رسائل الجاحظ



رسالة الحنين إلى الأوطان
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ لكلِّ شيءٍ من العلم، ونوعٍ من الحكمة، وصنفٍ من الأدب، سبباً يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتتاً، ومعنىً يحدو على جمع ما كان منه متفرقاً. ومتى أغفل حملة الأدب وأهل المعرفة تمييز الأخبار واستنباط الآثار، وضمَّ كلِّ جوهرٍ نفيسٍ إلى شكله، وتأليف كلّ نادر من الحكمة إلى مثله بطلت الحكمة وضاع العلم، وأميت الأدب، ودرس مستور كلِّ نادر.
ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم وضاع آخره. ولذلك قيل: " لا يزال الناس بخيرٍ ما بقي الأول يتعلم منه الأخير " .
وإنَّ السبب الذي بعث على جمع نتفٍ من أخبار العرب في حنينها إلى أوطانها، وشوقها إلى تربها وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقَّد النار في أكبادها، أني فاوضت بعض من انتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع إلى الأوطان، فسمعته يذكر أنه اغترب من بلده إلى آخر أمهد من وطنه، وأعمر من مكانه، وأخصب من جنابه. ولم يزل عظيم الشأن جليل السلطان، تدين له من عشائر العرب ساداتها وفتيانها، ومن شعوب العجم أنجادها وشجعانها، يقود الجيوش ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغبٌ إليه، أو راهبٌ منه؛ فكان إذا ذكر التُّربة والوطن حنَّ إليه حنين الإبل إلى أعطانها، وكان كما قال الشاعر:
إذا ما ذكرت الثَّغر فاضت مدامعي ... وأضحى فؤادي نُهبةً للهماهمِ
حنيناً إلى أرضٍ بها اخضرَّ شاربي ... وحُلَّت بها عنِّي عقود التمائمِ
وألطف قومٍ بالفتى أهل أرضه ... وأرعاهم للمرء حقَّ التقادمِ
وكما قال الآخر:
يقرُّ بعيني أن أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأبرق المتقاودِ
وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى وقد ملّ السُّرى كلُّ واخدِ
وألصق أحشائي بيرد ترابها ... وإن كان مخلوطاً بسم الأساودِ
فقلت: لئن قلت ذلك لقد قالت العجم: من علامة الرُّشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توّاقة.

وقالت الهند: حرمة بلدك عليك مثل حرمة أبويك؛ لأن غذاءك منهما، وغذاءهما منه.
وقال آخر: احفظ بلداً رشّحك غذاؤه، وارع حمىً أكنّك فناؤه. وأولى البلدان بصبابتك إليه بلدٌ رضعت ماءه، وطعمت غذاءه.
وكان يقال: أرض الرجل ظئره، وداره مهده. والغريب النائي عن بلده، المتنحّي عن أهله، كالثور النادِّ عن وطنه، الذي هو لكلِّ رامٍ قنيصة.
وقال آخر: الكريم يحنُّ إلى جنابه، كما يحنُّ الأسد إلى غابه.
وقال آخر: الجالي عن مسقط رأسه ومحلِّ رضاعه، كالعير الناشط عن بلده، الذي هو لكل سبعٍ قنيصة، ولكل رامٍ دريئة.
وقال آخر: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقَّةً وحفاوة.
وقال آخر: أحقُّ البلدان بنزاعك إليه بلدٌ أمصَّك حلب رضاعه.
وقال آخر: إذا كان الطائر يحنُّ إلى أوكاره، فالإنسان أحقُّ بالحنين إلى أوطانه.
وقالت الحكماء: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرِّعاية، والرِّعاية من الرَّحمة، والرَّحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرَّشدة، وطهارة الرَّشدة من كرم المحتد.
وقال آخر: ميلك إلى مولدك من كرم محتدك.
وقال آخر: عسرك في دارك أعز لك من يُسرك في غربتك.
وأنشد:
لقربُ الدار في الإقتار خيرٌ ... من العيش الموسَّع في اغترابِ
وقال آخر: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، فقد شربه، فهو ذاوٍ لا يثمر، وذابلٌ لا ينضر.
وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونةٌ بحبِّ الوطن.
ولذلك قال بُقراط: يُداوى كلُّ عليلٍ بعقاقير أرضه؛ فإنَّ الطبيعة تتطلَّع لهوائها، وتنزع إلى غذائها.
وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها.
وقال جالينُوس: يتروّح العليل بنسيم أرضه، كما تنبت الحبة ببلِّ القطْر.
والقول في حبِّ الناس الوطن وافتخارهم بالمحالِّ قد سبق، فوجدنا الناس بأوطانهم أقنع منهم بأرزاقهم.
ولذلك قال ابن الزُّبير: " لو قنع الناس بأرزاقهم قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرِّزق " .
وترى الأعراب تحنُّ إلى البلد الجدْب، والمحلِّ القفر، والحجر الصَّلْد، وتستوخم الرِّيف، حتَّى قال بعضهم:
أتجلين في الجالين أم تتصبَّري ... على ضيق عيشٍ والكريمُ صبورُ
فبالمصر بُرغوثٌ وحُمّى وحصْبةٌ ... ومُوم وطاعونٌ وكلُّ شُرورُ
وبالبيد جوعٌ لا يزالُ كأنَّه ... رُكامٌ بأطراف الإكام يمورُ
وترى الخضريَّ يُولد بأرض وبقاءٍ وموتانٍ وقلَّة خِصْب، فإذا وقع ببلادٍ أريف من بلاده، وجنابٍ أخصب من جنابه، واستفاد غنىً، حنَّ إلى وطنه ومستقرِّه.
ولو جمعنا أخبار العرب وأشعارها في هذا المعنى لطال اقتصاصُه، ولكن توخَّينا تدوين أحسن ما سنح من أخبارهم وأشعاهم، وبالله التوفيق.
ومما يؤكِّد ما قلنا في حبِّ الأوْطان قول الله عزّ وجلّ حين ذكر الدِّيار يُخْبر عن مواقعها من قلوب عباده فقال: " لو أنّا كتبْنا عليهمْ أن اقْتلوا أنْفُسكُمْ أو اخْرجُوا من دياركم ما فعلوه إلاَّ قليلٌ منهم " ، فسوَّى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم. وقال تعالى: " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا " .
وقال عمر رضي الله عنه: " عَمَّر الله البُلدان بحبِّ الأوطان " .
وكان يقال: لولا حبُّ الناس الأوطان لخسرت البُلدان.
وقال عبد الحميد الكاتب، وذكر الدُّنيا: " نفتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان " .
وقالت الحكماء: أكرم الخيل أجزعُها من السَّوط، وأكيس الصِّبيان أبغضُهم للكُتَّاب، وأكرم الصَّفايا أشدُّها ولهاً إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدُّها حنيناً إلى أوطانها، وأكرم المهارة أشدُّها ملازمةً لأمِّها، وخير الناس آلفُهم للناس.
وقال آخر: من إمارات العاقل برُّه لإخوانه، وحنينه لأوطانه، ومداراته لأهل زمانه.
واعتلَّ أعرابيٌّ في أرض غربة، فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: حسْل فلاة، وحسْو قلات.
وسئل آخر فقال: محْضاً رويّاً، وضبّاً مشويّاً.
وسئل آخر فقال: ضبّاً عنيناً أعور.
وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك.
وقيل: الغُربة كُربة، والقلّة ذلة. وقال:
لا ترغبوا اخوتي في غربة أبداً ... إنّ الغريب ذليلٌ حيثما كانا
وقال آخر: لا تنهض من وكرك فتنقُصك الغُربة، وتضيمك الوحدة.

وقال آخر: لا تجفُ أرضاً بها قوا بلك، ولا تشكُ بلداً فيه قبائلك.
وقال أصحاب القيافة في الاسترواح: إذا أحسَّت النفس بمولدها تفتَّحتْ مسامُّها فعرفت النَّسيم.
وقال آخر: يحنُّ اللبيب إلى وطنه، كما يحنُّ النَّجيبُ إلى عطنه.
وقال: كما أنَّ لحاضنتك حقَّ لبنها، كذلك لأرضك حرمة وطنها.
وذكر أعرابيٌّ بلدةً فقال: رملةٌ كنت جنين رُكامها، ورضيع غمامها، فحضنتني أحشاؤها، وأرضعتني أحساؤها.
وشبَّهت الحكماء الغريب باليتيم اللَّطيم الذي ثكل أبويه، فلا أُمَّ ترأمه، ولا أبَ يحدب عليه.
وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك فلا تنسَ نصيبك من الذلّ.
وقال الشاعر:
لعمري لرهطُ المرء خيرٌ بقيَّةً ... عليه وإن عالوْا به كلَّ مركبِ
إذا كنت في قومٍ عدىً لست منهم ... فكُلْ ما عُلفت من خبيثٍ وطيِّبِ
وفي المثل: " أوضحُ من مرآة الغريبة " . وذلك أن المرأة إذا كانت هديّاً في غير أهلها، تتفقَّد من وجهها وهيئتها ما لا تتفقَّده وهي في قومها وأقاربها، فتكون مرآتها مجلوَّةً تتعهَّد بها أمر نفسها. وقال ذو الرمّة:
لها أُذنٌ حشْرٌ وذفرى أسيلةٌ ... وخدٌّ كمرآة الغريبة أسجحُ
وكانت العرب إذا غزتْ وسافرتْ حملتْ معها من تُربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه عند نزْلةٍ أو زكام أو صُداع. وأُنشد لبعض بني ضبَّة:
نسير على علمٍ بكُنه مسيرنا ... وعُدّةِ زاد في بقايا المزاودِ
ونحمل في الأسفار ماء قبيصةٍ ... من المنشأ النائي لحبِّ المراودِ
وقال آخر: أرضُ الرَّجل أوضحُ نسبه، وأهله أحضر نشبه.
وقيل لأعرابيٍّ: كيف تصنع في البادية إذا اشتدَّ القيظُ وانتعل كلُّ شيء ظلَّه؟ قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحُدنا ميلاً فيرفضُّ عرقاً، ثم ينصب عصاه ويلقى عليها كساءه، ويجلس في فيئه يكتال الرِّيح، فكأنَّه في إيوان كسرى!.
وقيل لأعرابيٍّ: ما أصبركم على البدو؟ قال: كيف لا يصبر من وطاؤه الأرض، وغطاؤه السماء، وطعامه الشَّمس، وشرابه الريح! والله لقد خرجنا في إثر قومٍ قد تقدَّمونا بمراحل ونحن حُفاة، والشَّمس في قُلَّة السماء، حيث انتعل كلُّ شيءٍ ظلَّه، وأنَّهم لأسوأُ حالاً منّا، إنّ مهادهم للعفر، وإنَّ وسادهم للحجر، وإنّ شعارهم للهواء، وإنّ دثارهم للخواء.
وحدّثني التوّزيُّ عن رجلٍ من عُرينة قال حدّثني رجلٌ من بني هاشمٍ قال: قلتُ لأعرابي من بني أسد: من أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية. قلت: وأين تسكن منها؟ قال: مساقط الحمى حمى ضريّة، بها لعمر الله ما نُريد بدلاً، ولا نبغي عنها حولا، أمّا الفلوات، فلا يملوْلح ماؤها، ولا يحمى ترابها، ولا يُعمر جنابها، ليس فيها أذىً ولا قذىً، ولا أنينٌ ولا حُمَّى؛ فنحن بأرفه عيشٍ وأرفع نعمْة! قلت: فما طعامكم فيها؟ قال: بخٍ بخ! عيشُنا والله عيشٌ تعلَّل جادبه، وطعامنا أطيب طعامٍ وأهنؤه: الهبيد والضِّباب واليرابيع، والقنافذ والحيَّات، وربَّما والله أكلْنا القدّ، واشتوينا الجلْد، فلا نعلم أحداً أخصب منّا عيشاً، فالحمد لله على ما بسط من السَّعة، ورزق من الدَّعة، أو ما سمعت قول قائلنا وكان والله عالماً بلذيذ العيش:
إذا ما أصبنا كلَّ يومٍ مُذيقةً ... وخمس تُميراتٍ صغارٍ كنائزِ
فنحن ملوك الأرض خصْباً ونعْمةً ... ونحن أسود الغاب عند الهزاهزِ
وكم متمنٍّ عيْشنا لا يناله ... ولو ناله أضحى به حقَّ فائزِ
ولهذا خبر طويلٌ وصف فيه نُوقاً أضلَّها، واقتصرنا منه على ما وصف من قناعته بوطنه.

قال الهاشميّ: فلمَّا فرغ من نعته قلت له: هل لك في الغذاء؟ قال: إنيّ والله غاوي إغباب، لاصقُ القلب بالحجاب، مالي عهدٌ بمضاغٍ إلا شلو يربوع وجد معمعمةً منِّي فانسلت، فأخذت منه بنافقائه وقاصعائه ودامَّائه وراهطائه، ثم تنفَّقتُه فأخرجته، ولا والله ما فرجتُ بشيءٍ فرحى به، فتلقَّاني رُويعٍ ببطن الخرْجاء، يُوقد نُويرةً تخبو طوراً وتسمو أخرى، فدسسته في إرته فخمدت نُويرتُه، ولا والله ما بلغ نُضجه حتَّى اختلس الرُّويعي منه، فغلبني على رأسه وجوْشه، وصدره وبدنه، وبقي بيدي رجلاه ووركاه، وفقرتان من صُلبه، فكان ذلك ممَّا أنعم الله به عليَّ، فاغتبقتُها على نكْظٍ مُنْكظ، وبوْصٍ بائص عن عراكه إيّاي، غير أنَّ الله أعانني عليه. فلذلك والله عهدي بالطّعام، وإني لذو حاجةٍ إلى غذاء أنوِّه به فؤادي، وأشُدُّ به آدى، فقد والله بلغ مني المجهود، وأدرك منيّ المجلود.
يصف هذا البؤس والجهد، ويتحَّمل هذه الفاقة، ويصبر على الفقر، قناعةً بوطنه، وحبّاً لعطنه، واعتداداً بما وصف من رفاغة عيشه.
وحدَّثنا سليمان بن معبد، أنَّ الوليد بن عبد الملك أراد أن يُرسل خيله، فجاء أعرابيٌّ له بفرسٍ أُنثى، فسأله أن يُدخلها مع خيله، فقال الوليد لقهرمانة أُسيْلم بن الأحنف: كيف تراها يا أسيلم؟ فقال يا أمير المؤمنين، حجازيّة، لو ضمَّها مضمارك ذهبت. قال الأعرابي: أنت والله منقوص الاسم، أعوج اسم الأب! فأمر الوليد بإدخال فرسه، فلمَّا أُجريت الخيلُ سبق الأعرابيُّ على فرسه، فقال الوليد: أواهبُها لي أنت يا أعرابيّ؟ فقال: لا والله، إنّها لقديمةُ الصُّحبة، ولها حقٌّ ولكن أحملك على مُهرٍ لها سبق عاماً أوّل وهو رابضٌ. فضحك الوليدُ وقال: أعرابيٌّ مجنون! فقال: وما يضحككم؟ سبقتْ أمُّه عاماً أوّل وهو في بطنها! فاستظرفه واحتبسه عنده فمرض، فبعث إليه الوليد بالأطباء، فأنشأ يقول:
جاء الأطبَّاء من حمصٍ تخالهم ... من جهلهم أن أُداوى كالمجانينِ
قال الأطبَّاء: ما يشْفيك؟ قلت لهم ... شمُّ الدُّخانِ من التسرير يشفيني
إنِّي أحنُّ إلى أدخان مُحتطبٍ ... من الجُنينة جزلٍ غير موزونِ
فأمر الوليد أن يُحمل إليه من رمثٍ سليخة، فوافوه وقد مات.
فهو عند الخليفة، وببلدٍ ليس في الأقاليم أريفُ منه، ولا أخصبُ جناباً، فحنَّ إلى سليخة رمثٍ، وحبّاً للوطن.
وحكى أبو عبد الله الجعفري عن عبد الله بن إسحاق الجعفريّ قال: أمرتُ بصهريجٍ لي في بستانٍ، عليه نخلٌ مُطلٌّ أن يُملأ، فذهبت بأمِّ الحسام المرّيّة وابنتها - وهي زوجتي - فلمَّا نظرتْ أمُّ الحسام إلى الصِّهريج قعدتْ عليه وأرسلتْ رجليها في الماء، فقلت لها: ألا تطُوفين معنا على هذا النَّخل، لنجني ما طاب من ثمره؟ فقالت: ها هنا أعجبُ إليّ. فدُرنا ساعةً وتركناها، ثم انصرفنا وهي تُخضخض رجليها في الماء وتحرِّك شفتيها، فقلت: يا أمّ الحسام، لا أحسبك إلا وقد قلت شعراً. قالت: أجل. ثم أنشدتني:
أقول لأدنى صاحبيَّ أُسرُّه ... وللعين دمعٌ يحدر الكُحل ساكبُه
لعمري لنهيٌ باللِّوى نازح القذى ... نقيُّ النواحي غير طرْق مشاربُه
بأجرع ممراعٍ كأنَّ رياضه ... سخاب من الكافور والمسك شائبُه
أحبُّ إلينا من صهاريج مُلِّئت ... للعبٍ فلم تملُح لديّ ملاعنُه
فيا حبّذا نجدٌ وطيبُ ترابه ... إذا هضبته بالعشيِّ هواضبُه
وريح صبا نجدٍ إذا ما تنسمَّتْ ... ضحىً أوسرت جُنح الظلام جنائبُه
وأنشد أبو النصر الأسديّ:
أحبُّ الأرض تسكنُها سليمى ... وإن كانت توارثها الجُدوبُ
وما دهري بحبِّ تراب أرضٍ ... ولكن من يحلُّ بها حبيبُ
وأنشدني حمَّاد بن إسحاق الموصلي:
أحبُّ بلاد الله ما بين صارةٍ ... إلى غطفان إذ يصوب سحابُها
بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي ... وأول أرضٍ مسَّ جلدي ترابُها
قال: ولمّا حُملت نائلة بنت الفرافصة الكلبية إلى عثمان بن عفّان رضي الله عنه، كرهت فراق أهلها، فقالت لضبّ أخيها:

ألست ترى بالله يا ضبُّ أنّني ... مرافقةٌ نحو المدينة أركُبا
أما كان في أولاد عوف بن عامرٍ ... لك الويل ما يُغني الخباء المطَّنبا
أبي الله إلاّ أن أكون غريبةً ... بيثرب لا أمّاً لديَّ ولا أبا
قال: وزُوِّجت من أبان في كلبٍ امرأةٌ، فنظرتْ ذات يومٍ إلى ناقةٍ قد حنَّت فذكرتْ بلادها وأنشأتْ تقول:
ألا أيُّها البكْرُ الأبانيُّ إننّي ... وإياك في كلبٍ لمغتربانِ
نحنُّ وأبكى ذا الهوى لصبابةٍ ... وإنَّا على البلوى لمصطحبانِ
وإنَّ زماناً أيُّها البكرُ ضمَّني ... وإيّاك في كلبٍ لشرُّ زمانِ
وقال آخر:
ألا يا حبّذا وطني وأهلي ... وصحْبي حين يُدَّكَرُ الصَّحابُ
وما عسلٌ ببارد ماءِ مُزنٍ ... على ظمأٍ لشاربه يُشابُ
بأشهى من لقائكم إلينا ... فكيف لنا به، ومتى الإيابُ
وأنشد الغنويُّ لبعض الهذليين:
وأرى البلاد إذا سكنتِ بغيرها ... جدْباً وإن كانت تُطلُّ وتُجنبُ
وأرى العدوَّ يحبُّكم فأحبُّه ... إن كان يُنسب منك أو يتنسَّبُ
وأرى السَّميَّة باسمكم فيزيدها ... حبّاً إلى ... ... ...
قال: ومن هذا أخذ الطائيُّ قوله:
كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى ... وحنينُه أبداً لأوّل منزلِ
وأنشد أبو عمرٍو البجلي:
تمتَّعْ من شميم عرار نجدٍ ... فما بعد العشيّة من عرارِ
ألا يا حبّذا نفحاتُ نجدٍ ... ورياً روضه غبَّ القطارِ
وعيشك إذْ يحُلُّ القومُ نجداً ... وأنت على زمانك غير زارِ
شهورٌ ينقضين وما شعرنا ... بأنصافٍ لهنَّ ولا سرارِ
فأما ليلهنَّ فخيرُ ليلٍ ... وأقصر ما يكون من النَّهارِ
وقال آخر:
ألا هل إلى شمِّ الخُزامى ونظرةٍ ... إلى قرقري قبل المماتِ سبيلُ
فأشرب من ماء الحجيلاء شربةً ... يُداوي بها قبل المماتِ عليلُ
فيا أثلاثِ القاعِ، قلبي موكَّلٌ ... بكنَّ وجدوى خيركنَّ قليلُ
ويا أثلاث القاع قد ملَّ صُحبتي ... مسيري فهل في ظلِّكنَّ مقيلُ
أُريدُ انحداراً نحوها فيردُّني ... ويمنعني دينٌ، عليَّ ثقيلُ
أحدِّث نفسي عنك إذْ لستُ راجعاً ... إليك، فحزني في الفؤادِ دخيلُ
وأنشد للمجنون:
إلى عامرٍ أصبو، وما أرضُ عامرٍ ... هي الرَّملةُ الوعساء والبلد الرَّحبُ
معاشر بيضٌ لو وردت بلادهم ... وردت بُحوراً ماؤها للنَّدى عذبُ
إذا ما بدا للناطرين خيامُهم ... فثمَّ العتاقُ القُبُّ والأسل القضْبُ
وأنشدنا المازني:
اقرأ على الوشل السَّلام وقل له: ... كلُّ الموارد مُذ هُجرت ذميمُ
جبل يُنيف على الجبال إذا بدا ... بين الغدائر والرِّمال مقيمُ
تسري الصَّبا فتبيتُ في ألواده ... ويبيت فيه من الجنوب نسيمُ
سقياً لظِّلك بالعشيّ وبالضُّحى ... ولبرد مائك والمياه حميمُ
لو كنت أملك برد مائك لم يذقْ ... ما في قلاتك ما حييتُ لئيمُ
وقال امرأةٌ من عقيل:
خليليَّ من سكان ماوان هاجني ... هبوبُ الجُنوبِ مرُّها وابتسامُها
فلا تسألاني ما ورائي فإنَّني ... بمنزلةٍ أعيا الطبيب سقامُها
وقال آخر:
ألا ليت شعري والحوادثُ جمّةٌ ... متى تجمعُ الأيامُ يوماً لنا الشَّملا
وكلُّ غريبٍ سوف يُمسي بذلَّةٍ ... إذا بان عن أوطانه وجفا الأهلا
وقال آخر:
ألا ليت شعري يُجمع الشَّملُ بيننا ... بصحراء من نجران ذات ثرى جعدِ
وهل تنْفُضنَّ الرِّيحُ أفنان لمَّتى ... على لاحق الرِّجلين مضطمرٍ وردِ
وهل أردنَّ الدَّهر حسْي مزاحمٍ ... وقد ضربته نفحةٌ من صبا نجدِ
وقال آخر:

وأنزلني طولُ النَّوى دار غرْبةٍ ... إذا شئتُ لاقيت امرأً لا أشاكلُه
فحامقتُه حتَّى يقالُ سجيّةٌ ... ولو كان ذا عقلٍ لكنتُ أعاقلُه
ولو كنتُ في قومي وجُلِّ عشيرتي ... لألفيت فيهم كلّ خرقٍ أواصلُه
وأنشد لذي الرمة:
إذا هبَّت الأرواح من نحو جانبٍ ... به أهلُ ميٍّ هاج قلبي هبوبُها
هوىً تذرف العينان منه، وإنّما ... هوى كلِّ أرض حيث حلّ حبيبُها
وقال أبو عثمان: رأيت عبداً أسود حبشيّاً لبني أسيد قدم من شقِّ اليمامة فصار ناوراً، وكان وحشيّاً مجنوناً لطول الغربة مع الإبل، وكان لا يلقى إلاّ الأكرة، فلا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلمَّا رآني سكن إليَّ، وسمعته يقول: لعن الله أرضاً ليس بها عرب، قاتل الله الشاعر حيث يقول: " حرُّ الثرى مُستعرب التُّراب " .
أبا عثمان، إنَّ هذه العُريب في جميع الناس كمقدار القُرحة في جلد الفرس، فلولا أنَّ الله رقَّ عليهم فجعلهم في حشاةٍ لطمست هذه العجم آثارهم. أترى الأعيار إذا رأت العتاق لا ترى لها فضلا! والله ما أمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بقتلهم، إذْ لا يدينون بدينٍ، إلاّ لضنِّه بهم، ولا ترك قبول الجزية منهم إلاّ تنزيهاً لهم.
وقيل لأعرابيٍّ: ما السُّرور؟ فقال: أوبةٌ بغير خيبة، وألفةٌ بعد غيبة.
وقيل لآخر: ما السُّرور؟ قال: غيبةٌ تُفيد غنىً، وأوبةٌ تُعقب مُنىً. وأنشأ يقول:
وكنت فيهم كممطورٍ ببلدته ... يُسرُّ أن جمع الأوطانَ والمطرا
وأحسن ما سمعنا في حبِّ الوطن وفرحة الأوبة قوله:
وياسرتها فاستعجلت عن قناعها ... وقد يستخفُّ الطامعين المُياسرُ
مشمِّرة عن ساق خدلاء حُرَّة ... تُجاري بنيها مرّةً وتُحاضرُ
وخبَّرها الرُّواد أن ليس بينها ... وبين قُرى نجران والدَّربِ صافرُ
فألقت عصاها واستقرَّت بها النوى ... كما قرَّ عيناً بالإياب المسافرُ
وقيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان. قيل: فما المذّلّة؟ قال: التنقُّل في البلدان، والتنحِّي عن الأوطان.
وقال آخر:
طلب المعاشِ مفرِّقٌ ... بين الأحبَّة والوطنْ
ومصيرٌ جلَّد الرجا ... ل إلى الضراعة والوهن
حتى يقاد كما يقا ... د النَّضو في ثني الرَّسنْ
ثم المنيَّة بعده ... فكأنه ما لم يكنْ
ووجدنا من العرب: من قد كان أشرف على نفسه، وأفخر في حسبه؛ ومن العجم: من كان أطيب عنصراً وأنفس جوهراً أشد حنيناً إلى وطنه، ونزاعاً إلى تربته.
وكانت الملوك على قديم الدَّهر لا تؤثر على أوطانها شيئاً.
وحكى المُوبذ أنَّه قرأ في سيرة إسْفنديار بن يستاسف بن لُهْواسف، بالفارسية، أنه لمَّا غزا بلاد الخزر ليستنقذ أخته من الأسر، اعتلَّ بها، فقيل له: ما تشتهي؟ قال: شمَّةً من تُربة بلخ، وشربةً من ماء واديها.
واعتلَّ سابور ذو الأكتاف بالرُّوم، وكان مأسوراً في القدّ، فقالت له بنت ملك الرُّوم وقد عشقتْه: ما تشتهي مما كان فيه غذاؤك؟ قال: شربةً من ماء دجْلة، وشمَّةً من تربة إصطخر! فغبرت عنه أيّاماً ثم أتته يوماً بماءِ الفرات، وقبضةً من تراب شاطئه، وقالت: هذا من ماء دجلة، وهذه من تربة أرضك، فشرب واشتمَّ من تلك التُّربة فنقه من مرضه.
وكان الإسكندر الرُّومي جال في البلدان وأخْرب إقليم بابل، وكنز الكنوز وأباد الخْلق،فمرض بحضْرة بابل، فلما أشفى أوصى إلى حكمائه ووزرائه أن تحمل رمَّته في تابوتٍ من ذهبٍ إلى بلده؛ حبّاً للوطن.
ولمَّا افتتح وهرز بن شيرزاذ بن بهرام جور اليمن، وقتل ملك الحبشة المتغلب - كان - على اليمن، أقام بها عاملاً لأنوشروان، فبنى نجران اليمن - وهي من أحصن مدن الثغور - فلما أدركته الوفاة أوصى ابنه شير زاد أن يحمل إلى إصطخر ناوس أبيه، ففعل به ذلك.
فهؤلاء الملوك الجبابرة الذين لم يفتقدوا في اغترابهم نعمة، ولا غادروا في أسفارهم شهوة، حنُّوا إلى أوطانهم، ولم يؤثروا على تُربهم ومساقط رءوسهم شيئاً من الأقاليم المستفادة بالتغازي والمدن المغتصبة من ملوك الأمم.

وهؤلاء الأعراب مع فاقتهم وشدّة فقرهم يحنُّون إلى أوطانهم، ويقنعون بتُربهم ومحالِّهم.
ورأيتُ المتأدِّب من البرامكة المتفلسف منهم، إذا سافر سفراً أخذ معه من تربة مولده في جرابٍ يتداوى به.
ومن أصدق الشواهد في حبِّ الوطن أن يوسف عليه السلام، لمّا أدركته الوفاة أوصى أن تُحمل رمّته إلى موضع مقابر أبيه وجدِّه يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام.
وروي لنا أنَّ أهل مصر منعوا أولياء يوسف من حمله، فلمَّا بعث الله موسى عليه السلام وأهلك على يديه فرعون وغيره من الأمم، أمره أن يحمل رمَّته إلى تربة يعقوب بالشَّام، وقبره علمٌ بأرض بيت المقدس بقرية تسمَّى حسامي.
وكذلك يعقوب، مات بمصر فحملت رمّته إلى إيلياء، قرية بيت المقدس، وهناك قبر إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
ومن حبِّ الناس للوطن، وقناعتهم بالعطن، أنّ إبراهيم لمّا أتى بهاجر أُمِّ إسماعيل مكّة فأسكنها، وليس بمكّة أنيسٌ ولا ماء، ظمئ إسماعيل فدعا إبراهيم ربَّه فقال: " ربِّ إنِّي أسْكنْتُ منْ ذُرِّيَّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ عنْد بيْتِكَ المُحرَّم " ، أجاب الله دعاءه إذ رضى به وطناً، وبعث جبريل عليه السلام فركض موضع زمزم برجله، فنبع منه زمزم.
ومرّ بإسماعيل وأمِّه فرقةٌ من جُرهم، فقالوا: أتأْذنون لنا أن ننزل معكم؟ فقالت هاجر: نعمْ ولا حقَّ لكم في الماء، فصار إسماعيل وولده قُطَّان مكة، لدعوة إبراهيم عليهما السلام.
نعم، وهي مع جدوبتها خير بقاع الأرض، إذ صارت حرماً، ولإسماعيل وولده مسكناً، وللأنبياء منسكاً ومجمعاً على غابر الدَّهر.
وممَّن تمسَّك من بني إسرائيل عليه السلام بحبِّ الأوطان خاصَّةً، ولد هارون، وآل داود؛ لم يمت منهم ميِّت في إقليم بابل في أيِّ البُلدان مات، إلاَّ نبشوا قبره بعد حول، وحملت رمَّته إلى موضع يدعى الحصاصة بالشَّام فيودعُ هناك حولاً، فإذا حال الحول نُقلت إلى بيت المقدس.
وقال الفرزدق:
لكسرى كان أعقل من تميم ... ليالي فرَّ من بلد الضِّبابِ
فأسكن أهله ببلاد ريفٍ ... وجنّاتٍ وأنهارٍ عذابِ
فصار بنُو بنيه بها مُلوكاً ... وصرْنا نحن أمثال الكلابِ
فلا رحم الإله صدى تميمٍ ... فقد أزرى بنا في كلِّ بابِ
وقال آخر في حبّ الوطن:
سقى الله أرض العاشقين بغيثه ... وردَّ إلى الأوطان كلَّ غريبِ
وأعطى ذوي الهيئات فوق مُناهم ... ومتَّع محبوباً بقرب حبيبِ

 

فصل من صدر كتابه في الحاسد والمحسود
 

وهب الله لك السلامة. وأدام لك الكرامة، ورزقك الاستقامة، ورفع عنك الندامة.
كتبت إلي - أيدك الله - تسألني عن الحسد ما هو؟ ومن أين هو؟ وما دليله و أفعاله؟ وكيف تعرف أموره وأحواله، وبم يعرف ظاهره ومكتومه، وكيف يعلم مجهوله ومعلومه، ولم صار في العلماء أكثر منه في الجهلاء؟ ولم كثر في الأقرباء وقل في البعداء؟ وكيف دب في الصالحين أكثر منه في الفاسقين؟ وكيف خص به الجيران من بين أهل جميع الأوطان.
والحسد - أبقاك الله - داء ينهك الجسد، ويفسد الود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر. وهو باب غامض وأمر متعذر، وما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء " . وقال بعض الناس لجلسائه: أي الناس أقل غفلة؟ فقال بعضهم: صاحب ليل، إنما همه أن يصبح. فقال: إنه لكذا وليس كذا. وقال بعضهم: المسافر، إنما همه أن يقطع سفره. فقال: إنه لكذا وليس كذا. فقالوا له: فأخبرنا بأقل الناس غفلة. فقال: الحاسد، إنما همه أن ينزع الله منك النعمة التي أعطاكها، فلا يغفل أبداً.
ويروى عن الحسن أنه قال: الحسد أسرع في الدين من النار في الحطب اليابس.
وما أتي المحسود من حاسده إلا من قبل فضل الله عنده ونعمه عليه قال الله عز وجل: " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً " .
والحسد عقيد الكفر، وحليف الباطل، وضد الحق، وحرب البيان. فقد ذم الله أهل الكتاب به فقال: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم " .

منه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومنتج كل وحشة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم بين الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الخلطاء، يكمن في الصدر كمون النار في الحجر.
ولو لم يدخل على الحاسد بعد تراكم الغموم على قلبه، واستمكان الحزن في جوفه، وكثرة مضضه ووسواس ضميره، وتنغص عمره وكدر نفسه ونكد عيشه، إلا استصغاره نعمة الله عليه، وسخطه على سيده بما أفاد غيره. وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وأن لا يرزق أحداً سواه، لكان عند ذوي العقول مرحوماً، وكان لديهم في القياس مظلوماً. وقد قال بعض الأعراب: " ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: نفس دائم، وقلب هائم، وحزن لازم " . والحاسد مخذول وموزور، والمحسود محبوب ومنصور. والحاسد مغموم ومهجور، والمحسود مغشي ومزور.
والحسد - رحمك الله - أول خطيئة ظهرت في السموات، وأول معصية حدثت في الأرض، خص به أفضل الملائكة فعصى ربه، وقايسه في خلقه، واستكبر عليه فقال: " خلقتني من نار وخلقته من طين " ، فلعنه وجعله إبليساً، وأنزله من جواره بعد أن كان أنيساً، وشوه خلقه تشويهاً، وموه على نبيه تمويهاً نسي به عزم ربه، فواقع الخطيئة، فارتدع المحسود وتاب عليه وهدى، ومضى اللعين الحاسد في حسده فشقي وغوى.
وأما في الأرض فابنا آدم حيث قتل أحدهما أخاه، فعصى ربه وأثكل أباه. وبالحسد طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين.
لقد حمله الحسد على غاية القسوة، وبلغ به أقصى حدود العقوق، فأنساه من رحمه جميع الحقوق، إذ ألقى الحجر عليه شادخاً وأصبح عليه نادماً صارخاً.
ومن شأن الحاسد إن كان المحسود غنياً أن يوبخه على المال فيقول: جمعه حراماً ومنعه أثاماً. وألب عليه محاويج أقاربه فتركهم له خصماء، وأعانهم في الباطن وحمل المحسود على قطيعتهم في الظاهر وقال له: لقد كفروا معروفك، وأظهروا في الناس ذمك، فليس أمثالهم يوصلون، فإنهم لا يشكرون. وإن وجد له خصماً أعانه عليه ظلماً، وإن كان ممن يعاشره فاستشاره غشه، أو تفضل عليه بمعروف كفره، أو دعاه إلى نصر خذله، وإن حضر مدحه ذمه وإن سئل عنه همزه، وإن كانت عنده شهادة كتمها، وإن كانت منه إليه زلة عظمها، وقال: إنه يحب أن يعاد ولا يعود، ويرى عليه العقود.
وإن كان المحسود عالماً قال: مبتدع، ولرأيه متبع، حاطب ليل ومبتغي نيل، لا يدري ما حمل، قد ترك العمل، وأقبل على الحيل. قد أقبل بوجوه الناس إليه، وما أحمقهم إذ انثالوا عليه. فقبحه الله من عالم ما أعظم بليته، وأقل رعته، وأسوأ طعمته.
وإن كان المحسود ذا دين قال: متصنع يغزو ليوصى إليه، ويحج ليثنى بشيء عليه، ويصوم لتقبل شهادته، ويظهر النسك ليودع المال بيته، ويقرأ في المسجد ليزوجه جاره ابنته، ويحضر الجنائز لتعرف شهرته.
وما لقيت حاسداً قط إلا تبين لك مكنونه بتغير لونه وتخوص عينه وإخفاء سلامه، والإقبال على غيرك والإعراض عنك، والاستثقال لحديثك، والخلاف لرأيك.
وكان عبد الله بن أبي، قبل نفاقه، نسيج وحده لجودة رأيه وبعد همته، ونبل شيمته، وانقياد العشيرة له بالسيادة، وإذعانهم له بالرياسة. وما استوجب ذلك إلا بعدما استجمع له لبه، وتبين لهم عقله، وافتقدوا منه جهله، ورأوه لذلك أهلاً، لما أطاق له حملاً. فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، ورأى هو عز رسول الله صلى الله عليه وسلم شمخ بأنفه فهدم إسلامه لحسده، وأظهر نفاقه. وما صار منافقاً حتى كان حسوداً، ولا صار حسوداً حتى صار حقوداً. فحمق بعد اللب، وجهل بعد العقل، وتبوأ النار بعد الجنة.
ولقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فشكاه إلى الأنصار. فقالوا: يا رسول الله لا تلمه، فإنا كنا عقدنا له الخزر قبل قدومك لنتوجه.
ولو سلم المخذول قلبه من الحسد لكان من الإسلام بمكان. ومن السؤدد في ارتفاع. فوضعه الله لحسده، وأظهر نفاقه ولذلك قال القائل:
طال على الحاسد احزانه ... فاصفر من كثرة أحزانه
دعه فقد أشعلت في جوفه ... ما هاج من حر نيرانه
العيب أشهى عنده لذة ... من لذة المال لخزانه
فارم على غاربه حبله ... تسلم من كثرة بهتانه
فصل في حسد الجيران

