في
خلق القرآن
ثبتك الله بالحجة، وحصن دينك من كل شبهة، وتوفاك مسلماً، وجعلك من الشاكرين.
وقد أعجبني، حفظك الله، استهداؤك العلم وفهمك له، وشغفك بالإنصاف وميلك إليه،
وتعظيمك الحق وموالاتك فيه، ورغبتك عن التقليد وزرايتك عليه، ومواترة كتبك
على بعد دارك، وتقطع أسبابك، وصبرك إلى أوان الإمكان، واتساعك عند تضايق
العذر.
وفهمت، حفظك الله، كتابك الأول، وما حثثت عليه من تبادل العلم، والتعاون على
البحث، والتحاب في الدين، والنصيحة لجميع المسلمين.
وقلت: اكتب إلي كتاباً تقصد فيه إلى حاجات النفوس، وإلى صلاح القلوب، وإلى
معتلجات الشكوك، وخواطر الشبهات، دون الذي عليه أكثر المتكلمين من التطويل،
ومن التعمق والتعقيد، ومن تكلف ما لا يجب، وإضاعة ما يجب.
وقلت: كن كالمعلم الرفيق، والمعالج الشفيق، الذي يعرف الداء وسببه، والدواء
وموقعه، ويصبر على طول العلاج، ولا يسأم كثرة الترداد.
وقلت: اجعل تجارتك التي إياها تؤمل، وصناعتك التي إياها تعتمد إصلاح الفساد،
ورد الشارد.
وقلت: ولا بد من استجماع الأصول، ومن استيفاء الفروع، ومن حسم كل خاطر، وقمع
كل ناجم، وصرف كل هاجس، ودفع كل شاغل، حتى تتمكن من الحجة، وتتهنأ بالنعمة،
وتجد رائحة الكفاية، وتثلج ببرد اليقين، وتفضي إلى حقيقة الأمر. إن كان لا بد
من عوارض العجز، ولواحق التقصير، فالبر لها أجمل، والضرر علينا في ذلك أيسر.
وقلت: ابدأ بالأقرب فالأقرب، وبكل ما كان آنق في السمع، وأحلى في الصدر،
وبالباب الذي منه يؤتى الريض المتكلف، والجسور المتعجرف، وبكل ما كان أكثر
علماً، وأنفذ كيدا.
وسألتني بتقبيح الاستبداد، والعجلة إلى الاعتقاد، وصفة الأناة ومقدارها،
ومقدمات العلوم ومنتهاها. وزعمت أن من اللفظ ما لا يفهم معناه دون الإشارة،
ودون معرفة السبب والهيئة، ودون إعادته وكره وتحريره واختياره.
وقلت: فإن أنت لم تصور ذلك كله صورة تغني عن المشافهة، وتكتفي بظاهرها عن
المراسلة أحوجتنا إلى لقائك، على بعد دارك، وكثرة أشغالك، وعلى ما تخاف من
الضيعة وفساد المعيشة.
فكتبت لك كتاباً، أجهدت فيه نفسي، وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج
للقرآن، والرد على كل طعان. فلم أدع فيه مسألة لرافضي، ولا لحديثي، ولا
لحشوي، ولا لكافر مباد، ولا لمنافق مقموع، ولا لأصحاب النظام، ولمن نجم بعد
النظام، ممن يزعم أن القرآن خلق، وليس تأليفه بحجة، وأنه تنزيل وليس ببرهان
ولا دلالة.
فلما ظننت أني قد بلغت أقصى محبتك، وأتيت على معنى صفتك، أتاني كتابك تذكر
أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن. وكانت
مسألتك مبهمة، ولم أك أن أحدث لك فيها تأليفاً، فكتبت لك أشق الكتابين
وأثقلهما، وأغمضهما معنىً وأطولهما.
ولولا ما اعتللت به من اعتراض الرافضة، واحتجاج القوم علينا بمذهب معمر، وأبي
كلدة، وعبد الحميد، وثمامة، وكل من زعم أن أفعال الطبيعة مخلوقة على المجاز
دون الحقيقة، وأن متكلمي الحشوية والنابتة قد صار لهم بمناظرة أصحابنا،
وبقراءة كتبنا بعض الفطنة لما كتبت لك، رغبة بك عن أقدارهم، وضناً بالحكمة عن
إعثارهم، وإنما يكتب على الخصوم والأكفاء، وللأولياء على الأعداء، ولمن يرى
للنظر حقاً، وللعلم قدراً، وله في الإنصاف مذهب، وإلى المعرفة سبب.
وزعمت أنك لم تر في كتب أصحابنا إلا كتاباً لا تفهمه، أو كتاباً وجدت الحجة
على واضع الكتاب فيه أثبت.
وقلت: وإياك أن تتكل على مقدار ما عندهم، دون أن تعتصر قوى باطلهم، وتوفيهم
جميع حقوقهم، وإذا تقلدت الإخبار عن خصمك فحطه كحياطتك لنفسك، فإن ذلك أبلغ
في التعليم، وآيس للخصوم.
وقلت: وزعموا أنه يلزمك أن تزعم أن القرآن ليس بمخلوق إلا على المجاز، كما
ألزم ذلك نفسه معمر وأبو كلدة وعبد الحميد وثمامة، وكل من ذهب مذهبهم، وقاس
قياسهم.
فتفهم - فهمك الله - ما أنا واصفه لك، ومورده عليك: اعلم أن القوم يلزمهم ما
ألزموه أنفسهم، وليس ذلك إلا لعجزهم عن التخلص بحقهم، وإلا لذهابهم عن قواعد
قولهم، وفروع أصولهم، فليس لك أن تضيف العجز الذي كان منهم إلى أصل مقالتهم،
وتحمل ذلك الخطأ على غيرهم. فلرب قول شريف الحسب، جيد المركب، وافر العرض،
بريء من العيوب، سليم من الأفن، قد ضيعه أهله، وهجنه المفترون عليه، فألزموه
ما لا يلزمه، وأضافوا إليه ما لا يجوز عليه.
ولو زعم القوم على أصل مقالتهم أن القرآن هو الجسم دون الصوت والتقطيع،
والنظم والتأليف، وأنه ليس بصوت ولا تقطيع ولا تأليف، إذ كان الصوت عندهم لا
يخترع كاختراع الأجسام المصورة، ولا يحتمل التقطيع كاحتمال الأجرام المتجسدة،
والصوت عرض، لا يحدث من جوهر إلا بدخول جوهر آخر عليه، ومحال أن يحدث إلا
وهناك جسمان قد صك أحدهما صاحبه، ولا بد من مكانين: مكان زال عنه، ومكان آل
إليه. ولا بد من هواء بين المصطكين. والجسم قد يحدث وحده ولا شيء غيره،
والصوت على خلاف ذلك.
والعرض لا يقوم بنفسه، ولا بد من أن يقوم بغيره، والأعراض من أعمال الأجسام،
لا تكون إلا منها، ولا توجد إلا بها وفيها.
والجسم لا يكون إلا من جسم، ولا يكون إلا من مخترع الأجسام.
وليست لكون الجسم من الله علة توجيه، ولا يحدث إذا حدث إلا اختياراً، وإلا
ابتداعاً واختراعاً. والصوت لا يكون إلا عن علة موجبة، ولا يكون إلا تولداً
ونتيجة، ولا يحدث إلا من جرمين، كاصطكاك الحجرين، وكقرع اللسان باطن الأسنان،
وإلا من هواء يتضاغط، وريح تختنق، ونار تلتهب. والريح عندهم هواء تحرك،
والنار عندهم ريح حارة. هكذا الأمر عندهم.
فلو قالوا: لا يكون الشيء مخلوقاً في الحقيقة، دون المجاز وعلى مجازي اللغة،
إلا وقد بان الله عز وجل باختراعه، وتولاه بابتداعه، وكان منه على اختيار،
والابتداع: الذي يمكن تركه وإنشاء عقيبه بدلاً منه، على ما كان يوكده،
ونتيجته من أجسام يستحيل أن يخلق من أفعالها، ويجلبها الله تعالى منها.
والقرآن على غير ذلك، جسم وصوت، وذو تأليف وذو نظم، وتوقيع وتقطيع، وخلق قائم
بنفسه، مستغن عن غيره، ومسموع في الهواء، ومرئي في الورق، ومفصل وموصل،
واجتماع وافتراق، ويحتمل الزيادة والنقصان، والفناء والبقاء، وكل ما احتملته
الأجسام، ووصفت به الأجرام. وكل ما كان كذلك فمخلوق في الحقيقة دون المجاز
وتوسع أهل اللغة.
فلو كانوا قالوا ذلك لكانوا أصابوا في القياس، ووافقوا أهل الحق، وكانوا مع
الجماعة، ولم يضاهوا أهل الخلاف والفرقة، ولم يصموا أنفسهم بقول المشبهة، إذ
كان ظاهر قولهم على التشبيه أدل، وبه أشبه.
ولا يجوز أن أذكر موافقتي لهم، ومخالفتي عليهم في صدر هذا الكتاب، لأن
التدبير في وضع الكتاب، والسياسة في تعليم الجهال أن يبدأ بالأوضح فالأوضح،
والأقرب فالأقرب، وبالأصول قبل الفروع، حتى يكون آخر الكتاب لآخر القياس.
وآخر الكلام لا يفهم - أرشدك الله - ولا يتوهم إلا على ترتيب الأمور، وتقديم
الأصول. فإذا رتبنا الأمور، وقدمنا الأصول صارت أواخر المعاني في الفهم
كأوائلها، ودقيقها كجليلها.
فصل منه
وقد علمنا أن بعض ما فيه الاختلاف بين من ينتحل الإسلام أعظم فرية، وأشد
بلية، وأشنع كفراً، وأكبر إثماً من كثير مما أجمعوا على أنه كفر.
وبعد، فنحن لم نكفر إلا من أوسعناه حجة، ولم نمتحن إلا أهل التهمة، وليس كشف
المتهم من التجسس، ولا امتحان الظنين من هتك الأسرار. ولو كان كل كشف هتكاً،
وكل امتحان تجسساً، لكان القاضي أهتك الناس لستر، وأشد الناس كشفاً لعورة.
والذين خالفوا في العرش إنما أرادوا نفي التشبيه فغلطوا، والذين أنكروا أمر
الميزان إنما كرهوا أن تكون الأعمال أجساماً وأجراماً غلاظاً. فإن كانوا قد
أصابوا فلا سبيل عليهم، وإن كان قد أخطئوا فإن خطأهم لا يتجاوز بهم إلى
الكفر. وقولهم وخلافهم بعد ظهور الحجة تشبيه للخالق بالمخلوق، فبين المذهبين
أبين الفرق.
وقد قال صاحبكم للخليفة المعتصم، يوم جمع الفقهاء والمتكلمين والقضاة
والمخلصين، إعذاراً وإنذاراً: امتحنتني وأنت تعرف ما في المحنة، وما فيها من
الفتنة، ثم امتحنتني من بين جميع هذه الأمة! قال المعتصم: أخطأت، بل كذبت،
وجدت الخليفة قبلي قد حبسك وقيدك، ولو لم يكن حبسك على تهمة لأمضى الحكم فيك،
ولو لم يخفك على الإسلام ما عرض لك، فسؤالي إياك عن نفسك ليس من المحنة، ولا
من طريق الاعتساف، ولا من طريق كشف العورة، إذ كانت حالك هذه الحال، وسبيلك
هذه السبيل.
وقيل للمعتصم في ذلك المجلس: ألا تبعث إلى أصحابه حتى يشهدوا إقراره،
ويعاينوا انقطاعه، فينقض ذلك استبصارهم، فلا يمكنه جحد ما أقر به عندهم؟ فأبى
أن يقبل ذلك، وأنكره عليهم، وقال: لا أريد أن أوتى بقوم إن اتهمتهم ميزت فيهم
بسيرتي فيهم، وإن بان لي أمرهم أنفذت حكم الله فيهم، وهم ما لم أوت بهم كسائر
الرعية، وكغيرهم من عوام الأمة، وما من شيء أحب إلي من الستر، ولا شيء أولى
بي من الأناة والرفق.
وما زال به رفيقاً، وعليه رقيقاً، ويقول: لأن أستحييك بحق أحب إلي من أن
أقتلك بحق! حتى رآه يعاند الحجة، ويكذب صراحاً عند الجواب. وكان آخر ما عاند
فيه، وأنكر الحق وهو يراه، أن أحمد بن أبي دواد قال له: أليس لا شيء إلا قديم
أو حديث؟ قال: نعم. قال: أو ليس القرآن شيئاً؟ قال: نعم. قال: أو ليس لا قديم
إلا الله؟ قال: نعم. قال: فالقرآن إذاً حديث؟ قال: ليس أنا متكلم.
وكذلك كان يصنع في جميع مسائله، حتى كان يجيبه في كل ما سأل عنه، حتى إذا بلغ
المخنق، والموضع الذي إن قال فيه كلمة واحدة برىء منه صاحبه قال: ليس أنا
متكلم! فلا هو قال في أول الأمر: لا علم لي بالكلام، ولا هو حين تكلم فبلغ
موضع ظهور الحجة، خضع للحق. فمقته الخليفة، وقال عند ذلك: أف لهذا الجاهل
مرة، والمعاند مرة.
وأما الموضع الذي واجه فيه الخليفة بالكذب، والجماعة بالقحة، وقلة الاكتراث
وشدة التصميم، فهو حين قال له أحمد بن أبي دواد: تزعم أن الله رب القرآن؟
قال: لو سمعت أحداً يقول ذلك لقلت. قال: أفما سمعت ذلك قط من حالف ولا سائل،
ولا من قاص، ولا في شعر، ولا في حديث؟ ! قال: فعرف الخليفة كذبه عند المسألة،
كما عرف عنوده عند الحجة.
وأحمد بن أبي دواد - حفظك الله - أعلم بهذا الكلام، وبغيره من أجناس العلم،
من أن يجعل هذا الاستفهام مسألة، ويعتمد عليها في مثل تلك الجماعة. ولكنه
أراد أن يكشف لهم جرأته على الكذب، كما كشف لهم جرأته في المعاندة. فعند ذلك
ضربه الخليفة.
وأية حجة لكم في امتحاننا إياكم، وفي إكفارنا لكم.
وزعم يومئذ أن حكم كلام الله كحكم علمه، فكما لا يجوز أن يكون علمه محدثاً
ومخلوقاً، فكذلك لا يجوز أن يكون كلامه مخلوقاً محدثاً. فقال له: أليس قد كان
الله يقدر أن يبدل آية مكان آية، وينسخ آية بآية، وأن يذهب بهذا القرآن،
ويأتي بغيره، وكل ذلك في الكتاب مسطور؟ قال: نعم. قال: فهل كان يجوز هذا في
العلم، وهل كان جائزاً أن يبدل الله علمه، ويذهب به، ويأتي بغيره؟ قال: ليس.
وقال له: روينا في تثبيت ما نقول الآثار، وتلونا عليك الآية من الكتاب،
وأريناك الشاهد من النقول التي بها لزم الناس الفرائض، وبها يفصلون بين الحق
والباطل، فعارضنا أنت الآن بواحدة من الثلاث. فلم يكن ذلك عنده، ولا استخزى
من الكذب عليه في غير هذا المجلس، لأن عدة من حضره أكثر من أن يطمع أحداً أن
يكون الكذب يجوز عليه. وقد كان صاحبكم هذا يقول: لا تقية إلا في دار الشرك.
فلو كان ما أقر به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية فقد أعمل التقية في
دار الإسلام، وقد أكذب نفسه. وإن كان ما أقر به على الصحة والحقيقة فلستم
منه، وليس منكم. على أنه لم ير سيفاً مشهوراً، ولا ضرب ضرباً كثيراً، ولا ضرب
إلا ثلاثين سوطاً مقطوعة الثمار، مشعثة الأطراف، حتى أفصح بالإقرار مراراً.
ولا كان في مجلس ضيق، ولا كانت حاله حال مؤيسة، ولا كان مثقلاً بالحديد، ولا
خلع قلبه بشدة الوعيد. ولقد كان ينازع بألين الكلام، ويجيب بأغلظ الجواب،
ويرزنون ويخف، ويحلمون ويطيش.
وعبتم علينا إكفارنا إياكم، واحتجاجنا عليكم بالقرآن والحديث. وقلتم:
تكفروننا على إنكار شيء يحتمله التأويل، ويثبت بالأحاديث، فقد ينبغي لكم أن
لا تحتجوا في شيء من القدر والتوحيد بشيء من القرآن، وأن لا تكفروا أحداً
خالفكم في شيء وأنتم أسرع الناس إلى إكفارنا، وإلى عداوتنا والنصب لنا.
فصل منه
وأصحابنا - حفظك الله - إذا قاسوا خطأهم، ومروا على غلطهم فإنما ينقضون به
شيئاً من العرض والجوهر، وشيئاً من قولهم في المعلوم والمجهول فقط. وهم قوم
يكفيهم من التنبيه أقله، ومن القول أيسره. وخطأ النابتة وقول الرافضة تشبيه
مصرح، وكفر مجلح، فليس هذا الجنس من ذلك الجنس. والحمد لله.
