك المُهْتزَّ ناضرها ... كانت أيُور بغالِ في البساتينِ
حتَّى تحبَّلَ منها كُلُّ كوْسلةٍ ... قنْفاءَ خارجةٍ منْ أوسطِ الطِّينِ
وقال آخر:
عراد، إن كنت تُحبِّين الغزلْ ... والنَّيْك حتَّى تأْجميه والقُبلْ
فإنَّ عَمْراً قد أتاك أو أظلّْ ... يحمل أيْراً مثل جرْدان الجملْ
لو دُسَّ في متْن صفاةٍ لدخلْ
قال: نرى أنّه إنما أراد الصلابة.
وقالوا: أير الثَّور أطول وأصلب.
قال صاحب البغل: ليس بأطول، ولو كان أطول كانت البقرة لا تقف للثور، وإنما يكومها وهي تعدو، وهو لا يدخل قضيبه في حياء البقرة. والبغلة تقف للبغل، وتطلب ذلك منه، لسوسٍ شديد، وإرادة تامَّة.

وقال صاحب الثور: إنَّ أصل غُرمول البغل لا ينطبق على ظبْية البغلة كانطباق أير الرجل على فرج المرأة حتَّى لا يبقى منه قليل ولا كثير، ويفضل من أير البغل نحوٌ من نصفه، وذلك أنَّ مقاديم أيور الحافر فيها الاسترخاء، وأصولها لا تصير إلى أجواف الإناث، وإنما يصل من الصُّلب المتوتِّر مقدار نصفه فقط. والثور أوَّل قضيبه وآخره عصب مُدمج، وعقب مُصمت، وأنت تُقرّ أنها لو وقفت لخرقها. والبقرة في وقت نَزْو الثَّور عليها كأنها تكرهه.
قال صاحب البغل: أليس قد أقررت أنّه وإنْ كان في غاية الصَّلابة، أنه إنما يُدخل فيها بعض قضيبه، وهذا المفخر إنما هو للإنسان. قال: رأيت ثوراً نزاً على بقرة، فأخطأ قضيبه المسلك، فمرت البقرة من بين يديه، ومرّ قضيبه على ظهرها؛ فما كان بين طرفه وبين سناسنها إلاّ القليل. وفي رأسه عُجْرة، ودون ذلك تخصُّرٌ قد دقَّ جداً.
قال بعض الشعراء، وهجا معلِّم كتاب:
كأنَّه أيْر بغلٍ في تهكُّمه ... وفي الصَّرامة سيفٌ صارمٌ ذكرُ
قالوا: وشكت امرأة مؤرِّج الأزْدي عظم أير زوجها إلى الوالي، واسمها خوصاء، فقالت:
إنِّي أعُوذ بالأمير العدْلِ ... من مُنْتن الرِّيح خبيثٍ وغْلِ
يحمل أيْراً مثل أير البغلِ
ويقال لأير الإنسان: ذكر، وأيْر.
وجُردان الحمار والبغل وغُرْمولهما، والجميع: جرادين وغراميل.
ويقال: نضيّ الفرس، ومقْلم البعير. ووعاء مِقْلمه يقال له: الثَّيْل. ووعاء الجُردان وجميع الحافر يقال له: القُنْب.
ويقال: قضيب التيس، وقضيب الثور، وعُقْدة الكلب.
وتقول العرب: صرفت البقرة، فهي صارف؛ وسوست البغلة.
ويقال: هي امرأة هدْمى، وغلمة. وقال أكثر العلماء: ما يقال مُغْتلمة. وشاة حرْمى، وناقة ضبعة، وفرس وديق، وكلبةٌ مُجْعل.
ويقال: حرُ المرأة، والفرْج، وظبية الفرس، وكذلك من الحافر. وحياء الشَّاة، وكذلك من الخُفّ كلّه. وثفْرُ الكلبة، وكذلك من السّباع كلّها. وتستعير الشعراء بعض هذه من بعض، إذا احتاجت إلى إقامة الوزن.
فإذا حملت الشاة فهي: حامل، والبقرة كذلك. والفرس عقوق، وكذلك الرَّمكة. والأتان جامعٌ، وبغلةٌ جامع. وكلبة مُجحّ، وكذلك السّباع.
ويقال: إن أكبر الأيور أير الفيل، وأصغرها أير الظبي، وليس في الأرض حجم أيرٍ ظاهرٌ في كُلّ حال، إلاّ أير الإنسان والقرْد والكلب. وأما البَطُّ فقضيبه يظهر عند القمْط. وأطول أيور الناس ما كان ثلاثة عشر إصبعا.
ورووا عن ابنٍ لجعفر بن يحيى كان صيْرفيّاً، وقد كان ولاَّه المأمون طساسيج عدّة، أنه خرج من الدنيا وما كام امرأة قطُّ.
وخبَّروا عن أبي زيد الكتَّاف - وتأويل الكتّاف أنه كان ينظر في الأكتاف، وهو إفريقي - وكان هرْثمة قدم به على الرشيد، يُعجِّبه من كبر خلقه وعظم بدنه؛ فرأيت ناساً زعموا أنّه قال: غبرت طول عمري لا أقدر على امرأةٍ تحتمل ما عندي، حتَّى دُللت على امرأة؛ فلما دخلت بها أدخلت من أيري قدر نصْفه، وقلت في نفسي: هي وإن احتملت نصف الطُّول فإنها لا تحتمل الغلظ! فلمّا لم أرها توجَّعت منه زدتها، ثم زدتها حتى أدخلته، ثم قلت لها: قد دخل كلّه، فتأذنين في إدخاله وإخراجه؟ قالت: وقد دخل منه شيء بعد؟! وقال أبو السَّريّ بكر بن الأشقر: بلغني أنّها قالت له: سقطت بعوضةٌ على نخلة، وقالت للنخلة: اسْتمسكي فإني أريد أن أطير! فقالت النخلة: والله ما شعرت بوقوعك، فكيف أشعر بطيرانك؟!
مما جاء في ذم البغال
قال: وذمّ رجل البغل، فقال: لا لحم ولا لبن، ولا أدب ولا لقن، ولا فوْت ولا طلب؛ إن كان فحلاً قتل صاحبه، وإن كانت أُنثى لم تنسل.
وكلُّ مُركَّب من جميع الأجناس له نجلٌ غيره، كالبُخْت بين العراب والفوالج، وكالراعبيّ من بين الحمام والورشان، وكالإبل منها الصَّرصرانيّ والبهْونيّ، وهما اللذان أبوهما عربيّ وأمُّهما بُخْتيَّة، وهو من أقوى الإبل على الحمل، وأشدُّها سيراً، على قُبْح خلقته، وسماجة في مقاديمه، وكالشِّهريّ والهجين.
وإذا صرت إلى البغال، صرت إلى سوسٍ في الأُنثى لا يُنادى وليده وإلى غُلمة في الذَّكر لا تُوصف، ثم هي مع هذا لا تتلاقح.

وزعم أهل التجربة أنّ الكوْم الذي يخلق الله تعالى منه الولد من بين الرجل والمرأة، أنّ سبب التلاقُح ما يحضرهما من إفراط الشهْوة، في ذلك الكوْم، فإذا أفرطت الشَّهوة دنت الرحم وانفتح المهبل، وهو فمُ الرَّحم، فتصير تلك النُّطفة أكثر وأحدَّ، فيصير زرْق الإحليل ومجُّه لها أبعد غاية.
وقال أهل التجربة: قلّ ما تلقح منهن امرأة إلاَّ لرجَّةٍ.
والبغلة والبغل يعتريهما من الشَّبق ما لا يعتري إناث السنانير، ثم هي مع ذلك لا تتلاقح، فإن لقحت في النُّدرة أخْدجت.
وقال الشاعر في سوس البغلة:
وقد سوستْ حتَّى تقاصر دونها ... هياجُ سنانير القُرى في الصَّنابرِ
وذلك من عيوبها.
قالوا: ولم تأخذ صهيل الأخوال، ولا نهيق الأعمام، وخرجت مقادير غراميلها عن غراميل أعمامها وأخوالها. فإن زعمتم أنّ أعمارها أطول، فعيوبها أكثر، وأيام الانتفاع بها أقلّ، وباعتها أفجر، والخصومة معهم أفحش، وخسرانها يوفى على أضعاف ربحها،وشرُّها غامرٌ لخيرها.