وذلك أن الجيران - يرحمك الله - طلائع عليك، وعيونهم نواظر إليك، فمتى كنت بينهم معدماً فأيسرت، فبذلت وأعطيت، وكسوت وأطعمت، وكانوا في مثل حالك فاتضعوا، وسلبوا النعمة وألبستها أنت، فعظمت عليهم بلية الحسد، وصاروا منه في تنغيص آخر الأبد. ولولا أن المحسود بنصر الله إياه مستور، وهو بصنعه محجوب لم يأت عليه يوم إلا كان مقهوراً، ولم تأت ليلة إلا وكان عن منافعه مقصوراً. ولم يمس إلا وماله مسلوب، ودمه مسفوك، وعرضه بالضرب منهوك.
فصل منه
وأنا أقول حقاً: ما خالط الحسد قلباً إلا لم يمكنه ضبطه، ولا قدر على تسجينه وكتمانه، حتى يتمرد عليه بظهوره وإعلانه، فيستعبده ويستميله، ويستنطقه لظهوره عليه فهو أغلب على صاحبه من السيد على عبده، ومن السلطان على رعيته، ومن الرجل على زوجته ومن الآسر على أسيره.
وكان ابن الزبير بالصبر موصوفاً، وبالدهاء معروفاً، وبالعقل موسوماً، وبالمداراة منهوماً، فأظهر بلسانه حسداً كان أضب عليه أربعين سنة لبني هاشم، فما اتسع قلبه لكتمانه، ولا صبر على اكتتامه، لما طالت في قلبه طائلته أظهره وأعلنه، مع صبره على المكاره، وحمله نفسه على حتفها، وقلة اكتراثه والتفاته لأحجار المجانيق التي كانت تمر عليه فتذهب بطائفة من قومه ما يلتفت إليها.
حدثت بذلك عن علي ابن مسهر عن الأعمش، عن صالح بن حباب، عن سعيد بن جبير قال: قدت ابن عباس حتى أدخلته على ابن الزبير، قال: أنت الذي تؤنبني؟ قال: نعم، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس بمؤمن من بات شبعاناً وجاره طاو " . فقال له ابن الزبير: لمن قلت ذلك؟ إني لأكتم بغضكم أهل البيت مذ أربعين سنة. فحسر ابن عباس عن ذراعيه كأنهما عسيبا نخل، ثم قال لابن الزبير: نعم فليبلغ ذاك منك، ما عرفتك.
ولقد أجلت الرأي ظهراً لبطن وفكرت في جوابه لابن عباس أن أجد معنى له سوى الحسد فلم أجده، وكانت وخزة في قلبه فلم يبدها. وفروع بني هاشم حول الحرم باسقة، وعروق دوحاتهم بين أطباقها راسية، ومجالسهم من أعاليها عامرة، وبحورها بأرزاق العباد زاخرة، وأنجمها بالهدى زاهرة. فلما خلت البطحاء من صناديدها استقبله بما أكنه في نفسه.
والحاسد لا يغفل عن فرصته إلى أن يأتي الموت على رمته، وما استقبل ابن عباس بذلك إلا لما رأى عمر قدمه على أهل القدم، ونظر إليه وقد أطاف به أهل الحرم، فأوسعهم حكماً، وثقبوا منه رأياً وفهماً، وأشبعهم علماً وحلماً.
فصل
وكيف يصبر من استكن الحسد في قلبه على أمانيه. ولقد كان إخوة يوسف حلماء، وأجلة علماء، ولدهم الأنبياء، فلم يغفلوا عما قدح في قلوبهم من الحسد ليوسف، حتى أعطوا أباهم المواثيق المؤكدة، والعهود المقلدة، والأيمان المغلظة، إنهم له لحافظون، وهو شقيقهم وبضعة منهم. فخالفوا العهود ووثبوا عليه بالظلم والقوة، وألقوه في غيابة الجب، وجاءوا على قميصه بدم كذب، فبظلمهم يوسف ظلموا أباهم، طمعاً أن يخلو لهم وجه أبيهم ويتفردوا بحبه، وظنوا أن الأيام تسليه، وحبه لهم من بعد غمه يلهيه، فأسالوا عبرته وأحرقوا قلبه.
وكيف لا تقر أعين المحسودين بعد يوسف وقد ملكه الله خزائن الأرض، بصبره على أذى حساده ومقابلته إياهم بالعفو والمكافأة، وحسن العشرة والمواخاة، بعد إمكانه منهم لما أتوه ممتارين، ووفدوا عليه خائفين وهم له منكرون، فأحسن رفدهم، وأكرم قراهم، فأقروا له لما عرفوه بالإذعان، وسألوه بعد ذلك الغفران، وخروا له سجداً لما وردوا عليه وفداً.
فإذا أحسست - رحمك الله - من صديقك بالحسد فأقلل ما استطعت من مخالطته، فإنه أعون الأشياء لك على مسالمته. وحصن سرك منه تسلم من شره وعوائق ضره. وإياك والرغبة في مشاورته، ولا يغرنك خدع ملقه، وبيان ذلقه، فإن ذلك من حبائل نفاقه.
فإن أردت أن تعرف آية مصداقه فأدنين إليه من يهينك عنده، ويذمك بحضرته، فإنه سيظهر من شأنه لك ما أنت به جاهل، ومن خلاف المودة ما أنت عنه غافل. وهو ألح في حسده لك من الذباب، وأسرع في تهريقك من السيل إلى الحدور.
وما أحب أن تكون عن حاسدك غبياً، وعن وهمك بما في ضميره نسياً، إلا أن تكون للذل محتملاً، وعلى الدناءة مشتملاً، ولأخلاق الكرام مجانباً، وعن محمود شيمهم ذاهباً، أو تكون بك إليه حاجة قد صيرتك لسهام الرماة هدفاً، وعرضك لمن أرادك غرضاً.

وقد قيل على وجه الدهر: " الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها " .
وربما كان الحسود للمصطنع إليه المعروف أكفر له وأشد احتقاداً، وأكثر تصغيراً له من أعدائه.
فصل منه
ومتى رأيت حاسداً يصوب إليك رأياً إن كنت مصيباً، أو يرشدك إلى صواب إن كنت مخطئاً، أو أفصح لك بالخير في غيبته عنك، أو قصر من غيبته لك.
فهو الكلب الكلب، والنمر النمر والسم القشب، والفحل القطم، والسيل العرم. إن ملك قتل وسبى، وإن ملك عصى وبغى. حياتك موته، وموتك عرسه وسروره. يصدق عليك كل شاهد زور، ويكذب فيك كل عدل مرضي. لا يحب من الناس إلا من يبغضك، ولا يبغض إلا من يحبك. عدوك بطانة وصديقك علانية.
وقلت: إنك ربما غلطت في أمره لما يظهر لك من بره. ولو كنت تعرف الجليل من الرأي، والدقيق من المعنى، وكنت في مذاهبك فطناً نقاباً، ولم تك في عيب من ظهر لك عيبه مرتاباً، لاستغنيت بالرمز عن الإشارة، وبالإشارة عن الكلام، وبالسر عن الجهر، وبالخفض عن الرفع، وبالاختصار عن التطويل، وبالجمل عن التفصيل، وأرحتنا من طلب التحصيل ولكني أخاف عليك أن قلبك لصديقك غير مستقيم، وأن ضمير قلبك له غير سليم، وإن رفعت القذى عن لحيته، وسويت عليه ثوبه فوق مركبه، وقبلت صبيه بحضرته، ولبست له ثوب الاستكانة عند رؤيته، واغتفرت له الزلة، واستحسنت كل ما يقبح من جهته، وصدقته على كذبه، وأعنته على فجرته. فما هذا العناء! كأنك لم تقرأ المعوذة، ولم تسمع مخاطبته نبيه صلى الله عليه وسلم، في التقدمة إليه بالاستعاذة من شر حاسد إذا حسد.
أتطلب ويحك أثراً بعد عين، أو عطراً بعد عروس، أو تريد أن تجتني عنباً من شوك، أو تلتمس حلب لبن من حائل. إنك إذاً أعيا من باقل، وأحمق من الضبع، وأغفل من هرم.
إن كنت تجهل بعد ما أعلمناك، وتعوج بعد ما قومناك، وتبلد بعد ما ثقفناك، وتضل إذ هديناك، وتنسى إذ ذكرناك، فأنت كمن أضله الله على علم فبطلت عنده المواعظ، وعمي عن المنافع، فختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة. فنعوذ بالله من الخذلان.
إنه لا يأتيك ولكن يناديك ولا يحاكيك ولكن يوازيك. أحسن ما تكون عنده حالاً أقل ما تكون مالاً، وأكثر ما تكون عيالاً، وأعظم ما تكون ضلالاً. وأفرح ما يكون بك أقرب ما تكون بالمصيبة عهداً، وأبعد ما تكون من الناس حمداً.
فإذا كان الأمر على هذا فمجاورة الموتى، ومخالطة الزمنى، والاجتنان بالجدران، ومصر المصران، وأكل القردان، أهون من معاشرته، والاتصال بحبله.
والغل نتيج الحسد، وهو رضيعه، وغصن من أغصانه، وعون من أعوانه، وشعبة من شعبه، وفعل من أفعاله، كما أنه ليس فرع إلا له أصل، ولا مولود إلا له مولد، ولا نبات إلا من أرض، ولا رضيع إلا من مرضع، وإن تغير اسمه؛ فإنه صفة من صفاته، ونبت من نباته، ونعت من نعوته.
ورأيت الله جل جلاله ذكر الجنة في كتابه فحلاها بأحسن حلية، وزينها بأحسن زينة، وجعلها دار أوليائه ومحل أنبيائه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. فذكر في كتابه ما من به عليهم من السرور والكرامة عندما دخلوها وبوأها لهم فقال: " إن المتقين في جنات وعيون. ادخلوها بسلام آمنين. ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين. لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين " .
فما أنزلهم دار كرامته إلا بعد ما نزع الغل والحسد من قلوبهم، فتهنوا بالجنة، وقابلوا إخوانهم على السرر، وتلذذوا بالنظر في مقابلة الوجوه لسلامة صدورهم، ونزع الغل من قلوبهم. ولو لم ينزع ذلك من صدورهم ويخرجه من قلوبهم، لافتقدوا لذاذة الجنة، وتدابروا وتقاطعوا وتحاسدوا، وواقعوا الخطيئة، ولمسهم فيها النصب، وأعقبوا منها الخروج، لأنه عز وجل فضل بينهم في المنازل، ورفع درجات بعضهم فوق بعض في الكرامات، وسنى العطيات.
فلما نزع الغل والحسد من قلوبهم ظن أدناهم منزلة فيها، وأقربهم بدخول الجنة عهداً، أنه أفضلهم منزلة، وأكرمهم درجة، وأوسعهم داراً بسلامة قلبه، ونزع الغل من صدره، فقرت عينه وطاب أكله. ولو كان غير ذلك لصاروا إلى التنغيص في النظر بالعيون، والاهتمام بالقلوب، ولحدثت العيوب والذنوب.
وما أرى السلامة إلا في قطع الحاسد، ولا السرور إلا في افتقاد وجهه، ولا الراحة إلا في صرم مداراته، ولا الربح إلا في ترك مصافاته.

فإذا فعلت ذلك فكل هنياً مرياً، ونم رضياً، وعش في السرور ملياً.
ونحن نسأل الله الجليل أن يصفي كدر قلوبنا، ويجنبنا وإياك دناءة الأخلاق، ويرزقنا وإياك حسن الألفة والاتفاق، ويحسن توفيقك وتسديدك. والسلام.
 

فصل من صدر كتابه في المعلمين
 

أعانك الله على سورة الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجح في قلبك إيثار الأناة. فقد استعملت في المعلمين نوك السفهاء، وخطل الجهلاء، ومفاحشة الأبذياء، ومجانبة سبل الحكماء، وتهكم المقتدرين، وأمن المغترين. ومن تعرض للعداوة وجدها حاضرة، ولا حاجة بك إلى تكلف ما كفيت.
فصل منه
ولولا الكتاب لاختلت أخبار الماضين، وانقطعت آثار الغائبين. وإنما اللسان للشاهد لك، والقلم للغائب عنك، وللماضي قبلك والغابر بعدك. فصار نفعه أعم، والدواوين إليه أفقر.
والملك المقيم بالواسطة لا يدرك مصالح أطرافه وسد ثغوره، وتقويم سكان مملكته، إلا بالكتاب.
ولولا الكتاب ما تم تدبير، ولا استقامت الأمور. وقد رأينا عمود صلاح الدين والدنيا إنما يعتدل في نصابه، ويقوم على أساسه بالكتاب والحساب.
وليس علينا لأحد في ذلك من المنة بعد الله الذي اخترع ذلك لنا ودلنا عليه، وأخذ بنواصينا إليه، ما للمعلمين الذين سخرهم لنا، ووصل حاجتهم إلى ما في أيدينا. وهؤلاء هم الذين هجوتهم وشكوتهم وحاججتهم وفحشت عليهم، وألزمت الأكابر ذنب الأصاغر، وحكمت على المجتهدين بتفريط المقصرين، ورثيت لآباء الصبيان من إبطاء المعلمين عن تحذيقهم، ولم ترث للمعلمين من إبطاء الصبيان عما يراد بهم، وبعدهم عن صرف القلوب لما يحفظونه ويدرسونه. والمعلمون أشقى بالصبيان من رعاة الضأن ورواض المهارة.
ولو نظرت من جهة النظر علمت أن النعمة فيهم عظيمة سابغة، والشكر عليها لازم واجب.
فصل منه
وأجمعوا على أنهم لم يجدوا كلمة أقل حرفاً ولا أكثر ريعاً، ولا أعم نفعاً، ولا أحث على بيان، ولا أدعى إلى تبين، ولا أهجى لمن ترك التفهم وقصر في الإفهام، من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: " قيمة كل امرىء ما يحسن " .
وقد أحسن من قال: " مذاكرة الرجال تلقيح لألبابها " .
وكرهت الحكماء الرؤساء، أصحاب الاستنباط والتفكير، جودة الحفظ، لمكان الاتكال عليه، وإغفال العقل من التمييز، حتى قالوا: " الحفظ عذق الذهن " . ولأن مستعمل الحفظ لا يكون إلا مقلداً، والاستنباط هو الذي يفضي بصاحبه إلى برد اليقين، وعز الثقة.
والقضية الصحيحة والحكم المحمود: أنه متى أدام الحفظ أضر ذلك بالاستنباط، ومتى أدام الاستنباط أضر ذلك بالحفظ، وإن كان الحفظ أشرف منزلة منه.
ومتى أهمل النظر لم تسرع إليه المعاني، ومتى أهمل الحفظ لم تعلق بقلبه، وقل مكثها في صدره.
وطبيعة الحفظ غير طبيعة الاستنباط. والذي يعالجان به ويستعينان متفق عليه، ألا وهو فراغ القلب للشيء، والشهوة له، وبهما يكون التمام، وتظهر الفضيلة.
ولصاحب الحفظ سبب آخر يتفقان عليه، وهو الموضع والوقت. فأما الموضع فأيهما يختاران إذا أرادا ذلك الفوق دون السفل.
وأما الساعات فالأسحار دون سائر الأوقات، لأن ذلك الوقت قبل وقت الاشتغال، وبعقب تمام الراحة والجمام، لأن للجمام مقداراً هو المصلحة، كما أن للكد مقداراً هو المصلحة.
فصل منه
ويستدل أيضاً بوصايا الملوك للمؤدبين في أبنائهم، وفي تقويم أحداثهم، على أنهم قد قلدوهم أمورهم وضميرهم ببلوغ التمام في تأديبهم. وما قلدوهم ذلك إلا بعد أن ارتفع إليهم في الحنو حالهم في الأدب، وبعد أن كشفهم الامتحان وقاموا على الخلاص.
وأنت - حفظك الله - لو استقصيت عدد النحويين والعروضيين والفرضيين، والحساب، والخطاطين، لوجدت أكثرهم مؤدب كبار ومعلم صغار، فكم تظن أنا وجدنا منهم، من الرواة والقضاة والحكماء، والولاة من المناكير والدهاة، ومن الحماة والكفاة، ومن القادة والذادة، ومن الرؤساء والسادة، ومن كبار الكتاب والشعراء، والوزراء والأدباء، ومن أصحاب الرسائل والخطابة، والمذكورين بجميع أصناف البلاغة، ومن الفرسان وأصحاب الطعان، ومن نديم كريم، وعالم حكيم، ومن مليح ظريف، ومن شاب عفيف.