وأما إخبارهم عن عيبنا إياهم حين لم يقولوا: إن الله تعالى رب القرآن، وفينا
من يقول: إن الله تبارك وتعالى رب الكفر والإيمان، فإنا لم نسألهم عن ذلك من
جهة ما يتوهمون، وإنما سألناهم عنه بجحدهم ما يرون بأبصارهم، ويسمعون
بآذانهم، في الأشعار المعروفة، وفي الخطب المشهورة، وفي الابتهال عند الدعاء،
وعلى ألسنة العوام والدهماء، وعند العهود والأيمان، وعند تعظيم القرآن، وبما
يسمعون من السؤال في الطرقات، ومن القصاص في المساجد، لا يرون عائباً، ولا
يسمعون زاريا. وليس أنا جعلنا هذا مسألة على من أنكر خلق القرآن، ولكنا أردنا
أن نبين للضعفاء معاندتهم، وفرارهم من البهت، ومكابرتهم إذا سمعوا أنهم لم
يسمعوا الناس يقولون: ورب القرآن، ورب ياسين، ورب طه، وأشباه ذلك.
ولعمري أن لو سمعوا الناس يقولون عند أيمانهم وابتهالهم إلى ربهم، على غير
قصد إلى خلاف ولا وفاق: ورب الزنى والسرق، ورب الكفر والكذب، كما سمعوهم
يقولون: ورب القرآن، ورب يس، ورب طه! ثم ألزمناهم خلق القرآن بمثل ما لهم
علينا في خلق الزنى لقد كان ذلك معارضة صحيحة، وموازنة معروفة.
وأما قولهم: إن معنا العامة، والعباد، والفقهاء، وأصحاب الحديث، وليس معهم
إلا أصحاب الأهواء، ومن يأخذ دينه من أول الرجال، فأي صاحب هو - يرحمك الله -
أبعد من الجماعة من الرافضة، وهم في هذا المعنى أشقاؤهم وأولياؤهم، لأن ما
خالفوهم فيه صغير في جنب ما وافقوهم عليه، والذين سموهم أصحاب أهواء هم
المتكلمون، والمصلحون والمستصلحون، والمميزون. وأصحاب الحديث والعوام هم
الذين يقلدون ولا يحصلون، ولا يتخيرون، والتقليد مرغوب عنه في حجة العقل،
منهي عنه في القرآن، قد عكسوا الأمور كما ترى، ونقضوا العادات. وذلك أنا لا
نشك أن من نظر وبحث، وقابل ووازن، أحق بالتبين، وأولى بالحجة.
وأما قولهم: منا النساك والعباد، فعباد الخوارج وحدهم أكثر عدداً من عبادهم،
على قلة عدد الخوارج في جنب عددهم، على أنهم أصحاب نية، وأطيب طعمة، وأبعد من
التكسب، وأصدق ورعاً، وأقل رياءً، وأدوم طريقة، وأبذل للمهجة، وأقل جمعاً
ومنعا، وأظهر زهداً وجهداً. ولعل عبادة عمرو بن عبيد تفي بعبادة عامة عبادهم.
وأما قولهم: إن للقرآن قلباً وسناماً ولساناً وشفتين، وأنه يقدس ويشفع ويمحل،
فإن هذا كله قد يجوز أن يكون مثلا، ويجوز أن يجعله الله كذلك إذا كان جسماً،
والله على ذلك قادر، وهو له غير معجز، ومنه غير مستحيل. وكل فعل لا يكون
عيباً، ولا ظلماً ولا بخلاً ولا كذباً، ولا خطاءً في التدبير، فهو جائز،
والتعجب منه غير جائز.
فصل منه
وما أكثر من يجيب في المسائل، ويؤلف الكتب على قدر ما يسنح له في وهمه، وعلى
قدر ما يتصور له في حاله تلك، لا يعمل على أصل، أو لا يشعر بالذي انبنى عليه
ذلك الأصل، وإن كان ممن يعمل على أصل.
وإنما صار علماؤنا إلى ما صاروا إليه لأنهم لا يقفون من القول في خلق القرآن
على جواب مهذب، ومذهب مصفى، وعلى قول مفروغ منه، وعلى جوابات بأعيانها. فقد
رددوا فيها النظر، وامتحنوها بأغلظ المحن، وقلبوها أكثر التقليب، وتبطنوا
معانيها بأبلغ التفكير، وتعرفوا كل ما فيها، واعتصروا جميع قواها، وسهلوا
سبلها، وذللوا العبارة عنها، احتقاراً منهم لمن خالفهم، واتكالاً على طول
السلامة منهم، وثقة بطول الظفر بهم.
ومن تمام أمر صاحب الحق أن لا يتكل على عجز الخصم، وأن لا يعجب بظهوره على من
لا حظ له في العلم.
وعلى العلماء أن يخافوا دول العلم، كما يخاف الملوك دول الملك. وقد رأيت
البكرية، والجبرية، والفضلية، والشمرية، وإنهم لأحقر عند المعتزلة من جعل مما
زالوا يستقون من علمائهم، ويستمدون من كبرائهم، ويدرسون كتبهم، ويأخذون
ألفاظهم في جميع أمورهم، حتى رأيت شبيبتهم ونابتتهم، يدعون أنهم أكفاء، ويجمع
بينهم في البلاء. والنابتة اليوم في التشبيه مع الرافضة، وهم دائبون في
التألم من المعتزلة. غدرهم كثير، ونصبهم شديد، والعوام معهم، والحشو يطيعهم.
الآن معك أمران: السلطان وميلهم إليه، وخوفهم منه.
والعاقبة للمتقين.
الرد
على النصارى
الحمد لله الذي من علينا بتوحيده، وجعلنا ممن ينفي شبهة خلقه وسياسة عباده،
وجعلنا لا نفرق بين أحد من رسله، ولا نجحد كتاباً أوجب علينا الإقرار به، ولا
نضيف إليه ما ليس منه، إنه حميد مجيد، فعال لما يريد.
أما بعد فقد قرأت كتابكم، وفهمت ما ذكرتم فيه من مسائل النصارى قبلكم، وما
دخل على قلوب أحداثكم وضعفائكم من اللبس، والذي خفتموه على جواباتهم من
العجز، وما سألتم من إقرارهم بالمسائل، ومن حسن معونتهم بالجواب.
وذكرتم أنهم قالوا: إن الدليل على أن كتابنا باطل، وأمرنا فاسد، أننا ندعي
عليهم ما لا يعرفونه فيما بينهم، ولا يعرفونه من أسلافهم، لأنا نزعم أن الله
جل وعز قال في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " وإذ قال الله
يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " ، وأنهم
زعموا أنهم لم يدينوا قط بأن مريم إله في سرهم، ولا ادعوا ذلك قط في علانيتهم.
وأنهم زعموا أنا ادعينا عليهم ما لا يعرفون، كما ادعينا على اليهود ما لا
يعرفون، حين نطق كتابنا، وشهد نبينا: أن اليهود قالوا: إن عزيراً ابن الله،
وإن يد الله مغلولة، وإن الله فقير وهم أغنياء. وهذا ما لا يتكلم به إنسان،
ولا يعرف في شيء من الأديان.
ولو كانوا يقولون في عزير ما نحلتمون وادعيتموه، لما جحدوه من دينهم، ولما
أنكروا أن يكون من قولهم، ولما كانوا بإنكار بنوة عزير أحق منا بإنكار بنوة
المسيح، ولما كان علينا منكم بأس بعد عقد الذمة، وأخذ الجزية.
وذكرتم أنهم قالوا: ومما يدل على غلطكم في الأخبار، وأخذكم العلم عن غير
الثقات، أن كتابكم ينطق: أن فرعون قال لهامان: " ابن لي صرحاً " . وهامان لم
يكن إلا في زمن الفرس، وبعد زمن فرعون بدهر طويل، وإن ذلك معروف عند أصحاب
الكتب، مشهور عند أهل العلم. وإنما اتخذ صرحاً ليكون إذا علاه أشرف على الله.
وفرعون لا يخلو من أن يكون جاحداً لله تعالى، أو مقراً به. فإن كان دينه عند
نفسه وأهل مملكته نفي الله وجحده، فما وجه اتخاذ الصرح وطلب الإشراف، وليس
هناك شيء ولا إله؟ وإن كان مقراً بالله عارفاً به، فلا يخلو من أن يكون
مشبهاً أو نافياً للتشبيه. فإن كان ممن ينفي الطول والعرض والعمق والحدود
والجهات، فما وجه طلبه له في مكان بعينه، وهو عنده بكل مكان؟ وإن كان مشبهاً
فقد علم أنه ليس في طاقة بني آدم أن يبنوا بنياناً، أو يرفعوا صرحاً يخرق سبع
سموات بأعماقهن، والأجزاء التي بينهن، حتى يحاذي العرش ثم يعلوه.
وفرعون وإن كان كافراً فلم يكن مجنوناً، ولا كان إلى نقص العقل من بين الملوك
منسوباً. على أن الحكم قد يقوم بعقول الملوك بالفضيلة على عقول الرعية.
وذكرتم أنهم قالوا: تزعمون أن الله تعالى ذكر يحيى بن زكريا يخبر أنه " لم
يجعل له من قبل سمياً " ، وأنهم يجدون في كتبهم وفيما لا يختلف فيه خاصتهم
وعامتهم أنه كان من قبل يحيى بن زكريا غير واحد يقال له يحيى، منهم: يوحنا بن
فرح.
وزعمتم أنهم قالوا لكم: إنكم ذكرتم أن الله قال في كتابه لنبيكم: " وما
أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
" ، وإنما عنى بقوله: " أهل الذكر " : أهل التوراة، وأصحاب الكتب يقولون: إن
الله قد بعث من النساء نبيات، منهم مريم بنت عمران، وبعث منهم حنة، وسارى،
ورفقى.
وذكرتم أنهم قالوا: زعمتم أن عيسى تكلم في المهد، ونحن على تقديمنا له،
وتقريبنا لأمره، وإفراطنا بزعمكم فيه، على كثرة عددنا، وتفاوت بلادنا،
واختلافنا فيما بيننا، لا نعرف ذلك ولا ندعيه، وكيف ندعيه ولم نسمعه عن سلف،
ولا ادعاه منا مدع.
ثم هذه اليهود لا تعرف ذلك، وتزعم أنها لم تسمع به إلا منكم، ولا تعرفه
المجوس، ولا الصابئون، ولا عبادة البددة من الهند وغيرهم، ولا الترك والخزر،
ولا بلغنا ذلك عن أحد من الأمم السالفة، والقرون الماضية، ولا في الإنجيل،
ولا في ذكر صفات المسيح في الكتب والبشارات به على ألسنة الرسل.
ومثل هذا لا يجوز أن يجهله الولي والعدو، وغير الولي وغير العدو، ولا يضرب به
مثل، ولا يروح به الناس، ثم يجمع النصارى على رده، مع حبهم لتقوية أمره. ولم
يكونوا ليضادوكم فيما يرجع عليهم نفعه. وكيف لم يكذبوكم في إحيائه الموتى،
ومشيه على الماء، وإبراء الأكمه والأبرص؟ ! بل لم يكونوا ليتفقوا على إظهار
خلاف دينهم، وإنكار أعظم حجة كانت لصاحبهم، ومثل هذا لا ينكتم ولا ينفك ممن
يخالف وينم.
والكلام في المهد أعجب من كل عجب، وأغرب من كل غريب، وأبدع من كل بديع؛ لأن
إحياء الموتى والمشي على الماء، وإقامة المقعد، وإبراء الأعمى، وإبراء الأكمه
قد أتت به الأنبياء، وعرفه الرسل، ودار في أسماعهم. ولم يتكلم صبي قط، ولا
مولود في المهد.
وكيف ضاعت هذه الآية، وسقطت حجة هذه العلامة من بين كل علامة؟ ! وبعد، فكل
أعجوبة يأتي بها الرجال، والمعروفون بالبيان، والمنسوبون إلى صواب الرأي،
تكون الحيلة في الظن إليها أقرب، وخوف الخدعة عليها أغلب. والصبي المولود
عاجز في الفطرة، ممتنع من كل حيلة، لا يحتاج فيه إلى نظر، ولا يشبهه من شاهده
بدخل.
فصل منه
وسنقول في جميع ما ورد علينا من مسائلكم، وفيما لا يقع إليكم من مسائلهم،
بالشواهد الظاهرة، والحجج القوية، والأدلة الاضطرارية، ثم نسألهم بعد جوابنا
إياهم عن وجوه يعرفون بها انتقاض قولهم، وانتشار مذهبهم، وتهافت دينهم.
ونحن نعوذ بالله من التكلف وانتحال ما لا نحسن، ونسأله القصد في القول
والعمل، وأن يكون ذلك لوجهه، ولنصرة دينه، إنه قريب مجيب.
فأنا مبتدىء في ذكر الأسباب التي لها صارت النصارى أحب إلى العوام من المجوس،
وأسلم صدوراً عندهم من اليهود، وأقرب مودة، وأقل غائلة، وأصغر كفراً، وأهون
عذاباً.
ولذلك أسباب كثيرة، ووجوه واضحة، يعرفها من نظر، ويجهلها من لم ينظر.
أول ذلك أن اليهود كانوا جيران المسلمين بيثرب وغيرها، وعداوة الجيران شبيهة
بعداوة الأقارب في شدة التمكن وثبات الحقد، وإنما يعادي الإنسان من يعرف،
ويميل على من يرى، ويناقض من يشاكل، ويبدو له عيوب من يخالط. وعلى قدر الحب
والقرب يكون البغض والبعد، ولذلك كانت حروب الجيران وبني الأعمام من سائر
الناس وسائر العرب أطول، وعداوتهم أشد.
فلما صار المهاجرون لليهود جيراناً، وقد كانت الأنصار متقدمة الجوار، مشاركة
في الدار، حسدتهم اليهود على النعمة في الدين، والاجتماع بعد الافتراق،
والتواصل بعد التقاطع، وشبهوا على العوام، واستمالوا الضعفة، ومالئوا الأعداء
والحسدة، ثم جاوزوا الطعن وإدخال الشبهة، إلى المناجزة والمنابذة بالعداوة،
فجمعوا كيدهم، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في قتالهم، وإخراجهم من ديارهم، وطال
ذلك واستفاض فيهم وظهر، وترادف لذلك الغيظ، وتضاعف البغض، وتمكن الحقد.
وكانت النصارى لبعد ديارهم، من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ومهاجره، لا
يتكلفون طعنا، ولا يثيرون كيداً، ولا يجمعون على حرب. فكان هذا أول أسباب ما
غلظ القلوب على اليهود، ولينها على النصارى.
ثم كان من أمر المهاجرين إلى الحبشة، واعتمادهم على تلك الجنبة ما حببهم إلى
عوام المسلمين. وكلما لانت القلوب لقوم غلظت على أعدائهم، وبقدر ما نقص من
بغض النصارى زاد في بغض اليهود.
ومن شأن الناس حب من اصطنع إليهم خيراً أو جرى على يديه، أراد الله بذلك أو
لم يرده، وبقصد كان أم باتفاق.
وأمر آخر، وهو من أمتن أسبابهم وأقوى أمورهم، وهو تأويل آية غلطت فيها العامة
حتى نازعت الخاصة، وحفظتها النصارى واحتجت، واستمالت قلوب الرعاع والسفلة،
وهو قول الله تعالى: " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين
أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " . إلى قوله:
" وذلك جزاء المحسنين " . وفي نفس الآية أعظم الدليل على أن الله تعالى لم
يعن هؤلاء النصارى ولا أشباههم: الملكانية واليعقوبية، وإنما عنى ضرب بحيرا،
وضرب الرهبان الذين كان يخدمهم سلمان.
وبين حمل قوله: " الذين قالوا إنا نصارى " على الغلط منهم في الأسماء، وبين
أن نجزم عليهم لأنهم نصارى فرق.
كما ذكر اليهود أنه جاء الإسلام وملوك العرب رجلان: غساني ولخمي، وهما
نصرانيان، وقد كانت العرب تدين لهما، وتؤدي الإتاوة لهما، فكان تعظيم قلوبهم
لهما راجعاً إلى تعظيم دينهما.
وكانت تهامة، وإن كانت لقاحاً لا تدين الدين، ولا تؤدي الإتاوة، ولا تدين
للملوك، فإنها كانت لا تمتنع من تعظيم ما عظم الناس، وتصغير ما صغروا.
ونصرانية النعمان وملوك غسان مشهورة في العرب، معروفة عند أهل النسب، ولولا
ذلك لدللت عليها بالأشعار المعروفة، والأخبار الصحيحة.
وقد كانت تتجر إلى الشام، وينفذ رجالها إلى ملوك الروم، ولها رحلة في الشتاء
والصيف، في تجارة مرة إلى الحبشة، ومرة قبل الشام، ومرة بيثرب، ومصيفها
بالطائف، ومرة منيحين مستأنفاً بحمده، فكانوا أصحاب نعمة، وذلك مشهور مذكور
في القرآن، وعند أهل المعرفة.