ومما تخالف أخلاق سائر المركوبات: أنك إذا سرت على الإبل والخيل والحمير والبقر، في الأسفار الطِّوال، في سواد ليلك، إلى انتصاف نهارك، ثم صارت إلى المنزل عند الإعياء والكلال، طلب جميع المركوبات المراعي والأواريّ، وأخرجت البغال بعقب ذلك التعب الطويل، أُيوراً كجعاب القسيّ، تضرب بها بطونها وصدورها، حتَّى كأنها تتعالج به من ألم السَّفر. وكلُّ دابة سواها إذا بلغت لم يكن لها همّة إلاّ المراغة والرُّبوض، والأكل والشُّرب.
وهي مع ذلك من أغلم الدوابّ، وأبعدها من العتق، ولم نجد عظم الأيور في جميع الحيوان في أشراف الحيوان إلاّ في الفرْط، وذلك عامّ في الزنوج والحبْشان، وتجده في الحمير والبغال.
قالوا: وأير الفيل كبير، ولم يخرج من مقدار بدنه.
ولعمري إنّ الرجال ليتمنَّون عظم الأيور كما تتمنَّى النساء ضيق الأحراح.
قال محمد بن مُناذر، وأبو سعيد راوية بشَّار، قالا: ضحك بشارٌ الأعمى يوماً ونحن عنده، بعد أنْ أطال السكوت، فقلنا: ما الذي أضحكك يا أبا مُعاذ؟ قال: أضحكني أنّه ليس على ظهرها رجلٌ إلاّ وبودِّه أن أيره أكبر ممَّا هو عليه، ولا على ظهرها امرأة إلاّ وبودِّها أن حرها أضيق ممّا هو عليه. فلو أعطى الله الرجال سُولهم في العظم، وأعطى النساء سُولهنَّ في الضِّيق، لوقع العجز، وبطل التناكح، وبطل ببطلان التناكح التلاقح. وهذا لُطفٌ من ربِّك.
قالا: وقال لنا يوماً ونحن جماعة: أتدرون أيُّ الرجال يتمنَّون ضيق الأحراح، وأيّهم يتمنَّى سعتها؟ قلنا: لا. قال: إنمّا يتمنَّى السَّعة كلّ رديّ النَّعْظ، مُسترخي عصب الأير، وإنمّا يتمنَّى الضِّيق كلّ متوتّر العصب، شديد النَّعْظ.
قال: وذمّ آخر البغل، فقال: عظيم الغرمول، كبير الرأس، عقيم الصُّلب، قبيح الصوت، بطيء الحُضْر، مهْياف إلى الماء، متلوِّن الأخلاق، كثير العلل، فاجر البائع، قتّال لراكبه، شديد العداوة لرائضه، حرونٌ عند الحاجة. والحران إليه أسرع، ودواؤه أعسر. إن كان أغرَّ كان سمحاً، وإن كان مُحجَّلاً كان مشوماً. ولم يتواضع الملوك والأشراف بركوبه إلاَّ لإفراط نذالته، ولا ركبه الرُّؤساء في الحرب إلاَّ لظهور عجزه. وفي الأنبياء راكب البعير، وراكب الحمار. وكلُّ ذي عزمٍ منهم فركّاب خيل ومُرتبط عتاق، وليس فيهم راكب بغل، وإنما كانت بغلة النبي صلى الله عليه وسلم، هديَّة من المُقوقس، قبلها على التألُّف، وعلى مثال ما كان يُعطى المؤلَّفة قلوبهم. ولم يجعلها الله شرىً، ولا تلاداً ولا هديَّة سلم.
باب في مدح البغال وذمها
يُروى عن ابن عبَّاس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه نهى أن يُنْزى حمارٌ على فرس، ونهانا أن نأكل الصَّدقة، وأمرنا أن نُسْبغ الوضوء.
وعن عليّ كرّم الله وجهه قال: نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن يُنْزى الحمار على فرس.

وقال الآخر في عيب البغلة: شديدة السَّوس، وذلك ممّا ينقْض قُواها، ويُوهن أمرها، وهي في ذلك أهيج من هرّة وإن كانت لا تصيح صياحها، ولا تضْغو ضُغاءها، وإنما ذلك لأنّ الحافر في هذا الخُلق خلاف البُرْثُن. ألا ترى أنّ الكلب والسِّنَّوْر إذا ضُربا صاحا، وكذلك الأسد والنِّمْر والببْر والثعلب والفهْد وابن آوى وعناق الأرض. ولو أخذْت الحافر فقمطْته، فرساً كان أو برذوناً أو بغلاً أو حماراً، ثم ضربته أنت بعصاً لم يصحْ، وإن كان يجدُ فوق ما يجد غيره من الألم.
والبغلة مع ذلك تلْقح ولا تنْسل، فصار حملها بلاءً على صاحبها، لأنَّها إن وضعتْه لم يعشْ. وكلّ حامل من جميع الإناث، من شاة أو بقرة أو ناقة أو أتان أو رمكة أو حجْر، فإنّ حمْلها يكون زائداً في ثمنها، ولا تُرَدُّ تلك الحوامل بعيب الحمل؛ إلاَّ المرأة والبغلة. فأما المرأة فلشدَّة الولادة عليها، ولأنّ حدث الموت من أجل مشقَّة الولادة عليها من بين جميع الحيوان أسرع. وأمّا البغلة فلأنها إذا أقربتْ عجزت عن عملها، وإذا وضعت لم يُنتفع بولدها.
والبغلة إذا كامها البرْذون لم يصبر عنها، واشتدّ حرْصه عليها. فسألت أبا يزيد الإقْليدسيّ عن ذلك، فقال: لأنها أطيب خلْوة! فلقَّبناه: " خلْوة البغلة " !.
أكل لحوم الخيل
وأكْل القديد في الضرورة رديٌّ للحافر كله، وهو للبغلة أردأ.
وأهل البحريْن يعلفون دوابَّهم الحشيش، وقد استمرّت على ذلك.
وقال القعقاع بن خُليْدٍ العبْسي:
أكلنا لُحُوم الخيْل رطْباً ويابساً ... وأكبادُنا منْ أكلنا الخيل تقرحُ
ومجلسنا حوْل الطُّوانة جُوَّعاً ... وليس لنا حوْل الطُّوانة مسرحُ
وليس تُوافق لحوم الخيل أُمَّةً من الأمم كما توافق الأتراك، وكذلك اللَّحم صرْفاً.
وذكر النَّمر بن توْلب سوء موافقة أكل اللَّحم للخيل، فقال:
لله من آياته هذا القمرْ ... والشمْس واللَّيل وآياتٌ أُخرْ
إنَّا أتيْناك على بُعد السَّفرْ ... نقودُ خيْلاً ضُمَّراً فيها ضررْ
نُطْعمُها اللَّحم إذا عزَّ الشَّجرْ ... والخيلُ في إطعامها اللَّحْم عسرْ
وقال الآخر:
وخيْلك بالبحْرين تعتلف النَّوى ... وللتَّمْرُ خيْرٌ من حشيشٍ وأنْفعُ
معارف شتى في ألوان الدواب
وقال بعض من يمدح البغل: البرذون إذا كان أسود قالوا:أدهم، وكذلك الفرس. والحمار إذا كان أسود قالوا: أسود. وألحقوا البغل بالخيل، فقالوا: بغْلٌ أدهم.
وقال بعضهم: البغل يؤخَّر سرجه كما يؤخَّر سرْج الحمار، وموضع اللَّبب من الخيل يكون قُدَّام، وإن ركب الغلام البغل عُرْباً، ركب فيه على مركب الحمار، وهو مؤخّره، فإن ركب الخيل ركب المقاديم.
حدَّثني بعض أهل العلم، قال: قال شيخ من الملوك لعبد الله بن المُقفَّع: إن ابني فلاناً يتكلم بكلامٍ لا نعرفه، فأُحبّ أن تجالسه، فإن كان كلامه هذا من غريب كلام العرب، فهو على حالٍ لم تخرج من هذه اللغة، وإن كان شيئاً يبتدعه عالجناه بالتقويم. فأتاه ابن المقفَّع، فسمعه يقول: يا غلامي أسرجْ لي برْذوني الأسود. فقال: قل، أصلحك الله: البرذون الأدهم، وإيَّاك أن تقول: الأسود. قال: لا أقول إلاّ الأسود؛ لم؟ لأنه ليس بأسود؟ قال: بلى هو أسود، ولكن لا يقال له أسود. قال: فمكث ساعةً، ثم قال: يا غلام أسرجْ لي حماري الأدهم. قال: قلت: لا تقل للحمار: أدهم، إنما يقال له: أسود. قال: فقال لي: لم يقال له أسود؟ قلت: لأنه أسود. قال: قد نهيتني أن أقول: برذونٌ أسود، وهو أسود. قال: قلت له: هكذا تقول العرب. قال: إمّا أن تكون العرب أمْوق الخلْق، وإما أن تكونوا أنتم أكذب الخلق! قال: فرجعتُ إلى أبيه فقلت له: إن كان عندك علاج فداركْه، وما أظنّ، والله، أنَّ ذلك عند الجالينوس!
