في طبقات المغنين
ثم إنا وجدنا الفلاسفة المتقدمين في الحكمة، المحيطين بالأمور معرفة، ذكروا
أن أصول الآداب التي منها يتفرع العلم لذوي الألباب أربعة: فمنها النجوم
وبروجها، وحسابها الذي يعرف به الأوقات والأزمنة، وعليها مزاج الطبائع وأيام
السنة.
ومنها الهندسة وما اتصل بها من المساحة والوزن والتقدير، وما أشبه ذلك.
ومنها الكيمياء والطب اللذان بهما صلاح المعاش وقوام الأبدان، وعلاج الأسقام،
وما يتشعب من ذلك.
ومنها اللحون ومعرفة أجزائها وقسمها، ومقاطعها ومخارجها ووزنها، حتى يستوي
على الإيقاع ويدخل في الوتر وغير ذلك مما اقتصرنا من ذكره على أسمائه وجمله،
اجتناباً للتطويل، وتوخياً للاختصار. وقصدنا للأمر الذي إليه انتهينا، وإياه
أردنا. والله الموفق وهو المستعان.
ولم يزل أهل كل علم فيما خلا من الأزمنة يركبون منهاجه، ويسلكون طريقه،
ويعرفون غامضه، ويسهلون سبيل المعرفة بدلائله، خلا الغناء، فإنهم لم يكونوا
عرفوا علله وأسبابه ووزنه وتصاريفه، وكان علمهم به على الهاجس وعلى ما يسمعون
من الفارسية والهندية إلى أن نظر الخليل البصري في الشعر ووزنه، ومخارج
ألفاظه، وميز ما قالت العرب منه، وجمعه وألفه، ووضع فيه الكتاب الذي سماه
العروض، وذلك أنه عرض جميع ما روي من الشعر وما كان به عالماً، على الأصول
التي رسمها، والعلل التي بينها، فلم يجد أحداً من العرب خرج منها، ولا قصر
دونها. فلما أحكم وبلغ منه ما بلغ، أخذ في تفسير النغم واللحون، فاستدرك منه
شيئاً، ورسم له رسماً احتذى عليه من خلفه، واستتمه من عني به.
وكان إسحاق بن إبراهيم الموصلي أول من حذا حذوه، وامتثل هديه، واجتمعت له في
ذلك آلات لم تجتمع للخليل بن أحمد قبله، منها معرفته بالغناء، وكثرة استماعه
إياه وعلمه بحسنه من قبيحه، وصحيحه من سقيمه.
ومنها حذقه بالضرب والإيقاع، وعلمه بوزنها. وألف في ذلك كتباً معجبة، وسهل له
فيها ما كان مستصعباً على غيره، فصنع الغناء بعلم فاضل، وحذق راجح، ووزن
صحيح، وعلى أصل مستحكم له دلائل صحيحة وواضحة، وشواهد عادلة. ولم نر أحداً
وجد سبيلاً إلى الطعن عليه والعيب له.
وصنع كثير من أهل زمانه أغاني كثيرة بهاجس طبعهم والاتباع لمن سبقهم، فبعض
أصاب وجه صوابه، وبعض أخطأ، وبعض قصر في بعض وأحسن في بعض.
ووجدنا لكل دهر دولة للمغنين يحملون الغناء عنهم، ويطارحون به فتيان زمانهم،
وجواري عصرهم. وكان يكون في كل وقت من الأوقات قوم يتنادمون، ويستحسنون
الغناء، ويميزون رديه من جيده، وصوابه من خطائه، ويجمعون إلى ذلك محاسن كثيرة
في آدابهم وأخلاقهم، وروائهم وهيئاتهم، فلم نجد هذه الطبقة ذكروا. ووجدنا ذكر
الغناء وأهله باقياً.
وخصصنا في أيامنا وزماننا بفتية أشراف، وخلان نظاف، انتظم لهم من آلات الفتوة
وأسباب المروءة ما كان محجوباً عن غيرهم، معدوماً من سواهم، فحملني الكلف
والمودة لهم والسرور بتخليد فخرهم وتشييد ذكرهم والحرص على تقويم أود ذي
الأود منهم حتى يلحق بأهل الكمال في صناعته، والفضل في معرفته، على تمييز
طبقة طبقة منهم، وتسمية أهل كل طبقة بأوصافهم، وآلاتهم وأدواتهم، والمذاهب
التي نسبوا إليها أنفسهم، واحتملهم إخوانهم عليها. وخلطنا جداً بهزل، ومزجنا
تقريعاً بتعريض، ولم نرد بأحد مما سمينا سوءاً، ولا تعمدنا نقداً ولا تجاوزنا
حداً.
ولو استعملنا غير الصدق لفضلنا قوماً وحابينا آخرين. ولم نفعل ذلك؛ تجنباً
للحيف، وقصداً للإنصاف. وقد نعلم أن كثيراً منهم سيبالغ في الذم، ويحتفل في
الشتم، ويذهب في ذلك غير مذهبنا.
وما أيسر ذلك فيما يجب من حقوق الفتيان وتفكيههم، والله حسيب من ظلم، عليه
نتوكل وبه نستعين، وهو رب العرش العظيم.
ولم نقصد في وصف من وصفنا من الطبقات التي صنفنا منهم، إلا لمن أدركنا من أهل
زماننا ممن حصل بمدينة السلام، إذ من خرج عنها ونزع إلى الفتوة بعد التوبة،
وإلى أخلاق الحداثة بعد الحنكة، وذلك في سنة خمس عشرة ومائتين. فرحم الله
أمراً أحسن في ذلك أمرنا، وحذا فيه حذونا، ولم يعجل إلى ذمنا، ودعا بالمغفرة
والرحمة لنا.
وقد تركنا في كل باب من الأبواب التي صنفنا في كتابنا، فرجاً لزيادة إن زادت،
ولاحقة إن لحقت، أو نابتة إن نبتت. ومن عسى أن ينتقل به الحذق من مرتبته إلى
ما هو أعلى منها، أو يعجز به القصور عما هو عليه منها إلى ما هو دونها، إلى
مكانه الذي إليه نقله ارتفاع درجة أو انحطاطها، ومن لعلنا نصير إلى ذكره ممن
عزب عنا ذكره، وأنسينا اسمه، ولم يحط علمنا به، فنصيره في موضعه، ونلحقه
بأصحابنا.
وليس لأحد أن يثبت شيئاً من هذه الأصناف إلا بعلمنا، ولا يستبد بأمر فيه
دوننا. ويورد ذلك علينا فنمتحنه، ونعرفه بما عنده، ويصير إلى ترتيبه في
المرتبة التي يستحقها، والطبقة التي يحتملها.
فلما استتب لنا الفراغ مما أردنا من ذلك خطر ببالنا كثرة العيابين من الجهال
برب العالمين، فلم نأمن أن يسرعوا بسفه رأيهم وخفة أحلامهم إلى نقض كتابنا
وتبديله، وتحريفه عن مواضعه، وإزالته عن أماكنه التي عليها رسمنا، وأن يقول
كل امرىء منهم في ذلك على حاله، وبقدر هواه ورأيه، وموافقته ومخالفته، والميل
في ذلك إلى بعض، والذم لطبقة والحمد لأخرى، فيهجنوا كتابنا، ويلحقوا بنا ما
ليس من شأننا.
وأحببنا أن نأخذ في ذلك بالحزم، وأن نحتاط فيه لأنفسنا ومن ضمه كتابنا،
ونبادر إلى تفريق نسخ منها وتصييرها في أيدي الثقات والمستبصرين، الذين كانوا
في هذا الشأن، ثم ختموا ذلك بالعزلة والتوبة منه، كصالح بن أبي صالح، وكأحمد
بن سلام، وصالح مولى رشيدة.
ففعلنا ذلك وصيرناه أمانة في أعناقهم، ونسخة باقية في أيديهم، ووثقنا بهم
أمناء ومستودعين وحفظة غير مضيعين ولا متهمين. وعلمنا أنهم لا يدعون صيانة ما
استودعوا، وحفظ ما عليه ائتمنوا.
فإن شيب به شوب يخالفه، وأضيف إليه ما لا يلائمه، رجعنا إلى النسخة المنصوبة،
والأصول المخلدة عند ذوي الأمانة والثقة، واقتصرنا عليها، واستعلينا بها على
المبطلين، ودفعنا بها إدغال المدغلين، وتحريف المحرفين، وتزيد المتزيدين، إن
شاء الله.
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
كتاب
في النساء
إنا لما ذكرنا في كتابنا هذا الحب الذي هو أصل الهوى، والهوى الذي يتفرع منه
العشق، والعشق الذي يهيم له الإنسان على وجهه أو يموت كمداً على فراشه. وأول
ذلك إدخال الضيم على مروءته، واستشعار الذلة لمن أطاف بعشيقته.
ولم نطنب مع ذلك في ذكر ما يتشعب من أصل الحب من الرحمة والرقة، وحب الأموال
النفيسة والمراتب الرفيعة، وحب الرعية للأئمة، وحب المصطنع لصاحب الصنيعة، مع
اختلاف مواقع ذلك من النفوس، ومع تفاوت طبقاته في العواقب، احتجنا إلى
الاعتذار من ذكر العشق المعروف بالصبابة، والمخالفة على قوة العزيمة، لنجعل
ذلك القدر جنة دون من حاول الطعن على هذا الكتاب، وسخف الرأي الذي دعا إلى
تأليفه، والإشادة بذكره. إذا كانت الدنيا لا تنفك من حاسد باغ، ومن قائل
متكلف، ومن سامع طاعن، ومن منافس مقصر. كما أنها لا تنفك من ذي سلامة متسلم،
ومن عالم متعلم، ومن عظيم الخطر حسن المحضر، شديد المحاماة على حقوق الأدباء،
قليل التسرع إلى أعراض العلماء.
وإنما العشق اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه حب. وليس كل حب يسمى عشقاً،
وإنما العشق اسم للفاضل عن ذلك المقدار، كما أن السرف اسم لما زاد على
المقدار الذي يسمى جوداً، والبخل اسم لما نقص عن المقدار الذي يسمى اقتصاداً،
والجبن اسم لما قصر عن المقدار الذي يسمى شجاعة.
وهذا القول ظاهر على ألسنة الأدباء، مستعمل في بيان الحكماء. وقد قال عروة بن
الزبير: " والله إني لأعشق الشرف كما تعشق المرأة الحسناء " .
وذكر بعض الناس رجلاً كان مدقعاً محروماً، ومنحوس الحظ ممنوعاً، فقال: " ما
رأيت أحداً عشق الرزق عشقه، ولا أبغضه الرزق بغضه! " فذكر الأول عشق الشرف،
وليس الشرف بامرأة، وذكر الآخر عشق الرزق والرزق اسم جامع لجميع الحاجات.
وقد يستعمل الناس الكناية، وربما وضعوا الكلمة بدل الكلمة، يريدون أن يظهر
المعنى بألين اللفظ، إما تنويهاً وإما تفضيلاً، كما سموا المعزول عن ولايته
مصروفاً، والمنهزم عن عدوه منحازاً. نعم، حتى سمى بعضهم البخيل مقتصداً
ومصلحاً، وسمي عامل الخراج المتعدي بحق السلطان مستقصياً.
ولما رأينا الحب من أكبر أسباب جماع الخير، ورأينا البغض من أكبر أسباب الشر،
أحببنا أن نذكر أبواب السبب الجالب للخير، ليفرق بينه وبين أبواب السبب
الجالب للشر حتى نذكر أصولهما وعللهما الداعية إليهما، والموجبة لكونهما.
فتأملنا شأن الدنيا فوجدنا أكبر نعيمها وأكمل لذاتها، ظفر المحب بحبيبه،
والعاشق بطلبته، ووجدنا شقوة الطالب المكدي وغمه، في وزن سعادة الطالب المنجح
وسروره، ووجدنا العشق كلما كان أرسخ، وصاحبه به أكلف، فإن موقع لذة الظفر منه
أرسخ، وسروره بذلك أبهج.
فإن زعم زاعم أن موقع لذة الظفر بعدوه المرصد أحسن من موقع لذة الظفر من
العاشق الهائم بعشيقته.
قلنا: إنا قد رأينا الكرام والحلماء، وأهل السؤدد والعظماء، ربما جادوا
بفضلهم من لذة شفاء الغيظ، ويعدون ذلك زيادة في نبل النفس، وبعد الهمة
والقدر. ويجودون بالنفيس من الصامت والناطق، وبالثمين من العروض. وربما خرج
من جميع ماله، وآثر طيب الذكر على الغني واليسر. ولم نر نفس العاشق تسخو
بمعشوقه، ويجود بشقيقة نفسه لوالد ولا لولد بار، ولا لذي نعمة سابغة يخاف
سلبها، وصرف إحسانه عنه بسببها.
ولم نر الرجال يهبون للرجال إلا ما لا بال به، في جنب ما يهبون للنساء. حتى
كأن العطر والصبغ، والخضاب والكحل، والنتف والقص، والتحذيف والحلق، وتجويد
الثياب وتنظيفها، والقيام عليها وتعهدها، مما لم يتكلفوه إلا لهن، ولم
يتقدموا فيه إلا من أجلهن، وحتى كأن الحيطان الرفيعة، والأبواب الوثيقة،
والستور الكثيفة، والخصيان والظؤورة، والحشوة والحواضن لم تتخذ إلا للصون
لهن، والاحتفاظ بما يجب من حفظ النعمة فيهن.
فصل منه
وباب آخر: وهو أنا لم نجد أحداً من الناس عشق والديه ولا ولده، ولا من عشق
مراكبه ومنزله، كما رأيناهم يموتون من عشق النساء الحرام. قال الله تعالى: "
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة
والخيل المسومة والأنعام والحرث " .
فقد ذكر تبارك وتعالى جملة أصناف ما خولهم من كرامته، ومن عليهم من نعمته،
ولم نر الناس وجدوا بشيء من هذه الأصناف وجدهم بالنساء. ولقد قدم ذكرهن في
هذه الآية على قدر تقدمهن في قلوبهم.
فإن قال قائل: فقد نجد الرجل الحليم، والشيخ الركين، يسمع الصوت المطرب من
المغني المصيب، فينقله ذلك إلى طبع الصبيان، وإلى أفعال المجانين، فيشق جيبه،
وينقض حبوته، ويفدي غيره، ويرقص كما يرقص الحدث الغرير، والشاب السفيه. ولم
نجد أحداً فعل ذلك عند رؤية معشوقه.
قلنا: أما واحدة فإنه لم يكن ليدع التشاغل بشمها وبرشفها، واحتضانها، وتقبيل
قدميها، والمواضع التي وطئت عليها، ويتشاغل بالرقص المباين لها، والصراخ
الشاغل عنها. فأما حل الحبوة، والشد حضراً عند رؤية الحبيبة فإن هذا مما لا
يحتاج إلى ذكره، لوجوده وكثرة استعمالهم له، فكيف وهو إن خلا بمعشوقه لا يظن
أن لذة الغناء تشغله بمقدار العشر من لذته، بل ربما لم يخطر له ذلك الغناء
على بال.
وعلى أن ذلك الطرب مجتاز غير لابث، وظاعن غير مقيم؛ ولذة المتعاشقين راكدة
أبداً مقيمة غير ظاعنة.
وعلى أن الغناء الحسن من الوجه الحسن والبدن الحسن، أحسن، والغناء الشهي من
الوجه الشهي والبدن الشهي أشهى. وكذلك الصوت الناعم الرخيم من الجارية
الناعمة الرخيمة.
وكم بين أن يفدى إذا شاع فيك الطرب مملوكك، وبين أن يفدى أمتك؟ وكم بين أن
يسمع الغناء من فم تشتهي أن تقبله، وبين فم تشتهي أن تصرف وجهك عنه.
وعلى أن الرجال دخلاء على النساء في الغناء، كما رأينا رجالاً ينوحون، فصاروا
دخلاء على النوائح.
وبعد، فأيما أملح وأحسن، وأشهى وأغنج، أن يغنيك فحل ملتف اللحية، كث
العارضين، أو شيخ منخلع الأسنان، مغضن الوجه، ثم يغنيك إذا هو تغنى بشعر
ورقاء بن زهير:
رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
أم تغنيك جارية كأنها طاقة نرجس، أو كأنها ياسمينة، أو كأنها خرطت من ياقوتة،
أو من فضة مجلوة، بشعر عكاشة بن محصن:
من كف جارية كأن بناتها ... من فضة قد طرفت عنابا
وكأن يمناها إذا نطقت به ... ألقت على يدها الشمال حسابا
فصل منه
فأما الغناء المطرب في الشعر الغزل فإنما ذلك من حقوق النساء. وإنما ينبغي أن
تغني بأشعار الغزل والتشبيب، والعشق، والصبابة بالنساء اللواتي فيهن نطقت تلك
الأشعار، ويهن شبب الرجال، ومن أجلهن تكلفوا القول في النسيب.
وبعد، فكل شيء وطبقه، وشكله ولفقه، حتى تخرج الأمور موزونة معدلة، ومتساوية
مخلصة.
ولو ان رجلاً من أدمث الناس وأشدهم تلخيصاً لكلامهم، ومحاسبة لنفسه، ثم جلس
مع امرأة لا تزن بمنطق، ولا تعرف بحسن حديث، ثم كان يعشقها، لتناتج بينهما من
الأحاديث، ولتلاقح بينهما من المعاني والألفاظ، ما كان لا يجري بين دغفل بن
حنظلة، وبين ابن لسان الحمرة. وإنما هذا على قدر تمكن الغزل في الرجل.
فصل منه
والمرأة أيضاً أرفع حالاً من الرجل في أمور. منها: أنها التي تخطب وتراد،
وتعشق وتطلب، وهي التي تفدى وتحمى. قال عنبسة بن سعيد للحجاج بن يوسف: أيفدي
الأمير أهله؟ قال: والله إن تعدونني إلا شيطاناً، والله لربما رأيتني أقبل
رجل إحداهن!
فصل منه
وإنما يملك المولى من عبده بدنه، فأما قلبه فليس له عليه سلطان.
والسلطان نفسه وإن ملك رقاب الأمة، فالناس يختلفون في جهة الطاعة، فمنهم من
يطيع بالرغبة، ومنهم من يطيع بالرهبة، ومنهم من يطيع بالمحبة، ومنهم من يطيع
بالديانة.