ولا تعجل بالقضية حتى تستوفي آخر الكتاب، وتبلغ أقصى العذر، فإنك إن كنت تعمدت تذممت، وإن كنت جهلت تعلمت، وما أظن من أحسن بك الظن إلا وقد خالف الحزم.
فصل منه
قال المعلم: وجدنا لكل صنف من جميع ما بالناس إلى تعلمه حاجة، معلمين، كمعلمي الكتاب والحساب، والفرائض والقرآن، والنحو والعروض والأشعار، والأخبار والآثار، ووجدنا الأوائل كانوا يتخذون لأبنائهم من يعلمهم الكتابة والحساب، ثم لعب الصوالجة، والرمي في التنبوك، والمجثمة، والطير الخاطف، ورمي البنجكاز. وقبل ذلك الدبوق والنفخ في السبطانة. وبعد ذلك الفروسية، واللعب بالرماح والسيوف، والمشاولة والمنازلة والمطاردة، ثم النجوم واللحون، والطب والهندسة، وتعلم النرد والشطرنج، وضرب الدفوف وضرب الأوتار، والوقع والنفخ في أصناف المزامير.
ويأمرون بتعليم أبناء الرعية الفلاحة والنجارة، والبنيان والصياغة والخياطة، والسرد والصبغ، وأنواع الحياكة. نعم حتى علموا البلابل وأصناف الطير الألحان.
وناساً يعلمون القرود والدببة والكلاب والظباء المكية والببغاء، والسقر وغراب البين، ويعلمون الإبل، والخيل، والبغال، والحمير، والفيلة، أصناف المشي، وأجناس الحضر، ويعلمون الشواهين والصقور والبوازي، والفهود، والكلاب، وعناق الأرض، الصيد.
ويعلمون الدواب الطحن، والبخاتي الجمز حتى يروضوا الهملاج والمعناق، بالتخليع وغير التخليع، وبالموضوع والأوسط والمرفوع.
ووجدنا للأشياء كلها معلمين.
وإنما قيل للإنسان العالم الصغير، سليل العالم الكبير، لأن في الإنسان من جميع طبائع الحيوان أشكالاً، من ختل الذئب وروغان الثعلب، ووثوب الأسد، وحقد البعير، وهداية القطاة. وهذا كثير، وهذا بابة.
ولأنه يحكي كل صوت بفيه، ويصور كل صورة بيده. ثم فضله الله تعالى بالمنطق والروية وإمكان التصرف.
وعلى أنا لا نعلم أن لأحد من جميع أصناف المعلمين لجميع هذه الأصناف كفضيلة المعلم من الناس الأحداث المنطق المأثور، ككلام الاحتجاج والصفات، والمناقلات من المسائل والجوابات في جميع العلامات، بين الموزون من القصائد والأرجاز، ومن المزدوج والأسجاع، مع الكتاب والحساب، وما شاكل ذلك ووافقه واتصل به، وذهب مذهبه.
وقالوا: " إنما اشتق اسم المعلم من العلم، واسم المؤدب من الأدب " . وقد علمنا أن العلم هو الأصل، والأدب هو الفرع.
والأدب إما خلق وإما رواية، وقد أطلقوا له اسم المؤدب على العموم.
والعلم أصل لكل خير، وبه ينفصل الكرم من اللؤم، والحلال من الحرام. والفضل من الموازنة بين أفضل الخيرين، والمقابلة بين أنقص الشرين.
فلم يعرضوا لأحد من هذه الأصناف التي اتخذ الناس لها المعلمين من جميع أنواع الحق والباطل، والسرف والاقتصاد، والجد والهزل، إلا هؤلاء الذين لا يعلمون إلا الكتاب والحساب، والشعر، والنحو، والفرائض، والعروض. وما بالسماء من نجوم الاهتداء والأنواء والسعود، وأسماء الأيام والشهور، والمناقلات.
ويمنعهم العرامة، ويأخذهم بالصلاة في الجماعة، ويدرسهم القرآن، ويهدن ألسنتهم برواية القصيد والأرجاز، ويعاقب على التهاون، ويضرب على الفرار، ويأخذهم بالمناقلة، والمناقلة من أسباب المنافسة.
لحقير بخلاف هذه السيرة، وبضد هذه المعاملة.
فصل منه
وقد ذهب قوم إلى أن الأدب حرف، وطلبه شؤم. وأنشد قول الشاعر:
ما ازددت في أدبي حرفاً أسر به ... إلا تزيدت حرفاً تحته شوم
إن المقدم في حذق بصنعته ... أنى توجه فيها فهو محروم
ولم نر شاعراً نال بشعره الرغائب، ولا أديباً بلغ بأدبه المراتب، ذكر يمن الأدب، ولا بركة قول الشعر. فإذا حرم الواحد منهم، والرجل الشاذ ذكر حرف الأدب وشؤم الشعر. وإن كان عدد من نال الرغائب أكثر من عدد من أخفق.
ومهما عيرنا من كان في هذه الصفة فإنا غير معايرين لأبي يعقوب الخريمي، لأنه نال بالشعر وأدرك بالأدب.
وليس الذي يحمل أكثر الناس على هذا القول إلا وجدان المعاني والألفاظ،فإنهم يكرهون أن يضيعوا باباً من إظهار الظرف وفضل اللسان وهم عليه قادرون.
فصل

وقد قالوا: الصبي عن الصبي أفهم، وبه أشكل. وكذلك الغافل والغافل، والأحمق والأحمق، والغبي والغبي، والمرأة والمرأة. قال الله تبارك وتعالى: " ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً " . لأن الناس عن الناس أفهم، وإليهم أسكن. فمما أعان الله تعالى به الصبيان، أن قرب طبائعهم ومقادير عقولهم من مقادير عقول المعلمين.
وسمع الحجاج - وهو يسير - كلام امرأة من دار قوم، فيه تخليط وهذيان، فقال: مجنونة، أو ترقص صبياً! ألا ترى أن أبلغ الناس لساناً، وأجودهم بياناً وأدقهم فطنة، وأبعدهم روية، لو ناطق طفلاً أو ناغى صبياً، لتوخى حكاية مقادير عقول الصبيان، والشبه لمخارج كلامهم، وكان لا يجد بداً من أن ينصرف عن كل ما فضله الله به بالمعرفة الشريفة، والألفاظ الكريمة. وكذلك تكون المشاكلة بين المتفقين في الصناعات.
فصل في رياضة الصبي
وأما النحو فلا تشغل قلبه منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعر إن أنشده، وشيء إن وصفه. وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به، ومذهل عما هو أرد عليه منه من رواية المثل والشاهد، والخبر الصادق، والتعبير البارع.
وإنما يرغب في بلوغ غايته ومجاوزة الاقتصار فيه، من لا يحتاج إلى تعرف جسيمات الأمور، والاستنباط لغوامض التدبر، ولمصالح العباد والبلاد، والعلم بالأركان والقطب الذي تدور عليه الرحى؛ ومن ليس له حظ غيره، ولا معاش سواه.
وعويص النحو لا يجري في المعاملات ولا يضطر إلى شيء. فمن الرأي أن يعتمد به في حساب العقد دون حساب الهند، ودون الهندسة وعويص ما يدخل في المساحة. وعليك في ذلك بما يحتاج إليه كفاة السلطان وكتاب الدواوين.
وأنا أقول: إن البلوغ في معرفة الحساب الذي يدور عليه العمل، والترقي فيه والسبب إليه، أرد عليه من البلوغ في صناعة المحررين ورءوس الخطاطين؛ لأن في أدنى طبقات الخط مع صحة الهجاء بلاغاً. وليس كذلك حال الحساب.
ثم خذه بتعريف حجج الكتاب وتخلصهم باللفظ السهل القريب المأخذ إلى المعنى الغامض. وأذقه حلاوة الاختصار، وراحة الكفاية، وحذره التكلف واستكراه العبارة؛ فإن أكرم ذلك كله ما كان إفهاماً للسامع، ولا يحوج إلى التأويل والتعقب، ويكون مقصوراً على معناه لا مقصراً عنه، ولا فاضلاً عليه.
فاختر من المعاني ما لم يكن مستوراً باللفظ المتعقد، مغرقاً في الإكثار والتكلف. فما أكثر من لا يحفل باستهلاك المعنى مع براعة اللفظ وغموضه على السامع بعد أن يتسق له القول، وما زال المعنى محجوباً لم تكشف عنه العبارة. فالمعنى بعد مقيم على استخفائه، وصارت العبارة لغواً وظرفاً خالياً.
وشر البلغاء من هيأ رسم المعنى قبل أن يهيىء المعنى، عشقاً لذلك اللفظ، وشغفاً بذلك الاسم، حتى صار يجر إليه المعنى جراً، ويلزقه به إلزاقاً. حتى كأن الله تعالى لم يخلق لذلك المعنى اسماً غيره، ومنعه الإفصاح عنه إلا به.
والآفة الكبرى أن يكون رديء الطبع بطيء اللفظ، كليل الحد، شديد العجب، ويكون مع ذلك حريصاً على أن يعد في البلغاء، شديد الكلف بانتحال اسم الأدباء. فإذا كان كذلك خفي عليه فرق ما بين إجابة الألفاظ واستكراهه له.
وبالجملة إن لكل معنىً شريف أو وضيع، هزل أو جد، وحزم أو إضاعة، ضرباً من اللفظ هو حقه وحظه، ونصيبه الذي لا ينبغي أن يجاوزه أو يقصر دونه.
ومن قرأ كتب البلغاء، وتصفح دواوين الحكماء، ليستفيد المعاني، فهو على سبيل صواب. ومن نظر فيها ليستفيد الألفاظ فهو على سبيل الخطأ. والخسران ها هنا في وزن الربح هناك؛ لأن من كانت غايته انتزاع الألفاظ حمله الحرص عليها، والاستهتار بها إلى أن يستعملها قبل وقتها، ويضعها في غير مكانها. ولذلك قال بعض الشعراء لصاحبه: أنا أشعر منك! قال صاحبه: ولم ذاك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه.
وإنما هي رياضة وسياسة، والرفيق: مصلح وآخر مفسد. ولا بد من هدان وطبيعة مناسبة.
وسماع الألفاظ ضار ونافع.

فالوجه النافع: أن يدور في مسامعه، ويغب في قلبه، ويختمر في صدره، فإذا طال مكثها تناكحت ثم تلاقحت فكانت نتيجتها أكرم نتيجة، وثمرتها أطيب ثمرة؛ لأنها حينئذ تخرج غير مسترقة ولا مختلسة ولا مغتصبة، ولا دالة على فقر؛ إذ لم يكن القصد إلى شيء بعينه، والاعتماد عليه دون غيره. وبين الشيء إذا عشش في الصدر ثم باض، ثم فرخ ثم نهض، وبين أن يكون الخاطر مختاراً، واللفظ اعتسافاً واغتصاباً، فرق بين.
ومتى اتكل صاحب البلاغة على الهوينى والوكال، وعلى السرقة والاحتيال، لم ينل طائلاً، وشق عليه النزوع، واستولى عليه الهوان، واستهلكه سوء العادة.
والوجه الضار: أن يتحفظ ألفاظاً بعينها من كتاب بعينه، أو من لفظ رجل، ثم يريد أن يعد لتلك الألفاظ قسمها من المعاني، فهذا لا يكون إلا بخيلاً فقيراً، وحائفاً سروقاً، ولا يكون إلا مستكرهاً لألفاظه، متكلفاً لمعانيه، مضطرب التأليف منقطع النظام. فإذا مر كلامه بنقاد الألفاظ وجهابذة المعاني استخفوا عقله، وبهرجوا علمه.
.ثم اعلم أن الاستكراه في كل شيء سمج، وحيث ما وقع فهو مذموم، وهو في الطرف أسمج، وفي البلاغة أقبح. وما أحسن حاله ما دامت الألفاظ مسموعة من فمه، مسرودة في نفسه، ولم تكن مخلدة في كتبه.
وخير الكتب ما إذا أعدت النظر فيه زادك في حسنه، وأوقفك على حده.
فصل في ذم اللواط
والذي يدل على أن هذه الشهوة معيبة في نفسها، قبيحة في عينها، أن الله تعالى وعز لم يعوض في الآخرة بشهوة الولدان من ترك لوجهه في الدنيا شهوة الغلمان، كما سقى في الآخرة الخمر من تركها له في الدنيا، ثم مدح خمر الجنة بأقصر الكلام، فنظم به جميع المعاني المكروهة في خمر الدنيا فقال: " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " . كأنه تبارك وتعالى قال: " لا سكر فيها ولا خمار " .
وفي اكتفاء الرجال بالرجال والنساء بالنساء انقطاع النسل، وفي انقطاع النسل بطلان جميع الدين والدنيا. وغشيان الرجل الرجل والمرأة المرأة من المنكوس المعكوس، ومن المبدل المقلوب؛ لأن الله جل ذكره إنما خلق الذكر للأنثى، وجعل بينهما أسباب التحاب وعلائق الشركة، وعلل المشاكلة وجعل الذكر طبقاً للأنثى، وجعل الأنثى سكناً للرجل. فقلب هؤلاء الأمر وعكسوه، واستقبلوا من اختار الله لهم بالرد والزهد فيه.
فصل
ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين: عبد الله بن المقفع، ويكنى أبا عمرو، وكان يتولى لآل الأهتم، وكان مقدماً في بلاغة اللسان والقلم والترجمة، واختراع المعاني وابتداع السير. وكان جواداً فارساً جميلاً، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله، وكان يتعاطى الكلام. ولم يكن يحسن منه لا قليلاً ولا كثيراً. وكان ضابطاً لحكايات المقالات، ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق. وإذا أردت أن تعتبر ذلك، إن كنت من خلص المتكلمين ومن النظارين، فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية، فإنك تجده جيد الحكاية لدعوى القوم، ردي المدخل في مواضع الطعن عليهم.
وقد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم، فيظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا نفذ به فيه، كالذي اعترى الخليل بن أحمد بعد إحسانه في النحو والعروض، أن ادعى العلم بالكلام وبأوزان الأغاني، فخرج من الجهل إلى مقدار لا يبلغه أحد إلا بخذلان الله تعالى. فلا حرمنا الله تعالى عصمته، ولا ابتلانا بخذلانه.
فصل
وهذان الشاعران جاهليان، بعيدان من التوليد، وبنجوة من التكليف.
فصل
ومن خصال العبادة وإن كانت كلها راجحة فليس فيها شيء أرد في عاجل، ولا أفضل في آجل من حسن الظن بالله تعالى وعز وجل.
ثم اعلم أن أعقل الناس السلطان ومن احتاج إلى معاملته، وعلى قدر الحاجة إليه ينفتح له باب الحيلة، والاهتداء إلى مواضع الحجة. وما أقرب فضل الراعي على الرعية من فضل السائس على الدابة. ولولا السلطان لأكل الناس بعضهم بعضاً، كما أنه لولا المسيم لوثب السباع على السوام.
ودعني من تدريسه كتب أبي حنيفة، ودعني من قولهم: اصرفه إلى الصيارفة؛ فإن صناعة الصرف تجمع مع الكتاب والحساب المعرفة بأصناف الأموال، ولا تجد بداً من حلة السلطان.

ودعني من قول من يقول: قد كانت قريش تجاراً؛ فإن هذا باب لا ينقاس ولا يطرد. ومن قاس تجار الكرخ وباعته، وتجار الأهواز والبصرة، على تجار قريش، فقد أخطأ مواضع القياس، وجهل أقدار العلل.
قريش قوم لم يزل الله تعالى يقلبهم في الأرحام البريئة من الآفات، وينقلهم من الأصلاب السليمة من العاهات، ويعبيهم لكل جسيم، ويربيهم لكل عظيم.
ولو علم هذا القائل ما كانت قريش عليه في التجارة لعرف اختلاف السبل، وتفاوت ما بين الطرق. ولو كانت علتهم في ذلك كعلة تجار الأبلة، ومحتكري أهل الحيرة، لثلمت دقة التجارة في أعراضهم ولنهك سخف التربح من مروءاتهم، ولصغر ذلك من أقدارهم في صدور العرب، ولوضع من علوهم عند أهل الشرف. وكيف وقد ارتحلت إليهم الشعراء كما ارتحلت إلى الملوك العظماء، فأسنوا لهم العطية، ولم يقصروا عن غاية، فسقوا الحجيج وأقاموا القرى لزوار الله تعالى، وهم بواد غير ذي زرع. فلو أنه كان معهم من الفضل ما يبهر العقول، ومن المجد ما تحرج فيه العيون، لما أصلح طبائعهم الشيء الذي يفسد جميع الأمة. ولقد أورث ذلك صدورهم من السعة بقدر ما أورث غيرهم من الضيق. ولو كانت سبلهم عند الملوك إذا وفدوا عليهم، أو وردوا بلادهم بالتجارات، سبل غيرهم من التجار لما أوجهوهم وقربوهم، ولما أقاموا لهم قرى الملوك وحبوهم بكرامة الخاص.
وإذا كانت قريش حمساً تنسك في دينها، وتتأله في عبادتها وكان مانعاً لهم من الغارات والسباء، ومن وطء النساء من جهة المغنم، ولذلك لم يئدوا البنات ولا ولدت منهم امرأة غيرهم من جهة السباء، ولا زوجوا أحداً من العرب حتى يتحمس ويدين بدينهم. ولذلك لما صاروا إلى بناء الكعبة لم يخرجوا في بنائها من أموالهم إلا مواريث آبائهم ونسائهم، خوفاً من أن يخالطه شيء من حرام، إذ كانت أرباح التجارات مخوفاً عليها ذلك. فلما كانوا بواد غير ذي زرع ويحتاجون إلى الأقوات، وإقامة القرى، لم يجدوا بداً من أن يتكلفوا ما يعيشهم ويصلح شأنهم، فأخذوا الإيلاف، ورحلوا إلى الملوك بالتجارات. فهذا هو السبب.
فانظر كم بين علتهم وعلة غيرهم! فيسرك بعد هذا أن يتحول ابنك في مسلاخ صالح الزرازريشي، أو في طباع ابن بادام، أو في عقل ابن سامري.
فإن زعموا أن أصحاب السلطان يعرض مكروه فليعلموا أن كل مسافر فبعرض مكروه، وقد قال بعض الحكماء: " المسافر ومتاعه على قلت إلا من حفظ الله " ، يعني على هلاك.
وراكب البحر أشد خطراً، ومشتري طعام الأهواز أشد تهوراً، ورافع الشراع بعرض هلكة. والمتعرض للملاحة والمعرض نفسه للسباع أقل شفقة. وسكان الجزائر والسواحل أحق بالتعرض، وأولى بالخوف. والمنهوم بالطعام الردي، والمدمن للشراب أشبه بأصحاب التغرير، والمتباري في ذلك والمتزيد منه أحق بتوقع الحدثان وحوادث الأزمان، قد جرت عليه عادة الدهر وسيرة الأيام. وهذا كله أحق بالاهتمام.
وإن كنت إلى الإشفاق تذهب، وإلى إعطاء الحزم أكثر من نصيبه، وكيف دار الأمر فإن التاجر قد استشعر الذل، وتغشى ثوب المذلة.
وصاحب السلطان قد تجاوز حد العز والهيبة. وإنما عيبه سكر السلطان، وإفراط التعظيم. قد استبطن بالعز، وظاهر بالبشر واستحكمت تجربته، وبعدت بصيرته حتى عرف مصلحة كل مصر، وإصلاح كل فاسد، وإقامة كل معوج، وعمارة كل خرب.
ولا أعلم في الأرض أعم إفلاساً ولا أشد نكبة، ولا أكثر تحولاً من يسر إلى عسر، ولا رأينا الحوائج إلى أحد أهدى منها إلى أموال الصيارفة. فكيف يقاس شأن قوم تعمهم المعاطب بشأن قوم أهل السلامة فيهم أكثر، والنكبات فيهم أقل.
وبعد هذا فإني أرى ألا تستكرهه فتبغض إليه الأدب، ولا تهمله فيعتاد اللهو.
على أني لا أعلم في جميع الأرض شيئاً أجلب لجميع الفساد من قرناء السوء، والفراغ الفاضل عن الجمام.
درسه العلم ما كان فارغاً من أشغال الرجال، ومطالب ذوي الهمم. واحتل في أن تكون أحب إليه من أمه. ولا تستطيع أن يمحضك المقة، ويصفي لك المودة مع كراهته لما تحمل إليه من ثقل التأديب عند من لم يبلغ حال العارف بفضله.
فاستخرج مكنون محبته ببر اللسان، وبذل المال. ولهذا مقدار من جازه أفرط. والإفراط سرف. ومن قصر عنه فرط، والمفرط مضياع.