بغلة أبي دلامة وما قال فيها من شعر
قال أبو دُلامة في بغلته. والمثل في البغال بغلة أبي دُلامة. وفي الحمير حمار العباديّ، وفي الغنم شاة منيع، وفي الكلاب كلبة حومل: فقال أبو دُلامة يصف بغلته:
أبعْد الخيْل أركبُها وراداً ... وشُقْراً في الرَّعيل إلى القتالِ
رُزقْتُ بُغيْلة فيها وكالٌ ... وخيْرُ خصالها فرْط الوكالِ

رأيت عُيُبها كثُرت وعالتْ ... ولو أفْنيْت مُجتهداً مقالي
تقوم فما تريمُ إذا اسْتحثَّتْ ... وترمحُ باليمين وبالشِّمالِ
رياضة جاهلٍ وعليج سوْءٍ ... من الأكراد أحْبن ذي سُعالِ
شتيم الوجْهِ هلْباجٍ هدانٍ ... نعوسٍ يوْم حلٍّ وارْتحالِ
فأدَّبها بأخلاقٍ سماجٍ ... جزاهُ الله شرّاً عنْ عيالي
فلمَّا هدَّني ونفى رُقادي ... وطال لذاك همِّي واشْتغالي
أتيْت بها الكُناسة مُستبيعاً ... أُفكِّرُ دائباً كيف احْتيالي
لعُهْدة سلعةٍ رُدَّتْ قديماً ... أطُمُّ بها على الدَّاء العُضالِ
فبيْنا فكْرتي في القوْم تسْري ... إذا ما سْمتُ أُرْخصُ أمْ أُغالي
أتاني خائبٌ حمقٌ شقيٌّ ... قديمٌ في الخسارة والضَّلالِ
وراوغني ليخْلو بي خداعاً ... ولا يدْري الشَّقيُّ بمنْ يُخالي
فقلتُ: بأربعين، فقال: أحْسنْ ... فإنّ البيع مرتخصٌ وغالِ
فلما ابتاعها منِّي وبُتَّتْ ... له في البيع غيْر المُسْتقالِ
أخذْت بثوبه وبرئْتُ ممَّا ... أعدُّ عليْك منْ شنعِ الخصالِ
برئْتُ إليك من مششٍ قديمٍ ... ومنْ جرذٍ وتخريقِ الجلالِ
ومنْ فرْطِ الحانِ ومنْ جماعٍ ... ومنْ ضعفِ الأسافلِ والأعالي
ومن عقد اللِّسانِ ومنْ بياضٍ ... بناظرها ومنْ حلِّ الحبالِ
وعُقَّالٍ يُلازمها شديدٍ ... ومنْ هدْمِ المعالفِ والرِّكالِ
ومنْ شدِّ العضاضِ ومنْ شبابٍ ... إذا ما همَّ صحْبُكَ بالزِّيالِ
تقطِّعُ جلْدها جرباً وحكّاً ... إذا هُزلتْ وفي غير الهُزالِ
وأقطفُ من دبيب الذَّرِّمشياً ... وتنْحط من مُتابعة السُّعالِ
وتكسر سرجها أبداً شماساً ... وتسْقُطُ في الوُحولِ وفي الرِّمالِ
ويُهزِلُها الجمامُ إذا خصبنا ... ويُدْيرُ ظهرها مسُّ الجلالِ
تظلُّ لركْبةٍ منها وقيذاً ... يُخافُ عليك منْ ورم الطِّحالِ
وتضْرطُ أرْبعين إذا وقفْنا ... على أهلِ المجالسِ للسُّؤال
فتُخْرسُ منطقي وتحولُ بيني ... وبين كلامهمْ ممَّا تُوالي
وقد أعيتْ سياستها المُكاري ... وبيطاراً يُعقِّلُ بالشِّكالِ
حرُونٌ حين ترْكبها لُحضْرٍ ... جمُوحٌ حين تعْزمُ للنِّزالِ
وذئْبٌ حين تُدنيها لسرْجٍ ... وليْثٌ عنْد خشْخشة المخالي
وفسْلٌ إنْ أردْت بها بُكوراً ... خذُولٌ عنْد حاجات الرِّحالِ
وألْفُ عصاً وسوْطٍ أصبحيٍّ ... ألذُّ لها من الشُّربِ الزُّلالِ
وتُصْعقُ منْ صُقاع الدِّيكِ شهْراً ... وتُذْعر للصَّفير وللْخيالِ
إذا اسْتعْجلْتها عثرتْ وبالتْ ... وقامتْ ساعةً عنْد المبالِ
ومثْفارٌ تُقدِّمُ كُلَّ سرْجٍ ... تُصيِّرُ دفَّتيْه على القذالِ
وتحفى في الوقوف إذا أقمْنا ... كما تحْفى البغالُ من الكلالِ
ولو جمَّعْت منْ هنَّا وهنَّا ... من الأتْبانِ أمْثالَ الجبالِ
فإنَّك لسْت عالفها ثلاثاً ... وعنْدك منْه عُودٌ للْخلالِ
وكانتْ قارحاً أيَّام كسرى ... وتذْكرُ تُبَّعاً قبل الفصالِ
وقدْ قرحتْ ولُقْمانٌ فطيمٌ ... وذو الأكتافِ في الحجج الخوالي
وقدْ أُبْلى بها قرْنٌ وقرْنٌ ... وأُخِّر يوْمُها لهلاك مالي
فأبِدلِني بها يا ربِّ بغلاً ... يزينُ جمالُ مرْكبه جمالي
كريماً حين يُنْسبُ والدهُ ... إلى كرمِ المناسبِ في البغالِ
أشعار أخرى في البغال

وأنشد إبراهيم بن داحة لأبي الوزير المعلِّم في ركوب البغال، لنخّاس الحجَّاج بن يوسُف، في كلمةٍ طويلة لم أحفظ منها إلاّ هذه الأبيات:
حَمدْت إلهي إذْ رأيْتُك مُغْرماً ... بكلِّ كثير العيبِ جمٍّ جرائمُهْ
على كُلِّ شحَّاجٍ يُضارعُ صوْتُهُ ... شحيج غُرابٍ فاحمُ اللَّون قاتمُه
يُفزَّعُ منْهُ كُلُّ غادٍ لطيَّةٍ ... ويهْرب منه في الرَّواحِ خُثارمُه
وما لك منه مرْفقٌ غيْر أنّهُ ... يُقرِّب أرحام الحُجُور تفاقمه
وأنَّك غلاَّبٌ لكُلِّ مُخاصمٍ ... تُجادلُهُ طوْراً وطوْراً تُلاطمُه
لفرْط عُيُوب البغل صرْت مُوقَّحاً ... فهمُّك خصْمٌ أو بذيٌّ تُشاتمُه
تكذِّبه في العيْب والعيْب ظاهرٌ ... ويعْلم كُلُّ النَّاس أنَّك ظالمُه
فصار لنخَّاسِ البغالِ فضيلةٌ ... على كُلِّ نخَّاسٍ وخصْمٍ يُصادمُه
فلا زال فحَّاشاً وقاحاً مُلعَّناً ... وآكل سُحْتٍ لا تجفُّ ملاغِمُه
يُلاطم في ظهْر الطَّريق شريكه ... وتنْشقُّ منْ فرْط الصِّياح غلاصِمُه
وهذا كقوله:
أكُولٌ لأرْزاق العيال إذا شتا ... صبُورٌ على سُوء الثَّناء وقاحُ
ومثل قوله:
إنْ يغْدرُوا أوْ يفْجُرُوا ... أو يبْخلُوا لمْ يحْفلوا
وغدوْا عليْك مُرطَّلين كأنَّهمْ لمْ يفْعلوا
كأبي براقش كُلَّ يوْ ... مٍ لوْنه يتبدَّلُ
ومثل قوله:
ليهْنك بُغْضٌ في الصَّديق وظنَّةٌ ... وتحْديثُك الشَّيء الَّذي أنت كاذبهْ
وأنَّك مشْنُوءٌ إلى كُلِّ صاحبٍ ... بلاك ومثْلُ الشَّرِّ يُكْرهُ جانبه
وأنَّك مُهْدٍ للْخنا نطفُ النَّثا ... شديد السِّباب رافع الصَّوتِ غالبه
أما قوله " مُغْرماً بكلّ كثير العيب " ؛ فلأنّ البغال هي المثل في كثرة العيوب، وتلوُّن الأخلاق.
