كتاب
المسائل والجوابات في المعرفة
بالله نستعين، وعليه نتوكل، وما توفيقنا إلا
بالله.
اختلف الناس في المعرفة اختلافاً شديداً، وتباينوا فيها تبايناً مفرطاً. فزعم
قوم أن المعارف كلها فعل الفاعلين إلا معرفة لم يتقدمها سبب منهم، ولم يوجبها
علة من أفعالهم. ولم يرجعوا إلى معرفة الله ورسوله، والعلم بشرائعه، ولا إلى
كل ما فيه الاختلاف والمنازعة، وما لا يعرف حقائقه إلا بالتفكر والمناظرة،
دون درك الحواس الخمس.
فزعموا أن ذلك أجمع فعلهم، على الأسباب الموجبة، والعلل المتقدمة، وجعلوا مع
ذلك سبيل المعرفة بصدق الأخبار، كالعلم بالأمصار القائمة، والأيام الماضية،
كبدر وأحد والخندق، وغير ذلك من الوقائع والأيام، وكالعلم بفرغانة والأندلس،
والصين والحبشة، وغير ذلك من القرى والأمصار سبيل الاكتساب والاختيار؛ إذ
كانوا هم الذين نظروا حتى عرفوا فصل ما بين المجيء الذي لا يكذب مثله،
والمجيء الذي يمكن الكذب في مثله.
فزعموا أن جميع المعارف سبيلها سبيل واحد، ووجوه دلائلها وعللها متساوية، إلا
ما وجد الحواس بغتة، وورد على النفوس في حال عجز أو غفلة، وكان هو القاهر،
للحاسة، والمستولي على القوة، من غير أن يكون من البصر فتح، ومن السمع إصغاء
ومن الأنف شم، ومن الفم ذوق ومن البشرة مس، فإن ذلك الوجود فعل الله دون
الإنسان، على ما طبع عليه البشر، وركب عليه الخلق.
قالوا: فإذا كان درك الحواس الخمس إذا تقدمته الأسباب، وأوجبته العلل فعل
المتقدم فيه والموجب له، ودرك الحواس أصل المعارف، وهو المستشهد على الغائب،
والدليل على الخفي، وبقدر صحته تصح المعارف، وبقدر فساده تفسد فالذي تستخرجه
الأذهان منه، وتستشهده عليه، كعلم التوحيد، والتعديل والتجوير، وغامض
التأويل، وكل ما أظهرته العقول بالبحث، وأدركته النفوس بالفكر من كل علم،
وصناعة الحساب والهندسة، والصياغة والفلاحة أجدر أن يكون فعله والمنسوب إلى
كسبه.
قالوا: فالدليل على درك الحواس فعل الإنسان على ما وصفنا واشترطنا، من إيجاب
الأسباب، وتقدم العلل: أن الفاتح بصره لو لم يفتح لم يدرك. فلما كان البصر قد
يوجد مع عدم الإدراك، ولا يعدم الإدراك مع وجود الفتح، كان ذلك دليلاً على أن
الإدراك إنما كان لعلة الفتح، ولم يكن لعلة البصر؛ لأنه لو كان لعلة صحة
البصر كانت الصحة لا توجد أبداً إلا والإدراك موجود. فإذا كانت الصحة قد توجد
مع عدم الإدراك، ولا يعدم الإدراك مع وجود الفتح، كان ذلك شاهداً على أنه
إنما كان لعلة الفتح دون صحة البصر.
وقالوا: ولأن طبيعة البصر قد كانت غير عاملة حتى جعلها الفاتح بالفتح عاملة،
ولأن الفتح علة الإدراك ومقدمة بين يديه، وتوطئة له. وليس الإدراك علة للفتح
ولا مقدمة بين يديه، ولا توطئة له، فواجب أن يكون فعل الفاتح، لأن السبب إذا
كان موجباًفالمسبب تبع له.
فصل منه
ثم قالوا بعد الفراغ من درك الحواس في معرفة الله ورسوله وكل ما فيه الاختلاف
والتنازع، أن ذلك أجمع لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون يحدث من الإنسان
لعلة النظر المتقدم، أو يكون يحدث على الابتداء، لا عن علة موجبة وسبب متقدم.
فإن كانوا أحدثوه على الابتداء، فلا فعل أولى بالاختيار، ولا أبعد من
الاضطرار منه.
وإن كان إنما كان لعلة النظر المتقدم، كما قد دللنا في صدر الكلام على أن درك
الحواس فعل الإنسان إذا تقدم في سببه، فالعلم بالله وكتبه ورسله أجدر أن يكون
فعله. إذ كان من أجل نظره علم، ومن جهة بحثه أدرك.
فهذه جمل دلائل هؤلاء القوم. ورئيسهم بشر بن المعتمر.
ثم هم بعد ذلك مختلفون في درك الحواس إلا ما اعتمد إدراكه بعينه وقصد إليه
بالفتح والإرادة؛ لأن الفتح نفسه لو لم يكن معه قصد وإرادة ما كان فعل
الفاتح. فكيف يجوز أن يكون الإدراك فعله من غير قصد.
ولو جاز أن يكون الفتح فعل الإنسان من غير أن يكون أراده وقصد إليه، ما كان
بين فعل الإنسان وبين فعل غيره فرق؛ لأنه كان لا يجوز أن يكون ذهاب الحجر إذا
لم يدفعه، ولم يقصد إليه، ولم يخطر له على بال، فعله. فكذلك الإدراك إذا لم
يخطر على باله، ولم يقصد إليه، ولم يتعمده، لا يكون فعله.
فصل منه
وليس على المخبر بقصة خصمه والواصف لمذهب غيره، أن يجعل باطلهم حقاً، وفاسدهم
صحيحاً، ولكن عليه أن يقول بقدر ما تحتمله النحلة، وتتسع له المقالة، وعليه
أن لا يحكي عن خصمه ويخبر عن مخالفه إلا وأدنى منازله ألا يعجز عما بلغوه،
ولا يغبى عما أدركوه.
فصل منه
وقد زعم آخرون أن المعارف ثمانية أجناس: واحد منها اختيار، وسبعة منها
اضطرار. فخمسة منها درك الحواس الخمس، ثم المعرفة بصدق الأخبار، كالعلم
بالقرى والأمصار، والسير والآثار، ثم معرفة الإنسان إذا خاطب صاحبه أنه موجه
بكلامه إليه، وقاصد به نحوه.
وأما الاختيار فكالعلم بالله ورسوله، وتأويل كتبه، والمستنبط من علم الفتيا
وأحكامه، وكل ما كان فيه الاختلاف والمنازعة. وكان سبيل علمه النظر والفكرة.
ورئيس هؤلاء أبو إسحاق.