وقد كانت تهاجر إلى الحبشة، وتأتي باب النجاشي وافدة، فيحبوهم بالجزيل، ويعرف
لهم الأقدار، ولم تكن تعرف كسرى، ولا تأنس بهم. وقيصر والنجاشي نصرانيان،
فكان ذلك أيضاً للنصارى، دون اليهود.
والآخر من الناس تبع للأول في تعظيم من عظم، وتصغير من صغر.
وأخرى: أن العرب كانت النصرانية فيهل فاشية، وعليها غالبة، إلا مضر، فلم تغلب
عليها يهودية ولا مجوسية، ولم تفش فيها النصرانية، إلا ما كان من قوم منهم
نزلوا الحيرة يسمون: العباد، فإنهم كانوا نصارى، وهم مغمورون مع نبذ يسير في
بعض القبائل. ولم تعرف مضر إلا دين العرب، ثم الإسلام.
وغلبت النصرانية على ملوك العرب وقبائلها: على لخم، وغسان، والحارث بن كعب
بنجران، وقضاعة، وطي، في قبائل كثيرة، وأحياء معروفة. ثم ظهرت في ربيعة فغلبت
على تغلب وعبد القيس وأفناء بكر، ثم في آل ذي الجدين خاصة.
وجاء الإسلام وليست اليهودية بغالبة على قبيلة، إلا ما كان من ناس من
اليمانية، ونبذ يسير من جميع إياد وربيعة. ومعظم اليهودية إنما كانت بيثرب
وحمير وتيماء ووادي القرى، في ولد هارون، دون العرب.
فعطف قلوب دهماء العرب على النصارى الملك الذي كان فيهم، والقرابة التي كانت
لهم. ثم رأت عوامنا أن فيها ملكاً قائماً، وأن فيهم عرباً كثيرة، وأن بنات
الروم ولدن لملوك الإسلام، وأن في النصارى متكلمين وأطباء ومنجمين، فصاروا
بذلك عندهم عقلاء وفلاسفة وحكماء، ولم يروا ذلك في اليهود.
وإنما اختلفت أحوال اليهود والنصارى في ذلك لأن اليهود ترى أن النظر في
الفلسفة كفر، والكلام في الدين بدعة، وأنه مجلبة لكل شبهة، وأنه لا علم إلا
ما كان في التوراة وكتب الأنبياء، وأن الإيمان بالطب، وتصديق المنجمين من
أسباب الزندقة والخروج إلى الدهرية، والخلاف على الأسلاف وأهل القدوة، حتى
إنهم ليبهرجون المشهور بذلك، ويحرمون كلام من سلك سبيل أولئك.
ولو علمت العوام أن النصارى والروم ليست لهم حكمة ولا بيان، ولا بعد روية،
إلا حكمة الكف، من الخرط والنجر والتصوير، وحياكة البزيون لأخرجتهم من حدود
الأدباء، ولمحتهم من ديوان الفلاسفة والحكماء؛ لأن كتاب المنطق والكون
والفساد، وكتاب العلوي، وغير ذلك، لأرسطاطاليس، وليس برومي ولا نصراني.
وكتاب المجسطي لبطليموس، وليس برومي ولا نصراني.
وكتاب إقليدس لإقليدس، وليس برومي ولا نصراني.
وكتاب الطب لجالينوس، ولم يكن رومياً ولا نصرانياً.
وكذلك كتب ديمقراط وبقراط وأفلاطون، وفلان وفلان.
وهؤلاء ناس من أمة قد بادوا وبقيت آثار عقولهم، وهم اليونانيون، ودينهم غير
دينهم، وأدبهم غير أدبهم، أولئك علماء، وهؤلاء صناع أخذوا كتبهم لقرب الجوار،
وتداني الدار، فمنها ما أضافوه إلى أنفسهم، ومنها ما حولوه إلى ملتهم. إلا ما
كان من مشهور كتبهم، ومعروف حكمهم، فإنهم حين لم يقدروا على تغيير أسمائها
زعموا أن اليونانيين قبيل من قبائل الروم، ففخروا بأديانهم على اليهود،
واستطالوا بها على العرب، وبذخوا بها على الهند، حتى زعموا أن حكماءنا أتباع
حكمائهم، وأن فلاسفتنا اقتدوا على أمثالهم، فهذا هذا.
ودينهم - يرحمك الله - يضاهي الزندقة، ويناسب في بعض وجوهه قول الدهرية، وهم
من أسباب كل حيرة وشبهة.
والدليل على ذلك أنا لم نر أهل ملة قط أكثر زندقة من النصارى، ولا أكثر
متحيراً أو مترنحاً منهم.
وكذلك شأن كل من نظر في الأمور الغامضة بالعقول الضعيفة: ألا ترى أن أكثر من
قتل في الزندقة ممن كان ينتحل الإسلام ويظهره، هم الذين آباؤهم وأمهاتهم
نصارى.
على أنك لو عددت اليوم أهل الظنة ومواضع التهمة لم تجد أكثرهم إلا كذلك.
ومما عظمهم في قلوب العوام، وحببهم إلى الطغام، أن منهم كتاب السلاطين،
وفراشي الملوك، وأطباء الأشراف، والعطارين والصيارفة.
ولا تجد اليهودي إلا صباغاً، أو دباغاً، أو حجاماً، أو قصاباً، أو شعاباً.
فلما رأت العوام اليهود والنصارى توهمت أن دين اليهود في الأديان كصناعتهم في
الصناعات، وأن كفرهم أقذر الكفر، إذ كانوا هم أقذر الأمم.
وإنما صارت النصارى أقل مساخة من اليهود، على شدة مساخة النصارى، لأن
الإسرائيلي لا يزوج إلا الإسرائيلي، وكل مناكحهم مردودة فيهم، ومقصورة عليهم،
وكانت الغرائب لا تشوبهم، وفحولة الأجناس لا تضرب ولا تضرب فيهم، لم ينجبوا
في عقل ولا أسر ولا ملح. وإنك لتعرف ذلك في الخيل والإبل، والحمير والحمام.
ونحن - رحمك الله - لم نخالف العوام في كثرة أموال النصارى، وأن فيهم ملكاً
قائماً، وأن ثيابهم أنظف، وأن صناعتهم أحسن.
وإنما خالفنا في فرق ما بين الكفرين والفرقتين، في شدة المعاندة واللجاجة،
والإرصاد لأهل الإسلام بكل مكيدة، مع لؤم الأصول، وخبث الأعراق.
فأما الملك والصناعة والهيئة، فقد علمنا أنهم اتخذوا البراذين الشهرية،
والخيل العتاق، واتخذوا الجوقات، وضربوا بالصوالجة، وتحذفوا المديني، ولبسوا
الملحم والمطبقة، واتخذوا الشاكرية، وتسموا بالحسن والحسين، والعباس وفضل
وعلي، واكتنوا بذلك أجمع، ولم يبق إلا أن يتسموا بمحمد، ويكتنوا بأبي القاسم.
فرغب إليهم المسلمون، وترك كثير منهم عقد الزنانير، وعقدها آخرون دون ثيابهم،
وامتنع كثير من كبرائهم من إعطاء الجزية، وأنفوا مع أقدارهم من دفعها وسبوا
من سبهم، وضربوا من ضربهم.
وما لهم لا يفعلون ذلك وأكثر منه، وقضاتنا أو عامتهم يرون أن دم الجاثليق
والمطران والأسقف وفاء بدم جعفر وعلي والعباس وحمزة.
ويرون أن النصراني إذا قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم بالغواية أنه ليس
عليه إلا التعزير والتأديب، ثم يحتجون أنهم إنما قالوا ذلك لأن أم النبي صلى
الله عليه وسلم لم تكن مسلمة. فسبحان الله العظيم! ما أعجب هذا القول وأبين
انتشاره! ومن حكم النبي صلى الله عليه وسلم: أن لا يساوونا في المجلس، ومن
قوله: " وإن سبوكم فاضربوهم، وإن ضربوكم فاقتلوهم " .
وهم إذا قذفوا أم النبي عليه السلام بالفاحشة لم يكن له عند أمته إلا التعزير
والتأديب. وزعموا أن افتراءهم على النبي ليس بنكث للعهد، ولا بنقض للعقد.
وقد أمر النبي عليه السلام أن يعطونا الضريبة عن يد منا عالية في قبولنا
منهم، وعقدنا لذمتهم، دون إراقة دمهم. وقد حكم الله تعالى عليهم بالذلة
والمسكنة.
أو ما ينبغي للجاهل أن يعلم أن الأئمة الراشدين، والسلف المتقدمين لم يشترطوا
عند أخذ الجزية، وعقد الذمة عدم الافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم
وأمته، إلا لأن ذلك عندهم أعظم في العيون، وأجل في الصدور من أن يحتاجوا إلى
تخليده في الكتب، وإلى إظهار ذكره بالشرط، وإلى تثبيته بالبينات، بل لو فعلوا
ذلك لكان فيه الوهن عليهم، والمطمعة فيهم، ولظنوا أنهم في القدر الذي يحتاج
فيه إلى هذا وشبهه.
وإنما يتواثق الناس في شروطهم، ويفسرون في عهودهم ما يمكن فيه الشبهة، أو يقع
فيه الغلط، أو يغبى عنه الحاكم، وينساه الشاهد، ويتعلق به الخصم، فأما الواضح
الجلي، والظاهر الذي لا يخيل فما وجه اشتراطه، والتشاغل بذكره.
وأما ما احتاجوا إلى ذكره في الشروط، وكان مما يجوز أن يظهر في العهد فقد
فعلوه، وهو كالذلة والصغارة، وإعطاء الجزية، ومقاسمة الكنائس، وأن لا يعينوا
بعض المسلمين على بعض، وأشباه ذلك. فأما أن يقولوا لمن هو أذل من الذليل،
وأقل من القليل، وهو الطالب الراغب في أخذ فديته، والإنعام عليه بقبض جزيته
وحقن دمه: نعاهدك على أن لا تفتري على أمة رسول رب العالمين، وخاتم النبيين،
وسيد الأولين والآخرين. فهذا ما لا يجوز في تدبير أوساط الناس، فكيف بالجلة
والعلية، وأئمة الخليقة، ومصابيح الدجى، ومنار الهدى، مع أنفة العرب، وبأو
السلطان، وغلبة الدولة، وعز الإسلام، وظهور الحجة، والوعد بالنصرة.
على أن هذه الأمة لم تبتل باليهود، ولا المجوس، ولا الصابئين كما ابتليت
بالنصارى. وذلك أنهم يتبعون المتناقض من أحاديثنا، والضعيف بالأسناد من
روايتنا، والمتشابه من آي كتابنا، ثم يخلون بضعفائنا، ويسألون عنها عوامنا،
مع ما قد يعلمون من مسائل الملحدين، والزنادقة الملاعين، وحتى مع ذلك ربما
تبرءوا إلى علمائنا، وأهل الأقدار منا، ويشغبون على القوي، ويلبسون على
الضعيف.
ومن البلاء أن كل إنسان من المسلمين يرى أنه متكلم، وأنه ليس أحد أحق بمحاجة
الملحدين من أحد.
وبعد، فلولا متكلمو النصارى وأطباؤهم ومنجموهم ما صار إلى أغبيائنا وظرفائنا،
ومجاننا وأحداثنا شيء من كتب المنانية، والديصانية، والمرقونية، والفلانية،
ولما عرفوا غير كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكانت تلك
الكتب مستورة عند أهلها، ومخلاة في أيدي ورثتها. فكل سخنة عين رأيناها في
أحداثنا وأغبيائنا فمن قبلهم كان أولها.
وأنت إذا سمعت كلامهم في العفو والصفح، وذكرهم للسياحة، وزرايتهم على كل من
أكل اللحمان، ورغبتهم في أكل الحبوب، وترك الحيوان، وتزهيدهم في النكاح،
وتركهم لطلب الولد، ومديحهم للجاثليق والمطران والأسقف والرهبان، بترك النكاح
وطلب النسل، وتعظيمهم الرؤساء علمت أن بين دينهم وبين الزندقة نسباً، وأنهم
يحنون إلى ذلك المذهب.
والعجب أن كل جاثليق لا ينكح، ولا يطلب الولد. وكذلك كل مطران، وكل أسقف.
وكذلك كل أصحاب الصوامع من اليعقوبية، والمقيمين في الديارات والبيوت من
النسطورية. وكل راهب في الأرض وراهبة، مع كثرة الرهبان والرواهب، ومع تشبه
أكثر القسيسين بهم في ذلك، ومع ما فيهم من كثرة الغزاة، وما يكون فيهم مما
يكون في الناس، من المرأة العاقر، والرجل العقيم.
على أن من تزوج منهم امرأة لم يقدر على الاستبدال بها، ولا على أن يتزوج أخرى
معها، ولا على التسري عليها. وهم مع هذا قد طبقوا الأرض، وملئوا الأفاق،
وغلبوا الأمم بالعدد، وبكثرة الولد. وذلك مما زاد في مصائبنا، وعظمت به
محنتنا.
ومما زاد فيهم، وأنمى عددهم، أنهم يأخذون من سائر الأمم، ولا يعطونهم، لأن كل
دين جاء بعد دين، أخذ منه الكثير، وأعطاه القليل.
فصل منه
ومما يدل على قلة رحمتهم، وفساد قلوبهم أنهم أصحاب الخصاء من بين جميع الأمم،
والخصاء أشد المثلة، وأعظم ما ركب به إنسان ثم يفعلون ذلك بأطفال لا ذنب لهم،
ولا دفع عندهم.
ولا نعرف قوماً يعرفون بخصاء الناس حيث ما كانوا إلا ببلاد الروم والحبشة،
وهم في غيرهما قليل، وأقل قليل.
على أنهم لم يتعلموا إلا منهم، ولا كان السبب في ذلك غيرهم، ثم خصوا أبناءهم
وأسلموهم في بيعهم. وليس الخصاء إلا في دين الصابئين، فإن العابد ربما خصى
نفسه، ولا يستحل خصاء ابنه. فلو تمت إرادتهم في خصاء أولادهم في ترك النكاح
وطلب النسل كما حكيت لك قبل هذا لانقطع النسل، وذهب الدين، وفتن الخلق.
والنصراني وإن كان أنظف ثوباً، وأحسن صناعة، وأقل مساخة، فإن باطنه ألأم
وأقذر وأسمج، لأنه أقلف، ولا يغتسل من الجنابة، ويأكل لحم الخنزير، وامرأته
جنب لا تطهر من الحيض، ولا من النفاس، ويغشاها في الطمث، وهي مع ذلك غير
مختونة.
وهم مع شرارة طبائعهم، وغلبة شهواتهم ليس في دينهم مزاجر كنار الأبد في
الآخرة، وكالحدود والقود والقصاص في الدنيا، فكيف يجانب ما يفسده، ويؤثر ما
يصلحه من كانت حاله كذلك. وهل يصلح الدنيا من هو كما قلنا؟ وهل يهيج على
الفساد إلا من وصفنا؟ ولو جهدت بكل جهدك، وجمعت كل عقلك أن تفهم قولهم في
المسيح، لما قدرت عليه، حتى تعرف به حد النصرانية، وخاصة قولهم في الإلهية.
وكيف تقدر على ذلك وأنت لو خلوت ونصراني نسطوري فسألته عن قولهم في المسيح
لقال قولاً، ثم إن خلوت بأخيه لأمه وأبيه وهو نسطوري مثله فسألته عن قولهم في
المسيح لأتاك بخلاف أخيه وصنوه. وكذلك جميع الملكانية واليعقوبية. ولذلك صرنا
لا نعقل حقيقة النصرانية، كما نعرف جميع الأديان.
على أنهم يزعمون أن الدين لا يخرج في القياس، ولا يقوم على المسائل، ولا يثبت
في الامتحان، وإنما هو بالتسليم لما في الكتب، والتقليد للأسلاف. ولعمري، إن
من كان دينه دينهم ليجب عليه أن يعتذر بمثل عذرهم.
وزعموا أن كل من اعتقد خلاف النصرانية من المجوس والصابئين والزنادقة فهو
معذور، ما لم يتعمد الباطل، ويعاند الحق. فإذا صاروا إلى اليهود قضوا عليهم
بالمعاندة، وأخرجوهم من طريق الغلط والشبهة.
فصل منه
فأما مسألتهم في كلام عيسى في المهد: أن النصارى مع حبهم لتقوية أمره لا
يثبتونه، وقولهم: إنا تقولناه ورويناه عن غير الثقات، وأن الدليل على أن عيسى
لم يتكلم في المهد أن اليهود لا يعرفونه، وكذلك المجوس، وكذلك الهند والخزر
والديلم. فنقول في جواب مسألتهم عند إنكارهم كلام المسيح في المهد مولوداً.
يقال لهم: إنكم حين سويتم المسألة وموهتموها، ونظمتم ألفاظها، ظننتم أنكم قد
أنجحتم، وبلغتم غايتكم. ولعمري لئن حسن ظاهرها، وراع الأسماع مخرجها، إنها
لقبيحة المفتش، سيئة المعرى.