وأما قوله " جمٍّ جرائمه " ، فلصرْعاها وقتْلاها.
وأما قوله " على كل شحَّاج " ؛ فلأن الشحيج صوت الغُراب.
وإنما عارض أبو دُلامة أبا خُنيْس ببغلته حيث قال:
أُبعدْت منْ بغلةٍ مُواكلةٍ ... ترْمحني تارةً وتقْمصُ بي
تكاد عنْد المسير تقْطعني ... راكبُها راكبٌ على قتبِ
إنْ قُمْتُ عنْد الإسْراج أُثفْرها ... تطْرِفُ منِّي العيْنيْنِ بالذَّنبِ
وعنْد شدِّ الحزام تنهشني ... مانعةً للِّجام واللَّببِ
ليس لها سيرةٌ سوى الوثبى ... كرقْص زنْجٍ ينْزون للطَّربِ
وهي إذا ما علفْتُها جهدت ... لا تأْتلي في الجهاد عنْ حربِ
قدْ أكلتْ كُلَّ ما اشْتريْت لها ... منْ رزْق شعْبان أمْس في رجبِ
تمُرُّ فيما تما لعلْفتها ... إنْ لم تُعلَّلْ بالشَّوْك والقصبِ
وإنما هجاها بكثرة الأكل، فقدَّمها على كلّ مُعتلف، بسوء الرأي فيها، وبإفراط الشعراء وزياداتهم، وإنمّا الأكل الشديد في البراذين والرَّمك، ثم التي معها أفلاؤها.
وقيل لرجل من العرب: أيّ الدوابّ آكل؟ قال: بْرذونْة رغوث.
لأنهم يقولون: برْذوْن وبْرذوْنة. ولا يقولون فرس وفرسة، بل يقولون: فرس للأنثى والذَّكر، فإذا أرادوا الفرق والتفسير قالوا: حجْر وحصان. وأنشد:
أريْتك إنْ جالتْ بك الخيلُ جوْلةً ... وأنت على برذونةٍ غير طائلِ
وأنشدوا:
تزحْزحي إليك يا برْذوْنة ... إنَّ البراذين إذا جرينْه
مع الجياد ساعةً أعْيينه
والنِّعاج أيضاً قد تُوصف بدوام الأكل، حتى زعم بعض الناس أنّ النِّساء في الجملة آكل من الرجال؛ لأن أكل النساء يكون متفرقا، من غُدْوة إلى الليل، والرجل أكله في الدَّفعة أكثر من هذا في الجملة.
بعض ألوان الحيوان
وقال بعضهم: البغال هي الشُّهْب، والإبل هي الحُمر، والخيل هي الشُّقْر، والحمير هي الخُضْر، والسنانير هي النُّمْر؛ وإن كان الناس في الحمار الأسود أرغب، وكذلك هم في ألوان الثيران، لمكان البغال.

وقال بعض العرب لبعض الملوك: " هل لكم في النساء الزُّهْر، والخيل الشُّقْر، والنُّوق الحمر؟ " وقالت بنت الخُسّ: " الحمراء غدْرى، والصَّهباء سرْعى، والدَّهْماء بهْمى " .
وإنما صار الناس يتَّخذون السنانير النُّمْر؛ لأنها أصيد، فهي السَّنانير الخُلص، والألوان الأُخر داخلة على هذه الألوان، وكذلك ألوان جميع ما ذكرنا، وأصناف البهائم على ما ذكرنا؛ وأما ألوان الأُسد فمتشابهة، لا اختلاف فيها إلا بالشيء اليسير، والناس يختلفون في الألوان وكذلك الكلاب والسنانير والخيْل والبغال والحمام والحيّات والطير؛ فإما أنواع الطير ومغنياتها، والبُزاة والصُّقور والشواهين، فلا اختلاف بينها.
باب ما جاء من الشعر في ذم البغل
قال أبو دهْبلٍ الجُمحيّ:
حجرٌ تُقلِّبُهُ وهلْ ... تُعْطى على المدْحِ الحجارة
كالبغلِ يُحمدُ قائماً ... وتذُمُّ سيرتهُ المشارة
وقال سهم بن حنْظلة الغنويّ:
فإما كلابٌ فمثْل الكلا ... بِ لا يُحْسن الكلْب إلاّ هريرا
وأمَّا نُميْرٌ فمثْل البغا ... ل: أشْبهْن آباءهُنَّ الحميرا
وقال حسّان بن ثابت:
لا بأْس بالقوم منْ طولٍ ومن عرضٍ ... جسْم البغال وأحْلام العصافيرِ
وقال آخر:
ولئن ناكحْتمونا لبما ... ناكحتْ قبْلكُمُ الخيْل الحُمُر
وقال ابن الزَّبير الأسديّ لعبد الرحمن بن أُمّ الحكم:
تثعْلبْت لمَّا أنْ أتيْت بلادهمْ ... وفي أرْضنا أنْت الهُمام القلمَّسُ
ألسْت ببغْلٍ أُمُّه عربيَّةٌ ... أبوه حمارٌ أدْبر الظَّهْرِ يُنْخسُ
وقال خالد بن عبَّاد يهجو أبا بكر بن يزيد بن معاوية:
سمين البغْلِ منْ مال اليتامى ... رخيُّ البال مهزُولُ الصَّديق
وقال سنان بن أبي حارثة:
تعرّض عبْس دون بدرٍ سفاهة ... ألا عجبُ العجْباء من صهلِ البغلِ
وقال شبيب بن البرْصاء يهجو عقيل بن عُلَّفة:
ألا أبْلغْ أبا الجرْباء عنِّي ... بآيات التَّباغُض والتَّقالي
فلا تذْكرْ أباك العبْد وافخرْ ... بأُمٍّ لست تكْرهُها وخالِ
فهبْها مُهْرةً لقحتْ لعيْرٍ ... فكان جنينها شرَّ البغالِ
قال أبو عبيدة: كان الفرزدق عبث بأبي الحسناء، وكان مُكارى بغال، ينزل في مَقْبرة بني هزّان، يُكرى إلى الكوفة، أيام كانت الطريق على الظَّهْر، فقال:
لبيك أبا الحسْناء بغلٌ وبغلةٌ ... ومخْلاة سوءٍ بان عنْها شعيرُها
وقال الكُميْت:
تمْشي بها رُبْدُ النَّعا ... مِ تماشي الآم الزَّوافرْ
والأخْدريُّ بعانتيْه خليط آجالٍ وباقرْ
قال: وفد المُغيرة بن عبد الرحمن الرِّياحيّ على معاوية في وفْد، فقال: يا أمير المؤمنين، ولِّني خراسان. قال: ما هجاءُ ما لا هجاء له؟ قال: فشُرط البصرة. قال: انظر غير هذا. قال: فاحملني على بغل، ومُرْ لي بقطيفة خزّ. فلامه أصحابه، فقال: أمَّا أنا فقد أخذت شيئاً!.
أخبار في البغال
قالوا: ولما أقبل مسروق بن أبرهة الأشرم بالحبشة، فصافَّ جند وهْرز الفارسيّ، حين كان استجاش ابن ذي يزن بفارس، فوجَّه كسرى معه وهْرز الأسوار في ثلاث مائة كان أخرجهم من الحبس، على أنّهم إن ظفروا كان الظَّفر له، وإن قُتلوا كان قد أراح الناس من شرِّهم. وكان وهْرز شيخاً كبيراً، قد شدَّ حاجبه بعصابة، فقال: أرُوني ملكهم. قالوا: هو صاحب الفيل. قال: كفّوا عنه؛ فإنه على مركبٍ من مراكب الملوك! وقد أطال الوقوف. فنزل مسروق عن الفيل، فركب فرساً؛ فقيل له: قد نزل عن الفيل، وركب فرساً. فقال: دعوه، فإنه على مركب من مراكب الفُرسان! وأطال الوقوف حتى ملَّ ظهر الفرس، وأتوه ببغل فركبه، فقيل لوهرز: قد نزل عن الفرس، وركب البغل. قال: عن مراكب الملوك، وعن معاقل الفُرسان، ثم ركب البغل ابن الحمار! وكان على مسروق تاجُه، وياقوتةٌ معلَّقة بين عينيه، فقال وهْرز لمن حوله: إني راميه، فإنْ رأيتموهم يجتمعون عليه، ولا ينفرجون عنه، فقد قتلته، فشُدُّوا عليهم شدَّةً واحدة، وإن تفرَّقوا فإنما هي رمْية. فرمى فأصاب نفس الياقوتة المعلقة بين حاجبيْه، ففلقتها، وغابت النُّشَّابة في رأسه، فاجتمعوا عليه، ولم يتفرَّقوا عنه، فشدُّوا عليهم شدَّةً واحدة كانت إيّاها.