وزعم معمر أن العلم عشرة أجناس: خمسة منها درك الحواس، والعلم السادس كالسير
الماضية والبلدان القائمة، والسابع: علمك بقصد المخاطب إليك وإرادته إياك،
عند المحاورة والمنازعة. وقبل ذلك: وجود الإنسان لنفسه، وكان يجعله أول
العلوم، ويقدمه على درك الحواس. وكان يقول: ينبغي أن يقدم وجود الإنسان لنفسه
على وجوده لغيره. وكان يجعله علماً خارجاً من درك الحواس؛ لأن الإنسان لو كان
أصم لأحس نفسه ولم يحس صوته، ولو كان أخشم لأحس نفسه ولم يحس رائحته. وكذلك
سبيل المذاقات والملامس. فلما كان المعنى كذلك وجب أن يفرد من درك الحواس،
ويجعل علماً ثامناً على حياله وقائماً بنفسه.
ثم جعل العلم التاسع: علم الإنسان بأنه لا يخلو من أن يكون قديماً أو حديثاً.
وجعل العلم العاشر: علمه بأنه محدث وليس بقديم.
فصل منه
ولست آلو جهداً في الكلام والإيجاز في الإدخال على بشر بن المعتمر في درك
الحواس، ثم على أبي إسحاق في ذلك، وفي غيره مما ذكرت من مذاهبه، وتركه قياس
ما بنى عليه إن شاء الله، لنصير إلى الكلام في المعرفة، فإني إليه أجريت،
وإياه اعتقدت، ولكني أحببت أن أبدي فساد أصولهم قبل فروعهم، فإن ذلك أقتل
للداء وأبلغ في الشفاء، وأحسم للعرق، وأقطع للمادة، وأخف في المؤونة على من
قرأ الكتاب، وتدبر المسألة والجواب. وبالله ذي المن والطول نستعين.
فصل من رده على أبي إسحاق النظام وأصحابه
يقال لهم: حدثونا عن العلم بالله ورسوله وتأويل كتبه، وعن علم القدر وعلم
المشيئة، والأسماء والأحكام. أباكتساب هو أم باضطرار؟ فإن زعموا أنه باكتساب
قيل لهم: فخبرونا عن علمكم بأن ذلك أجمع اكتساب، أباكتساب هو أم باضطرار؟ فإن
قالوا: باكتساب. قيل لهم: أو ليس اعتقاد خلاف ذلك أجمع باكتساب؟ فإن قالوا:
نعم. قيل لهم: فإذا كان اعتقاد الحق واعتقاد الباطل باكتساب أفليس كل واحد من
المكتسبين عند نفسه على الصواب؟ فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: أو ليس كل واحد
منهما ساكن القلب إلى مذهبه واختياره؟ فإذا قالوا نعم قيل لهم: فما يؤمن
المحق من الخطأ؟ وليس سكون القلب وثقته علامة للحق، لأن ذلك لو كان علامة
لكان المبطل محقاً، إذ كان قد يجد من السكون والثقة ما لا يجد المحق.
وقلنا: وما معنى خلافه إلا أن يكون المبطل شاكاً، أو يكون عارفاً بتقصيره، أو
يكون مكترثاً لوهن يجده. فإذا لم يكن كذلك فلا فرق بين المعقودين.
فإن قالوا: إن فرق ما بينهما أن سكون قلب المحق حق في عينه، وسكون قلب المبطل
باطل في عينه.
قلنا: أو ليس ذلك غير محول لسكون المبطل عن الثقة إلى الاضطراب ولا مغيره إلى
الاكتراث؟ فإذا قالوا ذلك، قيل لهم: فما يؤمن المحق أن يكون سكونه أيضاً
باطلاً في عينه إذا كان سكونه لا ينقص عن سكون المبطل. ولئن كان فرق السكون
بينهما ظاهر الاجتهاد والعبادة، فمن أظهر اجتهاداً من الرهبان في الصوامع،
والخوارج في بذل النفوس؟ فإن قالوا: الفرق بينهما أن المحق قد استشهد
الضرورات، والمبطل لم يستشهدها.
قلنا: فهل يجوز أن يكون عند نفسه قد استشهد الضرورات. حتى لو سأله سائل فقال:
ما يؤمنك من الخطأ؟ لقال: استشهادي للضرورات.
فإن زعموا أن المبطل لا يجوز أن يكون عند نفسه قد استشهد الضرورات، لأن ذلك
هو علامة الحق، والفصل بينه وبين الباطل.
قلنا: وهل رأيتم أحداً اكتسب علماً قط، أو نظر في شيء إلا وأول نظره إنما هو
على أصل الاضطرار؛ لأن المفكر لا يبلغ من جهله أن يستشهد الخفي، بل من شأن
الناس أن يستدلوا بالظاهر على الباطن إذا أرادوا النظر والقياس؛ ثم هم بعد
ذلك يخطئون أو يصيبون.
وقلنا: فينبغي أن يكون كل مبطل في الأرض قد علم حين يقال له: ما يؤمنك أن
تكون مبطلا؟ أنه لم يستشهد الضرورات، وأنكر أصله الذي قاس عليه واستنبط منه
ضرورة، وأنه إنما قال بالعسف أو بالتقليد. وإذا كانوا كذلك فهل يخلو أمرهم من
أن يكونوا قد علموا أنهم على خطاء أو يكونوا شكاكاً، أو يكونوا عند أنفسهم
مستشهدين للضرورات، وإن كانوا قد تركوا ذلك عند بعض المقدمات. فإن كانوا قد
علموا أنهم لم يستشهدوا الضروريات، وإن كانوا شكاكاً فيها؛ فليس على ظهر
الأرض مخطىء إلا وهو عالم بموضع خطائه، أو شاك فيه. أو كانوا عند أنفسهم
مستشهدين للضرورات، فما يؤمنكم أن تكونوا كذلك؟ فإن قالوا: ليس أحد يعرف أن
علامة الحق استشهاد الضرورات غيرنا.
قلنا: أو لستم معشر أبي إسحاق النظام تختلفون في أمور كثيرة، وقد كنتم
تخالفون صاحبكم خلافاً كثيراً، وكلكم إذا سأله سائل: ما يؤمنك أن تكون على
باطل؟ قال: لأني مستشهد للضرورات. فهل يخلو أمركم من أحد وجهين: إما أن
تكونوا صادقين على أنفسكم، أو كاذبين عليها؟ فإن كنتم صادقين فقد صار قلب
المحق كقلب المبطل؛ إذ كان كل واحد عند نفسه مستشهداً للضرورات.