وهذه الأصناف، وإن كان أفضلها طاعة الديانة فإن تلك المحبة ما لم يمازجها
هوىً لم تقو على صاحبها قوة العشق. وفي الأثر المستفيض والمثل السائر: " إن
الهوى يعمي ويصم " ؛ فالعشق يقتل.
فصل منه
ومما يستدل به على تعظيم شأن النساء أن الرجل يستحلف بالله الذي لا شيء أعظم
منه، وبالمشي إلى بيت الله، وبصدقة ماله، وعتق رقيقه. فيسهل ذلك عليه، ولا
يأنف منه. فإن استحلف بطلاق امرأته تربد وجهه، وطار الغضب في دماغه، ويمتنع
ويعصي، ويغضب ويأبى، وإن كان المحلف سلطاناً مهيباً، ولو لم يكن يحبها، ولا
يستكثر منها، وكانت نفسها قبيحة المنظر، دقيقة الحسب، خفيفة الصداق، قليلة
النسب.
ليس ذلك إلا لما قد عظم الله من شأن الزوجات في صدور الأزواج.
فصل منه في ذكر الولد
وباب آخر: وهو أنا لو خيرنا رجلاً بين الفقر أيام حياته، وبين أن يكون ممتعاً
بالباه أيام حياته، لاختار الفقر الدائم مع التمتع الدائم.
وليس شيء مما يحدث الله لعباده من أصناف نعمه وضروب فوائده، أبقى ذكراً، ولا
أجل خطراً من أن يكون للرجل ابن يكون ولي بناته، وساتر عورة حرمه، وقاضي
دينه، ومحيي ذكره، مخلصاً في الدعاء له بعد موته، وقائماً بعده في كل ما خلفه
مقام نفسه.
فمن أقل أسفاً على ما فارق، ممن خلف كافياً مجرباً، وحائطاً من وراء المال
موفراً، ومن وراء الحرم حامياً، ولسلفه في الناس محبباً. وقال رجل لعبد الملك
بن مروان، وقد ذكر ولد له: " أراك الله في بنيك ما أرى أباك فيك، وأرى بنيك
فيك ما أراك في أبيك! " .
ونظر شيخ وهو عند المهلب إلى بنيه قد أقبلوا فقال: " آنس الله بكم لاحقكم،
فوالله إن لم تكونوا أسباط نبوة إنكم أسباط ملحمة " .
وليست النعمة في الولد المحيي، والخلف الكافي، بصغيرة.
فصل منه
وباب آخر: وهو أن الله تعالى خلق من المرأة ولداً من غير ذكر، ولم يخلق من
الرجل ولداً من غير أنثى. فخص بالآية العجيبة والبرهان المنير المرأة دون
الرجل، كما خلق المسيح في بطن مريم من غير ذكر.
فصل منه في ذكر القرابات
وأما أنا فإني أقول: إن تباغض الأقرباء عارض دخيل، وتحابهم واطد أصيل،
والسلامة من ذلك أعم، والتناصر أظهر، والتصادق في المودة أكثر. فلذلك القبيلة
تنزل معاً وترحل معاً، وتحارب من ناوأها معاً، إلا الشاذ النادر، كخروج غني
وباهلة من غطفان، وكنزول عبس في بني عامر، وما أشبه ذلك. وإلا فإن القرابة يد
واحدة على من ناوأهم، وسيف واحد على من عاداهم، وما صلاح شأن العشائر إلا
بتقارب سادتهم في القدر، وإن تفاوتوا في الرياسة والفضل، كما قال في الأثر
المستفيض: " لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تقاربوا هلكوا " .
وحال العامة في ذلك كحال الخاصة.
فصل منه
وقضية واجبة: أن الناس لا يصلحهم إلا رئيس واحد، يجمع شملهم، ويكفيهم ويحميهم
من عدوهم، ويمنع قويهم من ضعيفهم.
وقليل له نظام، أقوى من كثير نشر لا نظام لهم، ولا رئيس عليهم. إذ قد علم
الله أن صلاح عامة البهائم في أن يجعل لكل جنس منها فحلاً يوردها الماء
ويصدرها، وتتبعه إلى الكلأ، كالعير في العانة، والفحل من الإبل في الهجمة،
وكذلك النحل العسالة، والكراكي، وما يحمي الفرس الحصان الحجور في المروج،
فجعل منها رءوساً متبوعة، وأذناباً تابعة.
ولو لم يقم الله للناس الوزعة من السلطان، والحماة من الملوك وأهل الحياطة
عليهم من الأئمة لعادوا نشراً لا نظام لهم، ومستكلبين لا زاجر لهم، ولكان من
عز بز، ومن قدر قهر، ولما زال اليسر راكداً، والهرج ظاهراً، حتى يكون التغابن
والبوار، وحتى تنطمس منهم الآثار؛ ولكانت الأنعام طعاماً للسباع، وكانت عاجزة
عن حماية أنفسها، جاهلة بكثير من مصالح شأنها.
فوصل الله تعالى عجزها بقوة من أحوجه إلى الاستمتاع بها، ووصل جهلها بمعرفة
من عرف كيف وجه الحيلة في صونها والدفاع عنها.
وكذلك فرض على الأئمة أن يحوطوا الدهماء بالحراسة لها، والذياد عنها، وبرد
قويها عن ضعيفها، وجاهلها عن عالمها، وظالمها عن مظلومها، وسفيهها عن حليمها.
فلولا السائس ضاع المسوس، ولولا قوة الراعي لهلكت الرعية.
فصل منه
وانفراد السيد بالسيادة كانفراد الإمام بالإمامة. وبالسلامة من تنازع الرؤساء
تجتمع الكلمة، وتكون الألفة، ويصلح شأن الجماعة. وإذا كانت الجماعة انتهت
الأعداء، وانقطعت الأهواء.
فصل منه
ولسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل: إن النساء فوق الرجال، أو دونهم بطبقة أو
طبقتين، أو بأكثر، ولكنارأينا ناساً يزرون عليهن أشد الزراية، ويحتقرونهن أشد
الاحتقار، ويبخسونهن أكثر حقوقهن.
وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن
ينكر حقوق الأمهات والأخوال، فلذلك ذكرنا جملة ما للنساء من المحاسن.
ولولا أن ناساً يفخرون بالجلد وقوة المنة، وانصراف النفس عن حب النساء، حتى
جعلوا شدة حب الرجل لأمته، وزوجته وولده، دليلاً على الضعف، وباباً من الخور،
لما تكلفنا كثيراً مما شرطناه في هذا الكتاب.
فصل منه
كما نحب أن يخرج هذا الكتاب تاماً، ويكون للأشكال الداخلة فيه جامعاً، وهو
القول فيما للذكور والإناث في عامة أصناف الحيوان، وما أمكن من ذلك، حتى يحصل
ما لكل جنس منها من الخصال المحمودة والمذمومة. ثم يجمع بين المحاسن منها
والمساوىْ، حتى يستبين لقارىء الكتاب نقصان المفضول من رجحان الفاضل، بما جاء
في ذلك من الكتاب الناطق، والخبر الصادق، والشاهد العدل، والمثل السائر. حتى
يكون الكتاب عربياً أعرابياً، وسنياً جماعياً، وحتى يجتنب فيه العويص والطرق
المتوعرة، والألفاظ المستنكرة، وتلزيق المتكلفين، وتلفيق أصحاب الهواء من
المتكلمين، حتى نظرنا لمن لا يعلم مقادير ما استخزنها الله من المنافع،
وغشاها من البرهانات، وألزمها من الدلالة عليه، وأنطقها به من الحجة له.
فمنع من ذلك فرط الكبرة، وإفراط العلة، وضعف المنة، وانحلال القوة.
فلما وافق هذا الكتاب منا هذه الحال، وألفى قلوبنا على هذه الأشغال، اجتنبنا
أن نقصد من جميع ذلك إلى فرق ما بين الرجل والمرأة.
فلما اعتزمنا على ما ابتدأنا به وجدناه قد اشتمل على أبواب يكثر عددها، وتبعد
غايتها، فرأينا، والله الموفق، أن نقتصر منه على ما لا يبلغ بالمستمع إلى
السآمة، وبالمألوف إلى مجاوزة القدر.
وليس ينبغي لكتب الآداب والرياضيات أن يحمل أصحابها على الجد الصرف، وعلى
العقل المحض، وعلى الحق المر، وعلى المعاني الصعبة، التي تستكد النفوس،
وتستفرغ المجهود.
وللصبر غاية، وللاحتمال نهاية.
ولا بأس بأن يكون الكتاب موشحاً ببعض الهزل. وعلى أن الكتاب إذا كثر هزله
سخف، كما أنه إذا كثر جده ثقل.
ولا بد للكتاب من أن يكون فيه بعض ما ينشط القارىء، وينفي النعاس عن المستمع.
فمن وجد في كتابنا هذا بعض ما ذكرنا، فليعلم أن قصدنا في ذلك إنما كان على
جهة الاستدعاء لقلبه، والاستمالة لسمعه وبصره. والله تعالى نسأل التوفيق.
فصل منه في ذكر العشق
ورجلان من الناس لا يعشقان عشق الأعراب: أحدهما الفقير المدقع، فإن قلبه يشغل
عن التوغل فيه وبلوغ أقصاه.
والملك الضخم الشأن، لأن في الرياسة الكبرى، وفي جواز الأمر ونفاذ النهي، وفي
ملك رقاب الأمم، ما يشغل شطر قوى العقل عن التوغل في الحب، والاحتراق في
العشق.
فصل منه
كثيراً ما يعتري العشاق والمحبين غير المحترقين، كالرجل تكون له جارية وقد
حلت من قلبه محلاً، وتمكنت منه تمكناً، ولا يجتث أصل ذلك الحب الغضبة تعرض،
وكثرة التأذي بالخلاف يكون منها، فيجد الفترة عنها في بعض هذه الحالات التي
تعرض، فيظن أنه قد سلا، أو يظن أنه في عزائه عنها على فقدها محتملاً، فيبيعها
إن كانت أمة، أو يطلقها إن كانت زوجة، فلا ينشب ذلك الغضب أن يزول، وذلك
الأذى أن ينسى، فتتحرك له الدفائن، و يثمر ذلك الغرس، فيتبعها قلبه، فإما أن
يسترجع الأمة من مبتاعها، بأضعاف ثمنها، أو يسترجع الزوجة بعد أن نكحت. فإن
تصبر وأمكنه الصبر لم يزل معذباً، وإن أطاع هواه واحتمل المكروه فهذا هو
العقابيل والنكس.
فليحذر الحازم الفترة في حب حبيبه، والغضبة التي تنسيه عواقب أمره.
فصل منه
قال ابراهيم بن السندي: حدثني عبد الملك بن صالح قال: بينا عيسى بن موسى قد
خلا بنفسه، وهو قد كان استكثر من النساء حتى انقطع، إذ مرت به جارية كأنها
جان، وكأنها جدل عنان، وكأنها جمارة، وكأنها قضيب فضة، فتحركت نفسه، وخاف أن
تخذله قوته، ثم طمع في القوة لطول الترك، واجتماع الماء، فلما صرعها، وجلس
منها ذلك المجلس خطر على باله لو عجز كيف يكون حاله؟ فلما فكر فتر، فأقبل
كالمخاطب لنفسه فقال: إنك لتجلسيني هذا المجلس، وتحمليني على هذا المركب، ثم
تخذليني هذا الخذلان وتغشيني مثل هذا الذل، ولولا حيرة الخجل لم أستعمل ما لا
يقتل! وذلك أنه حين رأى أن أبلغ الحيل في توهيمها أن العجز لم يكن من قبله أن
يقول لها: تعرضين لي وأنت تفلة، ثم لا ترخين باديك، ولا تستهدفين لسيدك، ولا
تعينين على نفسك، حتى كأنك عند عبد يشبهك، أو سوقة لا يقدر إلا على مثلك. أما
لو كنت من بنات ملوك العجم لألفاك سيدك على أجود صنعة، وعلى أحسن طاعة، إذ كل
رجل ينبسط للتمتع مع التفل.
فصل منه
ولم أسمع ولم أقرأ في الأحاديث المولدة، في شأن العشاق، وما صنع العشق في
القلوب والأكباد والأحشاء، والزفرات والحنين، وفي التدليه والتوليه، متى
تستعر الدمعة، ومتى يورث العين الجمود.
فصل منه
ونحن وإن رأينا أن فضل الرجل على المرأة، في جملة القول في الرجال والنساء،
أكثر وأظهر، فليس ينبغي لنا أن نقصر في حقوق المرأة. وليس ينبغي لمن عظم حقوق
الآباء أن يصغر حقوق الأمهات، وكذلك الإخوة والأخوات، والبنون والبنات. وأنا
وإن كنت أرى أن حق هذا أعظم فإن هذه أرحم.
فصل من احتجاجه للإماء
قال بعض من احتج للعلة التي من أجلها صار أكثر الإماء أحظى عند الرجال من
أكثر المهيرات: أن الرجل قبل أن يملك الأمة قد تأمل منها كل شيء وعرفه، ما
خلا حظوة الخلوة، فأقدم على ابتياعها بعد وقوعها بالموافقة. والحرة إنما
يستشار في جمالها النساء، والنساء لا يبصرن من جمال النساء وحاجات الرجال
وموافقتهن قليلاً ولا كثيراً. والرجال بالنساء أبصر. وإنما تعرف المرأة من
المرأة ظاهر الصفة، وأما الخصائص التي تقع بموافقة الرجال فإنها لا تعرف ذلك.
وقد تحسن المرأة أن تقول: كأن أنفها السيف، وكأن عينها عين غزال، وكأن عنقها
إبريق فضة، وكأن ساقها جمارة، وكأن شعرها العناقيد، وكأن أطرافها المداري،
وما أشبه ذلك.
وهناك أسباب أخر بها يكون الحب والبغض.
فصل منه
وقد علم الشاعر وعرف الواصف، أن الجارية الفائقة الحسن أحسن من الظبية، وأحسن
من البقرة، وأحسن من كل شيء تشبه به، ولكنهم إذا أرادوا القول شبهوها بأحسن
ما يجدون.
ويقول بعضهم: كأنها الشمس، وكأنها القمر! والشمس وإن كانت بهية فإنما هي شيء
واحد، وفي وجه الجارية الحسناء وخلقها ضروب من الحسن الغريب والتركيب العجيب.
ومن يشك أن عين المرأة الحسناء أحسن من عين البقرة، وأن جيدها أحسن من جيد
الظبية، والأمر فيما بينهما متفاوت، ولكنهم لو لم يفعلوا هذا وشبهه لم تظهر
بلاغتهم وفطنتهم.
فصل منه
ورأيت أكثر الناس من البصراء بجواهر النساء، الذين هم جهابذة هذا الأمر،
يقدمون المجدولة، والمجدولة من النساء تكون في منزلة بين السمينة والممشوقة.
ولا بد من جودة القد، وحسن الخرط، واعتدال المنكبين، واستواء الظهر، ولا بد
أن تكون كاسية العظام، بين الممتلئة والقضيفة.
وإنما يريدون بقولهم: مجدولة، جودة العصب، وقلة الاسترخاء، وأن تكون سليمة من
الزوائد والفضول.
وكذلك قالوا: خمصانة وسيفانة، وكأنها جان، وكأنها جدل عنان، وكأنها قضيب
خيزران.
والتثني في مشيها أحسن ما فيها، ولا يمكن ذلك الضخمة والسمينة، وذات الفضول
والزوائد.
على أن النحافة في المجدولة أعم، وهي بهذا المعنى أعرف، تحبب على السمان
الضخام، وعلى الممشوقات والقضاف، كما يحبب هذه الأصناف على المجدولات.
ووصفوا المجدولة بالكلام المنثور فقالوا: " أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب " .
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب كتبته أيام المعتصم بالله
رضي الله عنه ونضر وجهه
فلم يصل إليه لأسباب يطول ذكرها، فلذلك لم أعرض للإخبار عنها، وأحببت أن يكون
كتاباً قصداً، ومذهباً عدلاً، ولا يكون كتاب إسراف في مديح قوم، وإغراق في
هجاء آخرين؛ فإن الكتاب إذا كان كذلك شابه الكذب وخالطه التزيد، وبني أساسه
على التكلف، وخرج كلامه مخرج الاستكراه والتغليق.
وأنفع المدائح للمادح، وأجداها على الممدوح، وأبقاها أثراً وأحسنها ذكراً، أن
يكون المديح صدقاً، ولظاهر حال الممدوح موافقاً، وبه لائقاً، حتى لا يكون من
المعبر عنه والواصف له إلا الإشارة إليه، والتنبيه عليه.
وأنا أقول: إن كان لا يمكن ذكر مناقب الأتراك إلا بذكر مثالب سائر الأجناد،
فترك ذكر الجميع أصوب، والإضراب عن هذا الكتاب أحزم.
وذكر الكثير من هذه الأصناف بالجميل لا يقوم إلا بالقليل من ذكر بعضهم
بالقبيح، وهو معصية وباب من ترك الواجب. وقليل الفريضة أجدى علينا، لأن ذكر
الأكثر بالجميل نافلة، وباب من التطوع؛ وذكر الأقل بالقبيح معصية، وباب من
ترك الواجب. وقليل الفريضة أجدى علينا من كثير التطوع.
ولكل الناس نصيب من النقص، ومقدار من الذنوب، وإنما يتفاضل بكثرة المحاسن
وقلة المساوىء. فأما الاشتمال على جميع المحاسن، والسلامة من جميع المساوىء،
دقيقها وجليلها، ظاهرها وخفيها، فهذا لا يعرف فيهم.
فإذا كان الخلطاء من جمهور الناس وأهل المعايش من دهماء الجماعة يرون ذلك
واجباً في الأخلاق، ومصلحة في المعاش، وتدبيراً في التعامل، على ما فيهم من
مشاركة الخطأ للصواب، وامتزاج الضعف بالقوة، فلسنا نشك أن الإمام الأكبر،
والرئيس الأعظم مع الأعراق الكريمة، والأخلاق الرفيعة، والتمام في الحلم
والعلم، والكمال في العزم والحزم، مع التمكين والقدرة، والفضيلة والرياسة
والسيادة، والخصائص التي معه من التوفيق والعصمة، والتأييد وحسن المعونة لم
يكن الله ليجلله لباس الخلافة، ويحبوه ببهاء الأمة، وبأعظم نعمة وأسبغها،
وأفضل كرامة وأسناها، ثم وصل طاعته بطاعته، ومعصيته بمعصيته، إلا ومعه من
الحلم في موضع الحلم، والعفو في موضع العفو، والتغافل في موضع التغافل، ما لا
يبلغه فضل ذي فضل، ولا حلم ذي حلم.