وبلغني عن زيد بن جُدعان، قال: شخص أبو سفيان إلى معاوية بالشام، في ولاية عُمر رضي الله عنه، ومعه ابناه عُتْبة وعنْبسة، فكتبتْ إليه هند: " قد قدم عليك أبوك وأخواك، فلا تغذمْ لهم، فيعْزلك عُمر. احمل أباك على فرس وأعْطه ثلاثة آلاف درْهم، واحمل عُتبة على بغل وأعطه ألفْي درهم، واحمل عنْبسة على حمار وأعطه ألف درهم " .
فلما فعل ذلك بهم قال أبو سفيان: أشهد أنّ هذا عن رأي هنْد، بصفة جوائز ملوك الشام، وما لخلفاء الشام والدَّراهم، ما يعرفون إلاَّ الدنانير!.
باب ما قالوا من الشعر في عقم البغل
قال النابغة الجعدي:
وهبْنا لكمْ ما فيه نرْجو صلاحكُمْ ... وسوْف نُلاقيه إذا البغْلُ أحْبلا
ومن دون أوْلاد البغال وحمْلها ... إلى ذاك ما شاب الغُرابُ ورَجَّلا
وقال العُكلْيّ:
قد يُلْقح البغلة غير البغلِ ... لكنَّها تعْجل قبل المهْلِ
.....ة مشْغُولةٌ بالحملِ ... عنْ مرْفق الطَّحْنِ وحمل الرِّجْلِ
وثقل السَّفْر ومير الأهْل ... ولا تُساوي حفنةً منْ زبْلِ
ما كان فيها من كرام الفحْلِ ... دودة خلٍّ خُلقت من خلِّ
وكلُّ أُنثى غيْرها في الحملِ ... تزداد في القيمة عنْد السَّحْلِ
ملْعُونةٌ بنْت لعينٍ نذْلِ ... قتَّالةٌ للفارس الأبلِّ
لمْ يعتدلْ منصبُها في الأصلِ ... من غير شكْلٍ خُلقت وشكْلِ
في أدب الخنزير يوم الحفْلِ ... وموقها موق رضيعٍ طفْلِ
أو عقْلُ أفْعى وهجفٍّ هقْلِ ... أو حُوت بحرٍ قُذفت في سهلِ
أو جيْألٍ يكْتفُها بحبلٍ ... كلُّ حُميْميقٍ وكُلُّ فسْلِ
وكلُّ غرٍّ جاهلٍ وغُفْلِ ... ليس لها في الكيْسِ رفْقُ النَّملِ
أو ذئبِ قفْزٍ مُجْمعٍ للختْلِ ... أو تتفْلٍ راوغ كلْب المُشْلي
أو خُززٍ وثَّب خوْف القتْلِ ... أما تراها غايةً في الجهلِ
والشُّؤْمُ منها في ذوات الحجلِ ... وغُرَّةٍ تصْدع جمع الشَّملِ
فهْي خلاف الفرس الهبلِّ ... وكُلُّ طرْفٍ ذائلٍ رفلِّ
قد حذر النَّاس أذاها قبْلي ... وعدَّدوا كلَّ قتيل بغلِ
فقال أخوه ناقضاً عليه، وهو في ذلك يُقدِّم البغلة على البغل، وهكذا هُما عند الناس في جملة القول، فقال:
عليك بالبغلة دون البغلِ ... فإنَّها جامعةٌ للشَّمْلِ
مرْكبُ قاضٍ وإمامٍ عدْلِ ... وتاجرٍ وسيِّدٍ وكهْلِ
وهشميٍّ ذي بهاً وفضْلِ ... تصْلُحُ في الوحْلِ وغيْرِ الوحْلِ
والسَّقْي والطَّحْنِ وحمْلِ الرِّجْلِ ... وهْي في المشي وتحت الرَّحْلِ

أوْطا وأنجى منْ مطايا الإبْلِ ... وكُلُّ جمَّازٍ وذاتِ رحْلِ
وطُول عُمرٍ غير قيل البُطْلِ ... تقْدُمُ في ذلك عيْر الأهْلِ
والخيلَ والإبل وكُلُّ فحْلِ ... قدْ قتل العصْفورَ فرْط الجهلِ
ولو درى كان قليل الشُّغْلِ ... بلذَّةٍ تُسْلمُهُ للقتلِ
فدعْ مديحي وهجاءً بغْلي ... فلوْ ذممت القمر المُجلِّي
وجدت فيه بعض ما قد يقْلي
ولما تعاور أبا الخطَّاب الأعمى أبو دُلف، وجعفر بن أبي زُهيْر، وهما يتعصَّبان لمعدان الأعمى، فقال:
كما شدَّ عيْن البغْلِ طحَّانُ قرْيةٍ ... ليجْمع بال البغلِ للدَّور والطَّحْنِ
ولو أنَّ عيْن البغْلِ زال عصابُها ... لحاكى شهاب القذْفِ في أثرِ الجنِّي
وقال أيضاً:
وليس العمى في كُلِّ حالٍ نقيصةً ... ونقْصُ العمى أجدى عليك من البصرْ
فسائل بغالِ الطَّحْنِ إنْ كُنت جاهلاً ... ولو حجبوا تلك العُيُونَ عن النَّظرْ
ولولا انْطباق العيْن ما كان طاحنٌ ... ولا كان مطحونٌ بصخر ولا مدرْ
لأنَّ أبا دُلف كان قال:
وليس لمكْفوفٍ خواطر مُبْصرٍ ... وذو العيْن والتَّمْييز جمُّ الخواطرِ
لأن أبا الخطَّاب كان فخر عليهم بجودة حفْظ العُميان، وكان جعفر بن وهْب قد قال:
هل الحفْظ إلاَّ للصَّبيِّ، وذُو النُّهى ... يُمارس أشغالاً تُشرِّدُ بالذِّكر
فإن كان قلْب الغُمْرِ للحفظ فارغاً ... تناول أقصاهُ وإنْ كان لا يدْري
يهُذُّ أُمُوراً ليس يعرف قدرها ... وهل يعرف الأقدار غير ذوي القدْرِ
وقال أبو دُلف في بعض تلك المسابقات:
وليس فراغ القلب مجْداً ورفعةً ... ولكنَّ شُغل القلب للْهمِّ دافعُ
وذو المجْد محمولٌ على كُلِّ آلةٍ ... وكُلُّ قصير الهمِّ في الحيِّ وادعُ
فزعم أنَّ الأعمى إنّما يحفظ لقلّة خواطره وشواغله. وعلى قدر الشواغل والخواطر تنبعث الهمة، وتصحّ الرويَّة، وتبعُد الغاية.
الانتفاع بالبغل في الطحن
وقالوا: طحْن الحمير والبغال والبقر والإبل، لا يجيء إلاَّ مع تغطية عيونها، ومنافع الطحن عظيمة جدّاً، وطحن البغال أطيب وأريع، وكيل ما تطحن أكثر؛ وطحين أرحاء القُرى لا يكون له طيب، لأنَّ أرحاء الماء، التي هي أرحاء القُرى، تحدقُ الدَّقيق، وتُفسد الطَّعم. فهذه المنفعة الكثيرة، للبغال فيها ما ليس لغيرها.
ولو كُلِّف البرْذون الطَّحن لهرج في ليلةٍ واحدةٍ.
والبغل لا يصرد كما يصرد الحمار، ولا يهرج كما يهرج البرذون.
وفي أمثال العامّة: الحمار لا يدْفأ في السنة إلاَّ يوماً واحداً، وذلك اليوم أيضاً لا يدفأ، كأنهم قضوا بذلك إذ كان عندهم في الصَّرد ووجدان البرد، في مجرى العنز والحيَّة والجرادة، وإن كان المثل قد سبق في غيره، يقال: " أصرد من جرادة " ، و " أصرد من حيَّة " .
مقايسة بين الفيل والبغل
وقال بعض من يحمد البغل: البغل لا يصرد كما يصرد الحمار، ولا يهرج كما تهرج الرَّمكة في الحرّ، والبغل يطحن، وهو فوق كلّ طاحن. ولو طحن البرذون يوماً واحداً في الصَّيف لسقط. ألا ترى أن الثور يطحن والجاموس أقوى منه وهو لا يطحن، وهو أيضاً مما يهرج.