وإن كنتم كاذبين فهل منكم محق إلا وهو يلقى الخصم بمثل دعواه في استشهاد
الضرورات؟ وهل منكم واحد على حياله محقاً أو مبطلا إلا وجوابه لنا مثل جواب
صاحبه. فإذا كانت القلوب قد تكون عند أنفسها مستشهدة للضرورات، وهي غير
مستشهدة لها، وكون القلب كذلك هو علامة الحق، فما الفرق بين قلب المحق
والمبطل؟ ومع ذلك إنا وجدنا صاحبكم قبلكم ووجدناكم بعده قد رجعتم عن أقاويل
كثيرة، بعد أن كان جوابكم لمن سألكم ما يؤمنكم أن تكونوا على باطل، أن
تقولوا: استشهادنا للضرورات. ونحن لو سألناكم عما رجعتم عنه، فقلنا لكم:
لعلكم على خطأ، ولعلكم من هذه الأقاويل على غرر، لم يعد جوابكم استشهاد
الضرورات.
فصل من هذا الكتاب في الجوابات
ثم إني واصل قولي في المعرفة ومجيب خصمي في معنى الاستطاعة وفي أي أوجهها
يحسن التكليف وتثبت الحجة؛ ومع أيها يسمج التكليف وتسقط الحجة.
فأول ما أقول في ذلك: أن الله - جل ذكره - لا يكلف أحداً فعل شيء ولا تركه
إلا وهو مقطوع العذر، زائل الحجة.
ولن يكون العبد كذلك إلا وهو صحيح البنية، معتدل المزاج، وافر الأسباب، مخلى
السرب، عالم بكيفية الفعل، حاضر النوازع، معدل الخواطر، عارف بما عليه وله.
ولن يكون العبد مستطيعاً في الحقيقة دون هذه الخصال المعدودة، والحالات
المعروفة، التي عليها مجاري الأفعال، ومن أجلها يكون الاختيار ولها يحسن
التكليف، ويجب الفرض، ويجوز العقاب، ويحسن الثواب.
ولو كان الإنسان متى كان صحيحاً كان مستطيعاً، لكان من لا سلم له للصعود
مستطيعاً.
ولن يكون أيضاً مع ذلك كله للفعل مختاراً، وله في الحقيقة دون المجاز
مستطيعاً، إلا وجميع أوامره في وزن جميع زواجره، حتى إذا ما قابلت بين
مرجوهما ومخوفهما، وبين تقديم اللذة وخوف الآخرة، وبين تعجيل المكروه وتأميل
العاقبة، وجدتهما في الحدر والرفع، وفي القبض والبسط سواء.
ولا يكون أيضاً كذلك إلا وبقاؤه في الحال الثانية معلوم، لأن الفعل حارس
والطباع محروسة، والنفس عليها موقفة. فإن كان الحارس أقوى من طباعها كان ميل
النفس معه طباعاً؛ لأن من شأن النفس الميل إلى أقوى الحارسين، وأمتن السببين.
ومتى كانت القوتان متكافئتين كان الفعل اختيارياً، ومن حد الغلبة خارجاً، وإن
كانت الغلبة تختلف في اللين والشدة، وبعضها أخفى وبعضها أظهر، كفرار الإنسان
من وهج السموم إذا لم يحضره دواعي الصبر، وأسباب المكث. وهو من لهب الحريق
أشد نفرة، وأبعد وثبة، وأسرع حركة.
ومتى قويت الطبيعة على العقل أوهنته وغيرته، ومتى توهن وتغير تغيرت المعاني
في وهمه، وتمثلت له على غير حقيقتها. ومتى كان كذلك كل عن إدراك ما عليه في
العاقبة، وزينت له الشهوات ركوب ما في العاجلة.
ومتى - أيضاً - فضلت قوى عقله على قوى طبائعه أوهنت طبائعه، ومتى كانت كذلك
آثر الحزم والآجلة على اللذة العاجلة، طبعاً لا يمتنع منه، وواجباً لا يستطيع
غيره.
وإنما تكون النفس مختارة في الحقيقة، ومجانبة لفعل الطبيعة إذا كانت أخلاطها
معتدلة، وأسبابها متساوية، وعللها متكافئة، فإذا عدل الله تركيبه وسوى
أسبابه، وعرفه ما عليه وله، كان الإنسان للعقل مستطيعاً في الحقيقة، وكان
التكليف لازماً له بالحجة.
ولولا أنك تحتاج إلى التعريف بأن المأمور المنهي لا بد له من التسوية
والتعديل لما قال الله تعالى: " والأرض وما طحاها. ونفس وما سواها. فألهمها
فجورها وتقواها " .
ولو جاز أن يعلم موضع غيها ورشدها من غير أن يسويها ويهيئها لكان ذكر التسوية
فضلاً من القول. والله يتعالى عن هذا وشبهه علواً كبيراً.
فصل في جواب من يسأل عن المعرفة
باضطرار هي أم باكتساب
قلنا: إن الناس لم يعرفوا الله إلا من قبل الرسل، ولم يعرفون من قبل الحركة
والسكون، والاجتماع والافتراق، والزيادة والنقصان.
على أنا لا نشك أن رجالاً من الموحدين قد عرفوا وجوهاً من الدلالة على الله
بعد أن عرفوه من قبل الرسل، فتكلفوا من ذلك ما لا يجب عليهم، وأصابوا من غامض
العلم ما لا يقدر عليه عوامهم، من غير أن يكونوا تكلفوا ذلك لشك وجدوه، أو
حيرة خافوها؛ لأن أعلام الرسل مقنعة، ودلائلها واضحة، وشواهدها متجلية،
وسلطانها قاهر، وبرهانها ظاهر.
فإن قال: أباكتساب علموا صدق الرسل أم باضطرار؟ قلنا: باضطرار.
فإن قالوا: فخبرونا عن من عاين النبي صلى الله عليه وسلم وحجته، والمتنبي
وحيلته، كيف يعلم صدق النبي من كذب المتنبي، وهو لم ينظر ولم يفكر؟ فإن قلتم:
إنه نظر، وفكر، فقد رجعتم إلى الاكتساب.
وإن قلتم: إنه لم ينظر ولم يفكر فلم عرف الفصل بينهم دون أن يجهله؟ وكيف علم
ذلك وهو لا يعرف الحجة من الحيلة؟ وما يؤمنه أن يكون مبطلاً إذا كان لم ينظر
في أمور الدنيا، ولم يختبر معانيها حتى يعرف الممتنع من الممكن، وما لا يزال
يكون بالاتفاق مما لا يمكن ذلك فيه؟ وكيف ولم يعرف العادة وجرى الطبيعة وإلى
أين تبلغ الحيلة وأين تعجز الحيلة، وعند أي ضرب يسقطان، وعلى أي ضرب يقومان؟
ولم عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم حين عاين شاهده وأبصر أعاجيبه، من غير
امتحان لها وتعقب لمعانيها، دون أن يعتقد صدق المتنبي إذا أورد عليه أعاجيبه
وخدعه وحيله؟ بل كيف لم يعرف الله حين وقع بصره على الدنيا من غير فكرة فيها
وتقليب لأمرها.