ولعمري أن لو كانت اليهود تقر لكم بإحياء الأربعة الذين تزعمون، وإقامة
المقعد الذي تدعون، وإطعام الجمع الكثير من الأرغفة اليسيرة، وتصيير الماء
جمداً، والمشي على الماء، ثم أنكرت الكلام في المهد من بين جميع آياته
وبراهينه لكان لكم في ذلك مقال، وإلى الطعن سبيل. فأما وهم يجحدون ذلك أجمع،
فمرة يضحكون، ومرة يغتاظون ويقولون: إنه صاحب رقىً ونيرجات، ومداوي مجانين،
ومتطبب، وصاحب حيل وتربص خدع، وقراءة كتب، وكان لسناً مسكيناً، ومقتولاً
مرحوماً، ولقد كان قبل ذلك صياد سمك، وصاحب شبك، وكذلك أصحابه. وأنه خرج على
مواطأة منهم له، وأنه لم يكن لرشدة.
وأحسنهم قولاً، وألينهم مذهباً من زعم أنه ابن يوسف النجار. وأنه قد كان واطأ
ذلك المقعد قبل إقامته بسنين، حتى إذا شهره بالقعدة، وعرف موضعه في الزمنى،
مر به في جمع من الناس كأنه لا يريده، فشكا إليه الزمانة وقلة الحيلة، وشدة
الحاجة، فقال: ناولني يدك. فناوله يده، فاجتذبه فأقامه، فكان تجمع لطول
القعود، حتى استمر بعد ذلك.
وأنه لم يحي ميتاً قط، وإنما كان داوى رجلاً يقال له لا عازر إذ أغمي عليه
يوماً وليلة، وكانت أمه ضعيفة العقل، قليلة المعرفة، فمر بها، فإذا هي تصرخ
وتبكي، فدخل إليها ليسكتها ويعزيها، وجس عرقه فرأى فيه علامة الحياة، فداواه
حتى أقامه، فكانت لقلة معرفتها لا تشك أنه قد مات، ولفرحها بحياته تثني عليه
بذلك، وتتحدث به.
فكيف تستشهدون قوماً هذا قولهم في صاحبكم، حين قالوا: كيف يجوز أن يتكلم صبي
في المهد مولوداً، فيجهله الأولياء والأعداء.
ولو كانت المجوس تقر لعيسى بعلامة واحدة، وبأدنى أعجوبة، لكان لكم أن تنكروا
علينا بهم، وتستعينوا بإنكارهم. فأما وحال عيسى في جميع أمره عند المجوس كحال
زرادشت في جميع أمره عند النصارى فما اعتلالهم به، وتعلقهم في إنكارهم؟ وأما
قولكم: وكيف لم تعرف الهند والخزر والترك ذلك؟ فمتى أقرت الهند لموسى بأعجوبة
واحدة، فضلاً عن عيسى؟ ومتى أقرت لنبي بآية، أو روت له سيرة، حتى تستشهدوا
الهند على كلام عيسى في المهد؟ ومتى كانت الترك والديلم والخزر والببر
والطيلسان مذكورة في شيء من هذا الجنس، محتجاً بها على هذا الضرب؟ فإن سألونا
عن أنفسهم فقالوا: ما لنا لا نعرف ذلك ولم يبلغنا عن أحد بتة؟ أجبناهم بعد
إسقاط نكيرهم وتشنيعهم، وتزوير شهودهم.
وجوابنا: أنهم إنما قبلوا دينهم عن أربعة أنفس: اثنان منهم من الحواريين
بزعمهم: يوحنا، ومتى. واثنان من المستجيبة وهما: مارقش ولوقش، وهؤلاء الأربعة
لا يؤمن عليهم الغلط ولا النسيان، ولا تعمد الكذب، ولا التواطؤ على الأمور،
والاصطلاح على اقتسام الرياسة، وتسليم كل واحد منهم لصاحبه حصته التي شرطها
له.
فإن قالوا: إنهم كانوا أفضل من أن يتعمدوا كذباً، وأحفظ من أن ينسوا شيئاً،
وأعلى من أن يغلطوا في دين الله تعالى، أو يضيعوا عهدا.
قلنا: إن اختلاف رواياتهم في الإنجيل، وتضادها في كتبهم، واختلافهم في نفس
المسيح، مع اختلاف شرائعهم، دليل على صحة قولنا فيهم، وغفلتكم عنهم.
وما ينكر من مثل لوقش أن يقول باطلاً، وليس من الحواريين، وقد كان يهودياً
قبل ذلك بأيام يسيرة، ومن هو عندكم من الحواريين خير من لوقش عند المسيح في
ظاهر الحكم بالطهارة، والطباع الشريفة، وبراءة الساحة.
فصل منه
سألتم عن قولهم: إذا كان تعالى قد اتخذ عبداً من عباده خليلاً، فهل يجوز أن
يتخذ عبداً من عباده ولداً، يريد بذلك إظهار رحمته له، ومحبته إياه، وحسن
تربيته وتأديبه له، ولطف منزلته منه، كما سمى عبداً من عباده خليلاً، وهو
يريد تشريفه وتعظيمه، والدلالة على خاص حاله عنده.
وقد رأيت من المتكلمين من يجيز ذلك ولا ينكره، إذا كان ذلك على التبني
والتربية والإبانة له بلطف المنزلة، والاختصاص له بالمرحمة والمحبة، لا على
جهة الولادة، واتخاذ الصاحبة. ويقول: ليس في القياس فرق بين اتخاذ الولد على
التبني والتربية وبين اتخاذ الخليل على الولاية والمحبة.
وزعم أن الله تعالى يحكم في الأسماء بما أحب، كما أن له أن يحكم في المعاني
بما أحب.
وكان يجوز دعوى أهل الكتاب على التوراة والإنجيل والزبور، وكتب الأنبياء
صلوات الله عليهم في قولهم: إن الله قال: " إسرائيل بكري " أي هو أول من
تبنيت من خلقي. وأنه قال: " إسرائيل بكري، وبنوه أولادي " . وأنه قال لداود:
" سيولد لك غلام، ويسمى لي ابناً، وأسمى له أباً " . وأن المسيح قال في
الإنجيل: " أنا أذهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم " ، وأن المسيح أمر
الحواريين أن يقولوا في صلواتهم: " يا أبانا في السماء، تقدس اسمك " . في
أمور عجيبة، ومذاهب شنيعة، يدل على سوء عبادة اليهود، وسوء تأويل أصحاب
الكتب، وجهلهم مجازات الكلام، وتصاريف اللغات، ونقل لغة إلى لغة، وما يجوز
على الله، وما لا يجوز. وسبب هذا التأويل كله الغي والتقليد، واعتقاد
التشبيه.
وكان يقول: إنما وضعت الأسماء على أقدار المصلحة، وعلى قدر ما يقابل من طبائع
الأمم. فربما كان أصلح الأمور وأمتنها أن يتبناه الله أو يتخذه خليلاً، أو
يخاطبه بلا ترجمان، أو يخلقه من غير ذكر، أو يخرجه من بين عاقر وعقيم. وربما
كانت المصلحة غير ذلك كله. وكما تعبدنا أن نسميه جواداً ونهانا أن نسميه
سخياً أو سرياً وأمرنا أن نسميه مؤمناً ونهانا أن نسميه مسلماً، وأمرنا أن
نسميه رحيماً ونهانا أن نسميه رفيقاً.
وقياس هذا كله واحد، وإنما يتسع ويسهل على قدر العادة وكثرتها. ولعل ذلك كله
قد كان شائعاً في دين هود وصالح وشعيب وإسماعيل، إذ كان شائعاً في كلام العرب
في إثبات ذلك وإنكاره.
وأما نحن - رحمك الله - فإنا لا نجيز أن يكون لله ولد، لا من جهة الولادة،
ولا من جهة التبني، ونرى أن تجويز ذلك جهل عظيم، وإثم كبير؛ لأنه لو جاز أن
يكون أباً ليعقوب لجاز أن يكون جداً ليوسف، ولو جاز أن يكون جداً وأباً، وكان
ذلك لا يوجب نسبا، ولا يوهم مشاكلة في بعض الوجوه، ولا ينقص من عظم، ولا يحط
من بهاء، لجاز أيضاً أن يكون عماً وخالاً؛ لأنه إن جاز أن يسميه من أجل
المرحمة والمحبة والتأديب أباً، جاز أن يسميه آخر من جهة التعظيم والتفضيل
والتسويد أخاً، ولجاز أن يجد له صاحباً وصديقاً، وهذا ما لا يجوزه إلا من لا
يعرف عظمة الله، وصغر قدر الإنسان.
وليس بحكيم من ابتذل نفسه في توقير عبده، ووضع من قدره في التوفر على غيره.
وليس من الحكمة أن تحسن إلى عبدك بأن تسيء إلى نفسك، وتأتي من الفضل ما لا
يجب بتضييع ما يجب. وكثير الحمد لا يقوم بقليل الذم، ولم يحمد الله ولم يعرف
إلهيته من جوز عليه صفات البشر، ومناسبة الخلق، ومقاربة العباد.
وبعد، فلا يخلو المولى في رفع عبده وإكرامه من أحد أمرين: إما أن يكون لا
يقدر على كرامته إلا بهوان نفسه، ويكون على ذلك قادراً، مع وفارة العظمة،
وتمام البهاء.
وإن كان لا يقدر على رفع قدر غيره إلا بأن ينقص من قدر نفسه فهذا هو العجز،
وضيق الذرع.
وإن كان على ذلك قادراً فآثر ابتذال نفسه والحط من شرفه فهذا هو الجهل الذي
لا يحتمل.
والوجهان عن الله جل جلاله منفيان.
ووجه آخر يعرفون به صحة قولي، وصواب مذهبي، وذلك أن الله تبارك وتعالى لو علم
أنه فد كان فيما أنزل من كتبه على بني إسرائيل: إن أباكم كان بكري وابني،
وإنكم أبناء بكري لما كان تغضب عليهم إذ قالوا: نحن أبناء الله، فكيف لا يكون
ابن ابن الله ابنه، وهذا من تمام الإكرام، وكمال المحبة، ولا سيما إن كان قال
في التوراة: بنو إسرائيل أبناء بكري.
وأنت تعلم أن العرب حين زعمت أن الملائكة بنات الله كيف استعظم الله تعالى
ذلك وأكبره، وغضب على أهله، وإن كان يعلم أن العرب لم تجعل الملائكة بناته
على الولادة واتخاذ الصاحبة، فكيف يجوز مع ذلك أن يكون الله قد كان يخبر
عباده قبل ذلك بأن يعقوب ابنه، وأن سليمان ابنه، وأن عزيراً ابنه، وأن عيسى
ابنه؟.
فالله تعالى أعظم من أن يكون له أبوة من صفاته، والإنسان أحقر من أن يكون
بنوة الله من أنسابه.
والقول بأن الله يكون أباً وجداً وأخاً وعماً، للنصارى ألزم، وإن كان للآخرين
لازماً، لأن النصارى تزعم أن الله هو المسيح بن مريم، وأن المسيح قال
للحواريين: " إخوتي " . فلو كان للحواريين أولاد لجاز أن يكون الله عمهم! بل
قد يزعمون أن مرقش هو ابن شمعون الصفا، وأن زوزري ابنته، وأن النصارى تقر أن
في إنجيل مرقش: " ما زاذ أمك وإخوتك على الباب " وتفسيرها: ما زاذ: معلم. فهم
لا يمتنعون من أن يكون الله تبارك وتعالى أباً وجداً وعماً.
ولولا أن الله قد حكى عن اليهود أنهم قالوا: إن " عزيراً ابن الله " ، " ويد
الله مغلولة " ، و " إن الله فقير ونحن أغنياء " وحكى عن النصارى أنهم قالوا:
" المسيح ابن الله " وقال: " قالت النصارى المسيح ابن الله " . وقال: " لقد
كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " لكنت لأن أخر من السماء أحب إلي من أن
ألفظ بحرف مما يقولون. ولكني لا أصل إلى إظهار جميع مخازيهم، وما يسرون من
فضائحهم، إلا بالإخبار عنهم، والحكاية منهم.
فإن قالوا: خبرونا عن الله، وعن التوراة، أليست حقاً؟ قلنا: نعم. قالوا: فإن
فيها " إسرائيل بكري " وجميع ما ذكرتم عنا معروف في الكتب.
قلنا: إن القوم إنما أتوا من قلة المعرفة بوجوه الكلام، ومن سوء الترجمة، مع
الحكم بما يسبق إلى القلوب. ولعمري أن لو كانت لهم عقول المسلمين ومعرفتهم
بما يجوز في كلام العرب، وما يجوز على الله، مع فصاحتهم بالعبرانية، لوجدوا
لذلك الكلام تأويلاً حسناً، ومخرجاً سهلاً، ووجهاً قريباً. ولو كانوا أيضاً
لم يعطلوا في سائر ما ترجموا لكان لقائل مقال، ولطاعن مدخل، ولكنهم يخبرون أن
الله تبارك وتعالى قال في العشر الآيات التي كتبتها أصابع الله: " إني أنا
الله الشديد، وإني أنا الله الثقف، وأنا النار التي تأكل النيران، آخذ
الأبناء بحوب الآباء، القرن الأول والثاني والثالث إلى السابع " . وأن داود
قال في الزبور: " وافتح عينك يا رب " و قم يا رب " ، و " أصغ إلي سمعك يا رب
" . وأن داود خبر أيضاً في مكان آخر عن الله تعالى: " وانتبه الله كما ينتبه
السكران الذي قد شرب الخمر " . وأن موسى قال في التوراة: " خلق الله الأشياء
بكلمته، وبروح نفسه " . وأن الله قال في التوراة لبني إسرائيل: " بذراعي
الشديدة أخرجتكم من أهل مصر " . وأنه قال في كتاب إشعياء: " احمد الله حمداً
جديداً، احمده في أقاصي الأرض، يملأ الجزائر وسكانها، والبحور والقفار وما
فيها، ويكون بنو قيدار في القصور، وسكان الجبال - يعني قيدار بن إسماعيل -
ليصيحوا ويصيروا لله الفخر والكرامة، ويسبحوا بحمد الله في الجزائر " .
وأنه قال على إثر ذلك: " ويخرج الرب كالجبار، وكالرجل الشجاع المجرب، ويزجر
ويصرخ، ويهيج الحرب والحمية، ويقتل أعداءه، يفرح السماء والأرض " .
وأن الله قال أيضاً في كتاب إشعياء: " سكت. قال: هو متى أسكت، مثل المرأة
التي قد أخذها الطلق للولادة أتلهف، وإن تراني أريد أحرث الجبال والشعب، وآخذ
بالعرب في طريق لا يعرفونه " .
وكلهم على هذا اللفظ العربي مجمع. ومعنى هذا لا يجوزه أحد من أهل العلم، ومثل
هذا كثير تركته لمعرفتكم به.
وأنت تعلم أن اليهود لو أخذوا القرآن فترجموه بالعبرانية لأخرجوه من معانيه،
ولحولوه عن وجوهه، وما ظنك بهم إذا ترجموا: " فلما آسفونا انتقمنا منهم " ، و
" لتصنع على عيني " ، و " السموات مطوية بيمينه " ، و " على العرش استوى " ،
و " ناضرة. إلى ربها ناظرة " ، وقوله: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً " ، و
" كلم الله موسى تكليماً " ، و " جاء ربك والملك صفاً صفاً " .
وقد يعلم أن مفسري كتابنا وأصحاب التأويل منا أحسن معرفة، وأعلم بوجوه الكلام
من اليهود، ومتأولي الكتاب، ونحن قد نجد في تفسيرهم ما لا يجوز على الله في
صفته، ولا عند المتكلمين في مقاييسهم، ولا عند النحويين في عربيتهم. فما ظنك
باليهود مع غباوتهم وغيهم، وقلة نظرهم وتقليدهم؟ وهذا باب قد غلطت فيه العرب
أنفسها، وفصحاء أهل اللغة إذا غلطت قلوبها، وأخطأت عقولها، فكيف بغيرهم ممن
لا يعلم كعلمها؟ سمع بعض العرب قول جميع العرب: " القلوب بيد الله " ، وقولهم
في الدعاء: " نواصينا بيد الله " وقوله جل ذكره: " بل يداه مبسوطتان " ،
وقولهم: " هذا من أيادي الله ونعمه عندنا " وقد كان من لغتهم أن الكف أيضاً
يد، كما أن النعمة يد، والقدرة يد، فغلط الشاعر فقال:
هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها
وقد كان إبراهيم بن سيار النظام يجيب بجواب، وأنا ذكره إن شاء الله. وعليه
كانت علماء المعتزلة، ولا أراه مقنعاً ولا شافياً.
وذلك أنه كان يجعل الخليل مثل الحبيب، مثل الولي، وكان يقول: خليل الرحمن مثل
حبيبه ووليه وناصره. وكانت الخلة والولاية والمحبة سواء.