وليس البغل كالفيلة: الفيلة لا تلقح إلاَّ في أماكنها، والبغلة قد تلقح في جميع البُلدان، ولكنّ أولادها لا تعيش، والفيل الشابّ لا ينبت نابه عندنا.
ولما سمع أبو الربيع الغنويّ أنّ كسرى كان يعول تسعمائة فيل، وينفق عليها وعلى سُوَّاسها، ويقوم بشأنها ومئونتها، قال: يزعمون أنه كان مُصْلحاً، وسائساً مدبِّراً؛ كان - والله - عندي يحتاج إلى أن يُحْجر عليه، انظروا كم كان يستهلك من الأموال عليها في غير ردّ، فإن كان يريد أن يباهي بها، ويهوِّل بها في الحروب، حبس منها بقدر ذلك.
ولقد رأى رجل في المنام أنّه ركب فيلا، وقصّ رْؤياه على ابن سيرين، فقال: " أمرٌ جسيم، ولا منفعة فيه " .

والفيلة إنما يفتخر بها السُّودان، كالحبشة والهنْد، فأمَّا ملوك العراق فإنما يتّخذون منها بقدر ما يقال إنّ عندهم من كلّ شيء شيئاً. وأيضاً لأنَّ الفيل خلْقٌ عجيب، ومعتبر لمن فكَّر. وكلّ شيء عجيبٍ فهو أبعث على التَّفكير من غيره.
حديث إنزاء الحمير على الخيل
ولما روى المدائنيّ والواقديّ وغيرهما، أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لمّا استأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في إنزاء الحمير على الخيل، قال: " إنمّا يفعل ذلك اللَّذين لا يعْلمون " . قال قوم: جاء الحديث عامّاً في ذكر الخيل، ولم يخُصّ العتاق دون البراذين؛ لأنّ اسم الخيل واقع عليهما جميعاً، قال الله سبحانه: " والخيْلَ والبغالَ والحْمير لترْكبُوها " ، أفتظنُّون أنه ذكر إنعامه عليهم بما خوَّلهم من المراكب، فذكر البغال والحمير وترك البراذين؟ فأما أبو إسحاق فإنه قال: هذا الحديث مختلفٌ فيه، وله أسانيد طوال، ورجالٌ ليسوا بمشهورين من الفقهاء بحمل صحيح الحديث. ويجوز أن ينهى عن إنزاء الحمير على الحجور والرِّماك جميعاً، فإن جلب جالب ذلك النِّتاج جاز بيعه وابتياعه، وملْكه وعتقه. وخصاؤه في الأصل حرام.
وقد أهدى المُقوقس عظيم القبْط إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خصيَّاً؛ وكان هذا الخصيّ أخا مارية أمّ إبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقبل هديَّته، وأرسل إليه ببغلة من نتاج ما بين حجْر وعيْر، وليس في هذين الكلام، إنما الكلام في الإخصاء وحده، والإنزاء وحده في أصل العمل، فإما إذا ما تمّ الأمر بينهما، فإن بيعهما وابتياعهما حلال.
قال: ولا نترك قولاً عامّاً قاله الله تعالى في كتابه ونصَّه، لحديثٍ لا ندري كيف هو، وقد قال الله جلّ وعزّ، وهو يريد إذْكار الناس نعمهُ السابغة، وأياديه المجلِّلة حين عدَّد عليهم، فقال: " والخيل والبغال والحمير لترْكبوها " ؛ فمن أين جاز لنا أن نخصَّ شيئاً دون شيء.
باب ما جاء في الكوادن
قال الشاعر:
جُنادفٌ لاحقٌ بالرَّأس منْكبُهُ ... كأنَّه كوْدنٌ يُوشي بكُلاَّبِ
وكلّ غليظٍ بعيد من العنق فهو كودن، قال ابن قميئة:
يسرٌ يطْعمُ الأرامل إذْ قلص درُّ اللِّقاح في الصِّنَّبْرِ
ورأيْت اْلإماء كالجعْثن البا ... لي عُكُوفاً على قُرارة قدْرِ
ورأيْت الدُّخان كالكوْدنِ الأصْحم ينْباعُ منْ وراء السِّتْرِ
حاضرٌ شرُّكم وخيركم د ... رُّ خروسٍ من الأرانب بكرِ
وفي ذمّ البغال يقول عرهم بن قيس الأسديّ:
إنَّ المذرع لا تغني خئولته ... كالبغل يعجز عن شوط المضامير
وقال الفرزدق:
سوى أنَّ أعراف الكوادن منقراً ... قبيلة سوءٍ بار في الناس سوقها
وإنما قالت حميدة بنت النعمان بن بشير لزوجها روح بن زنباع:
وهل أنا إلا مهرةٌ عربيةٌ ... سليلةُ أفراسٍ تجلَّلها بغل
فإن نتجت مهراً كريماً فبالحرى ... وإن يكُ إقرافٌ فمن قِبَلِ الفحلِ
فوضعت البغل في موضعه. فقال روح:
رضى الأشياخ بالفطيون بعلاً ... وترغب في المناكح عن جذامِ
يهوديٌّ له بضع الجواري ... فقبحاً للكهول وللغلامِ
وقال الآخر:
وما كثرت بنو أسدٍ فتخشى ... لكثرتهم ولا طاب القليل
قبيلةٌ تذبذب في معدٍّ ... أنوفهم أذلُّ من المسيل
تمنَّى أن تكون أخا قريشٍ ... شحيج البغل ملتمس الصهيل
وقال زيادٌ الأعجم:
ألم ترَ أنَّ البغل يتبع إلفه ... كما عامرٌ واللؤم مؤتلفان
وقال الكميت:
وما حملوا الحمير على عتاقٍ ... مطهَّمةٍ فيلفوا مبغلينا
وما سموا بأبرهة اغتباطاً ... بشرِّ ختونةٍ متزيِّنينا
باب ذكر ركوب نساء الأشراف البغال
قال: لما أهديت ابنة عبد الله بن جعفر إلى يزيد بن معاوية على بغلة، قال يزيد:
جاءت بها دهم البغال وشهبها ... مسيَّرةً في جوف قرٍّ مسيَّر
مقابلةٌ بين النبيِّ محمدٍ ... وبين عليٍّ والجواد ابن جعفر
منافيةٌ غراءُ جادت بودها ... لعبد منافيٍّ أغرُّ مشهر
وقال ابن أبي ربيعة:

هي الشمس تسري بها بغلةٌ ... وما خلت شمساً بليلٍ تسير
وقال الآخر:
مرت تزفُّ على بغلةٍ ... وفوق رحالتها قبَّه
زبيريةٌ من بنات الذي ... أحل الحرام من الكعبه
تزفُّ إلى ملكٍ ماجدٍ ... فلا بالرِّفا، وبها الوجبه
ولقي عمر بن ربيعة عائشة بنت طلحة، وهي على بغلة، فاستوقفها وأنشدها:
يا ربةَ البغلة الشهباء هل لكم ... في عاشقٍ دنفٍ لا ترهقي حرجا
قالت: بدائك مت أو عش تعالجه ... فما نرى لك فيما عندنا فرجا
قد كنت جرعتني غيظاً أعالجه ... وإن ترحني فقد عنيتني حججا
فقلت: ولا والذي حجَّ الحجيج له ... ما محَّ حبك من قلبي وما نهجا
وقال الآخر:
قفي يا ربةَ البغل ... أخبرك على رجل
فبينا ذاك إذ نادى ... منادٍ غير ما ختل
فعجنا بامرئٍ ضخمٍ ... على أهواج كالهقل
وعجنا كلَّ مسودٍ ... ومميود القرا عبل
وإذا لم تك ذا رأيٍ ... وذا قولٍ وذا عقل
وقالت أختها الصغرى ... رددناه إلى غفل
ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما الدخل
وليس الشأن في الوصل ... ولكن يعرف الفضل
باب ذكر أخبار ومسائل شتى
وحدث مصعبٌ الزبيريّ عن بعض أشياخه، وقال: إنّا لبالأبطح أيام الموسم، إذ أقبل شيخٌ أبيض الرأس واللحية، على بغلة شهباء، وما ندْري أهو أشدّ بياضاَ، أم بغلته، أم ثيابه، فاندفع يغنِّي:
أسعديني بعبْرةٍ أسرابِ ... منْ دُمُوعٍ كثيرة التَّسْكابِ
فارقُوني وقد علمْت يقيناً ... ما لمن ذاق ميتةً منْ إيابِ
ثم ضرب دابته وذهب، فأدركناه، فإذا هو حُنيْنٌ النَّخعيّ، وكان نصرانيّاً مستهتراً بالغناء.