والدنيا بأسرها دلالة عما عرف صدق النبي حين أبصر دلالته من غير تفكير فيها
أو تقليب لأمرها.
وقد علمنا أن الدنيا دالة على أن شواهد النبي دالة، ومتى كان ظاهر أحدهما
يغني عن التفكير كان الآخر مثله، إذ لم يكن في القياس بينهما فرق، ولا في
المعقول فضل.
قلنا: إن تجارب البالغ قبل أن يهجم على دلالات الرسل تأتي على جميع ذلك.
ولعمري أن لو كان هجومه عليها قبل المعرفة بمجاري وتصريف الدهور وعلاقات
الدنيا، والتجربة لتصريف أمورها، لما وصل إلى معرفة صدق النبي إلا بعد مقدمات
كثيرة، وترتيبات منزلة؛ لأن مشاهد الشواهد إنما تضطره المشاهدة لها إذا كان
قد جرب الدنيا، وعرف تصرفها وعادتها قبل ذلك.
ولو لم يكن جربها قبل ذلك حين عرف منتهى قوة بطش الإنسان وحيلته، وعرف الممكن
من الممتنع، وما يمكن قوله بالاتفاق مما لا يمكن، لما عرف ذلك.
فإن قالوا: وكيف جرب ذلك وعقله، وأتقنه وحفظه، وهو طفل غرير وحدث صغير؛ لأن
غير البالغ طفل إلى أن يبلغ، وحين يبلغ فقد هجم على النبي صلى الله عليه وسلم
وشواهده، أو هجم عليه النبي بشواهده، إما بخبر مقنع أو بعيان شاف. ففي أية
الحالين جرب وعرف، وميز وحفظ، في حال الطفولة والغرارة؟ وهذا غير معروف في
التجربة والعادة، والذي عليه ركبت الطبيعة.
أما في حال البلوغ والتمام فحال البلوغ هي الحال التي أبلغه الله الرسالة،
وقاده إلى رؤية الحجة، واستماع البرهان ومخرج الرسالة.
فإذا كان الأمر، كما تقولون فقد كان ينبغي أن لا يصل إلى العلم بصدق النبي
وقد أراه برهانه، وأسمعه حججه، حتى يمكث بعد ذلك دهراً يمتحن الدنيا ويتعقب
أمورها، ويعمل التجربة فيها. فإن كان ذلك كذلك فلم سميتموه بالغاً، وليس في
طاقته بعد العلم يفصل ما بين النبي والمتنبي؟ قلنا: إن التجربة على ضربين:
أحدهما: أن يقصد الرجل إلى امتحان شيء ليعرف مخبره عما عرف منظره.
والآخر: أن يهجم على علم ذلك من غير قصد.
وقد يسمى الإنسان مجرباً، قاصداً أو هاجماً، فيزعم أن البالغ قد سقط من بطن
أمه إلى أن يبلغ، مقلباً في الأمور المختلفة، ومصرفاً في خلال الحالات،
بالمعرفة التي تلقحه الدنيا، بما تورد عليه من عجائبها، ويزداد في كل ساعة
معرفة، وتفيده الأيام في كل يوم تجربة، كما يزداد لسانه قوة، وعظمه صلابة،
ولحمه شدة، من أم تناغيه، وظئر تلهيه، وطفل يلاعبه، وطبيب يعالجه، ونفس
تدعوه، وطبيعة تعينه، وشهوة تبعثه، ووجع يقلقه، كما يزيده الزمان في قوته،
ويشد من عظمه ولحمه، ويزيده الغذاء عظما، وكثرة الغضب والتقليب جلدا. فإذا
درج وحبا، وضحك وبكى، وأمكنه أن يكسر إناءً أو يكفئه، أو يسود ثوباً، أو يضرب
دابرة الخادم، وانتهره القيم. فلا يزال ذلك دأبه ودأبهم حتى يفهم الإغراء
والزجر، والتغذية والانتهار، كما يعرف الكلب اسمه إذا ألح الكلاب عليه به.
وكما يعرف المجنون لقبه، وكما يحضر الفرس من وقع السوط من كثرة وقعه بعد رفعه
عليه.
؟؟فصل منه في هذا المعنى
فإذا استحكمت هذه الأمور في قلبه، وثبتت في خلده وصحت في معرفته، فهو حينئذ
بالغ محتمل. وعند ذلك يسخر الله سمعه للخبر المثلج، أو بصره لمعاينة الشاهد
المقنع، على يدي الرسول الصادق، ولا يتركه هملا، ولا يدعه غفلا، وقد عدل طبعه
وأحكم صنعه، ووفر أسبابه، فلا يحتاج عند معاينته رسولاً يحيي الموتى، ويبرىء
الأكمه والأبرص، ويفلق البحر، إلى تفكير، ولا تمييل ولا امتحان ولا تجربة،
لأنه قد فرغ من ذلك أجمع، واستحكم عنده العلم الذي أدب به، وهيئ له وأورد
عليه.
فإن كان لم يكن لذلك عامداً، ولا إليه قاصداً ولا به معنياً، وإنما هو عبد
عبأه سيده، ورشحه مولاه، وهيأه خالقه لأمر لا يشعر به من مصلحته، ولا يخطر
على باله من الصنع له حين غذاه به، وقاده إليه، وهيأه له.
فإذا أورد عليه دعوى رسول، وأمته تشهد له بإحياء الموتى وفلق البحر، وبكل شيء
قد عرف عجز البشر عن فعله والقوة عليه، علم بتجاربه المتقدمة بعادة الدنيا،
أن ذلك ليس من صنع البشر، وأن مثله لا يقع اتفاقاً، وأن الحيل لا تبلغه، فلا
يمتنع مع رؤية البرهان وفهم الدعوى، أن يعلم أن الرسول صادق، وأن الراد عليه
كاذب.
فصل منه
ولولا أن هذا كلام لم يكن من ذكره بد، لأنه تأسيس لما بعده، ومقدمة لما بين
يديه، وتوطئة له، لاقتضبت الكلام في المعرفة اقتضابا، ولكن يمنعني عجز أكثر
الناس عن فهم غايتي فيه إلا بنزيله وترتيبه.
وكل كلام أتيت على فرعه، ولم تخبر عن أصله فهو خداع لا غناء عنده، وواهن لا
ثبات له.
فصل من صدر كتابه في المعاد والمعاش
أما بعد فإن جماعات أهل الحكمة قالوا: واجب على كل حكيم أن يحسن الارتياد
لموضع البغية، وأن يتبين أسباب الأمور، ويمهد لعواقبها.
فإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفاقهم بعقولهم ما تجيء
به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها. وبقدر
تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم.
فأما معرفة الأمور عند تكشفها، وما يظهر من خفياتها. فذلك أمر يعتدل فيه
الفاضل والمفضول، والعالم والجاهل.