ولا تستكثرن هذا كله فإن بعض النعمة فيه تأتي على أضعاف النعامة، والذي تحاول من صلاح أمر من تؤمل فيه أن يقوم في أهلك مقامك، وإصلاح ما خلفت كقيامك، لحقيق بالحيطة عليه، وبإعطائه المجهود من نفسك.
وقال زكريا عليه السلام: " رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين " . فعلم الله تبارك وتعالى، فوهب له غلاماً، وقال الله عز وجل: " وليس الذكر كالأنثى " .
اعلم أنه أعطاك ولداً عبرة عين العدو، وقرة عين الصديق الولي. فاحمد الله وأخلص في الدعاء، وأكثر من الخير إن شاء الله تعالى.
فصل من كتاب التربيع والتدوير
فانظر في مسالمة النفوس مع تقارب منازلها، ولم تجاذبت عند تقارب مراتبها، ولم اختلف الكثير واتفق القليل؟ ولم كانت الكثرة علة للتخاذل، والقلة سبباً للتناصر؟ وما فرق ما بين المجاراة والتحاسد، وبين المنافسة والتغالب، فإنك متى عرفت ذلك استرحت منا ورجونا أن نستريح منك.
وكيف يعرف السبب من يجهل المسبب، وكيف يعرف الوصل من يجهل الفصل، وكيف يعرف الحدود من لم يسمع الفصول. بل يعرف كيف الحجة من الشبهة، والغدر من الحيلة، والواجب من الممكن، والغفل من الموسوم، والمحال من الصحيح، والأسرار من المجهول ومن كبار الدلائل الخفية وما يعلم مما لا يعلم، وما يعلم باللفظ دون الإشارة مما لا يعلم إلا بالإشارة دون اللفظ، وما يعلم معتمداً ولا يعلم مكيفاً ولا يعلم معتقداً. وما المستغلق الذي يجوز أن يفارقه استغلاقه، والمستبهم الذي لا يفارقه استبهامه، ومن هو طائر مع العوام حيث طارت، وساقط معها حيث سقطت، مع الزراية والرغبة عنها. قد طلبها بفضل طلبه لنفسه، وجرى معها بقدر مناسبتها لقدره.
فاعرف الجنس من الصنف، والقسم من النصنف، وفرق ما بين الذم واللوم، وفصل ما بين الحمد والشكر، وحد الاختيار من الإمكان، والاضطرار من الإيجاب. وسنعرفك من جملة ما ذكرنا باباً باباً أنت إليه أحوج، وهو علينا أرد.
فصل
وما في الأرض إقرار أثبت، ودليل أوضح، وشاهد أصدق، من شاهدي عليك على ما ادعيت لنفسك من الرفعة مع ما ظهر من حسدك لأهل الصنعة. وهل يكون كذلك إلا فاسد الحس ظاهر العنود، أو جاهل بالمحال.
وبعد فأنت - أبقاك الله - في يدك قياس لا يكسر، وجواب لا ينقطع، ولك حد لا يفل وغرب لا ينثني، وهو قياسك الذي إليه تنسب، ومذهبك الذي إليه تذهب: أن تقول: وما علي أن يراني الناس عريضاً وأكون في حكمهم غليظاً وأنا عند الله تعالى طويل جميل، وفي الحقيقة مقدود رشيق. وقد علموا - حفظك الله - أن لك مع طول الباد راكباً، طول الظهر جالساً، ولكن بينهم فيك إذا قمت اختلاف، وعليك لهم إذا اضطجعت مسائل.
ومن غريب ما أعطيت، ومن بديع ما أوتيت أنا لم نر مقدوداً واسع الجفرة غيرك، ولا رشيقاً مستفيض الخاصرة سواك. فأنت المديد وأنت البسيط، وأنت الطويل وأنت المتقارب.
فيا شعراً جمع الأعاريض، ويا شخصاً جمع الاستدارة والطول.
بل ما يهمك من أقاويلهم، ويتعاظمك من اختلافهم، والراسخون في العلم، والناطقون بالفهم، يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك، وأن ما ذهب منك عرضاً قد استغرق ما ذهب منك طولاً. ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك. وإن كانوا قد سلموا لك بالرغم شطراً، فقد حصلت ما سلموا وأنت على دعواك فيما لم يسلموا.
ولعمري إن العيون لتخطىء، وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل؛ إذ كان زماماً على الأعضاء، وعياراً على الحواس.
ومما يثبت أيضاً أن ظاهر عرضك مانع من إدراك حقيقة طولك قول أبي داوود الإيادي في إبله:
سمنت فاستحش أكرعها لا ال ... ني ني ولا السنام سنام
ولو لم يكن فيك من العجب إلا أنك أول من عوده الله تعالى بالصبر على خطاء الحس وبالشكر على صواب الذهن، لقد كنت في طولك غاية للعالمين، وفي عرضك مناراً للمضلين.
وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل عمر، ومن القصير مثل عمرو إذ زعم أنه أفرط في الرشاقة ونسب إلى القضاضة، لأن إفراط عرضه غمر الاعتدال من طوله، وكلاهما يحتاج إلى الاعتذار، ويفتقر إلى الاعتدال.
والمربوع بحمد الله تعالى قد اعتدلت أجزاؤه في الحقيقة، كما اعتدلت في المنظر، فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار، وبحكم الظاهر عن الاعتلال.

وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار، ولم نسمع أحداً ذم مربوعاً ولا أزرى عليه، ولا وقف عنده ولا شك فيه. ومن يذمه إلا من ذم الاعتدال، ومن يزري عليه إلا من أزرى على الاقتصاد، ومن ينصب للصواب الظاهر إلا المعاند، ومن يماري في العيان إلا الجاهل؛ بل من يزري على أحد بتفاقم التركيب، وبسوء التنضيد مع قول الله عز وجل: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " .
وبعد فأي قد أردأ، وأي نظام أفسد من عرض مجاوز للقدر، أو طول مجاوز للقصد. ومتى يضرب العرض بسهمه على قدر حقه، ويأخذ الطول من نصيبه على مثل وزنه، خرج الجسم من التقدير، وجاوز التعديل. فإذا خرج من التقدير تفاسد، وإذا تفاسد وجاوز التعديل تباين.
ولو جاز هذا الوصف، وحسن هذا النعت، كان لإبراهيم بن السندي من الفضيلة ما ليس لأحمد بن عبد الوهاب.
وهذا كله بعد أن يصدقوك على ما ادعيت لطولك في الحقيقة، واحتججت به لعرضك في الحكومة. كما أنك بإعمالك لما ينفيه العيان، واستشهادك لما تنكره الأذهان، معترض للصدق من المتكرم، ومتحكك بالحلم من المتغافل. وأي صامت لا ينطقه هذا المذهب، وأي ناطق لا يغريه هذا القول.
وإذا كان هذا ناقضاً لعزم المتسلم فما ظنك بعادة المتكلف. فأنشدك الله أن تغري بك السفهاء، وتنقض عزائم الحكماء.
وما أدري - حفظك الله - بأي الأمرين أنت أعظم إثماً، وفي أيهما أنت أفحش ظلماً: أبتعرضك للعوام، أم بإفسادك حكم الخواص.
وبعد فما يحوجك إلى هذا، وما يدعوك إليه وأشباهك من القصار كثير، ومن ينصرك منهم غير قليل.
فصل
وقلت: ولولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله تعالى وعز وجل، الجنة بالعرض دون الطول، حيث يقول: " وجنة عرضها كعرض السماء والأرض " . فهذا برهانك الواضح.
ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم، ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى ما عند الله خيراً لك مما عند الناس، وأن الطول الخفي أحب إليك من الطول الظاهر، لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف، ويحكم لك بالتوفيق.
وأنا - أبقاك الله - أعشق إنصافك كما تعشق المرأة الحسناء، وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقه في الدين. ولربما ظننت أن جورك إنصاف قوم آخرين، وأن تعقدك سماح رجال منصفين.
وما أظنك صرت إلى معارضة الحجة بالشبهة، ومقابلة الاختيار بالاضطرار، واليقين بالشك، واليقظة بالحلم إلا للذي خصصت به من إيثار الحق، وألهمته من فضيلة الإنصاف، حتى صرت أحوج ما تكون إلى الإنكار أذعن ما تكون بالإقرار؛ وأشد ما تكون إلى الحيلة فقراً أشد ما تكون للحجة طلباً. غير أن ذلك بطرف ساكن، وصوت خاضع، وقلب جامع، وجأش رابط، ونية جسور، وإرادة تامة، مع غفلة كريم، وفطنة عليم. إن انقطع خصمك تغافلت، وإن خرق ترفقت، غير منخوب ولا متشعب، ولا مدخول ولا مشترك، ولا ناقص النفس، ولا واهن العزم، ولا حسود ولا منافس، ولا مغالب ولا معاقب. تفل الحز وتصيب المفصل، وتقرب البعيد وتظهر الخفي، وتميز الملتبس وتلخص المشكل، وتعطي المعنى حقه من اللفظ كما تعطي اللفظ حظه من المعنى. وتحب المعنى إذا كان حياً يلوح، وظاهراً يصيح، وتبغضه مستهلكاً بالتعقيد، ومستوراً بالتغريب.
وتزعم أن شر الألفاظ ما غرق المعاني وأخفاها، وسترها وعماها، وإن راقت سمع الغمر، واستمالت قلب الريض.
أعجب الألفاظ عندك ما رق وعذب، وخف وسهل، وكان موقوفاً على معناه، ومقصوراً عليه دون ما سواه. لا فاضل ولا مقصر، ولا مشترك ولا مستغلق، قد جمع خصال البلاغة، واستوفى خلال المعرفة.
فإذا كان الكلام على هذه الصفة، وألف على هذه الشريطة، لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب، وصار السامع كالقائل، والمتعلم كالمعلم، وخفت المؤنة واستغنى عن الفكرة، وماتت الشبهة وظهرت الحجة، واستبدلوا بالخلاف وفاقاً، وبالمجاذبة موادعة، وتهنئوا بالعلم، وتقنعوا ببرد اليقين، واطمأنوا بثلج الصدور، وبان المنصف من المعاند، وتميز الناقص من الوافر وذل الخطل وعز المحصل، وبدت عورة المبطل، وظهرت براءة المحق.

وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان، أو خوط آس، وكأنه قضيب خيزران، وكأنه غصن بان، وكأنه رمح رديني، وكأنه صفيحة يمان، وكأنه سيف هندواني، وكأنه جان، وكأنه جدل عنان؛ فقد قالوا: كأنه المشتري، وكأن وجهه دينار هرقلي. وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث. وكأنه الشمس، وكأنها دارة القمر، وكأنها الزهرة، وكأنها درة، وكأنها غمامة، وكأنها مهاة.
وقد نراهم وصفوا المستدير والعريض بأكثر مما وصفوا القضيف الطويل.
وقلت: ووجدنا الأفلاك وما فيها، والأرض وما عليها، على التدوير دون التطويل، كذلك الورق والحب، والثمر والشجر.
وقلت: والرمح وإن طال فإن التدوير عليه أغلب؛ لأن التدوير قائم فيه موصلاً ومفصلا، والطول لا يوجد فيه إلا موصلا ومفصلاً. وكذلك الإنسان وجميع الحيوان.
وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفما أكره على تركيبه دون ما خلي وسوم طبيعته.
وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور، فقد بان المدور بفضله، وشارك المطول في حصته.
ومن العجب أنك تزعم أنك طويل في الحقيقة ثم تحتج للعرض والاستدارة، وقد أضربت عما عند الله صفحاً، ولهجت بما عند الناس.
0ف - أما حور العين فقد انفردت بحسنه، وذهبت ببهجته وملحه، إلا ما أبانك الله تعالى به من الشكلة فإنها لا تكون في اللئام، ولا تفارق الكرام.
وأما سواد الناظر وحسن المحاجر، وهدب الأشفار، ورقة حواشي الأجفان، فعلى أصل عنصرك ومجاري أعراقك.
وأما إدراكك الشخص البعيد، وقراءتك الكتاب الدقيق ونقش الخاتم قبل الطابع، وفهم المشكل قبل التأمل، مع وهن الكبرة وتقادم الميلاد، ومع تخون الأيام وتنقص الأزمان، فمن توتيا الهند، ولترك الجماع، ومن الحمية الشديدة وطول استقبال الخضرة، فأنت يا عم عندما تصلح ما أفسده الدهر، وتسترجع ما أخذته الأيام، لكما قال الشاعر:
عجوز ترجي أن تكون فتية ... وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار سلعةأهلها ... ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر
وكيف أطمع في نزوعك عن اللجاج وقد منعتنيه قبله. وكيف أرجو إقرارك جهراً وقد أبيته سراً، وكيف تجود به صحيحاً مطمعاً وقد بخلت به مريضاً مؤيساً.
وكيف يرجو خيرك من رآك تطاول أبا جعفر وتحاسنه، وتنافره وتراهنه، ثم لا تفعل ذلك إلا في المحافل العظام، وبحضرة كبار الحكام، ثم تستغرب ضحكاً من طمعه فيك، وتعجب الناس من مجاراته لك.
وأشهد لك بعد هذا أنك ستحاسن عمراً الجاحظ وتعاقله، ثم تظارفه وتطاوله، وتتغنى مع مخارق، وتنكر فضل زبزب، وتستجهل النظام، وتستغبي قيس بن زهير، وتستخف الأحنف بن قيس وتبارز علي بن أبي طالب، ثم تخرج من حد الغلبة إلى حد المراء، ومن حد الأحياء إلى حدود الموتى.
هذا وليس لك مساعد، ولا معك شاهد واحد، ولا رأيت أحداً يقف في الحكم عليك، أو ينتظر تحقيق دعواك؛ ولا رأيت منكراً يخليك من التأنيب، ولا مؤنباً يخليك من الوعيد، ولا موعداً يخليك من الإيقاع، ولا موقعاً يرثي لك، ولا شافعاً يشفع فيك.
يا عم، لم تحملنا على الصدق؟ ولم تجرعنا مرارة الحق؟ ولم تعرضنا لأداء الواجب؟ ولم تستكثر من الشهود عليك؟ ولم تحمل الإخوان على خلاف محبتهم فيك؟ اجعل بدل ما تجني على نفسك أن تجني على عدوك، وبدل ما يضطر الناس أن يصدقوا فيك أن تضطرهم إلى أن يمسكوا عنك.
ولا بد - يرحمك الله - لمن فاته الطول من أن يلقي بيده، إنما يقول خلاف ما يجده في نفسه. فوالله إنك لجيد الهامة، وفي ذلك خلف لحسن القامة.
وإنك لحسن الحظ، وفي ذلك عوض من حسن اللفظ. وإنك لتجد مقالاً، وإنك لتعد خصالاً. فقل معروفاً فإنا من أعوانك، واقتصد فإنا من أنصارك. وهات فإنك لو أسرفت لقلنا قد اقتصدت، ولو جرت لقلنا قد اهتديت، ولكنك تجيء بشيء " تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً " .
لو غششناك لساعدناك، ولو نافقناك لأغريناك.
فصل
وقد كنت - أطال الله بقاءك - في الطول زاهداً، وعن القصر راغباً، وكنت أمدح المربوع وأحمد الاعتدال. ولا والله لن يقوم خير الاعتدال بشر قصر العمر، ولا جمال المربوع بما يفوت من منفعة العلم.
فأما اليوم فياليتني كنت أقصر منك وأضوى، وأقل منك وأقما.

وليس دعائي لك بطول البقاء طلباً للزيادة، لكن على جهة التعبد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول أطال الله بقاءك فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك فإلى هذا المعنى أذهب.
وقد زعموا، جعلت فداءك، أن كل ما طال عمره من الحيوانات زائد في شدة الأركان، وفي طول العمر وصحة الأبدان، كالورشان والضباب وحمر الوحش، وكلحم النسر لمن أكله، ولحم الحية لمن استحله فإذا كان هذا حقاً وكان نافعاً، وكنت له مستعملاً وفيه متقدماً، وتراه رأياً، أخذنا منه بنصيب، وتعلقنا منه بسبب.
وفيك أمران غريبان، وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور النقصان والزيادة إياك. وجوهرك فلكي وتركيبك أرضي. فمنك طول البقاء، ومعك دليل الفناء. وأنت علة للمتضاد وسبب للمتنافي. وما ظنك بخلق لا تضره الإحالة، ولا يفسده التناقض.
فصل
جعلت فداك، قد شاهدت الإنس منذ خلقوا، ورأيت الجن قبل أن يحجبوا، ووجدت الأشياء بنفسك خالصة وممزوجة، وأغفالاً وموسومة، وسالمة ومدخولة، فما يخفى عليك الحجة من الشبهة، ولا السقم من الصحة، ولا الممكن من الممتنع، ولا المستغلق من المبهم، ولا النادر من البديع، ولا شبه الدليل من الدليل.
وعرفت علامة الثقة من علامة الريبة، حتى صارت الأقسام عندك محصورة، والحدود محفوظة، والطبقات معلومة، والدنيا بحذافيرها مصورة. ووجدت السبب كما وجدت المسبب، وعرفت الاعتلال كما عرفت الاحتجاج، وشاهدت العلل وهي تولد، والأسباب وهي تصنع، فعرفت المصنوع من المخلوق، والحقيقة من التمويه.
فصل
إنك - جعلت فداءك - كما أنك لم تكن فكنت، فكذا لا تكون بعد أن كنت. وكما زدت في الدهر الطويل فكذا تنقص في الدهر الطويل. وكل طويل فهو قصير، وكل متناه فهو قليل. فإياك أن تظن أنك قديم فتكفر، وإياك أن تنكر أنك محدث فتشرك؛ فإن للشيطان في مثلك أطماعاً لا يصيبها في سواك، ويجد فيك عللاً لا يجدها في غيرك.
فصل
وقد علمت أن الخبر إذا صح أصله وكان للناس علة في نشره، كان في الدلالة على الحق كالعيان، وفي الشفاء كالسماع.
على أن الخبر لا يعرف به تكيف الأمور ولكن تعرف به جمل الأشياء، إلا خبرك فإنك لا تحتاج إلى إشارة ولا إلى علة، ولا إلى تفسير حتى يقوم خبرك في الشفاء وفي كيفية الشيء مقام العيان.
وقد كنت أتعجب من محمد بن عبد الملك وأقول: ما يقولون في رجل لم يقل قط بعد انقضاء خصومه وذهاب خصمه: لو كنت قلت كذا كان أفضل، أو كنت لم أقل كذا كان أمثل! فما بال عفوه أكثر من جهدكم، وبديهته أبعد من أقصى فكرتكم؟ ! فلما رأيتك علمت أنك عذاب صبه الله تعالى على كل رفيع، ورحمة أنشأها الله لكل وضيع.
فخبرني عما جرى بينك وبين هرمس في طبيعة الفلك، وعن سماعك من أفلاطون، وما دار بينك وبين أرسطاطاليس، وأي نوع اعتقدت وأي شيء اخترت؟ فقد أبت نفسي غيرك، وأبت أن تتشفى إلا بخبرك.
ولولا أني كلف برواية الأقاويل، ومغرم بمعرفة الاختلاف وأني لا أستجيز مسألتك عن كل شيء، وابتذالك في كل أمر، لما سمعت من أحد سواك، ولما انقطعت إلى أحد غيرك.
اعلم، جعلت فداءك، أني لم أرد بمزاحك إلا أن أضحك سنك، ولا كانت غايتي فيك إلا لأنفق عندك. وقد كنت خفت أن لا أكون وقفت على حده، وأشفقت من المجاوزة لقدره.
والمزاح باب ليس المخوف فيه التقصير، ولا يكون الخطأ فيه من جهة النقصان. وهو باب متى فتحه فاتح، وطرق له مطرق، ولم يملك من سده مثل الذي يملك من فتحه، ولم يخرج بقدر ما كان قدم من نفسه، لأنه باب أصل بنائه على الخطأ، ولا يخالطه من الأخلاق إلا ما سخف. ومن شأنه التزيد، وأن يكون صاحبه قليل التحفظ.
ولم نر شيئاً أبعد من شيء ولا أطول له صحبة ولا أشد خلافاً ولا أكثر له خلطة، من الجد والمزاح، والمناظرة والمراء.
فإن كنت لم أقصر عن الغاية، ولم أتجاوز حد النهاية فبما أعرف من يمن مكالمتك،وبركة مكاتبتك، ومن حسن تقويمك وجودة تثقيفك. وإن كنت أخطأت الطريق، وجاوزت المقدار، فما كان ذلك عن جهل بفضلك، ولا إنكار لحقك، ولكن حدود الأشياء إذا خفيت، ومقاديرها إذا أشكلت، ولم يكن مع الناظر فيها مثل تمامك، ولا مع التكلف لها مثل كمالك، دخل عليه من الخلل بقدر عجزه، وسلم منه بقدر نفاذه. نعم ولو كان من العلماء الموصوفين، ومن الأدباء المذكورين.