قالوا: ولما كانت كلها عنده سواء جاز أن يسمي عبداً له ولداً، لمكان التربية
التي ليست بحضانة، ولمكان الرحمة التي لا تشتق من الرحم، لأن إنساناً لو رحم
جرو كلب فرباه لم يجز أن يسميه ولداً ويسمي نفسه أباً. ولو التقط صبياً فرباه
جاز أن يسميه ولداً ويسمي نفسه له أباً، لأنه شبيه ولده، وقد يولد لمثله
مثله. وليس بين الكلاب والبشر أرحام، فإذا كان شبه الإنسان أبعد من الله
تعالى من شبه الجرو بالإنسان، كان الله أحق بألا يجعله ولده، وينسبه إلى
نفسه.
قلنا لإبراهيم النظام عند جوابه هذا وقياسه الذي قاس عليه، في المعارضة
والموازنة بين قياسنا وقياسه: أرأيت كلباً ألف كلابه، وجامى وأحمى دونه، هل
يجوز أن يتخذه بذلك كله خليلاً، مع بعد التشابه والتناسب؟
فإذا قال: لا. قلنا: فالعبد الصالح أبعد شبهاً من الله من ذلك الكلب المحسن
إلى كلابه، فكيف جاز في قياسك أن يكون الله خليل من لا يشاكله لمكان إحسانه،
ولا يجوز للكلاب أن يسمي كلبه خليلاً أو ولداً لمكان حسن تربيته له، وتأديبه
إياه، ولمكان حسن الكلب وكسبه عليه، وقيامه مقام الولد الكاسب والأخ، والبار.
والعبد الصالح لا يشبه الله في وجه من الوجوه، والكلب قد يشبه كلابه لوجوه
كثيرة، بل ما أشبهه به مما خالفه فيه، وإن كانت العلة التي منعت من تسمية
الكلب خليلاً وولداً بعد شبهه من الإنسان.
فلو قلتم: فما الجواب الذي أجبت فيه، والوجه الذي ارتضيته؟ قلنا: إن إبراهيم
صلوات الله عليه، وإن كان خليلاً، فلم يكن خليله بخلة كانت بينه وبين الله
تعالى، لأن الخلة والإخاء والصداقة والتصافي والخلطة وأشباه ذلك منفية عن
الله تعالى عز ذكره، فيما بينه وبين عباده، على أن الإخاء والصداقة داخلتان
في الخلة، والخلة أعم الاسمين، وأخص الحالين. ويجوز أن يكون إبراهيم خليلاً
بالخلة التي أدخلها الله على نفسه وماله، وبين أن يكون خليلاً بالخلة وأن
يكون خليلاً بخلة بينه وبين ربه فرق ظاهر، وبون واضح. وذلك أن إبراهيم عليه
السلام اختل في الله تعالى اختلالاً لم يختلله أحد قبله. لقذفهم إياه في
النار، وذبحه ابنه، وحمله على ماله في الضيافة والمواساة والأثرة، وبعداوة
قومه، والبراءة من أبويه في حياتهما، وبعد موتهما، وترك وطنه، والهجرة إلى
غير داره ومسقط رأسه. فصار لهذه الشدائد مختلاً في الله، وخليلاً في الله.
والخليل والمختل سواء في كلام العرب. والدليل على أن يكون الخليل من الخلة
كما يكون من الخلة قول زهير بن أبي سلمى، وهو يمدح هرماً:
وإن أتاه خليل يوم مسبغة ... يقول لا عاجز مالي ولا حرم
وقال آخر:
وإني إلى أن تسعفاني بحاجة ... إلى آل ليلى مرة لخليل
وهو لا يمدحه بأن خليله وصديقه يكون فقيراً سائلاً، يأتي يوم المسألة ويبسط
يده للصدقة والعطية، وإنما الخليل في هذا الموضع من الخلة والاختلال، لا من
الخلة والخلال.
وكأن إبراهيم عليه السلام حين صار في الله مختلاً أضافه الله إلى نفسه،
وأبانه بذلك عن سائر أوليائه، فسماه خليل الله من بين الأنبياء، كما سمى
الكعبة: بيت الله من بين جميع البيوت، وأهل مكة: أهل الله من بين جميع
البلدان. وسمى ناقة صالح عليه السلام: ناقة الله من بين جميع النوق. وهكذا كل
شيء عظمه الله تعالى، من خير وشر، وثواب وعقاب. كما قالوا: دعه في لعنة الله،
وفي نار الله وفي حرقه. وكما قال للقرآن: كتاب الله، وللمحرم: شهر الله. وعلى
هذا المثال قيل لحمزة رحمة الله ورضوانه عز ذكره عليه: أسد الله، ولخالد رحمة
الله عليه: سيف الله تعالى.
وفي قياسنا هذا لا يجوز: أن الله خليل إبراهيم، كما يقال: إن إبراهيم خليل
الله.
فإن قال قائل: فكيف لم يقدموه على جميع الأنبياء، إذ كان الله قدمه بهذا
الاسم الذي ليس لأحد مثله؟ قلنا: إن هذا الاسم اشتق له من عمله وحاله وصفته،
وقد قيل لموسى عليه السلام: كليم الله، وقيل لعيسى: روح الله، ولم يقل ذلك
لإبراهيم، ولا لمحمد صلوات الله عليهما، وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم
أرفع درجة منهم، لأن الله تعالى كلم الأنبياء عليهم السلام على ألسنة
الملائكة، وكلم موسى كما كلم الملائكة، فلهذه العلة قيل: كليم الله. وخلق في
نطف الرجال أن قذفها في أرحام النساء على ما أجرى عليه تركيب العالم، وطباع
الدنيا، وخلق في رحم مريم روحاً وجسداً، على غير مجرى العادة، وما عليه
المناكحة. فلهذه الخاصة قيل له: روح الله.
وقد يجوز أن يكون في نبي من الأنبياء خصلة شريفة، ولا تكون تلك الخصلة بعينها
في نبي أرفع درجة منه، ويكون في ذلك النبي خصال شريفة ليست في الآخر. وكذلك
جميع الناس، كالرجل يكون له أبوان، فيحسن برهما وتعاهدهما، والصبر عليهما،
وهو أعرج لا يقدر على الجهاد، وفقير لا يقدر على الإنفاق. ويكون آخر لا أب له
ولا أم له، وهو ذو مال كثير، وخلق سوي، وجلد طاهر، فأطاع هذا بالجهاد
والإنفاق، وأطاع ذلك ببر والديه والصبر عليهما.
والكلام إذا حرك تشعب، وإذا ثبت أصله كثرت فنونه، واتسعت طرقه. ولولا ملالة
القارىء، ومداراة المستمع لكان بسط القول في جميع ما يعرض أتم للدليل، وأجمع
للكتاب، ولكنا إنما ابتدأنا الكتاب لنقتصر به على كسر النصرانية فقط.
فصل منه
قلنا في جواب آخر: إن كان المسيح إنما صار ابن الله لأن الله خلقه من غير
ذكر، فآدم وحواء إذ كانا من غير ذكر وأنثى أحق بذلك، إن كانت العلة في اتخاذه
ولداً أنه خلقه من غير ذكر.
وإن كان ذلك لمكان التربية فهل رباه إلا كما ربى موسى، وداود، وجميع
الأنبياء. وهل تأويل: رباه إلا غذاه، ورزقه، وأطعمه، وسقاه، فقد فعل ذلك
بجميع الناس. ولم سميتم سقيه لهم وإطعامه إياهم تربية؟ ولم رباه وأنتم لا
تريدون إلا غذاه ورزقه، وهو لم يحضنه، ولم يباشر تقليبه، ولم يتول بنفسه سقيه
وإطعامه، فيكون ذلك سبباً له دون غيره، وإنما سقاه لبن أمه في صغره، وغذاه
بالحبوب والماء في كبره.
فصل منه
والأعجوبة في آدم عليه السلام أبدع، وتربيته أكرم، ومنقلبه أعلى وأشرف، إذ
كانت السماء داره، والجنة منزله، والملائكة خدامه. بل هو المقدم بالسجود،
والسجود أشد الخضوع. وإن كان بحسن التعليم والتثقيف؛ فمن كان الله تعالى
يخاطبه، ويتولى مناجاته دون أن يرسل إليه ملائكته ويبعث إليه رسله، أقرب
منزلة، وأشرف مرتبة، وأحق بشرف التأديب وفضيلة التعليم.
وكان الله تعالى يكلم آدم كما كان يكلم ملائكته، ثم علمه الأسماء كلها؛ ولم
يكن ليعلمه الأسماء كلها إلا بالمعاني كلها، فإذا كان ذلك كذلك فقد علمه جميع
مصالحه ومصالح ولده، وتلك نهاية طباع الآدميين، ومبلغ قوى المخلوقين.
فصل منه
فأما قولهم إنا نقول على الناس ما لا يعرفونه، ولا يجوز أن يدينوا به، وهو
قولنا إن اليهود قالت: إن الله تعالى فقير ونحن أغنياء. وأنها قالت: إن يد
الله مغلولة، وإنها قالت: إن عزيراً ابن الله، وهم مع اختلافهم وكثرة عددهم،
ينكرون ذلك ويأبونه أشد الإباء.
قلنا لهم: إن اليهود لعنهم الله تعالى كانت تطعن على القرآن، وتلتمس نقضه،
وتطلب عيبه، وتخطىء فيه صاحبه، وتأتيه من كل وجه، وترصده بكل حيلة، ليلتبس
على الضعفاء، وتستميل قلوب الأغبياء.
فلما سمعت قول الله تعالى لعباده الذين أعطاهم، قرضاً، وسألهم قرضاً على
التضعيف، فقال عز من قائل: " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له "
. قالت اليهود على وجه الطعن والعيب والتخطئة والتعنت: تزعم أن الله يستقرض
منا، وما استقرض منا إلا لفقره وغنانا! فكفرت بذلك القول إذ كان على وجه
التكذيب والتخطئة، لا على وجه أن دينها كان في الأصل أن الله فقير، وأن عباده
أغنياء. وكيف يعتقد إنسان أن الله عاجز عما يقدر عليه، مع إقراره بأنه الذي
خلقه ورزقه، وإن شاء حرمه، وإن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. وقدرته على جميع
ذلك كقدرته على واحد.
ومجاز الآية في اللغة واضح، وتأويلها بين؟ وذلك أن الرجل منهم كان يقرض صاحبه
لإرفاقه، ليعود إليه مع أصل ماله اليسير من ربحه، ثم هو مخاطر به إلى أن يعود
في ملكه. فقال لهم بحسن عادته ومنته: آسوا فقراءكم، وأعطوا في الحق أقرباءكم،
من المال الذي أعطيتكم، والنعمة التي خولتكم، بأمري إياكم وضماني لكم، فأعتده
منكم قرضاً وإن كنت أولى به منكم، فأنا موفيكم حقوقكم إلى ما لا ترتقي إليه
همة ولا تبلغه أمنية. على أنكم قد أمنتم من الخطار، وسلمتم من التغرير.
والرجل يقول لعبده: أسلفني درهماً، عند الحاجة تعرض له، وهو يعلم أن عبده
وماله له. وإنما هذا كلام وفعال يدل على حسن الملكة، والتفضل على العبد
والأمة، وإخبار منه لعبده أنه سيعيد عليه ما كانت سخت به نفسه.
وهذا ليس بغلط في الكلام ولا بضيق فيه ولكن المتعنت يتعلق بكل سبب، ويتشبث
بكل ما وجد.
وأما إخباره عن اليهود أنها قالت: " يد الله مغلولة " ، فلم يذهب إلى أن
اليهود ترى أن ساعده مشدودة إلى عنقه بغل. وكيف يذهب إلى هذا ذاهب، ويدين به
دائن؟ ! لأنه لا بد أن يكون يذهب إلى أنه غل نفسه أو غله غيره. وأيهما كان،
فإنه منفي عن وهم كل بالغ يحتمل التكليف، وعاقل يحتمل التثقيف، ولكن اليهود
قوم جبرية، والجبرية تبخل الله مرة، وتظلمه مرة، وإن لم تقر بلسانها، وتشهد
على إقرارها، بقولهم: " يد الله مغلولة " يعنون بره وإحسانه. وقولهم: مغلولة،
لا يعني أن غيره حبسه ومنعه، ولكن إذا كان عندهم أنه الذي منع أياديه، وحبس
نعمه؛ فهي محبوسة بحبسه، وممنوعة بمنعه.
والذي يدل على أنهم أرادوا باليدين النعمة والإفضال، دون الساعد والذراع،
جواب كلامهم حين قال: " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " . دليلاً على ما
قلنا، وشاهداً على ما وصفنا.
فإن قالوا: فكيف لم نقل إن اليهود بخلت الله وجحدت إحسانه، دون أن يقال إن يد
الله مغلولة؟ قلنا: إن أراد الله الإخبار عن كفر قوم وسخط عليهم، فليس لهم
عليه أن يعبر عن دينهم وعيوبهم بأحسن المخارج، ويجليها بأحسن الألفاظ. وكيف
وهو يريد التنفير عن قولهم، وأن يبغضهم إلى من سمع ذلك عنهم.
ولو أراد الله تعالى تليين الأمر وتصغيره وتسهيله، لقال قولاً غير هذا. وكل
صدق جائز في الكلام. فهذا مجاز مسألتهم في اللغة، وهو معروف عند أهل البيان
والفصاحة.
وأما قولهم: إن اليهود لا تقول إن عزيراً ابن الله. فإن اليهود في ذلك على
قولين: أحدهما خاص، والآخر عام في جماعتهم.
فأما الخاص، فإن ناساً منهم لما رأوا عزيراً أعاد عليهم التوراة من تلقاء
نفسه، بعد دروسها وشتات أمرها غلوا فيه، وقالوا ذلك، وهو مشهور من أمرهم. وإن
فريقاً من بقاياهم لباليمن والشام وداخل بلاد الروم. وهؤلاء بأعيانهم يقولون:
إن إسرائيل الله ابنه، وإذا كان ذلك على خلاف تناسب الناس، وصار ذلك الاسم
لعزير بالطاعة والعلامة، والمرتبة لأنه من ولد إسرائيل.
والقول الذي هو عام فيهم، أن كل يهودي ولده إسرائيل، فهو ابن الله، إذ لم
يجدوا ابن ابن قط إلا وهو ابن.
فصل منه
فإن قالوا: ليس المسيح روح الله وكلمته، كما قال عز ذكره: " وكلمته ألقاها
إلى مريم وروح منه " أو ليس قد أخبر عن نفسه حين ذكر أمه أنه نفخ فيها من
روحه؟ أو ليس مع ذلك قد أخبر عن حصانة فرجها وطهارتها؟ أو ليس مع ذلك قد أخبر
أنه لا أب له، وأنه كان خالقاً، إذ كان يخلق من الطين كهيئة الطير، فيكون
حياً طائراً؟ فأي شيء بقي من الدلالات على مخالفته لمشاكلة جميع الخلق،
ومباينة جميع البشر؟ قلنا لهم: إنكم إنما سألتمونا عن كتابنا، وما يجوز في
لغتنا وكلامنا، ولم تسألونا عما يجوز في لغتكم وكلامكم. ولو أننا جوزنا ما في
لغتنا ما لا يجوز، وقلنا على الله تعالى ما لا نعرف، كنا بذلك عند الله
والسامعين في حد المكاثرين، وأسوأ حالاً من المنقطعين، وكنا قد أعطيناكم أكثر
مما سألتم، وجزنا بكم فوق أمنيتكم.
ولو كنا إذا قلنا: عيسى روح الله وكلمته، وجب علينا في لغتنا أن يجعله الله
ولداً، ونجعله مع الله تعالى إلهاً، ونقول: إن روحاً كانت في الله فانفصلت
منه إلى بدن عيسى وبطن مريم.
فكنا إذا قلنا: إن الله سمى جبريل روح الله وروح القدس، وجب علينا أن نقول
فيه ما يقولون في عيسى. وقد علمتم أن ذلك ليس من ديننا، ولا يجوز ذلك بوجه من
الوجوه عندنا، فكيف نظهر للناس قولاً لا نقوله، وديناً لا نرتضيه.
ولو كان قوله جل ذكره: " فنفخنا فيه من روحنا " يوجب نفخاً كنفخ الزق، أو
كنفخ الصائغ في المنفاخ، وأن بعض الروح التي كانت فيه انفصلت فاصلة إلى بطنه
وبطن أمه، لكان قوله في آدم يوجب له ذلك؛ لأنه قال: " وبدأ خلق الإنسان من
طين. ثم جعل نسله " . . إلى قوله: " ونفخ فيه من روحه " وكذلك قوله: " فإذا
سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " .
والنفخ يكون من وجوه، والروح يكون من وجوه: فمنها ما أضافه إلى نفسه، ومنها
ما لم يضفه إلى نفسه. وإنما يكون ذلك على قدر ما عظم من الأمور، فمما سمى
روحاً وأضافه إلى نفسه، جبريل الروح الأمين، وعيسى بن مريم. والتوفيق كقول
موسى حين قال: إن بني فلان أجابوا فلاناً النبي ولم يجيبوك. فقال له: " إن
روح الله مع كل أحد " .