ونحن قائلون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فيما انتهى إلينا من
القول في الأتراك.
زعم محمد بن الجهم وثمامة بن الأشرس والقاسم بن سيار في جماعة ممن يغشى دار
الخلافة، وهي دار العامة، قالوا جميعاً: بينا حميد بن عبد الحميد جالساً ومعه
إخشيد الصغدي، وأبو شجاع شبيب بن بخار خداي البلخي، ويحيى بن معاذ، ورجال من
المعدودين المتقدمين في العلم بالحرب، من أصحاب التجارب والمراس، وطول
المعالجة والمعاناة بصناعة الحرب، إذ خرج رسول المأمون فقال لهم: يقول لكم
مفترقين ومجتمعين: فليثبت كل رجل منكم دعواه وحجته، يقول لكم: أيما أحب إلى
كل قائد منكم، إذا كان في مائة من نخبته وثقاته: أن يلقى بهم مائة تركي أو
مائة خارجي؟ فقال القوم جميعاً: لأن نلقى مائة تركي أحب إلينا من أن نلقى
مائة خارجي! وحميد ساكت، فلما فرغ القوم جميعاً من حججهم قال الرسول لحميد:
قد قال القوم فقل واكتب قولك، وليكن حجة لك أو عليك. قال: بل ألقى مائة خارجي
أحب إلي؛ لأني وجدت الخصال التي فضل بها التركي جميع المقاتلة غير تامة في
الخارجي، ووجدتها تامة في التركي. ففضل التركي على الخارجي بقدر فضل الخارجي
على سائر المقاتلة. وذلك بأن التركي بان من الخارجي بأمور ليس فيها للخارجي
دعوى ولا متعلق. على أن هذه الأمور التي بان بها التركي من الخارجي أعظم
خطراً وأقل نفعاً مما شاركه الخارجي في بعضه.
ثم قال حميد: والخصال التي يصول بها الخارجي على سائر الناس: صدق الشدة عند
أول وهلة، وهي الدفعة التي يبلغون بها ما أرادوا، وينالون بها ما أملوا.
والثانية: الصبر على الخبب، وعلى طول السرى حتى يصبحوا القوم الذين مرقوا بهم
غارين، فيهجموا عليهم وهم بسوء ولحم على وضم، فيعجلوا بهم عن الروية؛ وعن رد
النفس بعد الجولة والنزوة، لا يظنون أن أحداً يقطع في ذلك المقدار من الزمان
ذلك المقدار من البلاد.
والثالثة: أن الخارجي موصوف عند الناس بأنه إن طلب أدرك، وإن طلب فات.
والرابعة: خفة الأزواد، وقلة الأمتعة، وأنها تجنب الخيل، وتركب البغال، وإن
احتاجت أمست بأرض وأصبحت بأخرى، وأنهم قوم حين خرجوا لم يخلفوا الأموال
الكثيرة، والجنان الملتفة، والدور المشيدة، ولا ضياعاً ولا مستغلات، ولا
جواري مطهمات، وأنهم لا سلب لهم، ولا مال معهم، فيرغب الجند في لقائهم، وإنما
هم كالطير لا تدخر، ولا تهتم لغد، ولها في كل أرض من المياه والبزور ما
يقوتها. وإن لم تجد ذلك في بعض البلاد فأجنحتها تقرب لها البعيد، وتسهل لها
الحزون. وكذلك الخوارج لا يمتنع عليهم القرى والطعم، فإن يمتنع عليهم ففي
بنات أعوج وبنات شحاج، وخفة الأثقال، والقوة على طول الخبب ما يأتيها
بأرزاقها، وأكثر من أرزاقها.
والخامسة:أن الملوك إذا أرسلوا إليهم أعدادهم ليكونوا في خفة أزوادهم
وأثقالهم، وليقووا على التنقل كقوتهم، لم يقووا عليهم، لأن مائة من الجند لا
يقومون لمائة من الخوارج. وإن كثفوا الجيش وضاعفوا العدد ثقلوا عن طلبهم، وعن
الغوث إن طلبهم عدوهم. ومتى شاء الخارجي أن يقرب منهم ليتطرفهم، أو ليصيب
الغرة أو ليثبتهم، فعل ذلك، ثقة بأنه يغنم عند الفرصة ورؤية العورة، ويمكنه
الهرب عند الخوف، وإن شاء كبسهم ليقطع نظامهم، أو ليقتطع القطعة منهم.
قال حميد: فهذه هي مفاخرهم وخصالهم، التي بها كره القواد لقاءهم.
قال القاسم بن سيار: وخصلة أخرى، وهي التي رعبت القلوب وحشتها، ونقضت العزائم
وفسختها، وهو ما تسمع الأجناد ومقاتلة العوام من ضرب المثل بالخوارج، كقول
الشاعر:
إذا ما البخيل والمحاذر للقرى ... رأى الضيف مثل الأزرقي المجفف
هذه زيادة القاسم بن سيار.
فأما حميد فإنه قال:
فأما الشدة فالتركي فيها أحمد أثرا، وأجمع أمراً، وأحكم شأنا؛ لأن التركي من
أجل أن تصدق شدته ويتمكن عزمه، ولا يكون مشترك العزم، ومنقسم الخواطر، قد عود
برذونه أن لا ينثني وإن ثناه، أن يملأ فروجه، إلا أن يديره مرة أو مرتين،
وإلا فإنه لا يدع سننه، ولا يقطع ركضه، وإنما أراد التركي أن يوئس نفسه من
البدوات، ومن أن يعتريه التكذيب بعد الاعتزام، لهول اللقاء، وحب الحياة، لأنه
إذا علم أنه قد صير برذونه إلى هذه الغاية حتى لا ينثني، ولا يجيبه إلى
التصرف معه إلا بأن يصنع شيئاً بين الصفين فيه عطبه، لم يقدم على الشدة إلا
بعد إحكام الأمر، والبصر بالعورة. وإنما يريد أن يشبه نفسه بالمحرج الذي إذا
رأى أشد القتال لم يدع جهداً ولم يدخر حيلة، ولينفي عن قلبه خواطر الفرار،
ودواعي الرجوع.
وقال: الخارجي عند الشدة إنما يعتمد على الطعان. والأتراك تطعن طعن الخوارج،
وإن شد منهم ألف فارس فرموا رشقاً واحداً صرعوا ألف فارس، فما بقاء جيش على
هذا النوع من الشد؟ ! والخوارج والأعراب، ليست لهم رماية مذكورة على ظهور
الخيل، والتركي يرمي الوحش، والطير، والبرجاس، والناس، والمجثمة، والمثل
الموضوعة، والطير الخاطف، ويرمي وقد ملأ فروج دابته مدبراً ومقبلاً، ويمنة
ويسرة، وصعدا وسفلا، ويرمي بعشرة أسهم قبل أن يفوق الخارجي سهماً واحداً.
ويركض دابته منحدراً من سهل، أو متسفلا إلى بطن واد بأكثر مما يمكن الخارجي
على بسيط الأرض.
والتركي له أربعة أعين: عينان في وجهه، وعينان في قفاه.
وللخارجي عيب في مستدبر الحرب، وللخراساني عيب في مستقبل الحرب.
فعيب الخراسانية أن لها جولة عند أول الالتقاء، فإن ركبوا أكساءهم كانت
هزيمتهم، وكثيراً ما يثوبون، وذلك بعد الخطار بالعسكر، وإطماع العدو في
الشدة.
والخوارج إذا ولوا فقد ولوا، وليس لهم بعد الفر كر إلا ما لا يعد.
والتركي ليست له جولة الخراساني، وإذا أدبر فهو السم الناقع، والحتف القاضي،
لأنه يصيب بسهمه وهو مدبر، كما يصيب بسهمه وهو مقبل، ولا يؤمن وهقه.
قال: وهم علموا الفرسان حمل قوسين وثلاث قسي، ومن الأوتار على حسب ذلك.
والتركي في حال شدته معه كل شيء يحتاج إليه، لنفسه، ولسلاحه، ولدابته، وأداة
دابته. فأما الصبر على الخبب ومواصلة السير، وعلى طول السرى وقطع البلاد
فعجيب جداً.
فواحدة: أن فرس الخارجي لا يصبر صبر برذون التركي.
والخارجي لا يحسن أن يعالج فرسه إلا معالجة الفرسان لخيولهم، والتركي أحذق من
البيطار، وأجود تقويماً لبرذونه على ما يريد من الراضة، وهو استنتجه، وهو
رباه فلواً، ويتبعه إن سماه، وإن ركض ركض خلفه، قد عوده ذلك حتى عرفه، كما
يعرف الفرس: اجدم، والناقة: حلى، والجمل: جاه، والبغل: عدس، والحمار: سأسأ؛
وكما يعرف المجنون لقبه، والصبي اسمه.
ولو حصلت مدة عمر التركي وحسبت أيامه لوجدت جلوسه على ظهر الأرض نادراً.
والتركي يركب فحلاً أو رمكة، ويخرج غازياً أو مسافراً، أو متباعداً في طلب
صيد، أو سبب من الأسباب، فتتبعه الرمكة وأفلاكها؛ إن أعياه اصطياد الناس
اصطاد الوحش، وإن أخفق منها واحتاج إلى طعام فصد دابة من دوابه، وإن عطش حلب
رمكة من رماكه، وإن أراح واحدة ركب أخرى، من غير أن ينزل إلى الأرض.
وليس في الأرض أحد إلا وبدنه ينتقض عن اقتيات اللحم وحده غيره، وكذلك دابته
تكتفي بالعنقر والعشب والشجر، لا يظلها من شمس، ولا يكنها من برد.
قال: وأما الصبر على الخبب فإن الثغريين، والفرانقيين، والخصيان، والخوارج،
لو اجتمعت قواهم في شخص واحد لما وفوا بتركي واحد. والتركي لا يبقى معه مع
طول الغاية إلا الصميم من دوابه، والذي يقتله التركي بإتعابه له. وينفيه عند
غزاته هو الذي لا يصبر معه فرس الخارجي، ولايبقى معه كل برذون بخاري، ولو
ساير خارجياً لاستفرغ جهده قبل أن يبلغ الخارجي عفوه.
والتركي هو الراعي، وهو السائس، وهو الرائض، وهو النخاس، وهو البيطار، وهو
الفارس. فالتركي الواحد أمة على حدة.
قال: وإذا سار التركي في غير عساكر الترك فسار القوم عشرة أميال سار التركي
عشرين ميلاً، لأنه ينقطع عن العسكر يمنة ويسرة، ويصعد في ذرى الجبال، ويستبطن
قعور الأودية، في طلب الصيد، وهو في ذلك يرمي كل ما دب ودرج، وطار ووقع.
قال: والتركي لم يسر في العسكر سير الناس قط، ولا سار مستقيماً قط.
قال: وإذا طالت الدلجة، واشتد السير، وبعد المنزل، وانتصف النهار، واشتد
التعب، وشغل الناس الكلال، وصمت المتسايرون فلم ينطقوا، وقطعهم ما هم فيه عن
التشاغل بالحديث، وتفسخ كل شيء من شدة الحر، وجمد كل شيء من شدة البرد، وتمنى
كل جليد القوى على طول السرى أن تطوى له الأرض، وكلما رأى خيالاً أو علماً
استبشر به، وظن أنه قد بلغ المنزل، وإذا بلغه الفارس نزل وهو متفحج، كأنه صبي
محقون، يئن أنين المريض، ويستريح إلى التثاؤب، ويتداوى مما به بالتمطي
والتضجع. وترى التركي في تلك الحال، وقد سار ضعف ما ساروا، وقد أتعب منكبيه
كثرة النزع، يرى بقرب المنزل عيراً أو ظبياً، أو عرض له ثعلب أو أرنب، كيف
يركض ركض مبتدىء مستأنف، حتى كأن الذي سار ذلك السير، وتعب ذلك التعب غيره.
وإن بلغ الناس وادياً فازدحموا على مسلكه أو على قنطرته، بطن برذونه فأقحمه
ثم طلع من الجانب الآخر كأنه كوكب. وإن انتهوا إلى عقبة صعبة ترك السنن، وذهب
في الجبل صعدا، ثم تدلى من موضع يعجز عنه الوعل، وأنت تحسبه مخاطراً بنفسه،
للذي ترى من مطلعه. ولو كان في كل ذلك مخاطراً لما دامت له السلامة، مع تتابع
ذلك منه.
قال: ويفخر الخارجي بأنه إذا طلب أدرك، وإذا طلب فات.
والتركي ليس يحوج إلى أن يفوت، لأنه لا يطلب ولا يرام. ومن يروم ما لا يطمع
فيه؟ ! فهذا دليل على أنا قد علمنا أن العلة التي عمت بالخوارج بالنجدة
استواء حالاتهم في أشد الديانة، واعتقادهم بأن القتال دين؛ لأننا حين وجدنا
السجستاني، والجزري، واليماني، والمغربي، والعماني، والأزرقي منهم والنجدي،
والإباضي، والصفري، والمولى والعربي، والعجمي والأعرابي، والعبيد والنساء،
والحائك والفلاح، كلهم يقاتل مع اختلاف الأنساب، وتباين البلدان علمنا أن
الديانة هي التي سوت بينهم في ذلك، كما أن كل حجام في الأرض من أي جنس كان،
ومن أهل أي بلد كان، فهو يحب النبيذ. وكما أن أصحاب الخلقان، والسماكين،
والنخاسين والحاكة، في كل بلد ومن كل جنس، شرار خلق الله في المبايعة
والمعاملة. فعلمنا بذلك أن ذلك خلقة في هذه الصناعات، وبنية في هذه التجارات،
حتى صاروا من بين جميع الناس كذلك.
قال: ورأيناه في بلاده ليس يقاتل على دين، ولا على تأويل، ولا على ملك ولا
على خراج، ولا على عصبية، ولا على غيرة دون الحرمة، ولا على حمية ولا على
عداوة، ولا على وطن ولا على منع دار ولا مال، وإنما يقاتل على السلب والخيار
في يده. وليس يخاف الوعيد إن هرب، ولا يرجو الوعد إن أبلى عذراً. وكذلك هم في
بلادهم وغاراتهم وحروبهم.
وهو الطالب غير المطلوب، ومن كان كذلك فإنما يأخذ العفو من قوته، ولا يحتاج
إلى مجهوده، ثم مع ذلك لا يقوم له شيء، ولا يطمع فيه أحد، فما ظنك بمن هذه
صفته، أن لو اضطره إحراج أو غيرة، أو غضب أو تدين، أو عرض له بعض ما يصحب
المقاتل المحامي من العلل والأسباب.
قال: وقناة الخارجي طويلة صماء، وقناة التركي مطرد أجوف.
والقنا الجوف القصار أشد طعنة، وأخف محملا. والعجم تجعل القنا الطوال
للرجالة، وهي قنا الأبناء على أبواب الخنادق والمضايق.
والأبناء في هذا الباب لا يجرون مع الأتراك والخراسانية، لأن الغالب على
الأبناء المطاعنة على أبواب الخنادق، وفي المضايق، وهؤلاء أصحاب الخيل
والفرسان، وعلى أصحاب الخيل والفرسان يدور أمر الفروسية. لهم الفر والكر.
والفارس هو الذي يطوي الجيش طي السجل، ويفرقهم فرق الشعر. وليس يكون الكمين
ولا الطليعة ولا الساقة إلا الكبار منهم. وهم أصحاب الأيام المذكورة، والحروب
الكبار، والفتوح العظام.
فصل منها
والشح على الوطن، والحنين إليه، والصبابة به، مذكور في القرآن، مخطوط في
الصحف بين جميع الناس، غير أن التركي للعلل التي ذكرناها أشد حنيناً، وأكثر
نزوعاً.
وباب آخر مما كان يدعوهم إلى الرجوع قبل ثني العزم والعادة المنقوضة: وذلك أن
الترك قوم يشتد عليهم الحصر والجثوم، وطول البث والمكث، وقلة التصرف والتحرك.
وأصل بنيتهم إنما وضع على الحركة، وليس للسكون فيهم نصيب، وفي قوى أرواحهم
فضل على قوى أبدانهم، لأنهم أصحاب توقد وحرارة، واشتعال وفطنة، كثيرة
خواطرهم، سريع لحظهم. وكانوا يرون الكفاية معجزة، وطول المقام بلدة، والراحة
عقلة والقناعة من قصر الهمة، وأن ترك الغزو يورث الذلة.
وقد قالت العرب في مثل ذلك: قال عبد الله بن وهب الراسبي: " حب الهوينى يكسب
النصب " .
والعرب تقول: " من غلا دماغه في الصيف غلت قدره في الشتاء " .
وقال أكثم بن صيفي: " ما أحب أني مكفي كل أمر الدنيا " ، قيل: ولم؟ قال: "
أخاف عادة العجز " .
فهذه كانت علل الترك في حب الرجوع، والحنين إلى الوطن.
ومن أعظم ما كان يدعوهم إلى الشرود، ويبعثهم على الرجوع، ويكره عندهم المقام،
ما كانوا فيه من جهل قوادهم بأقدارهم، وقلة معرفتهم بأخطارهم، وإغفالهم موضع
الرد عليهم، والانتفاع بهم، ولأنهم حين جعلوهم أسوة أجنادهم لم يقنعوا أن
يكونوا في الحاشية والحشوة، وفي غمار العامة، ومن عرض العساكر، وأنفوا من ذلك
لأنفسهم، وذكروا ما يجب لهم، ورأوا أن الضيم لا يليق بهم، وأن الخمول لا يجوز
عليهم، وأنهم في المقام على من لم يعرف حقهم ألوم ممن منعهم حقهم. فلما
صادفوا ملكاً حكيماً، وبأقدار الناس عليماً، لا يميل إلى سوء عادة، ولا يجنح
إلى هوىً، ولا يتعصب لبلد على بلد، يدور مع التدبير حيثما دار، ويقيم مع
الحزم حيثما أقام أقاموا إقامة من منح الحظ، ودان بالحق، ونبذ العادة، وآثر
الحقيقة، ورحل نفسه لقطيعة وطنه، وآثر الإمامة على ملك الجبرية، واختار
الصواب على الإلف.