ومن المزاح - جعلت فداءك - باب مكر وجنس خدع يتكل المرء في إساءته إلى جليسه، واستماعه لصديقه على أن يقول: مزحت، وعلى أن يقول عند المحاكمة: عبثت، وعلى أن يقول: من يغضب من المزاح إلا كز الخلق؟ ! ومن يرغب عن المفاكهة إلا ضيق العطن؟ ! وبعد فمتى أعدت النفس عذراً كانت إلى القبيح أسرع، ومتى لم تعده كانت عنه أبطأ.
ومن أسباب الغلط فيه ومن دواعي الخطأ إليه أن كثيراً ممن تمازحه يضحكك وإن كنت أغضبته، ولا يقطع مزاحك وإن كنت قد أوجعته. فإن حقد ففي الحقد الداء، وإن عجل فذلك البلاء.
فإن قلت: فما أدخلك في شيء هذه سبيله، وهكذا جوهره وطريقه؟ قلت: لأني حين أمنت عقاب الإساءة، ووثقت بثواب الإحسان، وعلمت أنك لا تقضي إلا على العمد، ولا تعذب إلا على القصد، صار الأمن سائقاً، والأمل قائداً.
وأي عمل أرد، وأي متجر أربح مما جمع السلامة والغنيمة، والأمن والمثوبة.
ولو كان هذا ذنباً كنت شريكي فيه، ولو كان تقصيراً لكنت سببي إليه، لأن دوام التغافل شبيه بالإهمال، وترك التعريف يورث الإغفال، والعفو الشائع والبشر الدائم يؤمنان من المكافأة، ويذهبان بالتحفظ؛ ولذلك قال عيينة بن حصن لعثمان بن عفان: " عمر كان خيراً لي منك، أرهبني فاتقاني، وأعطاني فأغناني " .
فإن كنت اجترأت عليك فلم أجترىء عليك إلا بك؛ وإن كنت أخطأت فلم أخطىء عليك إلا لك؛ لأن حسن الظن بك والثقة بعفوك سبب إلى قلة التحفظ، وداعية إلى ترك التحرز.
وبعد فمن وهب الكبير كيف يقف عند الصغير، ومن لم يزل يعفو عن العمد كيف يعاقب على السهو؟ ! ولو كان عظم قدري هو الذي عظم ذنبي لكان عظم قدري هو الذي شفع لي. ولو استحققت عقابك بإقدامي عليك مع خوفي لك لاستوجبت عفوك عن إقدامي عليك بحسن ظني بك.
على أني متى أوجبت لك العفو فقد أوجبت لك الفضل، ومتى أضفت إليك العقاب فقد وصفتك بالإنصاف. ولا أعلم حال الفضل إلا أشرف من حال العدل؛ والحال التي توجب لك الشكر إلا أرفع من الحال التي توجب لك الصبر.
وإن كنت لا تهب عقابي لحرمتي فهبه لأياديك عندي؛ فإن النعمة تشفع في النعمة.
فإن لم تفعل ذلك للحرمة فافعله لحسن الأحدوثة، وعد إلى حسن العادة. وإن لم تفعل ذلك لحسن العادة فائت ما أنت أهله.
واعلم أني وإياك متى تحاكمنا إلى كرمك قضي لي عليك، ومتى ارتفعنا إلى عدلك حسن العفو عني عندك.
وفصل ما بيننا وبينك، وفرق ما بين أقدارنا وقدرك، أنا نسيء وتغفر، ونذنب وتستر، ونعوج وتقوم، ونجهل وتعلم؛ وأن عليك الإنعام وعليك الشكر. ومن صفاتك أن تفعل ومن صفاتنا أن نصف.
وإذا فعلت ما تقدر عليه من العقاب كنت كمن فعل ما يقدر عليه من التعرض، وصرت ترغب عن الشكر كما رغبنا عن السلم، وصار التعرض لعفوك بالأمن باطلاً، والتعرض لعقابك بالخوف حقاً، ورغبت عن النبل والبهاء، وعن السؤدد والسناء، وصرت كمن يشفي غيظاً أو يداوي حقداً، أو يظهر القدرة أو يحب أن يذكر بالصولة.
ولم نجدهم - أبقاك الله - يحمدون القدرة إلا عند استعمالها في الخير، ويذمون العجز إلا لما يفوت به من إتيان الجميل.
وأنى لك بالعقاب وأنت خير كلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجت الجود لأهله. وهل عندك إلا ما في طبعك، وكيف لك بخلاف عادتك؟ فلم تستكره نفسك على المكافأة وطباعها الصفح؟ ولم تكدها بالمناقشة ومذهبها المسامحة؟ سبحان من جعل أخلاقك وفق أعراقك، وفعلك وفق عملك، ومن جعل ظنك أكثر من يقيننا، وفراستك أثقب من عياننا، وعفوك أرجح من جهدنا، وبداهتك أجود من تفكرنا، وفعلك أرفع من وصفنا، وغيبتك أهيب من حضور السادة، وعتبك أشد من عقاب الظلمة.
وسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المصر، وتتغافل عن المناوي وتصفح عن المتهاون حتى إذا صرت إلى من ذنبه نسيان وتوبته خلاص، وهفوته بكر، وشفاعته الحرمة ومن لا يعرف الشكر إلا لك، والإنعام إلا منك، ولا العلم إلا من تأديبك، ولا الأخلاق إلا من تقويمك، ولا يقصر في بعض طاعتك إلا لما رأى من احتمالك، ولا نسي بعض ما يجب لك إلا لما داخله من تعظيمك صرت تتوعده بالصرم وهو دليل كل بلية، وتستعمل الإعراض وهو قائد كل هلكة.

وقد علمت أن عتابك أشد من الصريمة، وأن تأنيبك أغلظ من العقوبة، وأن منعك إذا منعت في وزن إعطائك إذا أعطيت، وأن عقابك على حسب ثوابك، وأن جزعي من حرمانك في وزن سروري بفوائدك، وأن شين غضبك كزين رضاك، وأن موت ذكري بانقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك.
وما لي اليوم عمل أنا إليه أسكن، ولا شفيع أنا به أوثق، من شدة جزعي من عتبك، وإفراط هلعي من خوفك. ولست ممن إذا جاد بالصفح ومن بالعفو لم يكن لصاحبه منه إلا السلامة والنجاة من الهلكة. بل تشفع ذلك بالمراتب الرفيعة، والعطايا الجزيلة، والعز في العشيرة، والهيبة في الخاصة والعامة، مع طيب الذكر وشرف العقب، ومحبة الناس.
وأما ذكرى القد والخرط، والطول والعرض، وما بيننا وبينك في ذلك من التنازع، والتشاجر والتنافر، فإن الكلام قد يكون في لفظ الجد وهو مزاح.
ولو استعمل الناس الدماثة في كل حال، والجد في كل مقال، وتركوا التسمح والتسهيل وعقدوا في كل دقيق وجليل، لكان الشر صراحاً خيراً لهم، والباطل محضاً أرد عليهم. ولكن لكل شيء قدر، ولكل حال شكل. فالضحك في موضعه كالبكاء في موضعه، والتبسم في موضعه كالقطوب في موضعه. وكذلك المنع والبذل، والعقاب والعفو، وجميع القبض والبسط.
فإن ذممنا المزاح ففيه لعمري ما يذم، وإن حمدناه ففيه ما يحمد. وفصل ما بينه وبين الجد أن الخطأ إلى المزاح أسرع، وحاله بحال السخف أشبه. فأما أن يذم حتى يكون كالظلم، وينفى حتى يصير كالغدر فلا؛ لأن المزاح مما يكون مرة حسناً ومرة قبيحاً. فإذا صرنا إلى الجد، ورغبنا عن الهزل وتركنا المزاح، وجلسنا للحكم، فقد أغناك الله تعالى عن الحجة، كما سلمك من الشبهة، ولم نكلفك الاحتجاج كما نرغب بك من الاعتلال، فأصبحت لا محتجاً ولا محجوجاً، ولا غفلاً ولا موسوماً، ولا ملوماً ولا معذوراً، ولا فيك اختلاف ولا بك حاجة إلى الائتلاف.
وليس مع العيان وحشة، ولا مع الضرورة وجمة، ولا دون اليقين وقفة.
وهل في تمامك ريب حتى يعالج بالحجة؟ وهل يرد فضلك جاحد حتى يثبت بالبينة.
وهل لك خصم في العلم أو ند في الفهم، أو مجار في الحلم، أو ضد في العزم؟ وهل يبلغك الحسد أو تضرك العين، أو تسمو إليك المنى أو يطمع فيك طامع، أو يتعاطى شأوك باغ؟ وهل غاية الجميل إلا وصفك، وهل زين البليغ إلا مدحك، وهل يأمل الشريف إلا اصطناعك؟ وهل يقدر الملهوف إلا غياثك؟ وهل للطلاب غاية سواك؟ وهل للغواني مثل غيرك؟ وهل للماتح رجز إلا فيك، وهل يحدو الحادي إلا بك؟ ولولا أن يأخذ الواصف لك بنصيبه منك، وبحصته من الصدق،وبسهمه من الشكر لك، لكان الإطناب عندهم في وصفك لغواً، ولكان تكلفه فضلاً.
ومن هذا الذي يضعه أن يكون دونك، أو يهجى بالتسليم، ولم نعد إقراره إحساناً، وخضوعه إنصافاً؟ وهل تقع الأبصار إلا عليك، وهل تصرف الإشارة إلا إليك؟ وأي أمرك ليس بغاية، وأي شيء منك ليس في النهاية؟ وهل فيك شيء يفوق شيئاً أو يفوقه شيء؟ أو يقال: لو لم يكن كذا لكان أحسن، أو لو كان كذا لكان أتم؟ وأين الحسن الخالص والجمال الفائق، والملح المحض والحلاوة التي لا تستحيل، والتمام الذي لا يحيل، إلا فيك، أو عندك، أو لك أو معك؟ لا بل أين الحسن المصمت والجمال المفرد، والقد العجيب، والملح المنثور والفضل المشهور، إلا لك وفيك؟ وهل على ظهرها جميل حسيب أو عالم أديب إلا وظلك أكبر من شخصه، وظنك أكثر من علمه، واسمك أفضل من معناه، وحلمك أثبت من نجواه؟ ولربما رأيت الرجل حسناً جميلاً، وحلواً مليحاً، وعتيقاً رشيقاً، وفخماً نبيلاً، ثم لا يكون موزون الأعضاء ولا معتدل الأجزاء.
وقد تكون أيضاً الأقدار متساوية غير متقاربة ولا متفاوتة ويكون قصداً، ومقداراً عدلاً، وإن كانت هناك دقائق خفية لا يراها الغبي، ولطائف غامضة لا يعرفها إلا الذكي.
فأما الوزن المتحقق، والتعديل الصحيح، والتركيب الذي لا يفضحه التفرس، ولا يحصره التعنت، ولا يتعلل جادبه، ولا يطمع في التمويه ناعته، فهو الذي خصصت به دون الأنام، ودام لك على الأيام.
وكذا الحسن إذا كان حراً مرسلاً، وعتيقاً مطلقاً، لا يتحكم عليه الدهر، ولا يذبله الزمان، ولا يحتاج إلى تعليق التمائم، ولا إلى الصون والكن، ولا إلى المنقاش والكحل.

ولو لم يكن لحسن وجهك إلا أنه قد سهل في العيون تسهيلاً، وحبب إلى القلوب تحبيباً، وقرب إلى النفوس تقريباً، حتى امتزج بالأرواح وخالط الدماء، وجرى في العروق وتمشى في العظم بحيث لا يبلغه السمر ولا الوهم، ولا السرور الشديد، ولا الشراب الرقيق، لكان في ذلك المزية الظاهرة، والفضيلة البينة.
ولو لم يكن لك إلا أننا لا نستطيع أن نقول في الجملة، وعند الوصف والمدحة: لهو أحسن من القمر، وأضوأ من الشمس، وأبهى من الغيث، وأحسن من يوم الحلية؛ وأنا لا نستطيع أن نقول في التفاريق: كأن عنقه إبريق فضة، وكأن قدمه لسان حية، وكأن وجهه ماوية، وكأن بطنه قبطية، وكأن ساقه بردية، وكأن لسانه ورقة، وكأن أنفه حد سيف، وكأن حاجبه خط بقلم، وكأن لونه الذهب، وكأن عوارضه البرد، وكأن فاه خاتم، وكأن جبينه هلال. ولهو أطهر من الماء، وأرق طباعاً من الهواء، ولهو أمضى من السيل، وأهدى من النجم لكان في ذلك البرهان النير، والدليل البين.
وكيف لا تكون كذلك وأنت الغاية في كل فضل، والمثل في كل شكل. وأما قول الشاعر:
يزيدك وجهه حسناً ... إذا ما زدته نظرا
وقول الدمشقيين: ما تأملنا قط تأليف مسجدنا، وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل، واستخرج لنا التفرس، غرائب حسن لم نعرفها، وعجائب صنعة لم نقف عليها. وما ندري أجواهر مقطعاته أكرم في الجواهر، أم تنضيد أجزائه في تنضيد الأجزاء؟ فإن ذلك معنىً مسروق مني في وصفك، ومأخوذ من كتبي في مدحك.
والجملة التي تنفي الجدال، وتقطع القيل والقال، أني لم أرك قط إلا ذكرت الجنة، ولا رأيت أجمل الناس في عقب رؤيتك! إلا ذكرت النار! ولا تعجب أيها السامع واعلم أني مقصر. وإذا رأيته علمت أني مقصر. وإذا رأيته علمت أني فيما يجب له مفرط.
هو رجل طينته حرة، وعرقه كريم، ومغرسه طيب، ومنشأه محمود، غذي في النعمة، وعاش في الغبطة، وأرهقه التأديب، ولطفه طول التفكير، وخامره الأدب، وجرى فيه ماء الحياء.
فأفعاله كأخلاقه، وأخلاقه كأعراقه، وعادته كطبيعته، وآخره كأوله، تحكي اختياراته التوفيق، ومذاهبه التسديد. لا يعرف التكلف، ويرغب عن التجوز، وينبل عن ترك الإنصاف. لا تمتنع عليه معرفة المبهم، ولا يلحج باستبانة المشكل، ولا يعرف الشك إلا في غيره، ولا العي إلا سماعاً.
فمن يطمع في عيبك، بل من يطمع في قدرك. وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا تعثر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغنى بمدحك، ولا فتاة إلا تشكو تباريح حبك، ولا محجوبة إلا وهي تنقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك، ولا غيور إلا وقد شقي بك.
فكم من كبد حرى منضجة، ومصدوعة مفرثة، وكم حشاً خافق وقلب هائم، وكم عين ساهرة وأخرى جامدة وأخرى باكية؟ وكم عبرى مولهة وفتاة معذبة، قد أقرح قلبها الحزن، وأجمد عينها الكمد، واستبدلت بالحلي العطلة وبالأنس الوحشة، وبالتكحيل المره، فأصبحت والهة مبهوتة، وهائمة مجهودة، بعد ظرف ناصع، وسن ضاحك؛ وبعد أن كانت ناراً تتوقد وشعلة تتوهج.
وليس حسنك - أبقاك الله - الحسن الذي تبقى معه توبة، أو تصح معه عقيدة، أو يدوم معه عهد، أو يثبت معه عزم، أو يمهل صاحبه للتثبت، أو يتسع للتحير، أو ينهنهه زجر، أو يفيده خوف. هو - أبقاك الله - شيء ينقض العادة، ويفسخ المنة، ويعجل عن الروية، ويطوح بالعزاء، وينسى معه العواقب.
ولو أدركك عمر بن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر ابن الحجاج، ولركبك بأعظم مما ركب جعدة السلمى. بل لدعاه الشغل بك إلى ترك التشاغل بهما، والغيظ عليك إلى الرحمة لهما.
فمن كان عيب حسنه الإفراط، والطعن عليه من جهة الزيادة، كيف يرومه عاقل أو ينتقصه عالم.
وما ندري في أي الحالين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل، إذا فرقناك أو إذا جمعناك، وإذا ذكرنا كلك أم إذا تأملنا بعضك؟ فأما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها، ويختال بها كل ما صار فيها.
وكما أصبحنا وما ندري: آلكأس التي في يدك أجمل أم القلم، أم الرمح الذي تحمله أم المخصرة، أم العنان الذي تمسكه، أم السوط الذي تعلقه؟ وكما أصبحنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن، أم أيها أجمل وأشكل: آللمة أم مخط اللحية، أم الإكليل أم العصابة، أم العمامة أم القناع أم القلنسوة؟

وأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم، ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى، أنها لم تخلق إلا لمنبر عظيم، أو ركاب طرف كريم.
وأما فوك فهو الذي لا ندري: أي الذي تتفوه به أحسن، وأي الذي يبدو منه أجمل: الحديث أم الشعر، أم الاحتجاج، أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف؟ وعلى أننا لا ندري أي ألسنتك أبلغ، وأي بيانك أشفى. أقلمك أبلغ أم خطك، أم لفظك؟ أم إشارتك أم عقدك؟ وأنت في ذلك فوقهم - والحمد لله - وواحدهم، وأعيذك بالله تعالى.
وقد علمنا أن القمر، وهو الذي يضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال، يبدو مع ذلك ضئيلاً ونضواً، ويظهر معوجاً شختاً وأنت أبداً قمر بدر، وفخم غمر.
ثم مع ذلك يخرق في السرار، ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحساً كما يكون سعداً، ويكون ضراً كما يكون نفعاً، ويقرض الكتان، ويشحب الألوان، ويخم فيه اللحم. وأنت دائم اليمن، ظاهر السعادة، ثابت الكمال، شائع النفع، تكسو من أعراه، وتكن من أشحبه.
وعلى أنه محق حسنه المحاق، وشانه الكلف، وليس بذي توقد واشتعال، ولا خالص ولا متلألىء، ويعلوه برد ويكسفه ظل، ثم لا يعتبر ذلك إلا عند كماله، وليلة فخره واحتفاله.
وكثيراً ما يعتريه الصفار من بخار البحار. وأنت ظاهر التمام، دائم الكمال، سليم الجوهر، كريم العنصر، ناري التوقد، هوائي الذهن بري اللون، روحاني البدن.
وإن احتجوا عليك له بالجزر والمد، احتججت عليهم بالحلم والعلم، وبأن طاعتك اختيار، وطاعته طباع واضطرار، وبأن له سيرة قد قصر عليها، ومنازل لا يجاوزها، ولا يمكنه البدوات، وليس في قواه فضل للتصرف.
على أن ضياءه مستعار من الشمس، وضياؤك عارية عند جميع الخلق. وكم بين المعير والمستعير، والمتبين والمتحير، وبين العالم وما لا خير فيه.
تعير نسيم الهواء طيباً، وتراب الأرض عبقاً.
إن تفتيت فالرشاقة والملح، وإن تنسكت فالرهبانية والإخلاص، وإن ترزنت فثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل.
وطباعك - جعلت فداءك - طباع الخمر، إلا أنك حلال كلك. وجوهرك جوهر الذهب إلا أنك روح كما أنت. وقد حويت خصال الياقوت إلا ما زادك الله، وأخذت خصال المشتري إلا ما فضلك الله به، وجمعت خلال الدر إلا ما خصصت به دونه. فلك من كل شيء صفوته وشرفه، ولبابه وبهاؤه. وهل يضير القمر نباح الكلب، وهل يزعزع النخلة سقوط البعوضة؟ ! فأما القول في المزاح فقد بقي أكثره ومضى أقله.
وقد ذهب الناس في المزاح في مذاهب متضادة، وسلكوا منه في طرق مختلفة، فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد، وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان، وأن الحمد والذم بينهما نصفان.
وسنأتي على جمل هذه الأقاويل، ثم نذكر جملة ما نقول إن شاء الله.
فأما المحامي عن الهزل والمفضل للمزح فإنه قال: أول ما أذكر من خصال الهزل، ومن فضائل المزح، أنه دليل على حسن الحال وفراغ البال، وأن الجد لا يكون إلا من فضل الحاجة، والمزح لا يكون إلا من فضل الغنى، وأن الجد نصب، والمزح جمام، والجد مبغضة والمزح محبة. وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه، وصاحب المزح في رخاء إلى أن يخرج منه.
والجد مؤلم وربما عرضك لأشد منه، والمزح ملذ وربما عرضك لألذ منه. فقد شاركه في التعريض للخير والشر، وباينه بتعجيل الخير دون الشر.
وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا، وكدوا ليستريحوا، وإن كان المزاح إنما صار معيباً، والهزل مذموماً، لأن صاحبه لا يكون إلا معرضاً لمجاوزة الحد، ومخاطراً بمودة الصديق.
فالجد داعية إلى الإفراط، كما أن المزاح داعية إلى مجاوزة القدر والتجاوز للجد قاطع بين الفريقين في جميع النوعين.
فقد ساواه المزح فيما هو له وباينه فيما ليس له. وإن كان المزح إنما صار قبيحاً لأن الذي يكون بعده جد، ولم يصر الجد قبيحاً لأن الذي يكون بعده مزح، وكان الجد في هذا الوزن أقبح، وكان المزح على هذا التقدير أحسن، لأن ما جعل الشيء قبيحاً أقبح من الشيء، كما أن ما جعل الشيء حسناً أحسن من الشيء.
فأما الذي عدل بينهما فإنه زعم أن المزاح في موضعه، كالجد في موضعه، كما أن المنع في حقه كالبذل في حقه.
قال: ولكل شيء موضع، وليس شيء يصلح في كل موضع.

وقد قسم الله تعالى الخيرة على المعدلة، وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة، وقسط أجزاء المثوبة على العزيمة والرخصة وعلى الإعلان والتقية، وأمر بالمداراة كما أمر بالمباداة، وجوز المعاريض كما أمر بالإفصاح، وسوغ المباح كما شدد أمر المفروض، وجعل المباح جماماً للقلوب، وراحة للأبدان، وعوناً على معاودة الأعمال، فصار الإطلاق كالحظر، والصبر كالشكر.
فليس للإنسان من الخيرة في الذكر شيء إلا وله في النسيان مثله، ولا في الفطنة شيء إلا وله في الغفلة مثله، ولا في السراء إلا وله في الضراء مثله.
ولو لم يرزق الله تعالى العباد إلا بالصواب محضاً، وبالصدق بحتاً، وبمر الحق صفحاً، لهلكت العوام، ولانتقض أمر الخاص.
ولو ذكر الإنسان كل ما أنسيه لشقي، ولو جد في كل شيء لانتكث.
وقد يكون الذكر إلى الهلكة سلماً كما يكون النسيان للسلامة سبباً. وسبيل المزاح والجد كسبيل المنع والبذل. وعلى ذلك يجري جميع القبض والبسط.
فهذا وما قبله جمل أقاويل القوم.
ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزاح في الجملة كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزح خير من بعض الجد، وعامة الجد خير من عامة الهزل. والحق أن ينضح عن بعض المزح، ويحتج لجمهور الجد. وكيف لنا بذم جميع المزح مع ما نحن ذاكرون.
وقد مزح رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا يقال: كان فيه مزاح، ولا يقال مزاح. وكذا الأئمة ومن تبذل في بعض الحالات من أهل الحلم والوقار.
وقال عمر رضوان الله تعالى عليه: " إنا إذا خلونا كنا كأحدكم " .
وقد كان عمر عبوساً قطوباً.
وكان زياد مع كلوحه وقطوبه، يمازح أهله في الخلا كما يجد في الملا.
وكان الحجاج مع عتوه وطغيانه، وتمرده وشدة سلطانه، يمازح أزواجه ويرقص صبيانه. وقال له قائل: أيمازح الأمير أهله؟ قال: " والله إن تروني إلا شيطاناً؟ والله لربما رأيتني وإني لأقبل رجل إحداهن! " .
فقد ذكرنا خير العالمين، وجلة من خيار المسلمين، وجباراً عنيداً، وكافراً لعيناً.
وبعد فمن حرم المزاح وهو شعبة من شعب السهولة، وفرع من فروع الطلاقة. وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، ولم يأتنا بالانقباض والقسوة، وأمرنا بإفشاء السلام، والبشر عند الملاقاة، وأمرنا بالتوادد والتصافح والتهادي.
فصل
قد اعتذرنا في معصيتك والخلاف على محبتك مرة بالمزاح، ومرة بالنسيان، ومرة بالاتكال على عفوك وعلى ما هو أولى بك.
والجملة أنا لو تعمدنا ثم أصررنا ثم أنكرنا، لكان في فضلك ما يتغمدنا، وفي كرمك ما يوجب التغافل عنا. فكيف وإنما سهونا ثم تذكرنا، واعتذرنا ثم أطنبنا.
فإن تقبل، فحظك أصبت، ولنفسك نظرت. وإن لم تقبل فاجهد جهدك، ولا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا عفا عنك إن عفوت. وأقول كما قال أخو بني منقر:
فما بقيا علي تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال
والله لئن رميتني ببجيلة لأرمينك بكنانة، ولئن نهضت بصالح بن علي لأنهضن بإسماعيل بن علي، ولئن صلت علي بسليمان بن وهب لأدمغنك بالحسن بن وهب، ولئن تهت علي بمنادمة جعفر الخياط لأتيهن عليك بحسبة وهب الدلال.
وأنا أرى لك أن تقبل العافية، وترغب إلى الله تعالى في السلامة. واحذر البغي فإن مصرعه وخيم، واتق الظلم فإن مرعاه وبيل.
وإياك أن تتعرض لجرير إذا هجا، وللفرزدق إذا فخر، ولهرثمة إذا دبر، ولقيس بن زهير إذا مكر، وللأغلب إذا كر، ولطاهر إذا صال. ومن عرف قدره عرف قدر خصمه، ومن جهل نفسه لم يعرف قدر غيره.
وعليك بالجادة ودع البنيات فإن ذلك أمثل لك.
وأنت - والله يا أخي - تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الأخبار، أني أظهر منك حرباً، وألطف كيداً، وأكثر علماً، وأوزن حلماً، وأخف روحاً، وأكرم عيناً، وأقل غثاً وأحسن قداً وأبعد غوراً، وأجمل وجهاً، وأنصع ظرفاً. وأكثر ملحاً، وأنطق لساناً وأحسن بياناً، وأجهر جهارة، وأحسن شارة.
وأنت رجل تشدو من العلم، وتنتف من الأخبار، وتموه نفسك، وتعز من قدرك، وتتهيأ بالثياب، وتتنبل بالمراكب، وتتحبب بحسن اللقاء، ليس عندك إلا ذاك. فلم تزاحم البحر بالجداول، والأجسام بالأعراض، وما لا يتناهى بالجزء الذي لا يتجزأ.

فأما الباد والقامة، فمن يعدل بين القناة والكرة، ومن يميل بين النخلة والدقل، وبين رحى الطحان وبين سيف يمان. وإنما يكون التمييل بين أتم الخيرين وأنقص الشرين، وبين المتقاربين دون المتفاوتين. فأما الخل والعسل، والحصاة والجبل، والسم والغذاء، والفقر والغنى، فهذا مما لا يخطأ فيه الذهن ولا يكذب فيه الحس.
والخطأ ثلاث: خطأ الحس، وخطأ الوهم، وخطأ الرأي. كل ذلك سبيله التنبيه والتذكير، والتقويم والتأنيب.
والعمد نوع واحد، وسبيله القمع والحظر، والضرب والقتل. وأول ذلك أن يهجره صاحب الحكمة، ولا يطمعه في وعظ ولا مجالسة.
وقد رأيت من يعاند الحق إذا كانت المعرفة عياناً. وأنت لا ترضى بجحد العيان حتى تدعو إليه، ولا ترضى بالدعاء إليه حتى تعادي فيه، ولا ترضى بالعداوة حتى يكون لك في ذلك الرياسة، ولا ترضى بالرياسة دون السابقة، ولا بالطارف دون التالد، ولا بالتالد دون الأعراق التي تسري، والمواليد التي تنمي. ولا ترضى بأن يكون أولاً حتى تكون آخراً، ولا بالمداراة دون المباداة، ولا بالجدال دون القتال. وحتى ترى أن التقية حرام وأن التقصير كفر.
وحتى لو كنت إمام الرافضة لقتلت في طرفة ولو قتلت في طرفة لهلكت الأمة، لأنك رجل لا عقب لك. والإمامة اليوم لا تصلح في الإخوة، واو صلحت في الإخوة كانت تصلح في ابن العم، ثم دنت من الأرحام شيئاً فصارت لا تصلح إلا في الولد. وفي هذا القياس أنها بعد أعوام لا تصلح إلا ببقاء الإمام نفسه إلى آخر الأبد. وهذا هو علة أصحاب التناسخ. وأنت رافضي ولم يكن هذا عندك.
فأهد إلي الآن من خالص التوتيا كما أهديت إليك باب التناسخ.
وأنت ترى القتل في حق المعاندة شهادة، وترى أن مباينة المنصفين في تعظيم العنود سعادة، وأن الرياسة في دفع الحقائق مرتبة، وأن الإقرار بما يظهر للعيون ضعة، وأن الشهرة بالمغالبة رفعة.
أظهر القوم عندك حجة أرفعهم صوتاً، وأخلقهم للتوبة أصلبهم وجهاً، وأحسنهم تقية أقلهم تحرجاً، وأحسنهم إنصافاً أشدهم شغباً.
تعشق المتهور، وتكلف بالجموح، وتصافي الوقاح. والأديب عندك من يعيب أحاديث الجلساء، واعترض على نوادر الإخوان، وغمز في قفا النديم، ونصب للعالم، وأبغض العاقل، واستثقل الظريف، وحسد على كل نعمة، وأنكر كل حقيقة.
جعلت فداك. إنما أخرجك من شيء إلى شيء، وأورد عليك الباب بعد الباب، لأن من شأن الناس ملالة الكثير، واستثقال الطويل وإن كثرت محاسنه وجمت فوائده. وإنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي؛ ولأنك متى كنت للشيء متوقعاً، وله منتظراً، كان أحظى لما يرد عليك، وأشهى لما يهدى إليك. وكل منتظر معظم، وكل مأمول مكرم.
كل ذلك رغبة في الفائدة، وصبابة بالعلم، وكلفاً بالاقتباس، وشحاً على نصيبي منك، وضناً بما أؤمله عندك، ومداراة لطباعك، واستزادة من نشاطك. ولأنك على كل حال بشر، ولأنك متناهي القوة مدبر.
فصل
والعقل - حفظك الله - أطول رقدة من العين، وأحوج إلى الشحذ من السيف، وأفقر إلى التعاهد، وأسرع إلى التغير، وأدواؤه أقتل، وأطباؤه أقل. فمن تداركه قبل التفاقم أدرك أكثر حاجته، ومن رامه بعد التفاقم لم يدرك شيئاً من حاجته.
ومن أكبر أسباب العلم كثرة الخواطر، ثم معرفة وجوه المطالب. ثم في الخواطر الغث والسمين، والفاسد والصحيح، والمسرع إليك والبطيء عنك، والدقيق الذي لا يكاد يفهم، والجليل الذي لا يلقى الفهم. ثم هي على طبقاتها في التقديم والتأخير، وعلى منازلها في التباين والتمييز.
وللمطالب طرق، ولدرك الحقائق أبواب؛ فمن أخطأها وانتظر كان أسوأ حالاً ممن لم يخطئها ولم ينتظر. وعلى قدر صحة العقل يصح الخاطر، وعلى قدر التفرغ يكون التنبه.
هذا جماع هذا الكتاب وجمهرته، وأقسامه وجملته.

ثم من نفع أسبابه الحفظ لما قد حصل، والتقييد لما ورد، والانتظار لما لم يرد، وأن لا تخلي نفسك من الفكرة إلا بقدر جمام الطبيعة، وأن تعلم أن مكان الدرس من الحفظ كمكان الحفظ من العلم، وأن تعرف فصل ما بين طلب العلم للمنافسة والشهرة، وبين طلبه للرغبة والرهبة، وتعلم أن العلم لا يجود بمكنونه، ولا يسمح بسره ومخزونه، إلا لمن رغب فيه لكرم عنصره، وفضله لحقيقة جوهره، ورفعه عن التكسب، وصانه عن التبذل. وأنه لا يعطيك خالص الحكمة حتى تعطيه خالص المحبة. كان يقال: " من شاب شيب له " .
وخصلة ينبغي أن تعرفها وتقف عندها، وهو أن تبدأ من العلم بالمهم، وتختار من صنوفه ما أنت أنشط له، والطبيعة به أعنى؛ فإن القبول على قدر النشاط، والبلوغ فيه على قدر العناية.
ثم من أفضل أسبابه تخليص أخلاقه، وتمييز أجناسه، والمعرفة بأقداره، حتى تعطي كل معنى حقه من التقريب والرفعة، وقسطه من الإبعاد والضعة، حتى لا تتشاغل إلا بالسمين الثمين، وبالخطير النفيس، ولا تلقي إلا الغث الخسيس، والحقير السخيف. فإنك متى كنت كذلك لم تعتبر فضل ما بين النظرين، ولا صرف ما بين النعتين.
الكيس كل الكيس، والحذق كل الحذق: أن لا تعجل ولا تبطىء، وأن تعلم أن السرعة غير العجلة، وأن الأناة خلاف الإبطاء. وأن تكون على يقين من درك الحق إذا وفيته شرطه، وعلى ثقة من ثواب النظر إذا أعطيته حقه.
هذا جملة ما للعذر في هذه المسألة، وجملة الحجة فيما قدمنا من الافتنان والإطالة. فإن كنا أصبنا فالصواب أردنا، وإن كنا أخطأنا فما ذاك عن فساد من الضمير، ولا قلة احتفال بالتقصير. ولعل طبيعة خانت، أو لعل عادة جذبت، أو لعل سهواً اعترض، أو لعل شغلاً منع.
خفض عليك أيها السامع، فإن الخطأ كثير عام، وغالب مستول، والصواب قليل خاص، ومقموع مستخف.
فوجه اللائمة إلى أهلها، وألزمها من هو أحق بها، فإنهم كثير ومكانهم مشهور.
اعجب من الصواب لا تعجب من الخطأ. اعجب من أن العجب قد ذهب. اعجب ممن تعجب وفيه العجب أعجب. وكيف التعجب والأمور كلها عجب؟ ! كنت أتعجب من كل فعل خرج من العادة، فلما خرجت الأفعال بأسرها من العادة صارت بأسرها عجباً، فبدخول كلها في باب العجب خرجت بأجملها من باب العجب.
وقد ذكر الله تعالى ذكره التعجب في كتابه جل جلاله. وقد تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله في زمانه، وفي الناس يومئذ الناقص والوافر، والمشوب والخالص، والمستقيم والمعوج. وقال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " وإن تعجب فعجب قولهم " ، وقال له: " بل عجبت ويسخرون " .
واعلم أنه لم يبق من المتعجب الفاتك إلا نصيب اللسان، ولا من المستمع الفاتك إلا حصة السمع. فأما القلوب فخاوية قاسية، وراكدة خامدة، لا تسمع داعياً ولا تجيب سائلاً، قد أغفلها سوء العادة، واستولى عليها سلطان السكرة.
فدع عنك ما لست مثله، فإن فيما أورده عليك شغلاً شاغلاً، وهماً داخلاً.
اعلم أن الله تعالى قد مسخ الدنيا بحذافيرها، وسلخها من جميع معانيها. ولو مسخها كما مسخ بعض المشركين قردة، أو كما مسخ بعض الأمم خنازير، لكان قد بقى بعض أمورها، وحبس عليها بعض أعراضها، كبقية ما مع القرد في ظاهره من شبه الآدمي، وبقية ما مع الخنزير في باطنه من شبه البشري. لكنه جل ذكره مسخ الدنيا مسخاً متتبعاً، ومستقصىً مستفرغاً، فبين حاليها جميع التضاد، وبين معنييها غاية الخلاف.
فالصواب اليوم غريب، وصاحبه مجهول. والعجب ممن يصيب وهو مغمور، ويقول وهو ممنوع، فإن صرت عليه عوناً مع الزمان قتلته، وإن أمسكت عنه فقد وفرته.
ولسنا نريد منك النصرة ولا المعونة، ولا التأنيس ولا التعزية. وكيف أطلب منك ما قد انقطع سببه، واجتث أصله. وقد كان يقال: " من طلب عيباً وجده " .
هذا في الدهر الصالح دون الفاسد. فإن أنصفت فقد أغربت، وإن جرت فلم تعد ما عليه الزمان.
وهب الله لنا ولك الإنصاف، وأعاذنا وإياك من الظلم. والحمد لله كما هو أهله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلى الله على سيدنا محمد خاصة، وعلى أنبيائه عامة، وسلم.
 