وأما القرآن فإن الله سماه روحاً، وجعله يقيم للناس مصالحهم في دنياهم
وأبدانهم، فلما اشتبها من هذا الوجه ألزمهما اسمهما فقال لنبيه صلى الله عليه
وسلم: " وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا " وقال: " تنزل الملائكة والروح "
.
فصل منه
قد جعلنا في جواباتهم وقدمنا مسائلهم، بما لم يكونوا ليبلغوه لأنفسهم، ليكون
الدليل تاماً، والجواب جامعاً؛ وليعلم من قرأ هذا الكتاب، وتدبر هذا الجواب،
أنا لم نغتنم عجزهم، ولم ننتهز غرتهم، وأن الإدلال بالحجة، والثقة بالفلج
والنصرة، هو الذي دعانا إلى أن نخبر عنهم بما ليس عندهم، وألا نقول في
مسألتهم بمعنىً لم ينتبه له منتبه، أو يشر إليه مشير، وألا يوردوا فيما
يستقبلون، على ضعفائنا ومن قصر نظره منا، شيئاً إلا والجواب قد سلف فيهم،
وألسنتهم قد مذلت به.
وسنسألهم إن شاء الله، ونجيب عنهم، ونستقصي لهم في جواباتهم، كما سألنا لهم
أنفسنا، واستقصينا لهم في مسائلهم.
فيقال لهم: هل يخلو المسيح أن يكون إنساناً بلا إله، أو إلهاً بلا إنسان؟ أو
أن يكون إلهاً وإنساناً؟ فإن زعموا أنه كان إلهاً بلا إنسان، قلنا لهم: فهو
الذي كان صغيراً فشب والتحى، والذي كان يأكل ويشرب، وينجو ويبول، وقتل بزعمكم
وصلب، وولدته مريم وأرضعته، أم غيره هو الذي كان يأكل ويشرب على ما وصفنا؟
فأي شيء معنى الإنسان إلا ما وصفنا وعددنا؟ وكيف يكون إلهاً بلا إنسان، وهو
الموصوف بجميع صفات الإنسان. وليس القول في غيره ممن صفته كصفته إلا كالقول
فيه كاشتمالها على غيره؟ وإن زعموا أنه لم ينقلب عن الإنسانية ولم يتحول عن
جوهر البشرية، ولكن لما كان اللاهوت فيه، صار خالقاً وسمي إلهاً. قلنا لهم:
خبرونا عن اللاهوت. أكان فيه وفي غيره، أم كان فيه دون غيره؟ فإن زعموا أنه
كان فيه وفي غيره، فليس هو أولى بأن يكون خالقاً ويتسمى إلهاً من غيره. وإن
كان فيه دون غيره، فقد صار اللاهوت جسماً.
وسنقول في الكسر عليهم إذا صرنا إلى القول في التشبيه، وهو قول معظمهم، والذي
كان عليه جماعتهم، إلا من خالفهم من متكلميهم ومتفلسفيهم، فإنهم يقولون
بالتشبيه والتجسيم، فراراً من كثرة الشناعة، وعجزاً عن الجواب. وكفى بالتشبيه
قبحاً، وهو قول يعم اليهود وإخوانهم من الرافضة، وشياطينهم من المشبهة
والحشوية والنابتة، وهو بعد متفرق في الناس. والله تعالى المستعان.
الرد
على المشبهة
أما بعد، فقد اختلف أهل الصلاة في معنى التوحيد، وإن كانوا قد أجمعوا على
انتحال اسمه. فليس يكون كل من انتحل اسم التوحيد موحداً إذا جعل الواحد ذا
أجزاء، وشبهه بشيء ذي أجزاء.
ولو أن زاعماً زعم أن أحداً لا يكون مشبهاً وإن زعم أن الله يرى بالعيون،
ويوجد ببعض الحواس، حتى يزعم أنه يرى كما يرى الإنسان، ويدرك كما تدرك
الألوان كان كمن قال: لا يكون العبد لله مكذباً، وإن زعم أنه يقول ما لا
يفعل، حتى يزعم أنه يكذب.
ولا يكون العبد لله مجوراً، وإن زعم أنه يعذب من لم يعطه السبب الذي به ينال
طاعته، حتى يزعم أنه يجور.
ولو أن رجلاً قال لفلان: عندي جذر مائة، كان عندنا كقوله: لفلان عشرة. وكذلك
إذا قال: فلان قد ناقض في كلامه، فهو عندنا كقوله: فلان قد أحال في كلامه.
ولو قال: ناقض ولم يحل، له عندي جذر مائة وليس له عندي عشرة؛ كان كالذي يقول:
ركبت عيراً ولم أركب حماراً، وشربت المدامة ولم أشرب خمراً.
وللمعاني دلالات وأسماء، فمن دل على المعنى بواحدة منها، وباسم من أسمائها،
لم نسأله أن يوفينا الجميع؛ وأن يأتي على الكل، ولم يلتفت إلى منع ما منع،
إذا كان الذي منع مثل الذي أعطى.
وقد أنبأ الله عن نفسه، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال " ليس كمثله
شيء " فأقر القوم بظاهر هذا الكلام؛ ثم جعلوه في المعنى يشبه كل شيء، إذ
جعلوه جسماً، فقد جعلوه محدثاً ومخلوقاً؛ لأن دلالة الحدوث، والشهادة على
التدبير، ثابتان في الأجسام، وإنما لزمها ذلك لأنهما أجسام لا لغير ذلك؛ لأن
الجسم إذا تحرك وسكن، وعجز وقوي، وبقي وفني، وزاد ونقص، ومازج الأجسام وتخلص
لأنه جسم؛ ولولا أنه جسم لاستحال ذلك منه، ولما جاز عليه هذه الأمور التي
أوجبتها الجسمية، وهي الدالة على حدوث الأجسام. فواجب أن يكون كل جسم كذلك،
إذا كانت الأجسام مستوية في الجسمية، وإذا كان كل جسم منها أيضاً لزمه ذلك.
وقد اختلف أصحاب التشبيه في مذاهب التشبيه.
فقال بعضهم: نقول: إنه جسم، وكل جسم طويل.
وقال آخرون: نقول: إنه جسم، ولا نقول إنه طويل، لأنا إنما جعلناه جسماً
لنخرجه من باب العدم؛ إذ كنا متى أخبرنا عن شيء، فقد جعلناه معقولا متوهماً،
ولا معقول ولا متوهم إلا الجسم. وليست بنا حاجة إلى أن نجعله طويلاً، وليس في
كونه جسماً إيجاب لأن يكون طويلاً. لأن الجسم يكون طويلاً وغير طويل،
كالمدور، والمثلث، والمربع، وغير ذلك، ولا يكون الشيء إلا معقولا، ولا
المعقول إلا جسماً. فلذلك جعلناه جسماً، ولم نجعله طويلا.
فينبغي - يرحمك الله - لصاحب هذه المقالة، إن لم يجعله طويلاً أن يجعله
عريضاً، وإن لم يجعله عريضاً أن يجعله مدوراً، وإن لم يجعله مدوراً أن يجعله
مثلثاً، وإن لم يجعله مثلثاً أن يجعله مربعاً. وإن أقر بهيئة من الهيئات فقد
دخل فيما كره.
ولا أعلم المدور، والمثلث، والمربع، والمخمس، والمصلب، والمزوى، وغير ذلك من
الهيئات، إلا أشنع في اللفظ، وأحقر في الوهم.
فصل منه
وقال أصحاب الرؤية: اعتللتم علينا بقول الله تعالى: " لا تدركه الأبصار وهو
يدرك الأبصار " ، وقلتم: هذه الآية مبهمة، وخرجت مخرج العموم، والعام غير
الخاص.
وقد صدقتم، كذلك العام إلى أن يخصه الله بآية أخرى؛ وذلك أن الله تعالى لو
كان قال: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " ثم لم يقل: " وجوه يومئذ
ناضرة. إلى ربها ناظرة " لعلمنا أنه قد استثنى أخرة من جميع الأبصار.
قالوا: وإنما ذلك مثل قوله: " قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا
الله " ومثل قوله: " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " وهذه الأخبار مبهمة
عامة، فلما قال: " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا
قومك من قبل هذا " ولما قال، أيضاً: " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء "
علمنا أن القول الثاني قد خص القول الأول. وكذلك أيضاً قوله: " لا تدركه
الأبصار " .
قلنا للقوم: إن الله تعالى لما قال: " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك " .
بعد أن قال: " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " . علمنا أن ذلك استثناء لبعض
ما قال إني لا أطلعكم على الغيب. وهذا الاستثناء لا اختلاف في لفظه ولا في
معناه، ولا يحتمل ظاهر لفظه غير معناه عندنا.
وعند خصومنا فيه أشد الاختلاف. وظاهر لفظه يحتمل وجهاً آخر غير ما ذهبوا
إليه. والفقهاء وأصحاب التفسير يختلفون في تأويله وهم لا يختلفون في تأويل
قوله: " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك " قال: ذكر ابن مهدي عن سفيان، عن
منصور، عن مجاهد، في قوله: " وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة " أنه قال:
تنتظر ثواب ربها.
وذكر أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح مثل ذلك. وأبو صالح
ومجاهد من كبار أصحاب ابن عباس، ومن العاملية، ومن المتقدمين في التفسير.
فهذا فرق بين.
وبعد، ففي حجج العقول أن الله لا يشبه الخلق بوجه من الوجوه؛ فإذا كان مرئياً
فقد أشبهه في أكثر الوجوه.
وإذا كان قولهم في النظر يحتمل ما قلتم، وما قال خصمكم، مع موافقة أبي صالح
ومجاهد في التأويل، وكان ذلك أولى بنفي التشبيه الذي قد دل عليه العقل، ثم
القرآن: " ليس كمثله شيء " كان التأويل ما قال خصمكم دون ما قلتم.
فصل منه
ثم رجع الكلام إلى أول المسألة، حيث جعلنا القرآن بيننا قاضياً، واتخذناه
حاكماً، فقلنا:
قد رأينا الله استعظم الرؤية استعظاماً شديداً، وغضب على من طلب ذلك وأراده،
ثم عذب عليه، وعجب عباده ممن سأله ذلك، وحذرهم أن يسلكوا سبيل الماضين، فقال
في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً
من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة
" .
فإن كان الله تعالى - في الحقيقة - يجوز أن يكون مرئياً، وببعض الحواس
مدركاً، وكان ذلك عليه جائزاً، فالقوم إنما سألوا أمراً ممكناً، وقد طمعوا في
مطمع، فلم غضب هذا الغضب، واستعظم سؤالهم هذا الاستعظام، وضرب به هذا المثل،
وجعله غاية في الجرأة وفي الاستخفاف بالربوبية.
فإن قالوا: لأن ذلك كان لا يجوز في الدنيا؛ فقدرة الله تعالى على ذلك في
الدنيا كقدرته عليه في الآخرة.
فإن قالوا: ليس لذلك استعظم سؤالهم، ولكن لأنهم تقدموا بين يديه.
قلنا: لم صار هذا السؤال تقدماً عليه واستخفافاً به، والشيء الذي طلبوه هو
مجوز في عقولهم، وقد أطمعهم فيه أن جوزوه عندهم، والقوم لم يسألوا ظلماً ولا
عبثاً ولا محالا. ومن عادة المسئول التفضل، وأنه فاعل ذلك بهم يوماً.
فإن قالوا: إنما صار ذلك الطلب كفراً وذنباً عظيماً لأنه قد كان قال لهم: إني
لا أتجلى لأحد في الدنيا.
قلنا: فإن كان الأمر على ما قلتم لكان في تفسيره إنكاره لطلبهم دليل على ما
يقولون، ولذكر تقدمهم بعد البيان، بل قال: " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك
فقالوا أرنا الله جهرة " لا غير ذلك.
فإن قالوا: إنما غضب الله عليهم لأنه ليس لأحد أن يظن أن الله تعالى يرى
جهرة.
قلنا: وأي شيء تأويل قول القائل: رأيت الله جهرة إلا المعاينة، أو إعلان
المعاينة؛ قال الله عز ذكره: " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول " . والجهر
هو الإعلان والرفع والإشاعة؛ فهل يراه أهل الجنة إذا رفع عنهم الحجب، ودخلوا
عليه وجلسوا على الكرسي عنده إلا جهرة؟ كما تأولتم الحديث الذي رويتموه عن
النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تضامون في رؤيته كما لا تضامون في القمر ليلة
البدر " ، إلا أن يزعموا أنهم يرون ربهم سراً، لأنه ليس إلا السر والجهر،
وليس إلا الإعلان والإخفاء، وليس إلا المعاينة.
فإن قالوا: نحن لا نقول بالمعاينة، ونقول: نراه، ولا نقول نعاينه.
قلنا: ولم، وأنتم ترونه بأعينكم؟ فمن جعل لكم أن تقولوا نراه بالعين، ومنعكم
أن تقولوا نعاينه بالعين؟ وهل اشتقت المعاينة إلا من العين؟ فإن قالوا: لا
يجوز أن يلفظ بالمعاينة إلا في الشيء الذي تقع عينه علي، وتقع عيني عليه.
فأما إذا كان أحدنا ذا عين، والآخر ليس ذا عين، فغير جائز أن تسمى الرؤية
معاينة، وإنما المعاينة مثل المخاصمة؛ ولا يجوز أن أقول: خاصمت إلا وهناك من
يخاصمني.
قلنا: قد يقول الناس أسلم فلان حين عاين السيف، وليس للسيف عين، وليس هناك من
يقاتله. على أنكم قد تزعمون أن لله عيناً لا كالعيون ويداً لا كالأيدي، وله
عين بلا كيف، وسمع بلا كيف.
فصل منه
وقالت - أيضاً - المشبهة: الدليل على أنه جسم قوله عز ذكره: " وجاء ربك
والملك صفاً صفاً " . قالوا: فلا يجيء إلا إلى مكان هو فيه؛ ولو جاز أن يجيء
إلى مكان هو فيه جاز أن يخرج منه وهو فيه. فإذا أخبر الله أنه في السموات
والأرض، وقلتم إن الدنيا كلها لا تخلو منه، وإنه فيها، فإذا كان الأمر كذلك،
وكانت الدنيا محدودة، كان الذي يكون في بعضها أو في كلها محدوداً، إذا كان لم
يجاوزها. ولو جاوزها لخرج إلى مكان، ولا يجوز أن يخرج منها إلا إلى مكان.
وقالوا: قد أخبر الله أنه في السموات والأرض، والله لا يخاطب عباده إلا بما
يعقلون، ولو خاطبهم بما لا يعقلون لكان قد كلفهم ما لا يطيقون، ومن خاطب من
لا يفي بالفهم عنه فقد وضع المخاطبة في غير موضعها. فهذا ما قال القوم.
ونحن نقول: إن الشيء قد يكون في الشيء على وجوه، وسنذكر لك الوجوه، ونلحق كل
واحد منها بشكله وبما يجوز فيه، إن شاء الله تعالى.
قلنا للقوم: أليس قد خاطب الله الصم البكم الذين لا يعقلون، والذين خبر أنهم
لا يستطيعون سمعاً؟ فإن قالوا: إن العرب قد تسمي المتعامي أعمى، والمتصامم
أصم، ويقولون لمن عمل عمل من لا يعقل: لا يعقل؛ وإنما الكلام محمول على كلام.
وذلك أن المتعامي إذا تعامى، صار في الجهل كالأعمى، فلما أشبهه من وجه سمي
باسمه.
قلنا: قد صدقتم؛ ولكن ليس الأصل. والمستعمل في تسميتهم بالعمى إنما هو الذي
لا ناظر له. فإذا قالوا ذلك، قلنا: فلم زعمتم أن له ناظراً، وأخذتم بالمجاز
والتشبيه، وتركتم الأصل الذي هذا الاسم محمول عليه؟ فإن قالوا: إنما قلنا من
أجل أن الأول لا يجوز على الله تعالى، والثاني جائز عليه، والله لا يتكلم
بكلام إلا ولذلك الكلام وجه إما أن يكون هو الأصل والمحمول عليه؛ وإما أن
يكون هو الفرع والاشتقاق الذي تسميه العرب مجازاً.
فإذا نظرنا في كلام الله وهو عندنا عادل غير جائر، وهو جل جلاله يقول: " صم
بكم عمي فهم لا يعقلون " علمنا أنهم لو كانوا منقوصين غير وافرين، كانوا قد
كلفوا ما لا يطيقون، والمكلف لعباده ما لا يطيقون جائر ظالم. فإذا كان لا
يليق ذلك به علمنا أنهم قد كانوا وافرين غير عاجزين ولا منقوصين. وإذا كانوا
كذلك، صار الواجب أن نحكم بالفرع والمجاز، وندع الأصل والمحمول عليه وقلنا:
هم عمي وصم ولا يعقلون على أنهم تعاموا وتصاموا وعملوا عمل من لا يعقل.
فإذا قالوا ذلك قلنا لهم: فإنا لم نعد هذا المذهب في قوله: " ناضرة " ، "
وجاء ربك والملك صفاً صفاً " وفي قوله: " وهو الله في السموات وفي الأرض " .
وقد يقولون: جاءنا فلان بنفسه، ويقولون: جاءنا بولده، وجاءنا بخير كثير. وذلك
على معان مختلفة.