ثم اعلم بعد ذلك كله أن كل أمة وقرن وجيل وبني أب وجدتهم قد برعوا في
الصناعات، وفضلوا الناس في البيان، أو فاقوهم في الآداب أو في تأسيس الملك،
أو في البصر في الحرب. فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية، إلا أن
يكون الله تعالى قد سخرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي
تقابل تلك الأمور، وتصلح لتلك المعاني، لأن من كان متقسم الهوى، مشترك الرأي،
متشعب النفس، غير موفر على ذلك الشيء، ولا مهيأ له، لم يحذق من تلك الأشياء
شيئاً بأسره، ولم يبلغ فيه غايته، كأهل الصين في الصناعات، واليونانيين في
الحكم والآداب، والعرب فيما نحن ذاكروه في موضعه، والساسان في الملك،
والأتراك في الحروب.
ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل لم يكونوا تجاراً ولا صناعاً
بأكفهم، ولا أصحاب زرع وفلاحة، وبناء وغرس، ولا أصحاب جمع ومنع وكد. وكانت
الملوك تفرغهم، وتجري عليهم كفايتهم، فنظروا حين نظروا بأنفس مجتمعة، وقوة
وافرة، وأذهان فارغة، حتى استخرجوا الآلات والأدوات، والملاهي التي تكون
جماماً للنفس، وراحة بعد الكد، وسروراً يداوي قرح الهموم، فصنعوا من المرافق،
وصاغوا من المنافع، كالقرسطونات، والقبانات، والأسطرلابات، وآلة الساعات،
وكالكونيا، والكسيران، والبركار، وكأصناف المزامير والمعازف، والطب والحساب،
والهندسة، واللحون، وآلات الحرب، وكالمجانيق، والعرادات، والرتيلات،
والدبابات، وآلاة النفاطين، وغير ذلك مما يطول ذكره.
وكانوا أصحاب حكمة، ولم يكونوا فعلة. يصورون الآلة، ويخرطون الأداة، ويصوغون
المثل ولا يحسنون العمل بها، ويشيرون إليها ولا يمسونها، يرغبون في التعليم،
ويرغبون عن العمل.
فأما سكان الصين فإنهم أصحاب السبك والصياغة، والإفراغ والإذابة، والأصباغ
العجيبة، وأصحاب الخرط والنجر والتصاوير، والنسج والخط، ورفق الكف في كل شيء
يتولونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه.
فاليونانيون يعرفون العلل ولا يباشرون العمل، وسكان الصين يباشرون العمل ولا
يعرفون العلل؛ لأن أولئك حكماء، وهؤلاء فعلة.
وكذلك العرب لم يكونوا تجاراً ولا صناعاً، ولا أطباء ولا حساباً ولا أصحاب
فلاحة، فيكونوا مهنة، ولا أصحاب زرع، لخوفهم صغار الجزية. ولم يكونوا أصحاب
جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم، وطلب لما عند غيرهم، ولا طلبوا
المعاش من ألسنة الموازين ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم
يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغناء الذي يورث
البلدة، والثروة التي تحدث الغرة، ولم يحتملوا ذلاً قط فيميت قلوبهم، ويصغر
عندهم أنفسهم. وكانوا سكان فياف، وتربية العراء، لا يعرفون الغمق ولا اللثق،
ولا البخار ولا الغلظ، ولا العفن، ولا التخم. أذهان حديدة، ونفوس منكرة. فحين
حملوا حدهم، ووجهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة،
وتصاريف الكلام، وقيافة البشر بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب، والاهتداء
بالنجوم، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآلة
الحرب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب والمثالب،
بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كل أمنية. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر،
وهممهم أرفع، وهم من جميع الأمم أفخر، ولأيامهم أذكر.
وكذلك الترك، أصحاب عمد، وسكان فياف، وأرباب مواش. وهم أعراب العجم، كما أن
هذيلاً أكراد العرب، لم تشغلهم الصناعات ولا التجارات، ولا الطب والفلاحة
والهندسة، ولا غراس ولا بنيان، ولا شق أنهار، ولا جباية غلات، ولم يكن همهم
غير الغارة والغزو والصيد، وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم،
وتدويخ البلاد. وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة، وكانت لهذه المعاني والأسباب
المسخرة، ومقصورة عليها وموصولة بها، أحكموا ذلك الأمر بأسره، وأتوا على آخره،
وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم، ولذتهم في الحرب وفخرهم، وحديثهم وسمرهم.
فلما كانوا كذلك صاروا في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في
الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا، وكالساسان في الملك والسياسة.
ومما يستدل به على أنهم قد استقصوا هذا الباب واستفرغوه، وبلغوا أقصى غايته
وتعرفوه، أن السيف إلى أن يتقلده متقلد، أو يضرب به ضارب، قد مر على أيد
كثيرة، وعلى طبقات من الصناع، كل واحد منهم لا يعمل عمل صاحبه ولا يحسنه، ولا
يدعيه ولا يتكلفه؛ لأن الذي يذيب حديد السيف ويميعه ويصفيه ويهذبه، غير الذي
يمده ويمطله، والذي يمده ويمطله غير الذي يطبعه ويسوي متنه، ويقيم خشيبته،
والذي يطبعه ويسوي متنه غير الذي يسقيه ويرهفه، والذي يسقيه ويرهفه، غير الذي
يركب قبيعته، ويستوثق من سيلانه، والذي يعمل مسامير السيلان، وشاربي القبيعة
ونعل السيف غير الذي ينحت خشب غمده. والذي ينحت خشب غمده غير الذي يدبغ جلده،
والذي يدبغ جلده غير الذي يحليه، والذي يحليه ويركب نصله غير الذي يخرز
حمائله.
وكذلك السرج، وحالات السهم والجعبة والرمح، وجميع السلاح مما هو جارح أو جنة.
والتركي يعمل هذا كله بنفسه، من ابتدائه إلى غايته، ولا يستعين برفيق، ولا
يفزع إلى رأي صديق، ولا يختلف إلى صائغ، ولا يشغل قلبه بمطاله وتسويفه،
وأكاذيب مواعيده، وبغرم كرائه.
وليس في الأرض كل تركي كما وصفنا، كما أنه ليس كل يوناني حكيماً، ولا كل صيني
حاذقاً، ولا كل أعرابي شاعراً فائقاً، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم،
وفيهم أظهر وأكثر.
قد قلنا في السبب الذي تكاملت به النجدة والفروسية في الترك دون جميع الأمم،
وفي العلل التي من أجلها نظموا جميع معاني الحرب، وهي معان تشتمل على مذاهب
غريبة، وخصال عجيبة، فمنها ما يقضى لأهله بالكرم، وببعد الهمة، وطلب الغاية.
ومنها ما يدل على الأدب السديد، والرأي الأصيل، والفطنة الثاقبة، والبصيرة
النافذة.
ألا ترى أنه ليس بد لصاحب الحرب من الحلم والعلم، والحزم والعزم، والصبر
والكتمان، ومن الثقافة وقلة الغفلة، وكثرة التجربة؟ ولا بد من الصبر بالخيل
والسلاح، والخبرة بالرجال والبلاد، والعلم بالمكان والزمان والمكايد، وبما
فيه صلاح الأمور كلها.
والملك يحتاج إلى أواخ شداد، وأسباب متان، ومن أمتنها سبباً، وأعمها نفعاً،
ما ثبته في نصابه، وسكنه في قراره، وزاده في تمكينه وبهائه، وقطع أسباب
المطمعة فيه، ومنع أيدي البغاة من الإشارة إليه، فضلاً عن البسط عليه.
قد قلنا في مناقب جميع الأصناف بجمل ما انتهى إلينا، وبلغه علمنا، فإن وقع
بالموافقة فبتوفيق من الله تعالى وصنعه، عز ذكره. وإن قصر دون ذلك فالذي قصر
بنا نقصان علمنا، وقلة حفظنا، وأسماعنا. فأما حسن النية، والذي نضمر من
المحبة والاجتهاد في القربة، فإنا لا نرجع في ذلك إلى أنفسنا بلائمة. وبين
التقصير من جهة العجز وضعف القوة فرق.
ولو كان هذا الكتاب من كتب المناقضات، وكتب المسائل والجوابات، وكان كل صنف
من هذه الأصناف يريد الاستقصاء على صاحبه، ويكون غايته إظهار نفسه وإن لم يصل
إلى ذلك إلا بإظهار نقص أخيه ووليه، لكان كتابنا كبيراً، كثير الورق عظيماً.
ولكن القليل الذي يجمع، خير من الكثير الذي يفرق.
ونحن نعوذ بالله من هذا المذهب، ونسأله العون والتسديد، إنه سميع قريب، فعال
لما يريد.
حجج النبوة
الحمد لله الذي عرفنا نفسه، وعلمنا دينه، وجعلنا من الدعاة إليه، والمحتجين
له. فنحن نسأله تمام النعمة، والعون على أداء شكره، وأن يوفقنا للحق برحمته،
إنه ولي ذلك، والقادر عليه، والمرغوب إليه فيه، وصلى الله على محمد وآله
وسلم.
ثم إنا قائلون في الأخبار، ومخبرون عن الآثار، ومفرقون بين أسباب الشبهة،
وأسباب الحجة، ثم مفرقون بين الحجة التي تلزم الخاصة دون العامة، ومخبرون عن
الضرب الذي يكون الخاصة فيه حجة على العامة، وعن الموضع الذي يكون القليل فيه
أحق بالحجة من الكثير، ولم شاع الخبر وأصله ضعيف؟ ولم خفي وأصله قوي؟ وما
الذي يؤمن من فساده وتبديله مع تقادم عصره، وكثرة الطاعنين فيه، وعن الحاجة
إلى رواية الآثار، وإلى سماع الأخبار، وعن أخلاق الناس وآبائهم، ومذاهب
أسلافهم، وعن سير الملوك قبلهم، وما صنعت الأيام بهم، وعن شرائع أنبيائهم،
وأعلام رسلهم، وعن أدب حكمائهم، وأقاويل أئمتهم وفقهائهم، وعن حالات من غاب
عن أبصارهم في دهرهم، ولم كان الإخبار على الناس أخف من الكتمان؟ ولم كان
الصمت أثقل عليهم من الكلام؟ وما الضرب الذي يقدرون على كتمانه وطيه، والضرب
الذي لا يقدرون إلا على إذاعته ونشره؟ ولم اجتمعت الأمم على الصدق في أمور،
واختلفت في غيرها؟ ولم حفظت أموراً ونسيت سواها؟ ولم كان الصدق أكثر من
الكذب؟ ولم كان الصمت أثقل والقول أفضل؟ والعجب من ترك الفقهاء تمييز الآثار،
وترك المتكلمين القول في تصحيح الأخبار، وبالأخبار يعرف الناس النبي من
المتنبي، والصادق من الكاذب، وبها يعرفون الشريعة من السنة، والفريضة من
النافلة، والحظر من الإباحة، والاجتماع من الفرقة، والشذوذ من الاستفاضة،
والرد من المعارضة، والنار من الجنة، وعامة المفسدة من المصلحة.
فإذا نزلت الأخبار منازلها وقسمتها، ذكرت حجج رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ودلائله وشرائعه وسننه، ثم جنست الآثار على أقدارها، ورتبتها في مراتبها،
وقربت ذلك واختصرته، وأوضحت عنه وبينته، حتى يستوي في معرفتها من قل سماعه
وساء حفظه، ومن كثر سماعه وجاد حفظه، بالوجوه الجليلة، والأدلة الاضطرارية.
ولم أرد في هذا الكتاب جمع حجج الرسول عليه السلام، وتفصيلها والقول فيها،
لنقض مسها،أولوهن كان في أصلها من ناقليها والمخبرين عنها، أو لأن طعن
الملحدين نهكها وفرق جماعتها، ونقض قواها. ولكن لأمور سأذكرها وأحتج.
وكيف تقصر الحجة عن بلوغ الغاية، وتنقص عن التمام، والله تعالى المتوكل بها،
ومسخر أصناف البرية ومهيج النفوس على إبلاغها، وقد أخبر بذلك عن نفسه في محكم
كتابه عز ذكره، حين قال: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على
الدين كله ولو كره المشركون " . وأدنى منازل الإظهار إظهار الحجة على من ضاره
وخالف عليه.
وقال عز ذكره: " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره
الكافرون " .
وأخبر أنه أمر الأحمر والأسود، ولم يكن ليأمر الأقصى إلا كما يأمر الأدنى
ويأمر الغائب على الحاضر، قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: " وما أرسلناك
إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً " .
فأقول: إن كل مطيق محجوج، والحجة حجتان: عيان ظاهر، وخبر قاهر. فإذا تكلمنا
في العيان وما يفرع منه فلا بد من التعارف في أصله وفرعه منه. ولا بد من
التصادق في أصله، والتعارف في فرعه. فالعقل هو المستدل، والعيان والخبر هما
علة الاستدلال وأصله، ومحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم
الدليل. والعقل مضمن بالدليل، والدليل مضمن بالعقل، ولا بد لكل واحد منهما من
صاحبه، وليس لإبطال أحدهما وجه مع إيجاب الآخر.
والعقل نوع واحد، والدليل نوعان: أحدهما شاهد عيان يدل على غائب، والآخر مجيء
خبر يدل على صدق.
ثم رجع الكلام إلى الإخبار عن دلائل النبي صلى الله عليه وسلم وأعلامه،
والاحتجاج لشواهده وبرهانه، فأقول: إن السلف الذين جمعوا القرآن في المصاحف
بعد أن كان متفرقاً في الصدور، والذين جمعوا الناس على قراءة زيد، بعد أن كان
غيرها مطلقاً غير محظور، والذين حصنوه ومنعوه الزيادة والنقصان لو كانوا
جمعوا علامات النبي صلى الله عليه وسلم، وبرهانه، ودلائله وآياته وصنوف
بدائعه، وأنواع عجائبه في مقامه وظعنه، وعند دعائه واحتجاجه في الجمع العظيم،
وبحضرة العدد الكثير الذي لا يستطيع الشك في خبرهم إلا الغبي الجاهل، والعدو
المائل، لما استطاع اليوم أن يدفع كونها وصحة مجيئها، لا زنديق جاحد، ولا
دهري معاند، ولا متطرف ماجن، ولا ضعيف مخدوع، ولا حدث مغرور؛ ولكان مشهوراً
في عوامنا كشهرته في خواصنا، ولكان استبصار جميع أعياننا في حقهم كاستبصارهم
في باطل نصاراهم ومجوسهم، ولما وجد الملحد موضع طمع في غني يستميله، وفي حدث
يموه له.
ولولا كثرة ضعفائنا مع كثرة الدخلاء فينا، الذين نطقوا بألسنتنا، واستعانوا
بعقولنا على أغبيائنا وأغمارنا، لما تكلفنا كشف الظاهر، وإظهار البارز،
والاحتجاج الواضح.
إلا أن الذي دعا سلفنا إلى ذلك، الاتكال على ظهورها واستفاضة أمرها.
وإذ كان ذلك كذلك فلم يؤت من أتي من جهالنا وأحداثنا، وسفهائنا وخلعائنا إلا
من قبل ضعف العناية، وقلة المبالاة، ومن قبل الحداثة والغرارة، ومن قبل أنهم
حملوا على عقولهم من دقيق الكلام قبل العلم بجليله ما لم تبلغه قواهم، وتتسع
له صدورهم، وتحمله أقدارهم، فذهبوا عن الحق يميناً وشمالاً، لأن من لم يلزم
الجادة تخبط، ومن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سقط، ومن خرق بنفسه وكلفها فوق
طاقتها، ولم ينل ما لا يقدر عليه تفلت منه ما كان يقدر عليه.
فإذا كانوا كذلك فإنما أتوا من قبل أنفسهم، ولم يؤتوا من سلفهم، أو لأن الله
تبارك وتعالى صرف أسلافنا بنسيان أو غيره ليمتحن بذلك غيرهم في آخر الزمان،
وليعرضهم لطاعته بالذب عن دينه، والاحتجاج لنبيه صلى الله عليه وسلم، وليجري
هذا الخير على أيديهم، كما أجرى أكثر منه على أيدي أسلافهم، لئلا يبخس أحد
خليقته من العلماء والفقهاء، ولأن يجعل فضله مقسماً بين جميع الأولياء، وإن
كان الأول أحق بالتقديم، والآخر أحق بالتأخير، للذي قدموا من الاحتمال،
وأعطوا من المجهود، ولأنهم أصل هذا الأمر ونحن فرعه، والأصل أحق بالقوة من
الفرع. وهم السابقون ونحن التابعون، وهم الذين وطئوا لنا، وكلفونا ما لم نكن
لنكلفه أنفسنا، فتجرعوا دوننا المرار، ومنحونا روح الكفاية. ولأن الله تعالى
اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولأن القرآن نطق بفضيلتهم؛ والله
تعالى أعلم بمن بعدهم، والذي جمع أسلافنا الذين جمعوا الناس على قراءة زيد،
دون أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود، والذين رأوا من قول عبد الله في
المعوذتين، وقول أبي في سورتي الحفد والخلع.
ومن تعلق الناس بالاختلاف، فكانوا لا يزالون قد رأوا الرجل يروي الحرف الشاذ،
ويقرأ بالحرف الذي لا يعرفونه، فرأوا أن تحصينه لا يتم إلا بحمل الناس على
المقروء عندهم، المشهور فيما بينهم، وأنهم إن لم يشددوا في ذلك لم ينقطع
الطمع، ولم ينزجر الطير، لأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم
وبلغائهم سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها
وطبعها، أنه عاجز عن مثلها. ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها. وليس
ذلك في الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين.
ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم، ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل
منهم: الحمد لله، وإنا لله، وعلى الله توكلنا، وربنا الله، وحسبنا الله ونعم
الوكيل، وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع؛ ولو أراد أنطق الناس
أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة، طويلة أو قصيرة، على نظم القرآن وطبعه،
وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان.