وإني قد عرفتك - أكرمك الله - في أيام الحداثة، وحيث سلطان الهوى المخلط
للأعراض أغلب على نظرائك، وسكر الشباب والجدة المتحيفين للدين والمروءة مستول
على لداتك، ففقتهم ببسطة المقدرة، وحميا الحداثة، وفضل الجدة، مع ما تقدمتهم
به من الوسامة في الصورة، والجمال في الهيئة.
وهذه أسباب تكاد أن توجب الانقياد للهوى، وتلجج في المهالك ولا يسلم معها إلا
المنقطع القرين في صحة الفطرة، وكمال العقل.
فاستعبدتهم الشهوات حتى أعطوها أزمة أديانهم، وسلطوها على مروءاتهم وأباحوها
أعراضهم، فآلت بأكثرهم الحال إلى ذل العدم، وفقد عز الغني في العاجل، مع
الندامة الطويلة والحسرة في الآجل.
وخرجت نسيج وحدك أوحدياً في نفسك، حكمت وكيل الله عندك - وهو عقلك - على
هواك، وألقيت إليه أزمة أمرك، فسلك بك طريق السلامة، وأسلمك إلى العاقبة
المحمودة، وبلغ بك من نيل اللذات أكثر مما بلغوا، ونال بك من الشهوات أكثر
مما نالوا، وصرفك من صنوف النعم في أكثر مما تصرفوا، وربط عليك من نعم الله
التي خولك ما أطلقه من أيديهم إيثار اللهو، وتسليطهم الهوى على أنفسهم فخاض
بك تلك اللجج، واستنقذك من تلك المعاطب، فأخرجك سليم الدين، وافر المروءة،
نقي العرض، كثير الشراء، بين الجدة. وذلك سبيل من كان ميله إلى الله أكثر من
ميله إلى هواه.
فلم أزل في أحوالك كلها تلك بفضيلتك عارفاً، ولك بنعم الله عندك غابطاً، أرى
ظواهر أمرك المحمودة تدعوني إلى الانقطاع إليك، وأسأل عن بواطن أحوالك
فيزيدني رغبة في الاتصال بك، ارتياداً مني لموضع الخيرة في الأخوة، والتماساً
لإصابة الاصطفاء في المودة، وتخيراً لمستودع الرجاء في النائبة.
فلما محصتك الخبرة، وكشف الابتلاء عن المحمدة، وقضت لك التجارب بالتقدمة،
وشهدت لك قلوب العامة بالقبول والمحبة، وقطع الله عذر من كان يطلب الاتصال
بك، طلبت الوسيلة إليك والاتصال بحبلك، ومتت بحرمة الأدب وذمام كرمك.
وكان من نعمة الله عندي أن جعل أبا عبد الله - حفظه الله - وسيلتي إليك،
فوجدت المطلب سهلاً، والمراد محموداً، وأفضيت إلى ما يجوز الأمنية ويفوت
الأمل. فوصلت إخاي بمودتك، وخلطتني بنفسك، وأسمتني في مراعي ذوي الخاصة بك
تفضلا لا مجازاة، وتطولاً لا مكافاة، فأمنت الخطوب، واعتليت على الزمان،
واتخذتك للأحداث عدة، ومن نوائب الدهر حصناً منيعاً.
فلما جرت المؤانسة، وتقلبت من فضلك في صنوف النعمة، وزاد تصرفي في مواهبك في
السرور والحبرة، أردت خبرة المشاهدة فبلوت أخلاقك، وامتحنت شيمك، وعجمت
مذاهبك، على حين غفلاتك، وفي الأوقات التي يقل فيها تحفظك، أراعي حركاتك،
وأراقب مخارج أمرك ونهيك، فأرى من استصغارك لعظيم النعمة التي تنعم بها،
واستكثارك لقليل الشكر من شاكريك، ما أعرف به وبما قد بلوت من غيرك وما قد
شهدت لي به عليك التجارب، أن ذلك منك طبع غير تكلف.
هيهات ما يكاد ذو التكلف أن يخفى على أهل الغباوة، فكيف على مثلي من
المتصفحين؟
فصل منه
ولم أزل - أبقاك الله - بالموضع الذي عرفت من جمع الكتب ودراستها والنظر
فيها. ومعلوم أن طول دراستها إنما هو تصفح عقول العالمين، والعلم بأخلاق
النبيين - صلوات الله تعالى عليهم أجمعين - وذوي الحكمة من الماضين والباقين
من جميع الأمم، وكتب أهل الملل.
فرأيت أن أجمع لك كتاباً من الأدب، جامعاً لعلم كثير من أمر المعاد والمعاش،
أصف لك فيه علل الأشياء، وأخبرك بأسبابها، وما اتفقت عليه محاسن الأمم. وعلمت
أن ذلك من أعظم ما أبرك به، وأرجح ما أتقرب به إليك.
وكان الذي حداني إلى ذلك ما رأيت الله تعالى قسم لك من العقل والفهم، وركب
فيك من الطبع الكريم.
وقد اجتمعت الحكماء على أن العقل المطبوع والكرم الغريزي، لا يبلغان غاية
الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب، ومثلوا ذلك بالنار والحطب، والمصباح
والدهن، وذلك أن العقل الغريزي آلة والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك
تزيده في عقلك.
ورأيت كثيراً من واضعي الأدب قبلي، قد عهدوا إلى الغابرين بعدهم في الآداب
عهوداً قاربوا فيها الحق، وأحسنوا فيها الدلالة. إلا أني رأيت أكثر ما رسموا
من ذلك فروعاً لم يبينوا عللها، وصفات حسنة لم يكشفوا أسبابها، وأموراً
محمودة لم يدلوا على أصولها.
فإن كان ما فعلوا من ذلك روايات رووها عن أسلافهم، ووراثات ورثوها عن أكابرهم
فقد قاموا بأداء الأمانة، ولم يبلغوا فضيلة من طب لمن استطب، وإن كانوا تركوا
الدلالة على علل الأمور، التي بمعرفة عللها يوصل إلى مباشرة اليقين فيها،
وينتهى إلى غاية الاستبصار منها، فلم يعدوا في ذلك منزلة الظن بها.
ولم تجد وصايا أنبياء الله تعالى أبداً إلا مبينة بالأسباب، مكشوفة العلل،
مضروبة معها الأمثال.
فصل منه
ولن أدع من تلك المواضع الخفية موضعاً إلا أقمت لك بها بإزاء كل شبهة منه
دليلاً، ومع كل خفي من الحق حجة ظاهرة، تستنبط بها غوامض البرهان، وتستثير
بها دفائن الصواب، وتستشف بها سرائر القلوب، فتأتي بما تأتي عن بينة، وتدع ما
تدع عن خبرة، ولا يكون بك وحشة إلى معرفة كثير ما يغيب عنك إذا عرفت العلل
والأسباب، حتى كأنك مشاهد لضمير كل امرىء لمعرفتك بطبعه وما ركب عليه.