ويقولون: جاءتنا السماء بأمر عظيم، والسماء في مكانها.
وقد يقولون - أيضاً - : جاءتنا السماء، وهم إنما يريدون الغيم الذي يكون به
المطر من شق السماء وناحيتها ووجهها.
في مقالة العثمانية
زعمت العثمانية أن أفضل هذه الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة.
وكان أول ما دلهم عند أنفسهم على فضيلته، وخاصة منزلته، وشدة استحقاقه إسلامه
على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد من عالمه وفي عصره. وذلك أن الناس اختلفوا
في أول الناس إسلاماً: فقال قوم: أبو بكر بن أبي قحافة. وقال آخرون: زيد بن
حارثة. وقال نفر: خباب بن الأرت.
على أنا إذا تفقدنا أخبارهم، وأحصينا أحاديثهم، وعددنا رجالهم، وصحة
أسانيدهم، كان الخبر في تقديم أبي بكر أعم، ورجاله أكثر، وإسناده أصح؛ وهو
بذلك أشهر، واللفظ به أظهر. مع الأشعار الصحيحة، والأمثال المستفيضة، في حياة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. وليس بين الأشعار وبين الأخبار فرق
إذا امتنع في مجيئها وأصل مخرجها التشاعر، والاتفاق والتواطؤ.
ولكنا ندع هذا المذهب جانباً، ونضرب عنه صفحاً، اقتداراً على الحجة، وثقة
بالفلج والقوة، ونقتصر على أدنى منازل أبي بكر، وننزل على حكم الخصم، مع سرفه
وميطه، فنقول: لما وجدنا من يزعم أن خباباً وزيد أسلما قبله، فأوسط الأمور
وأعدلها وأقربها من محبة الجميع ورضى المخالف، أن نجعل إسلامهم كان معاً؛ إذ
ادعوا أن الأخبار في ذلك متكافئة، والآثار متدافعة؛ وليس في الأشعار دلالة،
ولا في الأمثال حجة. ولم يجدوا إحدى القضيتين أولى في حجة العقل من الأخرى.
وقالوا: فإن قال لنا قائل: فما بالكم لم تذكروا علياً في هذه الطبقة، وقد
تعلمون كثرة مقدميه والرواية فيه؟
قلنا: لأنا قد علمنا بالوجه الصحيح، والشهادة القائمة أنه أسلم وهو حدث غرير،
ولم نكذب الناقلين. ولم نستطع أن نزعم أن إسلامه كان لاحقاً بإسلام البالغين؛
لأن المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع
سنين، والقياس يوجب أن يؤخذ بأوسط الروايتين، وبالأمر بين الأمرين. وإنما
يعرف حق ذلك من باطله بأن تحصي سنيه التي ولي فيها، وسني عثمان، وسني أبي
بكر، وسني الهجرة ومقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، بعد أن دعا إلى الله
وإلى رسالته، وإلى أن هاجر إلى المدينة، ثم تنظر في أقاويل الناس في عمره،
وفي قول المقلل والمكثر، فنأخذ بأوسطها، وهو أعدلها، وتطرح قول المقصر
والغالي، ثم تطرح ما حصل في يديك من أوسط ما روي من عمره وسنيه، وسني عثمان،
وسني عمر، وسني أبي بكر، والهجرة، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، إلى
وقت إسلامه. فإذا فعلت وجدت الأمر على ما قلنا، وكما فسرنا.
وهذه التأريخات والأعمار معروفة، لا يستطيع أحد جهلها، والخلاف عليها؛ لأن
الذين نقلوا التاريخ لم يعتمدوا تفضيل بعض على بعض، وليس يمكن ذلك، مع عللهم
وأسبابهم. فإذا ثبت عندك بالذي أوضحنا وشرحنا، أنه كان ابن سبع سنين، أقل
بسنة وأكثر بسنة علمت بذلك أنه لو كان ابن أكثر من ذلك بسنتين وثلاث وأربع،
لا يكون إسلامه إسلام المكلف العارف بفضيلة ما دخل فيه، ونقصان ما خرج منه.
؟؟؟؟؟والتأويل المجمع عليه أن علياً قتل سنة أربعين في رمضان.
وقالوا: وإن قالوا: فلعله وهو ابن سبع سنين وثمان، فقد بلغ من فطنته وذكائه،
وصحة لبه، وصدق حسه، وانكشاف العواقب له، وإن لم يكن جرب الأمور، ولا فاتح
الرجال، ولا نازع الخصوم، أن يعرف جميع ما يجب على البالغ معرفته والإقرار
به.
قلنا: إنما نتكلم على ظاهر الأحكام، وما شاهدنا عليه طباع الأطفال، فوجدنا
حكم ابن سبع سنين وثمان سنين، وتسع سنين، حيث رأيناه وبلغنا خبره ما لم نعلم
مغيب أمره، وخاصة طباعه حكم الأطفال. وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه، والذي نعرف
من شكله بلعل وعسى، لأنا كنا لا ندري، لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة، فلعله
قد كان ذا نقص فيها. أجاب منهم بهذا الجواب من يجوز أن يكون علي في المغيب قد
أسلم إسلام البالغ المختار. غير أن الحكم فيه عنده على مجرى أمثاله وأشكاله،
الذين إذا أسلموا وهم في مثل سنه، كان إسلامهم عن تربية الحاضن، وتلقين
القيم، ورياضة السائس.
فأما علماء العثمانية ومتكلموهم، وأهل القدم والرياسة فيهم، فإنهم قالوا: إن
علياً لو كان، وهو ابن ست سنين، وثمان سنين، وتسع سنين، يعرف فصل ما بين
الأنبياء والكهنة، وفرق ما بين الرسل والسحرة، وفرق ما بين المنجم والنبي،
وحتى يعرف الحجة من الحيلة، وقهر الغلبة من قهر المعرفة، ويعرف كيد الأريب،
وبعد غور المتنبي، وكيف يلبس على العقلاء ويستميل عقول الدهماء، ويعرف الممكن
في الطباع من الممتنع فيها، وما قد يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب، ويعرف
أقدار القوى في مبلغ الحيلة ومنتهى البطش وما لا يحتمل إحداثه إلا الخالق،
وما يجوز على الله مما لا يجوز في توحيده وعدله، وكيف التحفظ من الهوى، وكيف
الاحتراس من تقدم الخادع في الحيلة كان كونه بهذه الحال وهذه الصفة، مع فرط
الصبا والحداثة، وقلة التجارب والممارسة، خروجاً من نشو العادة، والمعروف مما
عليه تركيب الأمة.
ولو كان على هذه الصفة، ومع هذه الخاصة، كان حجة على العامة وآية تدل على
المباينة. ولم يكن الله تعالى ليخصه بمثل هذه الآية، وبمثل هذه الأعجوبة إلا
وهو يريد أن يحتج بها له، ويخبر بها عنه، ويجعلها قاطعة لعذر الشاهد، وحجة
الغائب، ولا يضيعها هدراً، ولا يكتمها باطلا.
ولو أراد الاحتجاج له بها شهر أمرها وكشف قناعها، وحمل النفوس على معرفتها،
وسخر الألسنة لنقلها. والأسماع لإدراكها، لئلا يكون لغواً ساقطاً، ونسياً
منسياً؛ لأن الله تعالى لا يبتدع أعجوبة، ولا يخترع آية، ولا ينقض العادة إلا
للتعريف والإعذار، والمصلحة والاستبصار. ولولا ذلك لم يكن لفعلها معنىً، ولا
لرسالته حجة. والله تبارك اسمه، تعالى أن يترك الأمور سدىً، والتدبير نشراً.
وأنتم تزعمون أنه لا يصل أحد إلى معرفة نبي، وكذب متنبىء، حتى تجتمع له هذه
المعارف التي ذكرنا، والأسباب التي فصلنا.
ولولا أن الله تعالى أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبياً، وأنه أنطق
عيسى في المهد رضيعاً، ما كانا في الحكم إلا كسائر البشر فإذ لم ينطق لعلي
بذلك، ولا جاء الخبر به مجيء الحجة القاطعة والشهادة الصادقة، فالمعلوم عندنا
في الحكم والمغيب جميعاً أن طباعه كطباع عميه العباس وحمزة. وهما أمس بمعدن
جميع الخير منه، وكطباع أخويه جعفر وعقيل، وكطباع أبويه ورجال عصره وسادة
رهطه.
ولو أن إنساناً ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر، أو لعمه حمزة أو العباس - وهو حليم
قريش - ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه.
ولو لم تعلم الروافض ومن يذهب مذهبها في هذا، باطل هذه الدعوى، وفساد هذا
المعنى، إذا صدقت نفسها، ولم تقلد رجالها، وتحفظت من الهوى وآثرت التقوى، إلا
بترك علي - رضوان الله عليه - ذكر ذلك لنفسه، والاحتجاج على خصمه وأهل دهره،
مذ نازع الرجال، وخاصم الأكفاء، وجامع أهل الشورى، ولي وولي عليه، والناس بين
معاند يحتاج إلى التقريع، ومرتاد يحتاج إلى المادة، وغفل يحتاج إلى أن يكثر
له من الحجة، ويتابع له من الأمارات والدلالات، مع حاجة القرن الثاني إلى
معرفة الحق ومعدن الأمر؛ لأن الحجة إذا لم تصح لعلي في نفسه، ولم تقم على أهل
دهره، فهي عن ولده أعجز، وعنهم أضعف.
ثم لم ينقل ناقل واحد أن علياً احتج بذلك في موقف، ولا ذكره في مجلس، ولا قام
به خطيباً، ولا أدلى به واثقاً، ولا همس به إلى موافق، ولا احتج به على
مخالف، فقد ذكر فضائله وفخر بقرابته وسابقته، وكاثر بمحاسنه ومواقفه مذ جامع
الشورى وناضلهم، إلى أن ابتلي بمساورة معاوية وطمعه فيه، وجلوس أكثر أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله عن عونه. والشد على عضده، كما قال
عامر الشعبي: لقد وقعت الفتنة، وبالمدينة عشرون ألفاً من أصحاب رسول الله، ما
خف فيها منهم عشرون. ومن زعم أنه شهد الجمل ممن شهد بدراً أكثر من أربعة فقد
كذب، كان علي وعمار في شق، وطلحة والزبير في شق.
وكيف يجوز عليه ترك الاحتجاج، وتشجيع الموافق وقد نصب نفسه للخاصة والعامة
وللمولى والمعادي ومن لا يحل له في دينه ترك الإعذار إليهم، إذ كان يرى أن
قتالهم كان واجباً، وقد نصبه الرسول مفزعا ومعلما، ونص عليه قائماً، وجعله
للناس إماماً، وأوجب طاعته، وجعله حجة في الناس، يقوم مقامه.
وأعجب من ذلك أنه لم يدع هذا له أحد في دهره كما لم يدعه لنفسه، مع عظيم ما
قالوا فيه في عسكره، وبعد وفاته، حتى يقول إنسان واحد: إن الدليل على إقامته
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاه إلى الإسلام، فكلف التصديق قبل بلوغه
وإدراكه، ليكون ذلك آية له في عصره، وحجة له ولولده على من بعده.
وقد كان علي أعلم بالأمور من أن يدع ذكر أكثر حججه والذي بان به من شكله،
ويذكر أصغر حججه، والذي يشاكله فيه غيره.
وقد كان في عسكره من لا يألو في الإفراط، زيادة في القدر.
والعجب له - إن كان الأمر على ما ذكرتم - كيف لم يقف يوم الجمل. أو يوم صفين،
أو يوم النهر، في موقف يكون فيه من عدوه بمرأى ومسمع فيقول: " تباً لكم
وتعساً! كيف تقاتلوني، وتجحدون فضيلتي، وقد خصصت بآية، حتى كنت كيحيى بن
زكريا، وعيسى بن مريم " فلا يمتنع الناس من أن يموجوا، فإذا ماجوا تكلموا على
أقدار عللهم، وعللهم مختلفة، فلا يثبت أمرهم أن يعود إلى فرقة، فمن ذاكر قد
كان ناسياً، ومن نازع قد كان مصراً، ومن مترنح قد كان غالطاً، مع ما كان يشيع
من الحجة في الآفاق، ويستفيض في الأطراف، وتحمله الركبان، ويتهادى في
المجالس. فهذا كان أشد على طلحة والزبير وعائشة، ومعاوية، وعبد الله بن وهب،
من مائة ألف سنان طرير وسيف شهير.
ومعلوم عند ذوي التجربة والعارفين بطبائع الأتباع وعلل الأجناد أن العساكر
تنتقض مرائرها، وينتشر أمرها، وتنقلب على قائدها بأيسر من هذه الحجة وأخفى من
هذه الشهادة.
وقد علمتم ما صنعت المصاحف في طبائع أصحاب علي رضوان الله عليه، حين رفعها
عمرو أشد ما كان أصحاب علي استبصاراً في قتالهم، ثم لم ينتقض على علي من
أصحابه إلا أهل الجد والنجدة، وأصحاب البرانس والبصيرة.
وكما علمت من تحول شطر عسكر عبد الله بن وهب حين اعتزلوا مع فروة بن نوفل
لكلمة سمعوها من عبد الله بن وهب كانت تدل عندهم على ضعف الاستبصار، والوهن
في اليقين.
وهذا الباب أكثر من أن يحتاج مع ظهوره، ومعرفة الناس له إلى أن نحشو به
كتابنا.
فأما إسلامه وهو حدث غرير، وصبي صغير، فهذا ما ندفعه؛ غير أنه إسلام تأديب
وتلقين وتربية. وبين إسلام التكليف والامتحان، وبين التلقين والتربية، فرق
عظيم، ومحجة واضحة.
وقالت العثمانية: إن قالت الشيع: إن الأمر ليس كما حكيتم ولا كما هيأتموه
لأنفسكم، بل نزعم أنه قد كانت هنالك في أيام حداثته وصباه فضيلة ومزيد ذكاء،
ولم يبلغ الأمر حد الأعجوبة والآية، قلنا: إن الذي ذهبتم إليه - أيضاً - لا
بد فيه من أحد وجهين: إما أن يكون قد كان لا يزال يوجد في الصبيان مثله في
الفطنة والذكاء، وإن كان ذلك عزيزاً قائلاً، وكان وجود ذلك ممتنعاً، ومن
العادة خارجاً. فإذا كان قد يوجد مثله - على عزته وقلته - فما كان إلا كبعض
من نرى اليوم ممن يتعجب من كيسه وفطنته، وحفظه وحكايته، وسرعة قبوله، على صغر
سنه، وقلة تجربته. فإن كانت حاله هذه الحال، وطبقته على هذا المثال، فإنا لم
نجد صبياً قط وإن أفرط كيسه، وحسنت فطنته، وأعجب به أهله يحتمل ولاية الله
وعداوته، والتمييز بين الأمور التي ذكرنا. مع أنه ما جاءنا ولا جاء عند أحد
منا بخبر صادق، ولا كتاب ناطق، أنه قد كان لعلي خاصة، دون قريش عامة، في
صباه، من إتقان الأمور، وصحة المعارف، وجودة المخارج، ما لم يكن لأحد من
إخوته، وعمومته وآبائه.
وإن كان القدر الذي كان عليه علي من المعرفة والذكاء القدر الذي لا نجد له
فيه مثلاً، ولا رأينا له شكلاً، فهذا هو البديع الذي يحتج به على المنكرين،
ويفلج على المعارضين، ويبين للمسترشدين. وهذا باب قد فرغنا منه مرة.
ولو كان الأمر في علي كما يقولون لكان ذلك حجة للرسول في رسالته ولعلي في
إمامته.
والآية إذا كانت للرسول وخليفة الرسول كان أشهر لها؛ لأن وضوح أمر الرسول
يزيد على ما للإمام، ويزيده إشراقاً واستنارة وبياناً.
ولا يجوز أن يكون الله تعالى قد عرف أهل عصرهما ذلك، وهم الشهداء على من
بعدهم من القرون، ثم أسقط حجته. فلا تخلو تلك الحجة، وتلك الشهادة من ضربين:
إما أن تكون ضاعت وضلت، وإما أن تكون قد قامت وظهرت. فإن كانت قد ضاعت فلعل
كثيراً من حجج الرسول قد ضاع. وما جعل الباقي أولى بالتمام من الساقط،
والساقط من شكل الثابت، لأنه حجة على شيئين، والثابت حجة على شيء. ولا يخلو
أمر الساقط من ضربين: إما أن يكون الله - تبارك وتعالى - لم يرد تمامه، أو
يكون قد أراده. وأي هذين كان، ففساده واضح عند قارىء الكتاب، وإن كانت الآية
فيه قد تمت؛ إذ كانت الشهادة قد قامت علينا بها، كما كانت شهادة العيان قائمة
عليهم فيها. فليس في الأرض عثماني إلا وهو يكابر عقله، ويجحد علمه.
ولعمري، إنا لنجد في الصبيان من لو لقنته، أو كتبت له أغمض المعاني وألطفها،
وأغمض الحجج وأبعدها، وأكثرها لفظاً وأطولها، ثم أخذته بدرسه وحفظه لحفظه
حفظاً عجيباً، ولهذه هذاً ذليقا.