ورأوا بفهمهم وبتوفيق الله تعالى لهم أن يحصنوه مما يشكل، ويمكن أن يفتعل
مثله من الحرف والحرفين، والكلمة والكلمتين، وقد كانوا عرفوا الابتداع الكثير
على البلغاء والشعراء، وخافوا إن هم لم يتقدموا في ذلك أن يتطرفوا عليه، كما
تطرفوا على الرواية، لأنهم حين رأوا كثرة الرواية في غير ذوي السابقة، ورأوا
كثرة اختلافها، والغرائب التي لا يعرفونها، لم يكن لهم إلا تحصين الشيء الذي
عليه مدار الأمر، وإن كانوا يعلمون أن الله بالغ أمره.
فعلى الأئمة أن تحوط هذه الأمة، كما حاط السلف أولها، وأن يعملوا بظاهر
الحيطة، إذ كان على الناس الاجتهاد، وليس عليهم علم الغيوب. وإنما ذلك كنحو
رجل أبصر نبياً يحيي الموتى فعرف صدقه، فلما انصرف سأله عنه بعض من لم ير ذلك
ولا صح عنده، فعليه أن لا يكتمه، وإن كان يعلم أن الله تعالى سيعلمه ذلك من
قبل غيره، وأنه عز ذكره سيسمعه صحته على حبه وكرهه.
ورأوا أن قراءة زيد أحق بذلك، إذ كانت آخر العرض، ولأن الجمع الذين سمعوا آخر
العرض أكثر ممن سمع أوله، فحملوا الناس على قراءة زيد، دون أبي وعبد الله،
وإن كان الكل حقاً، إذ كان رب حق في بعض الزمان أقطع للقيل والقال، وأجدر أن
يميت الخلاف، ويحسم الطمع. فتركوا حقاً إلى حق العمل به أحق.
ولو أن فقيهاً رأى إطباق العلماء على صوم يوم عرفة، واستنكارهم الإفطار فيه،
فأفطر وأظهر ذلك ليعلمهم موضع الفريضة من النافلة، أو خاف أن يلحق الفرض على
تطاول الأيام ما ليس فيه كان مصيباً، ولكان قد ترك حقاً إلى أحق منه.
وللحق درجات، وللخلاف درجات، وللحرام درجات. ألا ترى أن لولي المقتول أن يقتل
ويصفح، وأنه إن قتل قتل بحق، وإن صفح صفح بحق، والصفح أفضل من القتل.
ولو أن رجلاً أخرج ساكناً بيتاً له، أو اقتضى ديناً له ساعة محله، أو طلق
زوجته وما دخل بها لكان ذلك له، ولحق فعل. وغير ذلك الحق أولى به.
وكيف لا يكون أولى به وهو أحسن، والثواب فيه أعظم، وإلى سلامة الصدور أقرب.
وقد يكون الأمران حسنين، وأحدهما أحسن. وقد يكون الأمران قبيحين، وأحدهما
أقبح.
وبعد، فعلى الناس طاعة الأئمة في كل ما أمروا به، إلا فيما تبين أنه معصية.
فأما غير ذلك فإنه واجب مفروض، ولازم غير مرفوع.
وعلموا أيضاً أنهم لا يبقون إلى آخر الزمان، وأن من يجيء بعدهم لا يقوم
مقامهم، ولا يفصل الأمور تفصيلهم. ولو عرفوا كمعرفتهم، وأرادوا ذلك كإرادتهم،
لما أطيعوا كطاعتهم.
وعلموا أن الأكاذيب والبدع ستكثر، وأن الفتن ستفتح، وأن الفساد سيفشو، فكرهوا
أن يجعلوا للمتطرفين علة، ولأهل الزيغ حجة.
بل لا شك أنهم لو تركوا الناس عامة يقرءون على حرف فلان وكل ما أجاز فيه فلان
عن فلان، لألحق قوم في آخر الزمان بهم ما ليس منهم، ولا يجري مجراهم، ولا
يجوز مجازهم.
فصل منه في الاحتجاج للجمع على قراءة زيد
ولو كان زيد من آل أبي العاص، أو من عرض بني أمية، لوجد ابن مسعود متعلقاً.
ولو كان بدا زيد عبد الرحمن بن عوف لوجد إلى القول سبيلاً.
ولو كان ابن مسعود رجلاً من بني هاشم لوجد للطعن موضعاً.
ولو كان عثمان رضي الله تعالى عنه استبد بذلك الرأي على علي بن أبي طالب كرم
الله وجهه، وسعد وطلحة والزبير رحمهم الله، وجميع المهاجرين والأنصار، لوجد
للتهمة مساغاً.
فأما والأمر كما وصفنا ونزلنا، فما الطاعن على عثمان إلا رجل أخطأ خطة الحق،
وعجل على صاحبه. ولكل بني آدم من الخطأ نصيب، والله عز ذكره يغفر له ويرحمه.
والذي يخطىء عثمان في ذلك فقد خطأ علياً وعبد الرحمن وسعداً، والزبير وطلحة،
وعلية الصحابة.
ولو لم يكن ذلك رأي علي لغيره، ولو لم يمكنه التغيير لقال فيه، ولو لم يمكنه
في زمن عثمان لأمكنه في زمن نفسه، وكان لا أقل من إظهار الحجة إن لم يملك
تحويل الأمة، وكان لا أقل من التجربة إن لم يكن من النجح على ثقة، بل لم يكن
لعثمان في ذلك ما لم يكن لجميع الصحابة، وأهل القدم والقدوة. ومع أن الوجه
فيما صنعوا واضح، بل لا نجد لما صنعوا وجهاً غير الإصابة والاحتياط، والإشفاق
والنظر للعواقب، وحسم طعن الطاعن.
ولو لم يكن ما صنعوا لله تعالى فيه رضاً لما اجتمع عليه أول هذه أول الأمة
وآخرها. وإن أمراً اجتمعت عليه المعتزلة والشيعة، والخوارج والمرجئة، لظاهر
الصواب، واضح البرهان، على اختلاف أهوائهم، وبغيتهم لكل ما ورد عليهم.
فإن قال قائل: هذه الروافض بأسرها تأبى ذلك وتنكره، وتطعن فيه، وترى تغييره.
قلنا: إن الروافض ليست منا بسبيل، لأن من كان أذانه غير أذاننا، وصلاته غير
صلاتنا، وطلاقه غير طلاقنا، وعتقه غير عتقنا، وحجته غير حجتنا، وفقهاؤه غير
فقهائنا وإمامه غير إمامنا، وقراءته غير قراءتنا، وحلاله غير حلالنا، وحرامه
غير حرامنا، فلا نحن منه ولا هو منا.
ولأي شيء حامت عن قراءة ابن مسعود، فوالله ما كان أحد أفرط في العمرية منه،
ولا أشد على الشيعة منه، ولقد بلغ من حبه لعمر رضي الله عنه أن قال: لقد خشيت
الله تعالى في حبي لعمر. فلم يحامون عنه وهو كان شجاهم لو أدركهم.
فصل منه
فآمن الله رجلاً فارقهم ولزم الجماعة، فإن فيها الأنسة والحجة، وترك الفرقة
فإن فيها الوحشة والشبهة. والحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أئمتنا، كما
جعلنا لا نفرق بين أنبيائنا.
فصل منه
والذي دعانا إلى تأليف حجج الرسول ونظمها، وجمع وجوهها وتدوينها أنها متى
كانت مجموعة منظومة، نشط لحفظها وتفهمها من كان عسى أن لا ينشط لجمعها، ولا
يقدر على نظمها، وجمع متفرقها، وعلى اللفظ المؤثر عنها، ومن كان عسى أن لا
يعرف وجه مطلبها، والوقوع عليها.
ولعل بعض الناس يعرف بعضها ويجهل بعضها.
ولعل بعضهم وإن كان قد عرفها بحقها وصدقها فلم يعرفها من أسهل طرقها، وأقرب
وجوهها.
ولعل بعضهم أن يكون قد عرف فنسي، أو تهاون بها فعمي، بل لا نشك أنها إذا كانت
مجموعة محبرة، مستقصاة مفصلة، أنها ستزيد في بصيرة العالم، وتجمع الكل لمن
كان لا يعرف إلا البعض، وتذكر الناسي، وتكون عدة على الطاعن.
ولعل بعض من ألحد في دينه، وعمي عن رشده، وأخطأ موضع حظه أن يدعوه العجب
بنفسه، والثقة بما عنده، إلى أن يلتمس قراءتها، ليتقدم في نقضها وإفسادها،
فإذا قرأها فهمها، وإذا فهمها انتبه من رقدته، وأفاق من سكرته، لعز الحق، وذل
الباطل، ولإشراف الحجة على الشبهة، ولأن من تفرد بكتاب فقرأه ليس كمن نازع
صاحبه وجاثاه، لأن الإنسان لا يباهي بنفسه، والحق بعد قاهر له. ومع التلاقي
يحدث التباهي، وفي المحافل يقل الخضوع، ويشتد النزوع.
ثم رجع الكلام إلى حاجة الناس إلى استماع الأخبار، والتفقه في تصحيح الآثار،
فأقول: إن الناس لو استغنوا عن التكرير، وكفوا مئونة البحث والتنقير لقل
اعتبارهم. ومن قل اعتباره قل علمه، ومن قل علمه قل فضله، ومن قل فضله كثر
نقصه، ومن قل علمه وفضله وكثر نقصه لم يحمد على خير أتاه، ولم يذم على شر
جناه، ولم يجد طعم العز، ولا سرور الظفر، ولا روح الرجاء، ولا برد اليقين،
ولا راحة الأمن.
وكيف يشكر من لا يقصد، وكيف يلام من لا يتعمد، وكيف يقصد من لا يعلم. وما عسى
أن يبلغ قدر سروره من لا يحسن من السرور إلا ما سر به حواسه ومسه جلده.
وكيف يأتي أربح الأفعال، وأبعد الشرين من ركب في شراسة السباع وغباوة
البهائم، ثم لم يعط الآلة التي بها يستطيع التفرقة بين ما عليه وله، والعلم
بمصالحه ومفاسده، فيقوى بها على عصيان طبائعه، ومخالفة شهواته، وبها يعرف
عواقب الأمور، وما تأتي به الدهور، وفضل لذة القلب على لذة البدن.
وإن سرور الجاهل لا يحسن في جنب سرور العالم، وإن لذة البهائم لا تعشر لذة
الحكيم العالم.
وأي سرور كسرور العز والرياسة، واتساع المعرفة، وكثرة صواب الرأي، والنجح
الذي لا سبب له إلا حسن النظر والتقدم في التدبير، ثم العلم بالله وحده، وأنك
بعرض ولايته والجاه عنده، وأنه الذي يرعاك ويكفيك، وأنك إذا علمت اليسير
أعطاك الكثير، ومتى تركت له الفاني أعطاك الباقي، ومتى أدبرت عنه دعاك، ومتى
رجعت إليه اجتباك، ويحمدك على حقك، ويعطيك على نظرك، لنفسك ولا يفنيك إلا
ليبقيك، ولا يميتك إلا ليحييك، ولا يمنعك إلا ليعطيك. وأنه المبتدىء بالنعمة
قبل السؤال، والناظر لك في كل حال.
وهذا كله لا ينال إلا بغريزة العقل. على أن الغريزة لا تنال ذلك بنفسها، بما
باشرته حواسها، دون النظر والتفكر، والبحث والتصفح.
ولن ينظر ناظر ولا يفكر مفكر دون الحاجة التي تبعث على الفكرة، وعلى طلب
الحيلة. ولذلك وضع الله تعالى في الإنسان طبيعة الغضب، وطبيعة الرضا، وطبيعة
البخل والسخاء، والجزع والصبر، والرياء والإخلاص، والكبر والتواضع، والسخط
والقناعة، فجعلها عروقاً. ولن تفي قوة غريزة العقل بجميع قوى طبائعه وشهواته،
حتى يقيم ما اعوج منها، ويسكن ما تحرك، دون النظر الطويل الذي يشدها، والبحث
الشديد الذي يشحذها، والتجارب التي تحنكها، والفوائد التي تزيد فيها. ولن
يكثر النظر حتى تكثر الخواطر، ولن تكثر الخواطر حتى تكثر الحوائج، ولن تبعد
الرؤية إلا لبعد الغاية وشدة الحاجة.
ولو أن الناس تركوا وقدر قوى غرائزهم، ولم يهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم
والتفكر في معاشهم، وعواقب أمورهم، وألجئوا إلى قدر خواطرهم التي تولد مباشرة
حواسهم، دون أن يسمعهم الله تعالى خواطر الأولين، وأدب السلف المتقدمين، وكتب
رب العالمين، لما أدركوا من العلم إلا اليسير، ولما ميزوا من الأمور إلا
القليل.
ولولا أن الله تعالى أراد تشريف العالم وتربيته، وتسويد العاقل ورفع قدره،
وأن يجعله حكيماً، وبالعواقب عليماً، لما سخر له كل شيء، ولم يسخره لشيء،
ولما طبعه الطبع الذي يجيء منه أريب حكيم، وعالم حليم.
كما أنه عز ذكره لو أراد أن يكون الطفل عاقلاً، والمجنون عالماً، لطبعهم طبع
العاقل، ولسواهم تسوية العالم، كما أراد أن يكون السبع وثاباً، والحديد
قاطعاً، والسم قاتلاً، والغذاء مقيماً؛ فكذلك أراد أن يكون المطبوع على
المعرفة عالماً، والمهيأ للحكمة حكيماً، وذو الدليل مستدلاً، وذو النعمة
مستنفعاً بها.
فلما علم الله تبارك وتعالى أن الناس لا يدركون مصالحهم بأنفسهم، ولا يشعرون
بعواقب أمورهم بغرائزهم، دون أن يرد عليهم آداب المرسلين، وكتب الأولين،
والأخبار عن القرون، والجبابرة الماضين طبع كل قرن من الناس على أخبار من
يليه، ووضع القرن الثاني دليلاً يعلم به صدق خبر الأول؛ لأن كثرة السماع
للأخبار العجيبة، والمعاني الغريبة، مشحذة للأذهان، ومادة للقلوب، وسبب
للتفكير، وعلة للتنقير عن الأمور.
وأكثر الناس سماعاً أكثرهم خواطر، وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكراً، وأكثرهم
تفكراً أكثرهم علماً، وأكثرهم علماً أرجحهم عملاً. كما أن أكثر البصراء رؤية
للأعاجيب أكثرهم تجارب، ولذلك صار البصير أكثر خواطر من الأعمى، وصار السميع
البصير أكثر خواطر من البصير.
وعلى قدر شدة الحاجة تكون الحركة، وعلى قدر ضعف الحاجة يكون السكون، كما أن
الراجي والخائف دائبان، والآيس والآمن وادعان.
وإذا كان الله تعالى لم يخلق عباده في طبع عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا،
وآدم أبي البشر، صلوات الله عليهم أجمعين، وخلقهم منقوصين، وعن درك مصالحهم
عاجزين، وأراد منهم العبادة، وكلفهم الطاقة، وترك العنان للأمل البعيد، وأرسل
إليهم رسله، وبعث فيهم أنبياءه، وقال: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد
الرسل " ، ولم يشهد أكثر عباده حجج رسله عليهم السلام، ولا أحضرهم عجائب
أنبيائه، ولا أسمعهم احتجاجهم، ولا أراهم تدبيرهم لم يكن بد من أن يطلع
المعاينين على أخبار الغائبين، وأن يسخر أسماع الغائبين لأخبار المعاندين،
وأن يخالف بين طبائع المخبرين، وعلل الناقلين، ليدل السامعين، ومن يجيب من
الناس.
على أن العدد الكثير المختلفي العلل، المتضادي الأسباب، المتفاوتي الهمم، لا
يتفقون على تخرص الخبر في المعنى الواحد، وكما لا يتفقون على الخبر الواحد
على غير التلاقي والتراسل إلا وهو حق. فكذلك لا يمكن مثلهم في مثل عللهم
التلاقي عليه، والتراسل فيه.
ولو كان تلاقيهم ممكناً، وتراسلهم جائزاً لظهر ذلك وفشا، واستفاض وبدا.
ولو كان ذلك أيضاً ممكناً، وكان قولاً متوهماً لبطلت الحجة، ولنقضت العادة،
ولفسدت العبرة، ولعادت النفس بعلة الأخبار جاهلة، ولكان للناس على الله أكبر
الحجة. وقد قال الله جل وعز: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " ،
إذ كلفهم طاعة رسله، وتصديق أنبيائه ورسله وكتبه، والإيمان بجنته وناره، ولم
يضع لهم دليلاً على صدق الأخبار، وامتناع الغلط في الآثار، تعالى الله عن ذلك
علواً كبيراً.
واعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم، ولم يحب أن يوفق
بينهم فيما يخالف مصلحتهم؛ لأن الناس لو لم يكونوا مسخرين بالأسباب المختلفة،
وكانوا مجبرين في الأمور المتفقة والمختلفة، لجاز أن يختاروا بأجمعهم التجارة
والصناعة، ولجاز أن يطلبوا بأجمعهم الملك والسياسة. وفي هذا ذهاب العيش،
وبطلان المصلحة، والبوار والتواء.
ولو لم يكونوا مسخرين بالأسباب، مرتهنين بالعلل لرغبوا عن الحجامة أجمعين،
والبيطرة، والقصابة، والدباغة. ولكن لكل صنف من الناس مزين عندهم ما هم فيه،
ومسهل ذلك عليهم. فالحائك إذا رأى تقصيراً من صاحبه أو سوء حذق أو خرقا قال
له: يا حجام! والحجام إذا رأى تقصيراً من صاحبه قال له: يا حائك! ولذلك لم
يجمعوا على إسلام أبنائهم في غير الحياكة والحجامة، والبيطرة والقصابة.