فصل منه
اعلم أنك إذا أهملت ما وصفت لك عرضت تدبيرك إلى الاختلاط، وإن آثرت الهوينى،
واتكلت على الكفاية في الأمر الذي لا يجوز فيه إلا نظرك، وزجيت أمرك على رأي
مدخول، وأصل غير محكم، رجع ذلك عليك بما لو حكم فيه عدوك كان ذلك غاية أمنيته
وشفاء غيظه.
واعلم أن إجراءك الأمور مجاريها، واستعمالك الأشياء على وجوهها، يجمع لك ألفة
القلوب، فيعاملك كل من عاملك بمودة، وأخذ وإعطاء، وهو على ثقة من بصرك بمواضع
الإنصاف، وعلمك بموارد الأمور.
فصل منه
فإن ابتليت في بعض الأوقات بمن يتقرب بحرمة، ويمت بدالة، يطلب المكافأة بأكثر
مما يستوجب، فدعاك الكرم والحياء إلى تفضيله على من هو أحق به، إما خوفاً من
لسانه، أو مداراة لغيره، فلا تدع الاعتذار إلى من هو فوقه من أهل البلاء
والنصيحة وإظهار ما أردت من ذلك لهم؛ فإن أهل خاصتك والمؤتمنين على أسرارك،
هم شركاؤك في العيش، فلا تستهينن بشيء من أمورهم، فإن الرجل قد يترك الشيء من
ذلك اتكالاً على حسن رأي أخيه، فلا يزال ذلك يجرح في القلب وينمو، حتى يولد
ضغناً ويحول عداوة.
فتحفظ من هذا الباب، واحمل إخوانك عليه بجهدك.
وستجد من يتصل بك ممن يغلبه إفراط الحرص، وحميا الشره، ولين جانبك له، على أن
ينقم العافية، ويطلب اللحوق بمنازل من ليس مثله، ولا له مثل دالته، فتلقاه
لما تصنع به مستقلاً. ولمعروفك مستصغرا.
وصلاح من كانت هذه حاله بخلاف ما فسد عليه أمره.
فاعرف طرائفهم وشيمهم، وداو كل من لا بد لك من معاشرته، بالدواء الذي هو أنجع
فيه، إن ليناً فليناً، وإن شدة فشدة، فقد قيل في مثل:
من لا يؤدبه الجمي ... ل ففي عقوبته صلاحه
فصل منه
واعلم أن المقادير ربما جرت بخلاف ما تقدر الحكماء، فينال بها الجاهل في
نفسه، المختلط في تدبيره، ما لا ينال الحازم الأريب الحذر، فلا يدعونك ما ترى
من ذلك إلى التضييع والاتكال على مثل تلك الحال؛ فإن الحكماء قد اجتمعت على
أن من أخذ بالحزم وقدم الحذر، فجاءت المقادير خلاف ما قدر، كان عندهم أحمد
رأياً، وأوجب عذراً ممن عمل بالتفريط، وإن اتفقت له الأمور على ما أراد.
ولا تكونن بشيء مما في يدك أشد ضناً، ولا عليه أشد حدباً منك بالأخ الذي قد
بلوته بالسراء والضراء فعرفت مذاهبه، وخبرت شيمه، وصح لك غيبه، وسلمت لك
ناحيته، فإنه شقيق روحك، وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك وتوأم عقلك.
ولست منتفعاً بعيش مع الوحدة، ولا بد من المؤانسة.
وكثرة الاستبدال يهجم بصاحبه على المكروه.
فإن صفا لك أخ فكن به أشد ضناً منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدنك فيه أن ترى
خلقاً أو خلقين تكرههما، فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في
كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك.
وبحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره. وقد قالت الحكماء: " من لك بأخيك كله " .
و: " أي الرجال المهذب " .
فصل منه
واعلم أنك موسوم بسيما من قارنت، ومنسوب إليك أفاعيل من صاحبت. فتحرز من
دخلاء السوء، وأظهر مجانبة أهل الريب، وقد جرت لك في ذلك الأمثال، وسطرت فيه
الأقاويل، فقالوا: " المرء حيث يجعل نفسه " .
وقالوا: " يظن بالمرء ما يظن بقرينه " .
وقالوا: " المرء بشكله " ، و " المرء بأليفه " .
ولن تقدر أن تتحرز من الناس، ولكن أقل المؤانسة إلا بأهل البراءة من كل دنس.
واعلم أن المرء بقدر ما يسبق إليه يعرف، وبالمستفيض من أفعاله يوصف. فإن كان
بين ذلك كثير من أخلاقه ألغاه الناس، وحكموا عليه بالغالب من أمره.
فاجهد أن يكون أغلب الأشياء على أفعالك كل ما يحمده العوام ولا تذمه
الجماعات، فإن ذلك يعفي على كل خلل إن كان.
فبادر ألسنة الناس واشغلها بمحاسنك، فإنهم إلى كل سيىء سراع، واستظهر على من
دونك بالتفضل، وعلى نظائرك بالإنصاف، وعلى كل من فوقك بالإجلال، تأخذ بوثائق
الأمور وبأزمة التدبير.
في الجد والهزل
جعلت فداك، ليس من اختياري، النخل على الزرع. أقصيتني، ولا على ميلي إلى
الصدقة دون إعطاء الخراج عاقبتني، ولا لبغض دفع الإتاوة والرضا بالجزية
حرمتني. ولست أدري لم كرهت قربي، وهويت بعدي، واستثقلت روحي ونفسي، واستطلت
عمري وأيام مقامي؟ ولم سرتك سيئتي ومصيبتي، وساءتك حسنتي وسلامتي؟ نعم، حتى
ساءك عزائي وتجملي، بقدر ما سرك جزعي وتضجري، وحتى تمنيت أن أخطىء عليك،
فتجعل خطائي حجة لك في إبعادي، وكرهت صوابي فيك خوفاً من أن تجعله ذريعة إلى
تقريبي.
فإن كان ذلك هو الذي أغضبك، وكان هو السبب لموجدتك، فليس - أبقاك الله - هذا
الحقد في طبقة هذا الذنب، ولا هذه المطالبة من شكل هذه الجريمة.
فصل منه
فأي شيء أبقيت للعدو المكاشف، وللموافق الملاطف، وللمعتمد المصر، وللقادر
المدل؟ ومن عاقب على الصغير بعقوبة الكبير، وعلى الهفوة بعقوبة الإصرار، وعلى
الخطأ بعقوبة العمد، وعلى معصية المتستر بعقوبة المعلن. ومن لم يفرق بين
الأعالي والأسافل، وبين الأقاصي والأداني، عاقب على الزنى بعقوبة السرقة،
وعلى القتل بعقوبة القذف. ومن خرج إلى ذاك في باب العقاب، خرج إلى مثله في
باب الثواب.