فأما معرفة صحيحه من سقيمه،وحقه من باطله، وفصل ما بين المقر به والدليل،
والاحتراس من حيث يؤتى المخدوعون، والتحفظ من مكر الخادعين، وتأتي المجرب،
ورفق الساحر، وخلابة المتنبىء، وزجر الكهان، وأخبار المنجمين. وفرق ما بين
نظم القرآن وتأليفه، فليس يعرف فروق النظم، واختلاف البحث والنثر إلا من عرف
القصيد من الرجز، والمخمس من الأسجاع، والمزدوج من المنثور، والخطب من
الرسائل، وحتى يعرف العجز العارض الذي يجوز ارتفاعه، من العجز الذي هو صفة في
الذات.
فإذا عرف صنوف التأليف عرف مباينة نظم القرآن لسائر الكلام ثم لا يكتفي بذلك
حتى يعرف عجزه وعجز أمثاله عن مثله، وأن حكم البشر حكم واحد في العجز
الطبيعي، وإن تفاوتوا في العجز العارض.
وهذا ما لا يوجد عند صبي ابن تسع سنين، أو ثمان سنين، أو سبع سنين أبداً، عرف
ذلك عارف أو جهله جاهل.
ولا يجوز أن يعرف عارف معنى الرسالة إلا بعد الفراغ من هذه الوجوه، إلا أن
يجعل جاعل التقليد والنشو والإلف لما عليه الآباء، وتعظيم الكبراء معرفة
ويقيناً.
وليس بيقين ما اضطرب، ودخله الخلاج عند ورود معاني لعل وعسى، مما لا يمكن في
المعقول إلا بحجة تخرج القلب إلى اليقين عن التجويز.
ولقد أعيانا أن نجد هذه المعرفة إلا في الخاص من الرجال وأهل الكمال في
الأدب؛ فكيف بالطفل الصغير، والحدث الغرير! مع أنك لو أدرت معاني بعض ما وصف
لك على أذكى صبي في الأرض، وأسرعه قبولاً وأحسنه حكاية وبياناً، وقد سويته له
ودللته، وقربته منه، وكفيته مؤونة الروية، ووحشة الفكرة، لم يعرف قدره، ولا
فصل حقه من باطله، ولا فرق بين الدلالة وشبيه الدلالة. فكيف له بأن يكون هو
المتولي لتجربته وحل عقده وتخليص متشابهه، واستثارته من معدنه؟ وكل كلام خرج
من التعارف فهو رجيع بهرج، ولغو ساقط.
وقد نجد الصبي الذكي يعرف من العروض وجهاً، ومن النحو صدراً، ومن الفرائض
أبواباً، ومن الغناء أصواتاً. فأما العلم بأصول الأديان، ومخارج الملل وتأويل
الدين، والتحفظ من البدع، وقبل ذلك الكلام في حجج العقول، والتعديل والتجوير،
والعلم بالأخبار وتقدير الأشكال، فليس هذا موجوداً إلا عند العلماء. فأما
الحشو والطغام، فإنما هم أداة للقادة، وجوارح للسادة؛ وإنما يعرف شدة الكلام
في أصول الأديان من قد صلي به، وسال في مضايقه، وجاثى الأضداد ونازع الأكفاء.
فصل منه
وقد علمتم ما صنع أبو بكر في ماله، وكان المال أربعين ألفاً، فأنفقه على
نوائب الإسلام وحقوقه، ولم يكن ماله ميراثاً لم يكد فيه، فهو غزير لا يشعر
بعسر اجتماعه، وامتناع رجوعه، ولا كان هبة ملك فيكون أسمح لطبيعته، وأخرق في
إنفاقه، بل كان ثمرة كده وكسب جولانه وتعرضه.
ثم لم يكن خفيف الظهر، قليل النسل، قليل العيال، فيكون قد جمع اليسارين؛ لأن
المثل الصحيح السائر المعنى: " قلة العيال أحد اليسارين " ، بل كان ذا بنين
وبنات وزوجة، وخدم وحشم، يعول مع ذلك أبويه وما ولدا. ولم يكن فتىً حدثاً
فتهزه أريحية الشباب، وغرارة الحداثة. ولم يكن بحذاء إنفاقه طمع يدعوه، ولا
رغبة تحدوه.
ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يد مشهورة فيخاف العار في ترك
مواساته، وإنفاقه عليه، ولا كان من رهطه دنيا فيسب بترك مكانفته ومعاونته
وإرفاقه. فكان إنفاقه على الوجه الذي لا يجد أبلغ في غاية الفضل منه، ولا أدل
على غاية البصيرة منه.
وقد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ببطن مكة من
المشركين، وقد تعلمون حسن صنيع كثير منهم، كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه،
فبلغ في هامته، في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو جهل يومئذ أمنع أهل
البطحاء، وهو رأس الكفر.
ثم صنيع عمر حيث يقول يوم أسلم: " والله لا نعبد الله سراً بعد هذا اليوم " ،
حتى قال بعد موته عبد الله بن مسعود : " وما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر " .
فصل منه
ولو كان في ذلك الزمان القتال ممكناً، والوثوب مطمعاً، لقاتل أبو بكر ونهض
كما نهض في الردة، وإنما قاتل علي في الزمان الذي قد أقرن فيه أهل الإسلام
لأهل الشرك، وطمعوا أن تكون الحرب سجالاً، وقد أعلمهم الله أن العاقبة
للمتقين، وأبو بكر مفتون مفرد ومطرود مشرد ومضروب معذب، في الزمان الذي ليس
بالإسلام وأهله نهوض ولا حركة، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: " طوبى لمن
مات في نأنأة الإسلام " ، يقول: في أيام ضعفه وقلته، بحيث كانت الطاعة أعظم
لفرط الامتحان، والبلاء أغلظ لشدة الجهد، لأن الاحتمال كلما كان أشد وأدوم،
كانت الطاعة أفضل، والعزم فيه أقوى.
ولا سواء مفتون مشرد لا حيلة عنده، ومضروب معذب لا انتصار به، ولا دفع عنده،
ومباطش مقرن يشفي غيظه، ويروي غليله، وله مقدم يكنفه ويشجعه.
ولا سواء مقهور لا يغاث، ولم ينزل القرآن بعد بظفره. وقد هتك اليأس لما ألفى
حجاب قلبه ونقض قوى طمعه حتى بقي وليس معه إلا احتسابه؛ ومقاتل في عسكره معه
عز الرجال، وقوة الطمع، وطيب نفس الآمل.
فصل منه
وإن سأل سائل فقال: هل على الناس أن يتخذوا إماماً، وأن يقيموا خليفة؟
قيل لهم: إن قولكم الناس يحتمل الخاصة والعامة. فإن كنتم قصدتم إليهما، ولم
تفصلوا بين حاليهما، فإنا نزعم أن العامة لا تعرف معنى الإمامة. وتأويل
الخلافة، ولا تفصل بين فضل وجودها ونقص عدمها، ولأي شيء ارتدت، ولأي أمر
أملت، وكيف مأتاها والسبيل إليها، بل هي مع كل ريح تهب، وناشئة تنجم. ولعلها
بالمبطلين أقر عيناً منها بالمحقين، وإنما العامة أداة للخاصة تبتذلها للمهن،
وتزجي لها الأمور، وتصول بها على العدو، وتسد بها الثغور.
ومقام العامة من الخاصة مقام جوارح الإنسان من الإنسان، فإن الإنسان إذا فكر
أبصر، وإذا أبصر عزم، وإذا عزم تحرك أو سكن، وهما بالجوارح دون القلب.
وكما أن الجوارح لا تعرف قصد النفس، ولا تروي في الأمور، ولم يخرجها ذلك من
الطاعة للعزم، فكذلك العامة، لا تعرف قصد القادة ولا تدبير الخاصة، ولا تروي
معها، وليس يخرجها ذلك من عزمها، وما أبرمت من تدبيرها.
والجوارح والعوام، وإن كانت مسخرة ومدبرة فقد تمتنع لعلل تدخلها، وأمور
تصرفها، وأسباب تنقضها، كاليد يعرض لها الفالج واللسان يعتريه الخرس، فلا
تقدر النفس على تسديدهما وتقويتهما، ولو اشتد عزمها، وحسن تأتيها ورفقها.
وكذلك العامة عند نفورها وتهيجها، وغلبة الهوى والسخف عليها، وإن حسن تدبير
الخاصة، وتعهد السياسة. غير أن معصية الجارحة أيسر ضرراً، وأهون أمراً، لأن
العامة إذا انتكثت للخاصة، وتنكرت للقادة، وتشزنت على الراضة، كان البوار
الذي لا حيلة له، والفناء الذي لا بقاء معه.
وصلاح الدنيا، وتمام النعمة في تدبير الخاصة وطاعة العامة، كما أن كمال
المنفعة وتمام درك الحاجة بصواب قصد النفس؛ لأن النفس لو أدركت كل بغية،
وأوفت كل غاية، وفتحت كل مستغلق، واستثارت كل دفين، ثم لم يعطها اللسان بحسن
العبارة واليد بحسن الكتابة، كان وجود ذلك المستنبط - وإن جل قدره - وعدمه
سواء.
فالخاصة تحتاج إلى العامة كحاجة العامة إلى الخاصة، وكذلك القلب والجارحة،
وإنما هم جند للدفع، وسلاح للقطع، وكالترس للرامي، والفأس للنجار. وليس مضي
سيف صارم بكف امرىء صارم، بأمضى من شجاع أطاع أميره، وقلد إمامه.
وما كلب أشلاه ربه، وأحمشه كلابه، بأفرط نزقاً ولا أسرع تقدماً، ولا أشد
تهوراً من جندي أغراه طمعه، وصاح به قائده.
وليس في الأعمال أقل من الاختيار، ولا في الاختيار أقل من الصواب، فلباب كل
عمل اختياره، وصفوة كل اختيار صوابه. ومع كثرة الاختيار يكثر الصواب، وأكثر
الناس اختياراً أكثرهم صواباً، وأكثرهم أسباباً موجبه أقلهم اختياراً، وأقلهم
اختياراً أقلهم صواباً.
فإن قالوا: فقد ينبغي للعوام أن لا يكونوا مأمورين ولا منهيين، ولا عاصين ولا
مطيعين.
قيل لهم: أما فيما يعرفون فقد يعصون ويطيعون.
فإن قالوا: فما الأمر الذي يعرفون من الأمر الذي يجهلون؟ قيل لهم: أما الذي
يعرفون، فالتنزيل المجرد بغير تأويله، وجملة الشريعة بغيرها، وما جل من الخبر
واستفاض، وكثر ترداده على الأسماع، وكرروه على الأفهام.
وأما الذي يجهلون فتأويل المنزل وتفسير المجمل، وغامض السنن التي حملتها
الخواص عن الخواص، من حملة الأثر وطلاب الخبر مما يتكلف معرفته، ويتبع في
مواضعه، ولا يهجم على طالبه، ولا يقهر سمع القاعد عنه.
والخبر خبران: خبر ليس للخاصة فيه فضل على العامة، وهو كما سن الرسول صلى
الله عليه وسلم في الحلال والحرام، وأبواب القضاء والطلاق، والمناسك،
والبيوع، والأشربة، والكفارات، وأشباه ذلك.
وباب آخر يجهله العوام، ويخبط فيه الحشو ولا تشعر بعجزها ولا موضع دائها.
ومتى جرى سببه، أو ظهر شيء منه تسنمت أعلاه، وركبت حومته، كالكلام في الله،
وفي التشبيه، والوعد والوعيد؛ لأنها قد عجزت عن دعوى الفتيا، ولا تتهافت
فيها، ولا تتسكع فيما لا يعرف منها، ولا تتوحش من الكلام في التعديل والتجوير،
ولا تفرغ من الكلام في الاختيار والطباع، ومجيء الآثار، وكل ما جرى سببه من
دقيق الكلام وجليله، في الله تعالى وفي غيره.
ولو برز عالم على جادة منهج وقارعة طريق، فنازع في النحو واحتج في العروض،
وخاض في الفتيا، وذكر النجوم والحساب، والطب والهندسة، وأبواب الصناعات، لم
يعرض له، ولم يفاتحه إلا أهل هذه الطبقات.
ولو نطق بحرف في القدر حتى يذكر العلم والمشيئة، والتكليف والاستطاعة، وهل
خلق الله تعالى الكفر وقدره أو لم يخلقه ولم يقدره، لم يبق حمال أغثر، ولا
بطال غث، ولا خامل غفل ولا غبي كهام، ولا جاهل سفيه، إلا وقف عليه ولاحاه
وصوبه وخطأه ثم لا يرضى حتى يتولى من أرضاه، ويكفر من خالف هواه، فإن جاراه
محق، وأغلظ له واعظ، واتفق أن يكون بحضرته أشكاله استغوى أمثاله، فأشعلوها
فتنة وأضرموها ناراً.
فليس لمن كانت هذه حاله أن يتحيز مع الخاصة، مع أنه لو حسنت نيته، لم تحتمل
فطرته معرفة الفصول، وتمييز الأمور.
فإن قالوا: ولعلهم لا يعرفون الله ورسوله، كما لا يعرفون عدله من جوره،
وتشبيهه بخلقه من نفي ذلك عنه. وكما لا يعرفون القرآن وتفسير جمله، وتأويل
منزله.
قيل لهم: إن قلوب البالغين مسخرة لمعرفة رب العالمين، ومحمولة على تصديق
المرسلين، بالتنبيه على مواضع الأدلة، وقصر النفوس على الروية، ومنعها عن
الجولان والتصرف، وكل ما ربث عن التفكير، وشغل عن التحصيل، من وسوسة أو نزاع
شهوة؛ لأن الإنسان ما لم يكن معتوهأ أو طفلأ، فمحجوج على ألسنة المرسلين، عند
جميع المسلمين. ولا يكون محجوجاً حتى يكون عالماً بما أمر به، عارفاً بما نهي
عنه؛ لأن من لم يعلم في أي الضربين سخط الله، وفي أي نوع رضاه، ثم ركب السخط
أو أتى الرضا لم يكن ذلك منه إلا على اتفاق. وإنما الاستحقاق مع القصد. والله
تبارك يتعالى عن أن يعاقب من لم يرد خلافه، ولم يعرف رضاه. أو يحمد من لم
يعتمد رضاه، ولم يقصد إليه.
ولم يكن الله تعالى ليعدل صنعته ويسوي أداته ويفرق بينه وبين المنقوص في
بنيته وتركيبه، إلا ليفرق بين حاله وبين الطفل والمعتوه. وليس للمعرفة وجه
إلا لتبصيره وتخييره، ولولا ذلك لم يكن للذي خص به من الإبانة وتعديل الصنعة،
وإحكام البنية معنىً. والله تعالى عن فعل ما لا معنى له.
وفي قول الله تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " دليل على ما قلنا.
وليس لأحد أن يخرج بعض الجن والإنس من أن يكون خلق للعبادة إلا بحجة، ولا حجة
إلا في عقل، أو في كتاب، أو خبر.
فإن قالوا: فإن كان الله إنما أبانهم بالتعديل والتسوية للعبادة والاختيار،
فلم قلتم: إنهم غير مأمورين بإقامة الأئمة والاختيار مع الأمة، وحكمهم حكم
المسلمين المتعبدين. وإنما الإمام إمام المسلمين المتعبدين؟ قلنا: إنما يلزم
الناس الأمر فيما عرفوا سبيله. وليس للعوام - خاصة - معرفة بسبيل إقامة
الأئمة فيلزمها، أو يجري عليها أمر أو نهي.
والعامة وإن كانت تعرف جمل الدين بقدر ما معها من العقول، فإنه لم يبلغ من
قوة عقولها، وكثرة خواطرها أن ترتفع إلى معرفة العلماء ولم يبلغ من ضعف
عقولها أن تنحط إلى طبقة المجانين والأطفال.
وأقدار طبائع العوام والخواص، ليست مجهولة فيحتاج إلى الإخبار عنها بأكثر من
التنبيه عليها؛ لأنكم تعلمون أن طبائع الرسل فوق طبائع الخلفاء، وطبائع
الخلفاء فوق طبائع الوزراء، وكذلك الناس على منازلهم من الفضل، وطبقاتهم من
التركيب، في البخل والسخاء، والبلادة والذكاء، والغدر والوفاء، والجبن
والنجدة، والصبر والجزع، والطيش والحلم، والكبر والتيه، والحفظ والنسيان،
والعي والبيان.
ولو كانت العامة تعرف من الدين والدنيا ما تعرف الخاصة، كانت العامة خاصة،
وذهب التفاضل في المعرفة، والتباين في البنية. ولو لم يخالف بين طبائعهم لسقط
الامتحان وبطل الاختيار، ولم يكن في الأرض اختيار، وإنما خولف بينهم في
الغريزة ليصبر بها صابر، ويشكر شاكر، وليتفقوا على الطاعة، ولذلك كان
الاختلاف، وهو سبب الائتلاف.
|