فصل من صدر رسالته إلى الحسن بن وهب
في مدح النبيذ وصفة أصحابه

أنا - أبقاك الله - الطالب المشغول، والقائل المعذور، فإن رأيت خطأً فلا تنكر فإني بصدده وبعرض منه، بل في الحال التي توجبه، والسبب الذي يؤدي إليه. وإن سمعت تسديداً فهو الغريب الذي لا نجده. اللهم إلا أن يكون من بركة مكاتبتك، ويمن مطالبتك. ولأن ذكرك يشحذ الذهن، ويصورك في الوهم، ويجلو العقل؛ وتأميلك ينفي الشغل.
ولا يعجبني ما رأيت من قلة إطنابك في هذا النبيذ، وقلة تلهيك بهذا الشراب وأنت تجد من فضل القول وحسن الوصف ما لا يصاب عند خطيب، ولا يوجد عند بليغ. وأنت ولو مشيت الخيلاء، وحقرت العظماء، وأرغبت الشعراء، وأعطيت الخطباء، ليكون القول منهم موصولاً غير مقطوع، ومبسوطاً غير مقصور، لكنت بعد مقصراً في أمره، مفرطاً في واجب حقه. فلا تأديب الله قبلت، ولا قول الناصح سمعت.
قال الله تبارك وتعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " . وقال الأول: " استدم النعمة بإظهارها، واستزد الواهب بإدامة شكره " .
بل كيف أنست بالجلساء، وأرسلت إلى الأطباء ولم يكن في قربك منه ما يغنيك، وفي النظر إليه ما يشفيك؟ ولم ملكت نفسك دون أن تهذي، ولم رأيت الوقار مروءة قبل أن تستخف ولم كان الهذيان هو الهذيان، والسخف هو المروءة، والتناقض هو الصحة وإلا بأي شيء خصصت، وبأي معنىً أتيت، ولم لم تخلع فيه العذار، ولم تخرج فيه عن كل مقدار.
وأي شيء أجرب جلدك وأمات حالك، وأضعف مسرتك، وأوحش منك رفيقك، إلا العقوبة المحضة، وإلا الغضب والعقاب، وحرمك الثواب إلا التهاون في أمره، وقلة الرعاية لحقه.
وكيف صارت أمراضي أمراض الأغنياء وأمراضك أمراض الفقراء إلا لمعرفتي بفضله، واستخفافك بقدره. ألا ترى أني منقرس مفلوج، وأنت أجرب مبسور.
فإن تبت فما أقرب الفرج، وأسرع الإجابة. وسنفرغ لك إن شاء الله قريباً، وتفلح سريعاً.
وإن أصررت وتتايعت وتماديت أتاك والله من سفلة الأدواء، وزوي عنك من علية الأمراض، ما يضعك موضعاً لا ارتفاع معه، ويلزق بعقبك عاراً لا زوال له. ثم تتبع أشياخك السبة، وتتبعهم المذمة.
علم الله أنه استظرفك واستملحك، واستحسن قدك، واسترجح عقلك، وأحسن بك ظناً، ورآك لنفسه أهلاً، ولاتخاذه موضعاً، وللأنس به مكاناً، وأنت لاه عنه زار عليه، متهاون به، قد أقبلت على ديوانك تشغل بملازمته، وتدع ما يجب عليك من صفاته، والدعاء إلى تعظيمه. بل هل كنت من شيعته والذابين عن دولته، والمعروفين بالانقطاع إليه، والانبتات في حبله، إلا أن يكون عندك التقصير لحقه، والتهاون بأمره اللازم، ونهي الناس عنه.
ول خرجت إلى هذا لخرجت من جميع الأخلاق المحمودة، والأفعال المرضية. وأحسب أنك لا تعظمه ولا ترق له. ولو لم تتعصب إلا لجماله وحسنه، ولو لم تحافظ على نقائه وعتقه لكان ذلك واجباً، وأمراً معروفاً. فكيف مع المناسبة التي بينكما، والشكل الذي يجمعكما. فإن كان بعضك لا يصون بعضاً وأنت لا تعظم شقيقاً، فأنت والله من حفظ العشيرة أبعد، ولمعرفة الصديق أنكر.
ولقد نعيت إلي لبك، وأثكلتني حفاظك، وأفسدت عندي كل صحيح. وقد كان يقال: " لا يزال الناس بخير ما تعجبوا من العجب " قال الشاعر:
وهلك الفتى أن لا يراح إلى الندى ... وأن لا يرى شيئاً عجيباً فيعجب
قال بكر بن عبد الله المزني: " كنا نتعجب من دهر لا يتعجب أهله من العجب فقد صرنا في دهر لا يستحسن أهله الحسن. ومن لا يستحسن الحسن لم يستقبح القبيح " .
وقال بعضهم: " العجب ترك التعجب من العجب " .
ولم أقل ذلك إلا لأن تكون به ضنيناً، وبما يجب له عارفاً. ولكنك لم توفر حقه ولم توف نصيبه.
فإن قلت: ومن يقضي واجب حقه، وينتهض بجميع شكره؟ قلنا: فهل أعذرت في الاجتهاد حتى لا يذم إلا تعجبك، وهل استغرقت الاعتذار حتى لا تعاب إلا بما زاد على قوتك. ولولا أنك عين الجواد لم نطلبه منك. ولولا ظنك لم نحمدك عليه. ولولا معرفتك بفضله لم نعجب من تقصيرك في حقه، ولولا أن الخطأ فيك أقبح، والقبيح منك أسمج، وهو فيك أبين والناس به أكلف، والعيون إليه أسرع لكان كتابنا كتاب مطالبة، ولم يكن كتاب معاتبة، ولشغلنا الحلم لك عن الحلم عليك، والقول لك عن القول فيك.
وقد كنت أهابك بفضل هيبتي لك، وأجترىء عليك بفضل بسطك لي، فمنعني حرص الممنوع، وخوف المشفق، وأمن الواثق، وقناعة الراضي.

وبعد فمن طلب ما لا يجاد به، وسأل ما لا يوهب مثله ممن يجود بكل ثمين، ويهب كل خطير، فواجب أن يكون من الرد مشفقاً، وبالنجح موقناً.
وإن كان - أبقاك الله - أهلاً لأن يمنع، وكنت حفظك الله أهلاً أن تبذل، وجب أن تكون باذلاً مانعاً، وساكناً مطمئناً، إلا أن يكون الحرب سلماً سجالاً، والحالات دولاً.
ولهذه الخصال ما وقع الطلب، وشاع الطمع.
فإن منعت فعذرك مبسوط عند من عرف قدره، وإن بذلت فلم تعد الذي أنت أهله عند من عرف قدرك، إلا أنه لا يجود بمثله إلا غني عند جميع الناس، أو عاقل فوق جميع الناس.
وكيف لا أطلب طلب الجريء المتهور، وأمسك إمساك الهائب الموقر. وليس في الأرض خلق يغتفر في وصفه المحال ولا يستحسن الهذيان سواه؟ ! على أن من الهذيان ما يكون مفهوماً، ومن المحال ما يكون مسموعاً.
فمن جهل ذلك ولم يعرفه، وقصر ولم يبلغه، فليسمع كلام اللهفان والثكلان، والغضبان والغيران، ومرقصة الصبيان، والمنعظ إذا دنا منه الحلقي.
حتى إذا استوهبك لم تهب له منه حتى تقف وقفة، وتطرق ساعة، ثم تستحسن وتستشير، ثم تشفع على مستوهبه، وتعجب من شاربه، ثم تطيل الكتاب بالامتنان، وتسطر فيه بتعظيم الإنعام مع ذكر مناقبه، ونشر محاسنه بقدر الطاقة. وإن لم تبلغ الغاية فاعرف وزنه، واشهد بطيبه، وأرخ ساعته، واشهر في الناس يومه.
وما ظنك بشيء لا تقدر أن تشرد في ذكره وتفرط في مدحه، وتقصيرك واضح في لونه، مكتوب في طعمه، موجود في رائحته، إذ كان كل ممدوح يقصر عن مدحه وقدره، ويصغر في جنبه.
ولو لم يستدل على سعادة جدك، وإقبال أمرك، وأن لك زي صدق في المعلوم، وحظاً في الرزق المقسوم، وأنك ممن تبقى نعمه، ويدوم شكره، ويفهم النعمة ويربها، ويدرأ عنها ويستديمها، إلا أنه وقع في قسمك، وكان في نصيبك لكان ذلك أعظم البرهان، وأوضح الدلالة.
بل لا نقول: إنه وقع اتفاقاً وغرساً نادراً، حتى يكون التوفيق هو الذي قصد به، والصنع هو الذي دل عليه.
ولو لم تملك غيره لكنت غنياً، ولو ملكت كل شيء سواه لكنت فقيراً. وكيف لا يكون كذلك وهو مستراح قلبك، ومجال عقلك، ومرتع عينك، وموضع أنسك، ومستنبط لذتك، وينبوع سرورك، ومصباحك في الظلام، وشعارك من جميع الأقسام.
وكيف وقد جمع أهبة الجلال، ورشاقة الخلال، ووقار البهاء، وشرف الخير، وعز المجاهرة ولذة الاختلاس، وحلاوة الدبيب.
وسأصف لك شرف النبيذ في نفسه، وفضيلته على غيره، ثم أصف فضل شرابك على سائر الأشربة، كما أصف فضل النبيذ على سائر الأنبذة؛ لأن النبيذ إذا تمشى في عظامك، والتبس بأجزائك، ودب في جنانك، منحك صدق الحس، وفراغ النفس، وجعلك رخي البال، خلي الذرع، قليل الشواغل، قرير العين، واسع الصدر، فسيح الهمم حسن الظن. ثم سد عليك أبواب التهم، وحسن دونك الظن وخواطر الفهم، وكفاك مئونة الحراسة، وألم الشفقة، وخوف الحدثان، وذل الطمع وكد الطلب، وكل ما اعترض على السرور وأفسد اللذة، وقاسم الشهوة، وأخل بالنعمة.
وهو الذي يرد الشيوخ في طبائع الشبان، ويرد الشبان في نشاط الصبيان، وليس يخاف شاربه إلا مجاوزة السرور إلى الأشر، ومجاوزة الأشر إلى البطر.
ولو لم يكن من أياديه ومننه، ومن جميل آلائه ونعمه، إلا أنك ما دمت تمزجه بروحك، وتزاوج بينه وبين دمك فقد أعفاك من الجد ونصبه، وحبب إليك المزاح والفكاهة، وبغض إليك الاستقصاء والمحاولة، وأزال عنك تعقد الحشمة وكد المروءة، وصار يومه جمالاً لأيام الفكرة، وتسهيلاً لمعاودة الروية، لكان في ذلك ما يوجب الشكر، ويطيب الذكر. مع أن جميع ما وصفناه وأخبرنا به عنه يقوم بأيسر الجرم، وأقل الثمن.
ثم يعطيك في السفر ما يعطيك في الحضر، وسواء عليك البساتين والجنان. ويصلح بالليل كما يصلح بالنهار، ويطيب في الصحو كما يطيب بالدجن، ويلذ في الصيف كما يلذ في الشتاء، ويجري مع كل حال. وكل شيء سواه فإنما يصلح في بعض الأحوال.
ويدفع مضرة الخمار، كما يجلب منفعة السرور.
إن كنت جذلاً كان باراً بك، وإن كنت ذا هم نفاه عنك.
وما الغيث في الحرث بأنفع منه في البدن، وما الريش السخام بأدفأ منه للمقرور.
ويستمرأ به الغذاء ويدفع به ثقل الماء، ويعالج به الأدواء، ويحمر به الوجنتان، ويعدل به قضاء الدين.
إن انفردت به ألهاك، وإن نادمت به سواك.

 ثم هو أصنع للسرور من زلزل، وأشد إطراباً من مخارق، وقدر احتياجهما إليه كقدر استغنائه عنهما؛ لأنه أصل اللذات وهي فرعه، وأول السرور ونتاجه.
ولله در أول من عمله وصنعه، وسقياً لمن استنبطه وأظهره. ماذا دبر؟ وعلى أي شيء دل؟ وبأي معنىً أنعم؟ وأي دفين أثار؟ وأي كنز استخرج.
ومن استغناء النبيذ بنفسه، وقلة احتياجه إلى غيره، أن جميع ما سواه من الشراب يصلحه الثلج، ولا يطيب إلا به.
وأول ما يثنى عليه به، ويذكر منه، أنه كريم الجوهر، شريف النفس، رفيع القدر، بعيد الهم. وكذلك طبيعته المعروفة وسجيته الموصوفة. وأنه يسر النفوس ويحبب إليها الجود، ويزين لها الإحسان، ويرغبها في التوسع، ويورثها الغنى، وينفي عنها الفقر، ويملؤها عزاً، ويعدها خيراً، ويحسن المسارة، ويصير به النبت خصباً والجناب مريعاً، ومأهولاً معشباً.
وليس شيء من المأكول والمشروب أجمع للظرفاء، ولا أشد تألفاً للأدباء، ولا أجلب للمؤنسين، ولا أدعى إلى خلاف الممتعين، ولا أجدر أن يستدام به حديثهم ويخرج مكنونهم، ويطول به مجلسهم، منه.
وإن كل شراب وإن كان حلا ورق، وصفا ودق، وطاب وعذب، وبرد ونقخ، فإن استطابتك لأول جرعة منه أكثر، ويكون من طبائعك أوقع. ثم لا يزال في نقصان إلى أن يعود مكروهاً وبلية، إلا النبيذ، فإن القدح الثاني أسهل من الأول، والثالث أيسر، والرابع ألذ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، إلى أن يسلمك إلى النوم الذي هو حياتك، أو أحد أقواتك. ولا خير فيه إذا كان إسكاره تغلباً، وأخذه بالرأس تعسفاً، حتى يميت الحس بحدته، ويصرع الشارب بسورته، ويورث البهر بكظته، ولا يسري في العروق لغلظه، ولا يجري في البدن لركوده، ولا يدخل في العمق ولا يدخل الصميم.
ولا والله حتى يغازل العقل ويعارضه، ويدغدغه ويخادعه، فيسره ثم يهزه، فإذا امتلأسروراً وعاد ملكاً محبوراً، خاتله السكر وراوغه، وداراه وما كره، وهازله وغانجه. وليس كما يغتصب السكر، ويعتسف الداذي، ويفترس الزبيب؛ ولكن بالتفتير والغمز، والحيلة والختل، وتحبيب النوم، وتزيين الصمت.
وهذه صفة شرابك إلا ما لا نحيط به، ونعوته تتبدل إلا ما يقبح منها الجهل به.
وخير الأشربة ما جمع المحمود من خصالها وخصال غيرها. وشرابك هذا قد أخذ من الخمر دبيبها في المفاصل، وتمشيها في العظام ولونها الغريب؛ وأخذ برد الماء ورقة الهواء، وحركة النار، وحمرة خدك إذا خجلت، وصفرة لونك إذا فزعت، وبياض عارضيك إذا ضحكت.
وحسبي بصفاتك عوضاً من كل حسن، وخلفاً من كل صالح.
ولا تعجب أن كانت نهاية الهمة وغاية المنية؛ فإن حسن الوجوه إذا وافق حسن القوام وشدة العقل، وجودة الرأي، وكثرة الفضل وسعة الخلق، والمغرس الطيب والنصاب الكريم، والظرف الناصع، واللسان الفخم والمخرج السهل والحديث المونق، مع الإشارة الحسنة والنبل في الجلسة، والحركة الرشيقة واللهجة الفصيحة، والتمهل في المحاورة والهز عند المناقلة، والبديه البديع والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والإيجاز يوم الإيجاز والإطناب يوم الإطناب، يفل الحز ويصيب المفصل، ويبلغ بالعفو ما يقصرعنه الجهد، كان أكثر لتضاعف الحسن، وأحق بالكمال. والحمد لله.
وإن التاج بهي وهو في رأس الملوك أبهى، والياقوت الكريم حسن وهو في جيد المرأة الحسناء أحسن، والشعر الفاخر حسن وهو من في الأعرابي أحسن. فإن كان من قول المنشد وقريضه، ومن نحته وتحبيره، فقد بلغ الغاية وأقام النهاية.
وهذا الشراب حسن وهو عندك أحسن، والهدية منه شريفة وهي منك أشرف.
وإن كنت قدرت أني إنما طلبته منك لأشربه أو لأسقيه، أو لأهبه، أو لأتحساه في الخلا، أو أديره في الملا أو لأنافس فيه الأكفاء، وأجتر زيادة الخلطاء، أو لأبتذله لعيون الندماء، أو أعرضه لنوائب الأصدقاء فقد أسأت بي الظن، وذهبت من الإساءة بي في كل فن، وقصرت به فهو أشد عليك، ووضعت منه فهو أضر بك.

وإن ظننت أني إنما أريده لأطرف به معشوقة، أو لأستميل به هوى ملك، أو لأغسل به أوضار الأفئدة، أو أداوي به خطايا الأشربة، أو لأجلو به الأبصار العليلة، وأصلح به الأبدان الفاسدة، أو لأتطوع به على شاعر مفلق أو خطيب مصقع، أو أديب مدقع، ليفتق لهم المعاني، وليخرج المذاهب، ولما في جانبهم من الأجر، وفي أعناقهم من الشكر، ولينفضوا ما قالت الشعراء في الحمد، وليرتجعوا ما شاع لهم من الذكر؛ فإني أريد أن أضع من قدرها، وأن أكسر من بالها، فقد تاهت وتيه بها. أو لأن أتفاءل برؤيته وأتبرك بمكانه، وآنس بقربه، أو لأشفي به الظماء، أو أجعله إكسير أصحاب الكيمياء، أو لأن أذكرك كلما رأيته، وأداعبك كلما قابلته أو لأجتلب به اليسر وأنفي العسر. ولأنه والفقر لا يجتمعان في دار، ولا يقيمان في ربع. ولأتعرف به حسن اختيارك، وأتذكر به جودة اجتبائك. أو لأن أستدل به على خالص حبك، وعلى معرفتك بفضلي، وقيامك بواجب حقي فقد أحسنت بي الظن، وذكرت من الإحسان في كل فن. بل هو الذي أصونه صيانة الأعراض، وأغار عليه غيرة الأزواج.
واعلم أنك إن أكثرت لي منه خرجت إلى الفساد، وإن أقللت أقسمت على الاقتصاد.
وأنا رجل من بني كنانة، وللخلافة قرابة، ولي فيها شفعة، وهم بعد جنس وعصبة، فأقل ما أصنع إن اكترثت لي منه أن أطلب الملك، وأقل ما يصنعون بي أن أنفى من الأرض. فإن أقللت فإنك الولد الناصح، وإن أكثرت فإنك الغاش الكاشح. والسلام.