ولولا أن الله تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سبباً للاتفاق والائتلاف، لما جعل
واحداً قصيراً والآخر طويلاً، وواحداً حسناً وآخر قبيحاً، وواحداً غنياً وآخر
فقيراً، وواحداً عاقلاً وآخر مجنوناً، وواحداً ذكياً وآخر غبياً. ولكن خالف
بينهم ليختبرهم، وبالاختبار يطيعون، وبالطاعة يسعدون. ففرق بينهم ليجمعهم،
وأحب أن يجمعهم على الطاعة ليجمعهم على المثوبة. فسبحانه وتعالى، ما أحسن ما
أبلى وأولى، وأحكم ما صنع، وأتقن ما دبر! لأن الناس لو رغبوا كلهم عن عار
الحياكة لبقينا عراة. ولو رغبوا بأجمعهم عن كد البناء لبقينا بالعراء. ولو
رغبوا عن الفلاحة لذهبت الأقوات، ولبطل أصل المعاش. فسخرهم على غير إكراه،
ورغبهم من غير دعاء.
ولولا اختلاف طبائع الناس وعللهم لما اختاروا من الأشياء إلا أحسنها، ومن
البلاد إلا أعدلها، ومن الأمصار إلا أوسطها. ولو كانوا كذلك لتناجزوا على طلب
الأواسط، وتشاجروا على البلاد العليا، ولما وسعهم بلد، ولما تم بينهم صلح.
فقد صار بهم التسخير إلى غاية القناعة.
وكيف لا يكون كذلك وأنت لو حولت ساكني الآجام إلى الفيافي، وساكني السهل إلى
الجبال، وساكني الجبال إلى البحار، وساكني الوبر إلى المدر، لأذاب قلوبهم
الهم، ولأتى عليهم فرط النزاع.
وقد قيل: " عمر الله البلدان بحب الأوطان " .
وقال عبد الله بن الزبير رحمه الله تعالى: " ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع
منهم بأوطانهم " .
وقال معاوية في قوم من اليمن رجعوا إلى بلادهم بعد أن أنزلهم من الشام منزلاً
خصباً، وفرض لهم في شرف العطاء: " يصلون أوطانهم بقطيعة أنفسهم " .
وقال الله جل وعز: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من
دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم " . فقرن الضن بالأوطان إلى الضن بمهج النفوس.
وليس على ظهرها إنسان إلا وهو معجب بعقله، لا يسره أن له بجميع ما له ما
لغيره، ولولا ذلك لماتوا كمداً، ولذابوا حسدا، ولكن كل إنسان وإن كان يرى أنه
حاسد في شيء فهو يرى أنه محسود في شيء.
ولولا اختلاف الأسباب لتنازعوا بلدة واحدة، واسماً واحداً، وكنية واحدة. فقد
صاروا كما ترى مع اختيار الأشياء المختلفة إلى الأسماء القبيحة، والألقاب
السمجة. والأسماء مبذولة، والصناعات مباحة، والمتاجر مطلقة، ووجوه الطرق
مخلاة، ولكنها مطلقة في الظاهر، مقسمة في الباطن، وإن كانوا لا يشعرون بالذي
دبر الحكيم من ذلك، ولا بالمصلحة فيه.
فسبحان من حبب إلى واحد أن يسمي ابنه محمداً، وحبب إلى آخر أن يسميه شيطاناً،
وحبب إلى آخر أن يسميه عبد الله، وحبب إلى آخر أن يسميه حماراً، لأن الناس لو
لم يخالف بين عللهم في اختيار الأسماء والكنى، جاز أن يجتمعوا على شيء واحد،
وكان في ذلك بطلان العلامات، وفساد المعاملات.
وأنت إذا رأيت ألوانهم وشمائلهم واختلاف صورهم، وسمعت لغاتهم ونغمهم علمت أن
طبائعهم وعللهم المحجوبة الباطنة، على حسب أمورهم الظاهرة.
وبعض الناس وإن كان مسخراً للحياكة فليس بمسخر للفسق والخيانة، وللإحكام
والصدق والأمانة.
وقد يسخر الله الملك لقوم بأسباب قديمة وأسباب حديثة، فلا يزال ذلك الملك
مقصوراً عليهم، ما دامت تلك الأسباب قائمة، إذا كانوا للملك مسخرين، وكان
الناس لهم مسخرين، بالجبرية والنخوة، والفظاظة والقسوة، ولطول الاحتجاب
والاستتار، وسوء اللقاء والتضييع.
وقد يكون الإنسان مسخراً لأمر، ومخيراً في آخر.
ولولا الأمر والنهي لجاز التسخير في دقيق الأمور وجليلها، وخفيها وظاهرها؛
لأن بني الإنسان إنما سخروا له إرادة العائدة إليهم، ولم يسخروا للمعصية، كما
لم يسخروا للمفسدة.
وقد تستوي الأسباب في مواضع، وتتفاوت في مواضع. كل ذلك ليجمع الله تعالى لهم
مصالح الدنيا، ومراشد الدين.
ألا ترى أن أمة قد اجتمعت على أن عيسى عليه السلام هو الله، وأمة قد اجتمعت
على أنه ابن الله، وأمة اجتمعت على أن الآلهة ثلاثة، عيسى أحدها. ومنهم
يتبدد، ومنهم من يتدهر، ومنهم من يتحول نسطورياً بعد أن كان يعقوبياً، ومنهم
من أسلم بعد أن كان نصرانياً. ولست واجداً هذه الأمة مع اختلاف مذاهبها،
وكثرة تنقلها، انتقلت مرة واختلفت مرة، متعمدة أو ناسية، في يوم واحد، فجعلته
- وهو الجمعة - يوم السبت، ولم تخطب في يوم جمعة بخطبة يوم خميس، ولا غلطت في
كانون الأول فجعلته كانون الآخر، ولا بين الصوم والإفطار؛ لأن الباب الأول في
باب الإمكان وتعديل الأسباب والامتحان، والباب الثاني داخل في باب الامتناع
وتسخير النفوس وطرح الامتحان.
وقد زعم ناس من الجهال، ونفر من الشكاك، ممن يزعم أن الشك واجب في كل شيء،
إلا في العيان، أن أهل المنصورة وافوا مصلاهم يوم خميس على أنه يوم الجمعة،
في زمن منصور بن جمهور وأن أهل البحرين جلسوا عن مصلاهم يوم الجمعة على أنه
يوم خميس، في زمن أبي جعفر، فبعث إليهم وقومهم.
وهذا لا يجوز ولا يمكن في أهل الأمصار، ولا في العدد الكثير من أهل القرى،
لأن الناس من بين صانع لا يأخذ أجرته ولا راحة له دون الجمعة، وبين تجار قد
اعتادوا الدعة في الجمع، والجلوس عن الأسواق. ومن معلم كتاب لا يصرف غلمانه
إلا في الجمع. وبين معني بالجمع يتلاقى هناك مع المعارف والإخوان والجلساء.
وبين معني بالجمع حرصاً على الصلاة، ورغبة في الثواب. ومن رجل عليه موعد
ينتظره. ومن صيرفي يصرف ذلك اليوم سفاتجه وكتب أصحابه. ومن جندي فهو يعرف
بذلك نوبته. وبعض كالسؤال والمساكين والقصاص، الذين يمدون أعناقهم للجمعة
انتظاراً للصدقة والفائدة، في أمور كثيرة، وأسباب مشهورة.
ولو جاز ذلك في أهل البحرين والمنصورة لجاز ذلك على أهل البصرة والكوفة، ولو
جاز ذلك في الأيام لكان في الشهور أجوز، ولو جاز ذلك في الشهور لكان في
السنين أجوز. وفي ذلك فساد الحج، والصوم، والصلاة، والزكاة، والأعياد.
ولو كان ذلك جائزاً لجاز أن يتفق الشعراء على قصيدة واحدة، والخطباء على خطبة
واحدة، والكتاب على رسالة واحدة، بل جميع الناس على لفظة واحدة.
وإنما نزلت لك حالات الناس، وخبرتك عن طبائعهم، وفسرت لك عللهم لتعلم أن
العدد الكثير لا يتفقون على تخرص الخبر الواحد في المعنى الواحد في الزمن
الواحد، على غير التشاعر، فيكون باطلاً. وسأوجدك موضع اختلافهم واتفاقهم،
وأنه لم يخالف بينهم في بعض الوجوه إلا إرهاصاً لمصلحتهم، ولتصح أخبارهم.
ألا ترى أن أحداً لم يبع قط سلعة بدرهم إلا وهو يرى أن ذلك الدرهم خير له من
سلعته. ولم يشتر أحد قط سلعة بدرهم إلا وهو يرى أن تلك خير له من درهمه. ولو
كان صاحب السلعة يرى في سلعته ما يرى فيها صاحب الدرهم، وكان صاحب الدرهم يرى
في الدرهم ما يرى فيه صاحب السلعة ما اتفق بينهم شراء أبداً. وفي هذا جميع
المفسدة، وغاية الهلكة.
فسبحان الذي حبب إلينا ما في أيدي غيرنا، وحبب إلى غيرنا ما في أيدينا، ليقع
التبايع. وإذا وقع التبايع وقع الترابح، وإذا وقع الترابح وقع التعايش.
ويدلك أيضاً على اختلاف طبائعهم وأسبابهم: أنك تجد الجماعة وبين أيديهم
الفاكهة والرطب، فلا تجد يدين تلتقيان على رطبة بعينها، وكل واحد من الجميع
يرى ما حواه الطبق، غير أن شهوته وقعت على واحدة غير التي آثرها صاحبه.
ولربما سبق الرجل إلى الواحدة، وقد كان صاحبه يريدها في نفسه، غير أن ذلك لا
يكون إلا في الفرط، ولو كانت شهواتهم ودواعيهم تتفق على واحدة بعينها لكان في
ذلك التمانع والتجاذب، والمبادرة وسوء المخالطة والمؤاكلة. وكذلك هو في شهوة
النساء والإماء، والمراكب والكسى. وهذا كثير، والعلم به قليل. وبأقل مما قلنا
يعرف العاقل صواب مذهبنا. والله تعالى نسأل التوفيق.
وهو الذي خالف بين طبائعهم وأسبابهم، حتى لا يتفق على تخرص خبر واحد، لأن في
اتفاق طبائعهم وأسبابهم في جهة الإخبار فساد أمورهم، وقلة فوائدهم واعتبارهم،
وفي فساد أخبارهم فساد متاجرهم والعلم بما غاب عن أبصارهم، وبطلان المعرفة
بأنبيائهم ورسلهم عليهم السلام، ووعدهم ووعيدهم، وأمرهم ونهيهم وزجرهم،
ورغبتهم، وحدودهم، وقصاصهم الذي هو حياتهم، والذي يعدل طبائعهم، ويسوي
أخلاقهم، ويقوي أسبابهم، والذي به يتمانعون من تواثب السباع، وقلة احتراس
البهائم، وإضاعة الأعمار. وبه تكثر خواطرهم وتفكيرهم، وتحسن معرفتهم.
ولم نقل أن العدد الكثير لا يجتمعون على الخبر الباطل، كالتكذيب والتصديق،
ونحن قد نجد اليهود والنصارى، والمجوس والزنادقة، والدهرية وعباد البددة
يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم، وينكرون آياته وأعلامه، ويقولون: لم يأت
بشيء، ولا بان بشيء. وإنما قلنا: إن العدد الكثير لا يتفقون على مثل إخبارهم
أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، التهامي الأبطحي عليه السلام خرج بمكة،
ودعا إلى كذا، وأمر بكذا، ونهى عن كذا، وأباح كذا، وجاء بهذا الكتاب الذي
نقرؤه، فوجب العمل بما فيه، وأنه تحدى البلغاء والخطباء والشعراء، بنظمه
وتأليفه، في المواضع الكثيرة، والمحافل العظيمة. فلم يرم ذلك أحد ولا تكلفه،
ولا أتى ببعضه ولا شبيه منه، ولا ادعى أنه قد فعل، فيكون ذلك الخبر باطلاً.
وليس قول جمعهم إنه كان كاذباً معارضة لهذا الخبر، إلا أن يسموا الإنكار
معارضة. وإنما المعارضة مثل الموازنة والمكايلة، فمتى قابلونا بأخبار في وزن
أخبارنا ومخرجها ومجيئها، فقد عارضونا ووازنونا وقابلونا، وقد تكافينا
وتدافعنا. فأما الإنكار فليس بحجة، كما أن الإقرار ليس بحجة، ولا تصديقنا
النبي صلى الله عليه وسلم حجة على غيرنا، ولا تكذيب غيرنا له حجة علينا،
وإنما الحجة في المجيء الذي لا يمكن في الباطل مثله.
فإن قلت: وأي مجيء أثبت خبر الأنصاري عن عيسى بن مريم عليه السلام؟ وذلك أنك
لو سألت النصارى مجتمعين ومتفرقين لخبروك عن أسلافهم أن عيسى قد قال: إني
إله.
قلنا: قد علمنا أن نصارى عصرنا لم يكذبوا على القرن الذي كان قبلهم، والذين
كانوا يلونهم. ولكن الدليل على أن أصل خبرهم ليس كفرعه، أن عيسى عليه السلام
لو قال: إني إله لما أعطاه الله تعالى إحياء الموتى، والمشي على الماء. على
أن في عيسى عليه السلام دلالة في نفسه، أنه ليس بإله، وأنه عبد مدبر، ومقهور
ميسر، وليس خبرهم هذا إلا كإخبار النصارى عن آبائهم والقرن الذي يليهم أن
بولس قد كان جاء بالآيات والعلامات. وكإخبار المنانية عن القرن الذي كان
يليهم منه أن ماني قد كان جاءهم بالآيات والعلامات. وكإخبار المجوس عن آبائهم
الذين كانوا يلونهم أن زرادشت قد جاءهم بالآيات والعلامات. وقد علمنا أن
هؤلاء النصارى لم يكذبوا على القرن الذي كان يليهم، ولا الزنادقة ولا المجوس.
ولكن الدليل على أن أصل خبرهم ليس كفرعه أن الله جل وعز لا يعطي العلامات من
لا يعرفه، لأن بولس إن كان عنده أن عيسى عليه السلام إله فهو لا يعرف الله
تعالى، بل لا يعرف الربوبية من العبودية، والبشرية من الإلهية.
فصل منه
وللنصارى خاصة رياء عجيب، وظاهر زهد، والناس أبطأ شيء عن التصفح، وأسرع شيء
إلى تقليد صاحب السن والسمت، وظاهر العمل أدعى لهم من العلم.
فصل منه على ذكرهم
وكل قوم بنوا دينهم على حب الأشكال، وشبه الرجال، يشتد وجدهم به وحبهم له،
حتى ينقلب الحب عشقاً، والوجد صبابة، للمشاكلة التي بين الطبائع، والمناسبة
التي بين النفوس.
وعلى قدر ذلك يكون البغض والحقد، لأن النصارى حين جعلوا ربهم إنساناً مثلهم
بخعت نفوسهم بالهيبة له لتوهمهم الربوبية، وأسمحت بالمودة لتوهمهم البشرية،
فلذلك قدروا من العبادة على ما لم يقدر عليه من سواهم. وبمثل هذا السبب صارت
المشبهة منا أعبد ممن ينفي التشبيه، حتى ربما رأيته يتنفس من الشوق إليه،
ويشهق عند ذكر الزيارة، ويبكي عند ذكر الرؤية، ويغشى عليه عند ذكر رفع الحجب.
وما ظنك بشوق من طمع في مجالسة ربه عز وجل، ومحادثة خالقه عز ذكره.
ولقد غالت القوم غول، ودعاهم أمر، فانظر ما هو؟ وإن سألتني عنه خبرتك: إنما
هو نتيجة أحد أمرين: إما تقليد الرجال، وإما طلب تعظيمهم. ولذلك السبب لم ترض
اليهود من إنكار حقه بتكذيبه، حتى طلبت قتله وصلبه، والمثلة به، ثم لم ترض
بذلك حتى زعمت أنه لغير رشدة، فلو كانت دون هذه المنزلة منزلة لما انتهت
اليهود دون بلوغها، ولو كانت فوق ما قالت النصارى منزلة لما انتهت دون
غايتها.
وبذلك السبب صارت الرافضة أشد صبابة وتحرقاً، وأفرط غضباً، وأدوم حقداً.
وأحسن تواصلاً من غيرهم أيضاً.
ورب خبر قد كان فاشياً فدخل عليه من العلل ما منعه من الشهرة، ورب خبر ضعيف
الأصل، واهن المخرج، قد تهيأ له من الأسباب ما يوجب الشهرة.
فصل منه
واعلم أن لأكثر الشعر ظعنا وحظوظاً، كالبيت يحظى ويسير، حتى يحظى صاحبه بحظه،
وغيره من الشعر أجود منه. وكالمثل يحظى ويسير، وغيره من الأمثال أجود. وما
ضاع من كلام الناس وضل أكثر مما حفظ وحكي. واعتبر ذلك من نفسك، وصديقك
وجليسك.
وأمر الأسباب عجيب. ومن ذلك قتل علي بن أبي طالب من السادة والقادة والحماة،
ما عسى لو ذكرته لاستكبرته واستعظمته، فأضرب الناس عن ذكرهم، وجهلت العوام
مواضعهم، وأخذوا في ذكر عمرو بن عبد ود فرفعوه فوق كل فارس مشهور، وقائد
مذكور.
وقد قرأت على العلماء كتاب الفجار الأول، والثاني، والثالث. وأمر المطيبين
والأحلاف، ومقتل أبي أزيهر، ومجيء الفيل، وكل يوم جمع كان لقريش، فما سمعت
لعمرو هذا في شيء من ذلك ذكراً.
فإن قلت: إن نبل القاتل زيادة في نبل المقتول، فكل من قتله على ابن أبي طالب
رضوان الله عليه أنبل منه وأحق بالشهرة، ولكن أشعار ابن دأب، ومناقلة الصبيان
في الكتاب هما اللتان أورثتاه ما ترى وتسمع.
فصل منه في أمر الأخبار
وإنما ذكرت هذا لتعلم أن الخبر قد يكون أصله ضعيفاً ثم يعود قوياً، ويكون
أصله قوياً فيعود ضعيفاً، للذي يعتريه من الأسباب، ويحل به من الأعراض، من
لدن مخرجه وفصوله، إلى أن يبلغ مدته، ومنتهى أجله، وغاية التدبير فيه،
والمصلحة عليه.