ومن خرج من جميع الأوزان، وخالف جميع التعديل كان بغاية العقاب أحق، وبه
أولى.
والدليل على شدة غيظك وغليان صدرك، قوة حركتك، وإبطاء فترتك، وبعد الغاية في
احتيالك.
ومن البرهان على بيان الغضب وعلى عظم الذنب، تمكن الحقد ورسوخ الغيظ، وبعد
الوثبة وشدة الصولة. وهذا البرهان صحيح ما صح النظم، وقام التعديل، واستوت
الأسباب.
ولا أعلم ناراً أبلغ في إحراق أهلها من نار الغيظ، ولا حركة أنقض لقوى
الأبدان من طلب الطوائل، مع قلة الهدوء، والجهل بمنافع الجمام، وإعطاء
الحالات أقسامها من التدبير.
ولا أعلم تجارة أكثر خسراناً ولا أخف ميزاناً، من عداوة العاقل العالم،
وإطلاق لسان الجليس والمداخل، والشعار دون الدثار، والخاص دون العام.
والطالب - أبقاك الله - بعرض ظفر ما لم يخرج المطلوب، وإليه الخيار ما لم تقع
المنازلة.
ومن الحزم ألا تخرج إلى العدو إلا ومعك من القوى ما يغمر الفضلة التي يتيحها
له الإخراج، ولا بد - أيضاً - من حزم يحذرك مصارع البغي، ويخوفك ناصر
المطلوب.
فصل منها
والله لقد كنت أكره لك سرف الرضا، مخافة جواذبه إلى سرف الهوى، فما ظنك بسرف
الغضب. وبغلبة الغيظ، ولا سيما ممن تعود إهمال النفس ولم يعودها الصبر، ولم
يعرفها موضع الحظ في تجرع مرارة العفو. وإنما المراد من الأمور عواقبها لا
عواجلها.
وقد كنت أشفق عليك من إفراط السرور، فما ظنك بإفراط الغيظ. وقد قال الناس: "
لا خير في طول الراحة إذا كان يورث الغفلة، ولا في طول الكفاية إذا كان يؤدي
إلى المعجزة. ولا في كثرة الغنى إذا كان يخرج إلى البلدة " .
جعلت فداك إن داء الحزن، وإن كان قاتلا، فإنه داء مماطل، وسقمه سقم مطاول،
ومعه من التمهل بقدر قسطه من أناة المرة السوداء. وداء الغيظ سفيه طياش،
وعجول فحاش، يعجل عن التوبة، ويقطع دون الوصية.
فصل منها
وربت كلمة لا توضع إلا على معناها الذي جعلت حظه وصارت هي حقه، والدالة عليه
دون غيره، كالعزم والعلم، والحلم والرفق؛ والأناة والمداراة، والقصد والعدل،
وكالانتهاز والاهتبال، وكاليأس والأمل، وكالخرق والعجلة، والمداهنة والتسرع،
والغلو والتقصير.
ورب كلمة تدور مع واصلتها، وتتقلب مع جارتها، وإزاء صاحبتها، وعلى قدر ما
تقابل من الحالات وتلاقي من الأسباب، كالحب والبغض، والغضب والرضا، والعزم
والإرادة، والإقبال والإدبار، والجد والفتور. لأن كل هذا الباب الأخير يكون
في الخير والشر، ويكون محموداً ويكون مذموماً.
وصاحب العجلة - أبقاك الله - صاحب لتغرير ومخاطرة، إن ظفر لم يحمده عاقل، وإن
لم يظفر قطعته الملاوم. والريث أخو المعجزة، ومقرون بالحسرة، وعلى مدرجة
اللائمة.
وصاحب الأناة، إن ظفر نفع غيره بالغنم، ونفع نفسه بثمرة العلم، وطاب ذكره
ودام شكره، وحفظ فيه ولده. وإن حرم فمبسوط عذره ومصوب رأيه مع انتفاعه بعلمه،
وما يجد من عز حزمه، ونبل صوابه.
فصل منها
ومن كانت طبيعته مأمونة عليه عند نفسه، وكان هواه رائده الذي لا يكذبه،
والمتأمر عليه دون عقله، ولم يتوكل لما لا يهواه على ما يهوى، ولم ينصر تالد
الإخوان على الطارف، ولم ينصف الملول المبعد من المستطرف المقرب، ولم يخف أن
تجتذبه العادة وتتحكم عليه الطبيعة فليرسم حججهما ويصور صورهما في كتاب مقروء
أو لفظ مسموع، ثم يعرضهما على جهابذة المعاني وأطباء أدواء العقول. على أن لا
يختار إلا من لا يدري أي النوعين يتقي، وأيهما يحامي، وأيهما داؤه، وأيهما
دواؤه. فإن لم يستعمل ذلك لم يزل متورطاً في الخطاء مغموراً بالذنب.
سمعتك وأنت تريدني وكأنك تريد غيري، أو كأنك تشير علي من غير أن تنصني،
وتقول: إني لأعجب ممن ترك دفاتر علمه متفرقة، وكراريس درسه غير مجموعة ولا
منظومة، كيف يعرضها للتخرم، وكيف لا يمنعها من التخرق؟ ! وعلى أن الدفتر إذا
انقطعت حزامته وانحل شداده، وتخرمت ربطه، ولم تكن دونه وقاية، ولا دونه جنة،
تفرق ورقه، واشتد جمعه، وعسر نظمه، وامتنع تأليفه، وضاع أكثره.
والدفتان أجمع، وضم الجلود لها أصون والحزم لها أصلح.
وينبغي للأشكال أن تنظم، والأشباه أن تؤلف؛ فإن التأليف يزيد الأجزاء الحسنة
حسناً، والاجتماع يحدث للمتساوي في الضعف قوة.
فصل منها
أنت - أبقاك الله - شاعر وأنا راوية، وأنت طويل وأنا قصير، وأنت أصلع وأنا
أنزع، وأنت صاحب براذين وأنا صاحب حمير، وأنت ركين وأنا عجول. وأنت تدبر نفسك
وتقيم أود غيرك، وتتسع لجميع الرعية، وتبلغ بتدبيرك أقصى الأمة. وأنا أعجز عن
تدبيري وعن تدبير أمتي وعبدي. وأنت منعم وأنا شاكر، وأنت ملك وأنا سوقة. وأنت
مصطنع وأنا صنيعة، وأنت تفعل وأنا أصف. وأنت متقدم وأنا تابع، وأنت إذا نازعت
الرجال وناهضت الأكفاء لم تقل بعد فراغك وانقطاع كلامك: لو كنت قلت كذا لكان
أجود، ولو تركت قول كذا كان أحسن. وأمضيت الأمور على حقائقها، وسلمت إليها
أقساطها، على مقادير حقوقها، فلم تندم بعد قول، ولم تأسف بعد سكوت. وأنا إن
تكلمت ندمت، وإن جاريت أبدعت.