ومن حديث المُغيرة بن عنْبسة عن بعض أشياخه قال: قال كعب الأحبار......فإذا هو شيخ أبيض الرأس واللحية، أبيض الثياب، على بغلة بيضاء.
وحدّثني صديقٌ لي، قال: أوَّلَ يوم دخلت الرَّقة - وذلك في أيام الرشيد - استقبلني الشاعر اليماميّ المتكلم، الذي يقول: " إني تيْميّ " ، فإذا هو أسود ولحيته سوداء، وثيابه سود، وعمامته سوداء، وسرجه أسود، وسمُّور سرجه أسود، وهو على برْذون أدهم، وقد ركبه غُبارٌ، فقلت: أعوذ بالله من هذا الزِّيّ! أهل خُراسان الذين هم أهل الدَّعْوة، ومخْرج الدولة، لا يتكلّفون جميع هذه الخصال كلّها لأنفسهم، واكتفوا بسواد ثيابهم! وإذا هو يتعرّض لصاحب الأخبار، طمعاً في أن يرفع خبره، فينال بذلك مرتبةً، فقلتُ له: والله إنّ هذا الزيّ لقبيح من أهل هذه الدولة، فما ظنُّك بإنسان يماميّ مرّةً وتيميّ مرّة؟! والله أنْ لو رُفعت في الخبر، لارتفعتُ معك حتى أُخبر عنك!.
وحدَّثني عمرو القصافيّ الشاعر، قال: دعانا فلان الفلانيّ، وهم قوم يُعرفون بالدَّعوة، فدعانا إلى منزله في أيام دعوتهم إلى العرب، فإذا هو قد ضرب خيمةً، وإذا حوله غُنيمات، وإذا في الدار بعير أجربُ، وريح الهناء والقطران؛ فدعا بالطَّعام، فإذا خُبزة قد ثرد نصفها في لبن، وكسر بين أيدينا النصف الآخر، ثم دعا بالنبيذ، فإذا هو في عُسِّ خشب، وإذا نبيذُ تمرْ، ثم دعا بنُقل فإذا بأقطٍ ومُقْلٍ وتنُّوم، ثم دعا بريْحان، فإذا خُزامى وعُبيْثرانٌ وشيح، وإذا عنده شادٍ وهو يغنيّ، فتىً أمردُ أجرد أبيض، فقال صاحبي: ما اجتمع هذا الذي رأينا في بيت هذا الفتى عند عقيل بن عُلَّفة، ولا عند الزِّبْرقان بن بدْر، ولا عند عوْف بن القعْقاع؛ فإن هؤلاء كانوا مردة الأعراب.
ما قيل في حب ركوب البغال
وقال أبو الشَّمقْمق في حُبِّ ركوب البغال، وكان قال.......أخْبرْني عن اسمك وبلك ونسبك وشهوتك. قال: أمّا اسمي ونسبي فأنا مرْوان بن محمد، مولى مروان بن محمد، وأمّا بلدي فالبصرة، وأمّا شهوتي فالنبيذ على اللحم السمين. فقال أبو الشمقمق:
مُناي منْ دُنْياي هاتي التي ... تسْلحُ بالرِّزق على عيْري
الجرْدقُ الحاضرُ معْ بضْعةٍ ... منْ ماعزٍ رخْصٍ ومن طيْر

وجرَّةٌ تهْدر ملآنةٌ ... تحْكي قراة القسِّ في الدَّيْرِ
وحُبَّةٌ دكْناءُ فضْفاضةٌ ... وطيْلسانٌ حسنُ النَّيْرِ
وبغلةٌ شهباء طيَّارةٌ ... تطْوي لي البلْدان في السَّيْر
وقَينةٌ حسْناء مَمْكورةٌ ... يصرعها الشَّوق إلى أيْري
وبدْرةٌ ممْلوءةٌ عسْجداً ... ما بالَّذي أذْكُرُ من ضيْر
ومنْزل في خيْر ما جيرةٍ ... قد عرفوا بالخيْر والميْر
وصاحب يلزمني دهره ... مثل لزوم الكيس للسَّيْر
مساعدٌ يعجبني فهمه ... مرتفع الهمَّة في الخيْر
كم من فتىً تْبصر ذا هيْئةٍ ... أبلد في المجلس من عير
وذكر أيضاً البغال، فقال:
ما أُراني إلاَّ سأترك بغْدا ... د وأهْوي لكورة الأهوازِ
حيث لا تنكر المعازف واللهْو وشرب الفتى من التَّقْمازِ
وجوارٍ كأنَّهنَّ نجومُ اللَّيْل زُهْرٌ مثْلُ الظِّباءِ الجوازي
واضحاتُ الخدود أُدْمٌ وبيضٌ ... فاتناتٌ ميلٌ من الأعْجازِ
بيْن عوَّادةٍ وأُخرى بصنْجٍ ... في بساتينها وفي الأحْوازِ
ذاك خيْرٌ من التَّردُّدِ في بغْداد تنْزُو بي البغالُ النَّوازي
كُلَّ يومٍ في كُمَّةٍ وقميصٍ ... ورداءٍ من الغُبار طرازي
لمْ يحكْهُ النَّسَّاجُ يوماً لبيعِ ... لا ولا يُشترى من البزَّازِ
أخذت أهلها الشَّياطين بالرَّكْضِ لطول الشَّقاءِ والإعْوازِ
كُلُّ شيْخٍ تخاله حين يبدو ... فوق برذوْنه كشخْصٍ حجازي
وجميل الفُسيْلُ أعنى ابن محْفو ... ظٍ عدُوُّ النَّدى وسلم المخازي
ألفتْ اسْته الفياشل حتَّى ... ما تشكَّى للطَّعْنِ بالعُكَّازِ
يأخذ الأسود الّذي يفرق الحوَّاء منْه كدسْتج المنْحازِ
ليْثُ غابٍ بدبْرهِ حين يَلقى ... وجبانٌ في الحرب يوم البرازِ
بعدتْ داره فلا ردَّهُ اللهُ ولازال نائي الدَّارِ شازي
ذاك شخْصٌ به عليَّ هوانٌ ... كهوان الخُصى على الخبّازِ
الخلق المركب
أمّا ما ذكرنا من أجناس الحيوان المركَّبات، كالبغل والشِّهْري، والمُقْرف، والهجين، وكالبُخْت والبهونيّ، والصَّرصرانيّ، والطير الورْداني، والحمام الراعبيّ، فقد عرفنا كيف تراكيب ذلك، وعرفنا اختلاف الآباء والأُمَّهات. فأمَّا السِّمْع والعسبْار والدَّيْسم والعُدار والزّرافة، فهذا شيء لم أحُقَّه.
وقد أكثر الناس في هذا وفي اللُّخْم، وفي الكوْسج، وفي الدُّلْفين، وفيما يتراكب بين الثعلب والسِّنَّوْر البرّيّ، فإنّ هذا كله إنما نسمعه في الأشعار، في البيت بعد البيت، ومن أفواه رجالٍ لا يُعرفون بالتحصيل والتثبُّت، وليسوا بأصحاب توقٍ وتوقُف.
وإذا كان إياس بن معاوية القاضي يزعم أن الشَّبُّوطة إنما خُلقت من بين الزَّجر والبُنّيّ، وأنَّ من الدليل على ذلك أن الشبّوطة لا يوجد في جوْفها بيضٌ أبداً، لأنّها كالبغلة، فأنا رأيت في جوفها البيْض مراراً، ولكنّه بيضٌ سوْءٍ لا يؤكل، ليس بالعظيم، ولا يستطيل في البطْن كما يستطيل بيض جميع أناث السمك.
والشَّبُّوط جنس يكون ذُكرانه أكثر، فلا يكاد إنسانٌ يقلّ أكله للشبّوط يرى بيض الشَّبُّوط. فإذا كان إياسٌ يغلظ هذا الغلظ، فما ظنُّك بمن دونه.
زواج الإنس بالجن
وقد يكون هذا الذي نسمعه من اليمانية والقحْطانيّة، ونقرأه في كتب السِّيرة، قصَّ به القصّاص، وسمروا به عند الملوك.
وزعموا أنّ بلقيس بنت ذي مشرح، وهي ملكة سبأ، ذكرها الله في القرآن، فقال: " ولها عرْشٌ عظيمٌ " ، زعموا أن أمَّها جنّيّة، وأن أباها إنسيّ، غير أن تلك الجنّيّة ولدت إنسيّةً خالصةً صرْفاً بحتاً، ليس فيها شوْب، ولا نزعها عرْق، ولا جذبها شبه، وأنَّها كانت كإحدى نساء الملوك.