فلما كان هذا مخوفاً، وكان غير مأمون على المتقادم منه وضع الله تعالى لنا
على رأس كل فترة علامة، وعلى غاية كل مدة أمارة، ليعيد قوة الخبر، ويجدد ما
قد هم بالدروس، بالأنبياء والمرسلين عليهم السلام أجمعين. لأن نوحاً عليه
السلام هو الذي جدد الأخبار التي كانت في الدهر الذي بينه وبين آدم عليهما
السلام، حتى منعها الخلل، وحماها النقصان بالشواهد الصادقة، والأمارات
القائمة. وليس أن أخبارهم وحججهم قد كانت درست واختلت، بل حين همت بذلك
وكادت. بعثه الله عز وجل بآياته لئلا تخلو الأرض من حججه، ولذلك سموا آخر
الدهر الفترة. وبين الفترة والقطعة فرق. فاعرف ذلك.
ثم بعث الله جل وعز إبراهيم عليه السلام على رأس الفترة الثانية التي كانت
بينه وبين دهر نوح، وإنما جعلها الله تعالى أطول فترة كانت في الأرض، لأن
نوحاً كان لبث في قومه يحتج ويخبر، ويؤكد ويبين، ألف سنة إلا خمسين عاماً،
ولأن آخر آياته كانت أعظم الآيات، وهي الطوفان، الذي أغرق الله تعالى به جميع
أهل الأرض غيره وغير شيعته، وإنما أفار الماء من جوف تنور، ليكون أعجب للآية،
وأشهر للقصة، وأثبت للحجة.
ثم ما زالت الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، بعضهم على إثر بعض في الدهر
الذي بين إبراهيم، وبين عيسى عليهما السلام. فلترادف حججهم، وتظاهر أعلامهم،
وكثرة أخبارهم، واستفاضة أمورهم، ولشدة ما تأكد ذلك في القلوب، ورسخ في
النفوس، وظهر على الألسنة، لم يدخلها الخطل والنقص والفساد، في الدهر الذي
كان بين النبي عليه السلام وبين عيسى عليه السلام.
فحين همت بالضعف، وكادت تنقص عن التمام، وانتهت قوتها، بعث الله تعالى محمداً
صلى الله عليه وسلم، فجدد أقاصيص آدم ونوح، وموسى وهارون، وعيسى ويحيى، عليهم
السلام، وأموراً بين ذلك، وهو الصادق، بالشواهد الصادقة، وأن الساعة آتية،
وأنه ختم الرسل عليهم السلام به، فعلمنا عند ذلك أن حجته ستتم إلى مدتها،
وبلوغ أمر الله عز وجل فيها.
فصل
ثم رجع الكلام إلى القول في الأخبار، فأقول: إن الناس موكلون بحكاية كل عجيب،
وميسرون للإخبار عن كل عظيم، وليسوا للحسن أحكى منهم للقبيح، ولا لما ينفع
أحكى منهم لما يضر، وعلى قدر كبر الشيء تكون حكايتهم له واستماعهم.
ألا ترى أن رجلاً من الخلفاء لو ضرب عنق رجل من العظماء لما أمسى وفي عسكره
وبلدته جاهل ولا عالم إلا وقد استقر ذلك عنده وثبت في قلبه، لأن الناس بين
حاسد فهو يحكي ذلك الذي دخل عليه من الثكل وقلة العدد، وبين واجد يعجب الناس،
وبين واعظ معتبر، وبين قوم شأنهم الأراجيف بالفاسد والصالح. ولو كان ضرب عنقه
في يوم عيد، أو حلبة، أو استمطار، أو موسم، لكان أشد لاستفاضته، وأسرع
لظهوره.
ولو جاز أن يكتم الناس هذا وشبهه على الإيثار للكتمان، وعلى جهة النسيان،
لكنا لا ندري: لعله قد كان في زمن صفين والجمل والنهروان حرب مثلها أو أشد
منها، ولكن الناس آثروا الكتمان، واتفقوا على النسيان.
فإذا كان قتل الملك الرجل من العظماء بهذه المنزلة من قلوب الأعداء، ومن قلوب
الحكماء والغوغاء، فما ظنك بمن لو أبصروا رجلاً قد أحياه بعد أن ضرب عنقه،
وأبان رأسه من جسده، أليس كان يكون تعجبهم من إحيائه أشد من تعجبهم من قتله،
وكان يكون إخبارهم من خلفوا في منازلهم ومن ورد عليهم عن القتل ليكون سبباً
للإخبار عن الإحياء، إذ كان الأول صغيراً في جنب الثاني.
فهذا يدل على أن أعلام الرسل عليهم السلام وآياتهم أحق بالظهور والشهرة،
والقهر للقلوب والأسماع، من مخارجهم وشرائعهم. بل قد نعلم أن موسى عليه
السلام لم يذكر ولم يشهر إلا لأعاجيبه وآياته. وكذلك عيسى عليه السلام، ولولا
ذلك لما كانا إلا كغيرهما ممن لا يشعر بموته ولا مولده.
وكيف تتقدم المعرفة بهما المعرفة بأعلامهما وأعاجيبهما، وأنت لم تسمع بذكرهما
قط، دون ما ذكر من أعلامهما.
فإذا كان شأن الناس الإخبار عن كل عجيب، وحكاية كل عظيم، والإطراف بكل طريف،
وإيراد كل غريب من أمور دنياهم، فما لا يمتنع في طبائعهم، ولا يخرج من قوى
الخليقة في البطش والحيلة، أحق بالإخبار والإذاعة، وبالإظهار والإفاضة، هذا
على أن يترك الطباع وما يولد عليه، والنفوس وما تنتج، والعلل وما يسخر.
فكيف إن كان الله عز وجل قد خص أعلام أنبيائه وآيات رسله عليهم السلام من
تهييج الناس على الإخبار عنها، ومن تسخير الأسماع لحفظها، بخاصة لم يجعلها
لغيرها.
فصل منه
فإن قال القائل: إن الحجة لا تكون حجة حتى تعجز الخليقة وتخرج من حد الطاقة،
كإحياء الموتى، والمشي على الماء، وكفلق البحر، وكإطعام الثمار في غير أوان
الثمار، وكإنطاق السباع، وإشباع الكثير من القليل، وكل ما كان جسماً مخترعاً،
وجرماً مبتدعاً. وكالذي لا يجوز أن يتولاه إلا الخالق، ولا يقدر عليه إلا
الله عز ذكره.
فأما الأخبار التي هي أفعال العباد، وهم تولوها، وبهم كانت وبقولهم حدثت، فلا
يجوز أن يكون حجة، إذ كان لا حجة إلا ما لا يقدر عليه الخليقة، وما لا يتوهم
من جميع البرية.
قلنا: إنا لم نزعم أن الأخبار حجة فيحتجون علينا بها، وإنما زعمنا أن مجيئها
حجة، والمجيء ليس هو أمر يتكلفه الناس ويختارونه على غيره، ولو كان كذلك
لكانوا متى أرادوه فعلوه وتهيئوا له، ولفعلوه في الباطل كما يجيء لهم في
الحق. والمجيء أيضاً ليس هو فعلاً قائماً فيستطيعوه أو يعجزوا عنه، وإنما هو
الإنسان، يعلم أنه إذا لقي البصريين فأخبروه أنهم قد عاينوا بمكة شيئاً، ثم
لقي الكوفيين فأخبروه بمثل ذلك، أنهم قد صدقوا. إذ كان مثلهم لا يتواطأ على
مثل خبرهم على جهلهم بالغيب، وعلى اختلاف طبائعهم وهممهم وأسبابهم. فليس بين
هذا وبين إحياء الموتى والمشي على الماء فرق، إذ كان الناس لا يقدرون عليه،
ولا يطمعون فيه، والمجيء إنما هو معنىً معقول، وشيء موهوم. إذ كان كيف يكون
ومعلوم أن الناس لا يمكنهم أن يقدروا، ولا يستطيعون فعله. وإنما مدار أمر
الحجة على عجز الخليقة. فمتى وجدت أمراً ووجدت الخليقة عاجزة عنه فهي حجة. ثم
لا عليك جوهراً كان أو عرضاً، أو موجوداً أو متوهماً معقولاً. ألا ترى أن فلق
البحر ليس هو من جنس اختراع الثمار، لأن الفلق هو انفراج أجزاء، والثمار
أجرام حادثة.
وكذلك لو ادعى رجل أن الله عز وجل أرسله وجعل حجته علينا الإخبار بما أكلنا
وادخرنا وأضمرنا، لكان قد احتج علينا.
فإن قلتم: إن المنجمين ربما أخبروا بالضمير، وبالأمر المستور، وببعض ما يكون.
قلنا: أما واحدة فإن خطأ المنجمين كثير، وصوابهم قليل، بل هو أقل من القليل.
وأنتم لا تقدرون أن تقفونا من أخبار المرسلين عليهم السلام في كثير أخبارهم
على خطاء واحد، والذي سهل قليل المنجمين طرافة ذلك منهم، لأنهم لو قالوا
فأخطئوا أبداً لما كان عجبا، لأنه ليس بعجب أن يكون الناس لا يعلمون ما يكون
قبل أن يكون، ومن أعجب العجب أن يوافق قولهم بعض ما يكون.
وقد نجد المنجمين يختلفون في القضية الواحدة، ويخطئون في أكثرها. وقد نجد
الرسول يخبرهم عما يأكلون ويشربون ويدخرون ويضمرون، في الأمور الكثيرة
المعاني، والمختلفة في الوجوه، حتى لا يخطىء في شيء من ذلك. وليس في الأرض
منجم ذكر شيئاً أو وافق ضميراً إلا وأنت واجد بعض من يزجر قد يجيء بمثله
وأكثر منه.
فإن قلت: إن الناس يكذبون في الإخبار عن الأعراب والكهان من كل جيل؟ قلنا:
فهم في إخبارهم عن المنجمين أكذب.
وبعد، فالناس غير مستعظمين لكثرة كذب المنجمين وخطاياهم وخدعهم، والناس
يستعظمون اليسير من المرسلين عليهم السلام. وكلما كان الرجل في عينك أعظم،
وكان عن الكذب أزجر، كان كذبه عندك أعظم. وإنما المنجم عند العوام كالطبيب
الذي إن قتل المريض علاجه كان عندهم أن القضاء هو الذي قتله، وإن برأ كان هو
أبرأه. على أن صوابهم أكثر،ودليلهم أظهر.
وقد صار الناس لا يقتصرون للمنجمين على قدر ما يسمعون منهم، دون أن يولدوا
لهم، ويضعوا الأعاجيب عن ألسنتهم.
وكل ملحد في الأرض للرسول طاعن عليه، عائب له، يرى أن يصدق عليه كل كذاب يريد
ذمه، وأن يكذب كل صادق يريد مدحه.
وبعد، فلو كان خبر المنجمين في الصواب كخبر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام،
الذي هو حجة، لما كان خبر المنجمين حجة.
فإن قلت: ولم ذاك؟ قلت: لأن من كثر صوابه على غير استدلال ومقايسة، وعلى غير
حساب وتجربة، أو على نظر ومعاينة لم يكن الأمر من قبل الوحي؛ لأنك لو قلت
قصيدة في نفسك فحدثك بها رجل، وأنت تعلم أنه ليس بمنجم، وأنشدكها كلها، لعلمت
أن ذلك لا يكون إلا بوحي.
ومثل ذلك رجل اشتد وجع عينه فعالجه طبيب فبرأ، فلو جعل الطبيب ذلك حجة على
نبوته لوجب علينا تكذيبه، ولو قال رجل من غير أن يمسه أو يدنو إليه: اللهم إن
كنت صادقاً عليك فاشفه الساعة، فبرأ من ساعته لعلمنا أنه صادق.
فإن قالوا: وما علمنا أن محمداً عليه السلام لم يكن منجماً؟ قلنا: إن علمنا
بذلك كعلمنا بأن العباس وحمزة وعلياً وأبا بكر وعمر، رضوان الله عليهم
أجمعين، لم يكونوا منجمين، ولا أطباء متكهنين. وكيف يجوز أن يصير إنسان
عالماً بالنجوم من غير أن يختلف إلى المنجمين، أو يختلفوا إليه، أو يكون علم
النجوم فاشياً في أهل بلاده، أو يكون في أهله واحد معروف به. ولو بلغ إنسان
في علم النجوم، وليست معه علة من هذه العلل، وكان ذلك يخفى، لكان ذلك كبعض
الآيات والعلامات.
ومتى رأينا حاذقاً بالكلام، أو بالطب، أو بالحساب، أو بالغناء، أو بالنجوم،
أو بالعروض، خفي على الناس موضعه وسببه؟ ! وجميع ما ذكرنا، فعناية الناس به
وعداوتهم، وشهرته في نفسه، دون محمد صلى الله عليه وسلم.
وهل نصب أحد قط لأحد إلا بدون ما نصب له رهطه، وأدانى أهله، ومن معه في بيته
وربعه.
وما أعرف - يرحمك الله - المعاند والمسترشد والمصدق والمكذب، ينكر أن محمداً
صلى الله عليه وسلم لم يكن منجماً ولا طبيباً. وإذا قال الجاهل: إنه قد كان
يعلم الخط فخفي له ذلك، وتعلم الأسباب والقضاء في النجوم فخفي له ذلك، وتعلم
البيان وقدر منه على ما يعجز أمثاله عنه وخفي ذلك، أليس مع قوله ما يعلم
خلافه، يعلم أنه قد سلم له أعجوبة كأعجوبة إبراء الأكمه والأبرص، والمشي على
الماء، إذ كان ذلك لا يجوز، ولا يمكن في الطبائع والعقل والتجربة.
وافهم يرحمك الله ما أنا واصفه لك: هل يجد التارك لتصديقه أنه لا يدري بزعمه،
لعله كان أعلم الخلق بالنجوم، ناظراً لنفسه، غير معاند لحجة عقله. وهو لم يجد
أحداً قط برع في صناعة واحدة فخفي على الناس موضعه بكل ما حكينا وفسرنا.
وأنت كيف تعلم أنه ليس في إخوانك من ليس بمنجم، وأن فيهم من ليس بطبيب، إلا
بمثل ما يعرف به رهط النبي صلى الله عليه وآله منه.
وكيف لم يشتهر ذلك، ولم لم يحتج به عليه؟ ولقد بلغ من إسرافهم في شتمه،
وإفراطهم عليه، أن نافقوا وأحالوا، لأنهم كانوا يقولون له: أنت ساحر، وأنت
مجنون! وإنما يقال للرجل: ساحر، لخلابته وحسن بيانه، ولطف مكايده، وجودة
مداراته وتحببه. ويقال: مجنون، لضد ذلك كله.
فصل منه
وليس ينتفع الناس بالكلام في الأخبار إلا مع التصادق، ولا تصادق إلا مع كثرة
السماع، والعلم بالأصول؛ لأن رجلاً لو نازع في الأخبار، وفي الوعد والعيد،
والخاص والعام، والناسخ والمنسوخ، والفريضة والنافلة، والسنة والشريعة،
والاجتماع والفرقة، ثم حسنت نيته، وناضح عن نفسه، لما عرف حقائق باطل دون أن
يكون قد عرف الوجوه، وسمع الجمل، وعرف الموازنة، وما كان في الطبائع، وما
يمتنع فيها. وكيف أيضاً يقول في التأويل من لم يسمع بالتنزيل؟ وكيف يعرف صدق
الخبر من لم يعرف سبب الصدق؟ واعلم أن من عود قلبه التشكك اعتراه الضعف،
والنفس عروف، فما عودتها من شيء جرت عليه.
والمتحير إلى تقوية قلبه ورد قوته عليه وإفهامه موضع رأيه، وتوقيفه على الأمر
الذي أثقل صدره، أحوج منه إلى المنازعة في فرق ما بين المجيء الذي يكذب مثله،
والمجيء الذي لا يكذب مثله.
وسنتكلف من علاج دائه، وترتيب إفهامه إن أعان على نفسه، بما لا يبقي سبباً
للشك، ولا علة للضعف. والله تعالى المعين على ذلك، والمحمود عليه.
فصل منه
ومتى سمعنا نبي الله عليه السلام اتكل على عدالته، وعلى معرفة قومه بقديم
طهارته، وقلة كذبه، دون أن جاءهم بالعلامات والبرهانات؟ ولعمري لو لم نجد
الحافظ ينسى، والصادق يكذب، والمؤمن يبدل، لقد كان ما ذهبوا إليه وجهاً.
فصل منه في ذكر دلائل النبي
عليه الصلاة والسلام
وباب آخر يعرف به صدقه، وهو إخباره عما يكون، وإخباره عن ضمائر الناس، وما
يأكلون وما يدخرون، ولدعائه المستجاب الذي لا تأخير فيه، ولا خلف له. وذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم حين لقي من قريش والعرب ما لقي من شدة أذاهم له،
وتكذيبهم إياه، واستعانتهم عليه بالأموال والرجال، دعا الله جل وعز أن يجدب
بلادهم، وأن يدخل الفقر بيوتهم، فقال صلى الله عليه وآله: " اللهم سنين كسني
يوسف. اللهم اشدد وطأتك على مضر " .
فأمسك الله عز وجل عنهم المطر حتى مات الشجر، وذهب الثمر، وقلت المزارع،
وماتت المواشي، وحتى اشتووا القد والعلهز.
فعند ذلك وفد حاجب بن زرارة على كسرى، يشكو إليه الجهد والأزل ويستأذنه في
رعي السواد، وهو حين ضمنه عن قومه، وأرهنه قوسه. فلما أصاب مضر خاصة الجهد،
ونهكهم الأزل، وبلغت الحجة مبلغها، وانتهت الموعظة منتهاها، عاد بفضله صلى
الله عليه وسلم، على الذي بدأهم به، فسأل ربه الخصب وإدرار الغيث، فأتاهم منه
ما هدم بيوتهم، ومنعهم حوائجهم، فكلموه في ذلك فقال: " الله حوالينا ولا
علينا " . فأمطر الله عز وجل ما حولهم، وأمسك عنهم.