فاحسُبْ أنّ التناكح يكون بين الجنّ والإنس، من أين أوجبوا التلاقح، ونحن نجد الأعرابيّ والشابَّ الشّبق، ينيكان الناقة والبقرة والعنز والنعجة، وأجناساً كثيرة، فيُفْرغون نُطفهم في أفواه أرحامها، ولم نر ولا سمعنا على طول الدهر، وكثرة هذا العمل الذي يكون من السُّفهاء، ألقح منها شيءٌ من هذه الأجناس، والأجناس على حالهم من لحم ودم، ومن النُّطف خُلقوا. وأصل الإنسان من طين، والجانّ خُلق من نار السَّموم، فشبه ما بين الجنّ والإنس، أبعد من شبه ما بين الإنسان والقرْد. وكان ينبغي للقردة أن يلقح من الإنسان.
الصرع والاستهواء
ومن العجب أنَّهم يزعمون أنَّما تُصرع المرأة لأن واحداً من الجنّ عشقها، وأنه لم يأتها إلاّ على شهوة الذّكر للأُنثى، أو شهوة الأُنثى للذّكر.
وقيل لعمرو بن عُبيد: أيكون أن يصرع شيطانٌ إنساناً؟ قال: لو لم يكن لما ضرب الله به المثل لآكل الرِّبا حيث يقول: " الذين يأكلون الرِّبا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبَّطُهُ الشَّيطان من المس " . فهذا شيء واضح. قال: ثم وقفنا على رجلٍ مصروع، فقلت له: أرأيت هذا الصَّرْع، تزعم أنه من شيطانه؟ قال: أمّا هذا بعينه فلا أدري أمن فساد مرَّة وبلْغمٍ، أم من شيطان؛ وما أُنكر أن يكون خبْط شيطانٍ وصرعه، وكيف لا يجوز ذلك مع ما سمعنا في القرآن؟ قال: وسمعته، وسأله سائلٌ عن رجلٍ هام على وجهه، مثل عمرو بن عديّ صاحب جذيمة الوضاح، ومثل عمارة بن الوليد، وطالب بن أبي طالب، فقال: قد قال الله: " كالذي استهوته الشياطين في الأرض " .
وأنا أعلم أنَّ في الناس من استهوته الشياطين، ولست أقضي على الجميع بمثل ذلك. وقد قالوا في الغريض المغني، وسعد بن عبادة وغيرهما، وهذا عندنا قولٌ عدل.
رجع إلى زواج الإنس بالجن
وكلّ ما قالوا من أحاديثهم في الخلق المركب، فهو أيسر من قولهم في ولادة بلقيس.
وهم يروون في رواياتهم في تزويج الإنسان من الجن، حتى جعلوا قول الشاعر:
يا قاتل الله بني السعلاة ... عمراً وقابوساً شرار النات
- يريد: الناس - أنه الدليل على أن السعلاة تلد الناس.
هذا سوى ما قالوا في الشق وواق واق ودوال باي، وفي الناس والنسناس.
ولم يرضَ الكميت بهذا حتى قال: " نسناسهم والنسانسا " .
فقسم الأقسام على ثلاثة: على الناس، والنسناس، والنسانس.
وتزعم أعراب بني مرّة أنَّ الجن إنما استهوت سناناً لتستفحله إذ كان منجباً، وسنانٌ إنما هام على وجهه. وقال رجل من العرب: " والله لقد كان سنانٌ أحزم من فرخ العقاب " .
البراذين والخيل
وقال محمد بن سلام الجمحيّ: قلت ليونس بن حبيب: آلبراذين من الخيل؟ فأنشدني:
وإنِّي امرْؤٌ للخيْل عنْدي مزيَّةٌ ... على فارس البرْذوْنِ أو فارس البغلِ
وقالوا: إنما ذهب الشاعر من اسم الخيل إلى العتاق.
وإنما يُوصف الفرس العتيق بصفة الإنسان من بين جميع الحيوان، يقولون: فرس كريم، وفرس جواد، وفرس رائع.
فأما قولهم " كريم " و " عتيق " ، فإنَّما يريدون أن يُبْرُوه من الهُجنة والإقراف، وكيف يجعلون البرذون لاحقاً بالعتيق، وإنْ دخل الفرس من أعراق البراذين شيءٌ هجَّنه؟ وفي القرآن: " والخيل والبغال والحمير " حين أراد أن يعدِّد أصناف نعمه؛ أفتراه ذكر نعمه في الحمار والبغل، ويدع نعْمته في البراذين، والبراذين أكثر من البغال، ولعلَّها أكثر من الحمير الأهليّة، التي هي للركوب، لأنّ الله تعالى قال: " والخيل والبغال والحمير لترْكبوها " ؟ وحُمر الوحش وإن كانت حميراً فليست بمراكب. وفرسان العجم تختار في الحرب البراذين على العتاق، لأنها أحسن مُواتاة. والفحل والحصان من العتاق ربَّما شمَّ ريح الحجّر في جيش الأعداء، فتقحَّم بفارسه حتَّى يعطب، ولذلك اختاروا البراذين للصَّوالجة والطَّبْطابات والمشاولة، وإنما أرادوا بذلك كلَّه أن يكون دُربةً للحرب وتمريناً وتأسيساً.
فأكثر الحمير والبغال تُتّخذ لغير الركوب، وليس في البراذين طحّانات ولا نقّالات، ولا تُكْسح عليها الأرض إلا في الفرْط. فكيف يدع ذكر ما هو أعظم في المنفعة، وأظهر في النِّعمة، مع الجمال والوطاءة إلى ذكر ما لا يدانيه؟
ركوب البغال واختيارها للحرب

قال: وممّا يهجِّن شأن البغل ويُخبر عن إبطائه عند الحاجة إلى سُرعته، أنّ القائد الشُّجاع، والرئيس المُطاع، إذا أراد أن يُعلم أصحابه أنه لا يفرُّ، حتى يفتح الله عليه أو يقتل، ركب بغلاً. ولذلك قال الشاعر:
إذا ركب الأُسوار بغلاً وبغلةً ... لدى الحرْبِ والهيْجاء قدْ شُبَّ نارها
فذاك دليلٌ لا يُخيل، وعزْمةٌ ... على الصَّبْرِ حتَّى يُسْتبانَ بشارُها
وذو الصَّبر أوْلاهُم بكُلِّ سلامةٍ ... وبالصّبْرِ يبْدو عقبها وعيارُها
وذهب إلى قول أبي بكر، رضي الله عنه، لخالد بن الوليد: " احرص على الموت تُوهب لك الحياة " .
يقول: إذا صبرتم ولم تفرّوا، هزمتم العدو، فصار صبركم سبباً لحياتكم.
وحدَّثني نهيك بن أحمد بن نهيك، كاتب عبد الله بن ظاهر، قال: اقتتل أصحاب الأمير عبد الله بن طاهر، وأصحاب نصْر بن شبث يوماً على باب كيسوم، ونصرٌ في آخر القوم جالسٌ على مصلَّى، محتبٍ بحمائل سيفه، وبين يديه بغل مُسْرج مجلل، والله ما أدري أكان الجُلّ تحت اللِّبْد، أم كان فوق السَّرج، وشدّ عزيز على أصحاب نصر شدَّةً كشفتْهم، حتى جاوزوا مكان نصر، وصار عزيز بحذاء نصر، ونصرٌ جالس؛ فلما رأى ذلك وثب وثبةً فإذا هو على ظهر البغل، وقال: مكانك يا عزيز! أتبلغ إلى موضعي، وتطأ حريمي؟! ثم شدَّ نحوه على بغله، وعزيز على برذونٍ، فعزف - والله - عزيزٌ عنه، وعزيز يومئذ فارس العسكر غير مدافع.
نقد تشبيه البغل بالكلب
وأنشدوا في البغل:
أردْت مديح البغْل يا شيْخ مذْحجٍ ... فجئت بشيْءٍ صيَّر البغل كالكلبِ
وحسبك لُؤماً بالكلاب ودقّةً ... وقدْ ثمَّنُوا شرواه شأْواً من التُّرْبِ
لأن في الحديث: إنَّ دية الكلب زبيلٌ من تراب، حقّ على القاتل أن يفعله، وحقَّ على صاحب الكلب أن يقبله.
تم الكتاب بعون الله تعالى ومنّه.
يتلوه كتاب الحنين إلى الأوطان، والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد نبيه وسلامه.