وكتب إلى كسرى يدعوه إلى نجاته وتخليصه من كفره، فبدأ باسمه على اسمه، فأنف
من ذلك كسرى لشقوته، وأمر بتمزيق الكتاب، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم قال:
" اللهم مزق ملكه كل ممزق " . فمزق الله جل وعز ملكه، وجد أصله، وقطع دابره،
لأن كل ملك في الأرض، وإن كان قد أخرج من معظم ملكه، فهو مقيم على بقية منه،
وذلك أن الإسلام لم يترك ملكاً بحيث تناله الحوافر والأخفاف والأقدام، إلا
أزاله عنه، وأخرجه منه إلى عقاب يعتصم بها، ومعاقل يأوي إليها، أو طرده إلى
خليج منيع، لا يقطعه إلا السفن، فهم من بين هارب قد دخل في وجار، أو اختفى في
غيضة، أو مقيم على فم شعب، ورأس مضيق، قد سخت نفسه عن كل سهل، وأسلم كل مرج
أو ملك لا قرار له، وليس بذي مدر فيؤتى، وإنما أصحابه أكراد يطلبون النجعة،
أو كخوارج يطلبون الغرة. فأما أن يكون ملك يصحر لهم، ويقيم بإزائهم، ويغاديهم
الحرب ويمسيهم، ويساجلهم الظفر ويناهضهم، كما كانت ملوك الطوائف، وكالذي كان
بين فارس والروم فلا، وذلك لقوله تعالى: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين
الحق ليظهره على الدين كله " إلى قوله عز ذكره: " المشركون " . فلم يرض أن
أظهر دينه حتى جعل أهله الغالبين بالقدرة، والظاهرين بالمنعة، والآخذين
الإتاوة.
وكتب كسرى إلى فيروز الديلمي، وهو من بقية أصحاب سيف بن ذي يزن: أن احمل إلى
هذا العبد الذي بدأ باسمه قبل اسمي، واجترأ علي، ودعاني إلى غير ديني! فأتاه
فيروز فقال: إن ربي أمرني أن أحملك إليه. فقال صلى الله عليه وسلم: " إن ربي
خبرني أنه قد قتل ربك البارحة، فأمسك علي ريثما يأتيك الخبر، فإن تبين لك
صدقي، وإلا فأنت على أمرك " . فراع ذلك فيروز وهاله، وكره الإقدام عليه،
والاستخفاف به، فإذا الخبر قد أتاه: أن شيرويه قد وثب عليه في تلك الليلة
فقتله. فأسلم وأخلص، ودعا من معه من بقية الفرس إلى الله عز ذكره فأسلموا.
فصل منه في ذكر النبي
صلى الله عليه وآله
ثم إن الذي تقدمه صلى الله عليه وآله من البشارات في الكتب المتقادمة، في
الأزمان المتباعدة، والبلدان الموجودة بكل مكان، على شدة عداوة أهلها، وتعصب
حامليها، ومع قوة حسدهم، وشدة بغيهم.
وما ذلك ببديع منهم ومن آبائهم، على أنهم أشبه بآبائهم منهم بأزمانهم. وكل
الناس أشبه بأزمانهم منهم بآبائهم. وآباؤهم الذين قتلوا أنبياءهم عليهم
السلام، وتعنتوا رسلهم صلى الله عليهم، حتى خلاهم الله عز وجل من يده،
وأفقدهم عصمته وتوفيقه.
ولم استدل على ذكره في التوراة والإنجيل والزبور، وعلى صفته والبشارة به في
الكتب إلا لأنك متى وجدت النصراني واليهودي يسلم بأرض الشام وجدته يعتل
بأمور، ويحتج بأشياء مثل الأمور التي يحتج بها من أسلم بالعراق. وكذلك من
أسلم بالحجاز، ومن أسلم من اليمن، من غير تلاق ولا تعارف، ولا تشاعر. وكيف
يتلاقون ويتراسلون، وهم غير متعارفين ولا متشاعرين؟ ولو كانوا كذلك لظهر ذلك
ولم ينكتم، كما حكينا قبل هذا. ولو قابلت بين أخبارهم واحتجاجهم مع كثرة
الألفاظ واختلاف المعاني، لوجدتها متساوية.
فصل منه
فإن قال قائل: لم كانت أعلام موسى عليه السلام في كثرتها مع غي بني إسرائيل،
ونقصان أحلام القبط، في وزن أعلام محمد صلى الله عليه وسلم وفي قدرها، مع
أحلام قريش، وعقول العرب.
ومتى أحببت أن تعرف غي بني إسرائيل ونقصان أحلام القبط، ورجحان عقول العرب،
وأحلام كنانة، فأت بواديهم ورباعهم. وانظر إلى بنيهم وبقاياهم، كما نظرت إلى
بني إسرائيل من اليهود وغي بني من مضى من القبط تعتبر ذلك وتعرف ما أقول. ثم
انظر في أشعار العرب الصحيحة، والخطب المعروفة، والأمثال المضروبة، والألفاظ
المشهورة، والمعاني المذكورة، مما نقلته الجماعات عن الجماعات، وكلام العرب
ومعانيهم في الجاهلية.
ثم تفقد، وسل أهل العلم والخبرة عن بني إسرائيل، فإن وجدت لهم مثلاً سائراً
كما تسمع للقبط والفرس، فضلاً عن العرب فقد أبطلنا فيما قلنا.
وقد كان الرجل من العرب يقف المواقف، ويسير عدة أمثال، كل واحد منها ركن يبنى
عليه، وأصل يتفرع منه.
أو هل تسمع لهم بكلام شريف، أو معنىً يستحسنه أهل التجربة، وأصحاب التدبير
والسياسة، أو حكم أو حكمة، أو حذق في صناعة، مع ترادف الملك فيهم، وتظاهر
الرسالة في رجالهم.
وكيف لا تقضي عليهم بالغي والجهل، ولم تسمع لهم بكلمة فاخرة، أو معنىً نبيه،
لا ممن كان في المبدى، ولا ممن كان في المحضر، ولا من قاطني السواد، ولا من
نازلي الشام؟ ثم انظر إلى أولادهم مع طول لبثهم فينا، وكونهم معنا، هل غير
ذلك من أخلاقهم وشمائلهم، وعقولهم، وأحلامهم، وآدابهم، وفطنهم؟ فقد صلح بنا
كثير من أمور النصارى وغيرهم.
وليس النصارى كاليهود، لأن اليهود كلهم من بني إسرائيل إلا القليل.
وبعد، فلم يضرب فيهم غيرهم، لأن مناكحهم مقصورة فيهم، ومحبوسة عليهم، فصور
أولهم مؤداة إلى آخرهم، وعقول أسلافهم مردودة على أخلافهم، ثم اعتبر بقولهم
لنبيهم عليه السلام: " اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة " حين مروا على قوم
يعكفون على أصنام لهم يعبدونها. وكقولهم: " أرنا الله جهرة " ، وكعكوفهم على
عجل صنع من حليهم، يعبدونه من دون الله، بعد أن أراهم من الآيات ما أراهم.
وكقولهم: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " ، فكان الذي جاء به
موسى عليه السلام، مع نقص بني إسرائيل والقبط، مثل الذي جاء به محمد صلى الله
عليه وسلم، مع رجحان قريش والعرب.
وكذلك وعد محمد عليه السلام بنار الأبد، كوعيد موسى بني إسرائيل بإلقاء
الهلاس على زروعهم، والهم على أفئدتهم، وتسليط الموتان على ماشيتهم،
وبإخراجهم من ديارهم، وأن يظفر بهم عدوهم. فكان تعجيل العذاب الأدنى في
استدعائهم واستمالتهم، وردعهم عما يريد بهم، وتعديل طبائعهم، كتأخير العذاب
الشديد على غيرهم، لأن الشديد المؤخر لا يزجر إلا أصحاب النظر في العواقب،
وأصحاب العقول التي تذهب في المذاهب.
فسبحان من خالف بين طبائعهم وشرائعهم ليتفقوا على مصالحهم في دنياهم،
ومراشدهم في دينهم، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم مخصوص بعلامة لها في
العقل موقع، كموقع فلق البحر من العين، وذلك قوله لقريش خاصة، وللعرب عامة،
مع ما فيهما من الشعراء والخطباء والبلغاء، والدهاة والحلماء، وأصحاب الرأي
والمكيدة، والتجارب والنظر في العاقبة: إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كذبت في
دعواي، وصدقتم في تكذيبي.
ولا يجوز أن يكون مثل العرب في كثرة عددهم واختلاف عللهم، والكلام كلامهم،
وهو سيد علمهم، فقد فاض بيانهم، وجاشت به صدورهم، وغلبتهم قوتهم عليه عند
أنفسهم، حتى قالوا في الحيات والعقارب، والذباب والكلاب، والخنافس والجعلان،
والحمير والحمام، وكل ما دب ودرج، ولاح لعين، وخطر على قلب. ولهم بعد أصناف
النظم، وضروب التأليف، كالقصيد، والرجز، والمزدوج، والمجانس، والأسجاع
والمنثور.
وبعد، فقد هجوه من كل جانب، وهاجى أصحابه شعراءهم، ونازعوا خطباءهم، وحاجوه
في المواقف، وخاصموه في المواسم، وبادوه العداوة، وناصبوه الحرب، فقتل منهم،
وقتلوا منه، وهم أثبت الناس حقداً، وأبعدهم مطلباً، وأذكرهم لخير أو لشر،
وأنفاهم له، وأهجاهم بالعجز، وأمدحهم بالقوة، ثم لا يعارضه معارض، ولم يتكلف
ذلك خطيب ولا شاعر.
ومحال في التعارف، ومستنكر في التصادق، أن يكون الكلام أخصر عندهم، وأيسر
مئونة عليهم، وهو أبلغ في تكذيبهم وأنقض لقوله، وأجدر أن يعرف ذلك أصحابه
فيجتمعوا على ترك استعماله، والاستغناء به، وهم يبذلون مهجهم وأموالهم،
ويخرجون من ديارهم في إطفاء أمره، وفي توهين ما جاء به، ولا يقولون، بل لا
يقول واحد من جماعتهم: لم تقتلون أنفسكم، وتستهلكون أموالكم، وتخرجون من
دياركم، والحيلة في أمره يسيرة، والمأخذ في أمره قريب؟ ! ليؤلف واحد من
شعرائكم وخطبائكم كلاماً في نظم كلامه، كأقصر سورة يخذلكم بها، وكأصغر آية
دعاكم إلى معارضتها. بل لو نسوا، ما تركهم حتى يذكرهم، ولو تغافلوا ما ترك أن
ينبههم، بل لم يرض بالتنبيه دون التوقيف.
فدل ذلك العاقل على أن أمرهم في ذلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكونوا
عرفوا عجزهم، وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم، فرأوا أن الإضراب عن ذكره، والتغافل
عنه في هذا الباب وإن قرعهم به، أمثل لهم في التدبير، وأجدر أن لا يتكشف
أمرهم للجاهل والضعيف، وأجدر أن يجدوا إلى الدعوى سبيلاً، وإلى اختداع
الأنبياء سبباً، فقد ادعوا القدرة بعد المعرفة بعجزهم عنه، وهو قوله عز ذكره:
" وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا " .
وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز، والتوقيف على النقص، ثم لا
يبذلون مجهودهم، ولا يخرجون مكنونهم وهم أشد خلق الله عز وجل أنفة، وأفرط
حمية، وأطلبه بطائلة، وقد سمعوه في كل منهل وموقف. والناس موكلون بالخطابات،
مولعون بالبلاغات. فمن كان شاهداً فقد سمعه، ومن كان غائباً فقد أتاه به من
لم يزوده.
وإما أن يكون غير ذلك.
ولا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة وهم يقدرون عليها، لأنه لا يجوز على
العدد الكثير من العقلاء والدهاة والحلماء، مع اختلاف عللهم، وبعد هممهم،
وشدة عداوتهم الإطباق على بذل الكثير، وصون اليسير.
وهذا من ظاهر التدبير، ومن جليل الأمور التي لا تخفى على الجهال فكيف على
العقلاء، وأهل المعارف فكيف على الأعداء، لأن تحبير الكلام أهون من القتال،
ومن إخراج المال.
ولم يقل: إن القوم قد تركوا مساءلته في القرآن والطعن فيه، بعد أن كثرت
خصومتهم في غيره.
ويدلك على ذلك قوله عز وجل: " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة
واحدة " وقوله عز ذكره: " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون
لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله " ، وقوله تعالى جل ذكره: " وقال الذين
كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون " .
ويدلك كثرة هذه المراجعة، وطول هذه المناقلة، على أن التقريع لهم بالعجز كان
فاشياً، وأن عجزهم كان ظاهراً.
ولو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم تحداهم بالنظر والتأليف، ولم يكن أيضاً
أزاح علتهم، حتى قال تعالى: " قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات " وعارضوني
بالكذب، لقد كان في تفصيله له وتركيبه، وتقديمه له واحتجاجه، ما يدعو إلى
معارضته ومغالبته وطلب مساويه.
ولو لم يكن تحداهم من كل ما قلنا، وقرعهم بالعجز عما وصفنا وهل هذا إلا
بمديحه له، وإكثاره فيه لكان ذلك سبباً موجباً لمعارضته ومغالبته وطلب
تكذيبه، إذ كان كلامهم هو سيد عملهم، والمئونة فيه أخف عليهم، وقد بذلوا
النفوس والأموال. وكيف ضاع منهم، وسقط على جماعتهم نيفاً وعشرين سنة، مع كثرة
عددهم، وشدة عقولهم، واجتماع كلمتهم؟ ! وهذا أمر جليل الرأي، ظاهر التدبير.
فصل منه في ذكر امتناعهم من معارضة القرآن
لعلمهم بعجزهم عنها
والذي منعهم من ذلك هو الذي منع ابن أبي العوجاء، وإسحاق بن طالوت، والنعمان
بن المنذر، وأشباههم من الأرجاس، الذين استبدلوا بالعز ذلاً، وبالإيمان
كفراً، والسعادة شقوة، وبالحجة شبهة.
بل لا شبهة في الزندقة خاصة. فقد كانوا يصنعون الآثار، ويولدون الأخبار،
ويبثونها في الأمصار، ويطعنون في القرآن، ويسألون عن متشابهه، وعن خاصه
وعامه، ويضعون الكتب على أهله. وليس شيء مما ذكرنا يستطيع دفعه جاهل غبي، ولا
معاند ذكي.
فصل منه
ولما كان أعجب الأمور عند قوم فرعون السحر، ولم يكن أصحابه قط في زمان أشد
استحكاماً فيه منهم في زمانه، بعث الله موسى عليه السلام على إبطاله وتوهينه،
وكشف ضعفه وإظهاره، ونقض أصله لردع الأغبياء من القوم، ولمن نشأ على ذلك من
السفلة والطغام.
لأنه لو كان أتاهم بكل شيء، ولم يأتهم بمعارضة السحر حتى يفصل بين الحجة
والحيلة، لكانت نفوسهم إلى ذلك متطلعة، ولاعتل به أصحاب الأشغاب، ولشغلوا به
بال الضعيف، ولكن الله تعالى جده، أراد حسم الداء، وقطع المادة، وأن لا يجد
المبطلون متعلقا، ولا إلى اختداع الضعفاء سبيلاً، مع ما أعطى الله موسى عليه
السلام من سائر البرهانات، وضروب العلامات.
وكذلك زمن عيسى عليه السلام كان الأغلب على أهله، وعلى خاصة علمائه الطب،
وكانت عوامهم تعظم على ذلك خواصهم، فأرسله الله عز وجل بإحياء الموتى، إذ
كانت غايتهم علاج المرضى.
وأبرأ لهم الأكمه إذ كانت غايتهم علاج الرمد، مع ما أعطاه الله عز وجل من
سائر العلامات، وضروب الآيات؛ لأن الخاصة إذا بخعت بالطاعة، وقهرتها الحجة،
وعرفت موضع العجز والقوة، وفصل ما بين الآية والحيلة، كان أنجع للعامة، وأجدر
أن لا يبقى في أنفسهم بقية.
وكذلك دهر محمد صلى الله عليه وسلم، كان أغلب الأمور عليهم، وأحسنها عندهم،
وأجلها في صدورهم، حسن البيان، ونظم ضروب الكلام، مع علمهم له، وانفرادهم به.
فحين استحكمت لفهمهم وشاعت البلاغة فيهم، وكثر شعراؤهم، وفاق الناس خطباؤهم،
بعثه الله عز وجل، فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه.
فلم يزل يقرعهم بعجزهم، وينتقصهم على نقصهم، حتى تبين ذلك لضعفائهم وعوامهم،
كما تبين لأقويائهم وخواصهم. وكان ذلك من أعجب ما آتاه الله نبياً قط، مع
سائر ما جاء به من الآيات، ومن ضروب البرهانات.
ولكل شيء باب ومأتىً، واختصار وتقريب. فمن أحكم الحكمة إرسال كل نبي بما يفحم
أعجب الأمور عندهم، ويبطل أقوى الأشياء في ظنهم.
فصل في ذكر أخلاق النبي
صلى الله عليه وسلم
وآية أخرى لا يعرفها إلا الخاصة، ومتى ذكرت الخاصة فالعامة في ذلك مثل
الخاصة. وهي الأخلاق والأفعال التي لم تجتمع لبشر قط قبله، ولا تجتمع لبشر
بعده.
وذلك أنا لم نر ولم نسمع لأحد قط كصبره، ولا كحلمه، ولا كوفائه، ولا كزهده،
ولا كجوده، ولا كنجدته، ولا كصدق لهجته، وكرم عشرته، ولا كتواضعه، ولا كعلمه،
ولا كحفظه، ولا كصمته إذا صمت، ولا كقوله إذا قال، ولا كعجيب منشئه، ولا كقلة
تلونه، ولا كعفوه، ولا كدوام طريقته، وقلة امتنانه.
ولم نجد شجاعاً قط إلا وقد جال جولة، وفر فرة، وانحاز مرة، من معدودي شجعان
الإسلام، ومشهوري فرسان الجاهلية، كفلان وفلان.
وبعد، فقد نصر النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر معه قوم، ولم نر كنجدتهم نجدة،
ولا كصبرهم صبراً. وقد كانت لهم الجولة والفرة، كما قد بلغك عن يوم أحد، وعن
يوم حنين، وغير ذلك من الوقائع والأيام.
فلا يستطيع منافق ولا زنديق ولا دهري، أن يحدث أن محمداً عليه السلام جال
جولة قط، ولا فر فرة قط، ولا خام عن غزوة، ولا هاب حرب من كاثره.
|