فصل منها
وقد منحتك جلد شبابي كملاً؛ وغرب نشاطي مقتبلا، فكان لك مهناه، وثمرة قواه،
واحتملت دونك عرامه وغربه، فكان لك غنمه وعلي غرمه.
وأعطيتك عند إدبار بدني قوة رأيي، وعند تكامل معرفتي نتيجة تجربتي، واحتملت
دونك وهن الكبر وإسقام الهرم.
وخير شركائك من أعطاك ما صفا وأخذ لنفسه ما كدر. وأفضل خلطائك من كفاك مؤونته
وأحضرك معونته، وكان كلاله عليه ونشاطه لك.
وأكرم دخلائك وأشكر مواليك من لا يظن أنك تسمي جزيل ما تحتمل في بذلك
ومؤانستك مؤونة، ولا تتابع إحسانك إليه نعمة. بل يرى أن نعمة الشاكر فوق نعمة
الواهب، ونعمة الواد المخلص، فوق نعمة الجواد المغني.
فصل من صدر كتابه في الوكلاء
وفقك الله للطاعة، وعصمك من الشبهة، وأفلجك بالحجة، وختم لك بالسعادة.
غبرت - أصلحك الله - أزمان وأنت عندي ممن لا يمضي القول إلا بعد التثبت، ولا
يخرج الكتاب إلا بعد التصفح، وكنت حرياً بتهيئة الرأي الفطير، جديراً أن تميل
بنفسك عاقبة التفريط. ولولا كثرة مرور أيام المطالبة عليك لما ثقل عليك
التثبت، ولولا قصر أيام التحصيل لما وثقت بأول خاطر، ولولا سوء العادة لما
كذبك رائد النظر واتهمت الرأي.
واعترام الغضبان يهور الأعمار، فإن الغضبان أسوأ أثراً على نفسه من السكران،
ولولا أن نار الغضب تخبو قبل إفاقة المعتوه، وضباب السكر ينكشف قبل انكشاف
غروب عقل المدله، وأن حكم الظاعن خلاف حكم المقيم، وقضية المجتاز خلاف قضية
الماكث، لكانت حال الغضبان أسوأ مغبة، وجهله أوبى، على أن الحكم له ألزم
والناس له ألوم.
وما أكثر ما يقحم الغضب المقاحم التي لا يبلغها جناية الجنون، وفرط جهل
المصروع.
فصل منه
وإن الغمر لا يكون إلا عديم الآلة، منقطع المادة، يرى الغي رشدأً والغلو
قصداً. فلو كنت إذا جنيت لم تقم على الجناية، وإذا عزمت على القول لم تخلده
في الكتب، وإذا خلدته لم تظهر التبجح به، والاستبصار فيه، كان علاج ذلك أيسر،
وكانت أيام سقمك أقصر.
فأخزى الله التصميم إلا مع الحزم، والاعتزام إلا بعد التثبت والعلم إلا مع
القريحة المحمودة، والنظر إلا مع استقصاء الروية.
وأخلق بمن كان في صفتك، وأحر بمن جرى على دربك، ألا يكون سبب تسرعه، وعلة
تشحنه إلا من ضيق الصدر.
وجميع الخير راجع إلى سعة الصدر. فقد صح الآن أن سعة الصدر أصل، وما سوى ذلك
من أصناف الخير فرع.
وقد رأيتك - حفظك الله - خونت جميع الوكلاء وفجرتهم، وشنعت على جميع الوراقين
وظلمتهم، وجمعت جميع المعلمين وهجوتهم، وحفظت مساويهم، وتناسيت محاسنهم،
واقتصرت على ذكر مثالب الأعلام والجلة، حتى صوب نفسك عند السامع لكلامك،
والقارىء كتابك، أنك ممن ينكر الحق جهلا، أو يتركه معاندة له. وقد علم الناس
أن من تركه جهلاً به أصغر إثماً ممن تركه عمداً.
ولعمري إن العلم لطوع يديك، والمتصرف مع خواطرك، والمستملي من بديهتك، كما
يستملي من ثمرة فكرك، والمحصل من رويتك. ولكن الرأي لك أن لا تثق بما يرسمه
العلم في الخلا، وتتوقاه في الملا.
اعلم أنك متى تفردت بعلمك استرسلت إليه. ومتى ائتمنت على نفسك نواجم خطرك،
فقد أمكنت العدو من ربقة عنقك. وبنية الطبائع وتركيب النفوس، والذي جرت عليه
العادة، إهمال النفس في الخلا، واعتقالها في الملا.
فتوقف عند العادة، واتهم النفس عند الاسترسال والثقة. قال ابن هرمة:
إن الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يكون له عي وإكثار
وبئس الشيء العجب، وحسن الظن بالبديهة! واعلم أن هذه الحال التي ارتضيتها
لشأنك هي أمنية العدو، وتهزة الخصم، ومتى أبرزت كتابك على هذه الصورة وأفرغته
هذا الإفراغ، ثم سبكته هذا السبك، فليس بعدوك حاجة إلى التكذيب عليك، وقول
الزور فيك، لأنك قد مكنته من عرضك، وحكمته في نفسك.
وبعد، فمن يعجز عن عيب كتاب لم يحرس بالتثبت، ولم يحصن بالتصفح، ولم يغب
بالمعاودة والنظر، ولم يقلب فيه الطرف من جهة الإشفاق والحذر. فكيف يوفق الله
الواثق بنفسه، والمستبد برأيه لأدب ربه، ولما وصى به نبيه صلى الله عليه وسلم
حين قال لرجل خاصم عنده رجلا فقال في بعض كلامه: حسبي الله! فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: " أبل الله من نفسك عذراً، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله "
وزعمت في أول تشنيعك عليهم، فقلت: قال يعقوب بن عبيد لبعض ولده حين قال له في
مرضه: أي شيء تشتهي؟ قال: كبد وكيل.
وقد كان ترك التجارة من سوء معاملتهم وفحش خبائثهم.
الوكلاء
قد فهمنا عذرك وسمعنا قولك، فاسمع الآن ما نقول: اعلم أن الوكيل، والأجير،
والأمين، والوصي، في جملة الأمر، يجرون مجرىً واحداً. فأيش لك أن تقضي على
الجميع بإساءة البعض. ولو بهرجنا جميع الوكلاء وخونا جميع الأمناء، واتهمنا
جميع الأوصياء وأسقطناهم، ومنعنا الناس الارتفاق بهم، لظهرت الخلة وشاعت
المعجزة، وبطلت العقد وفسدت المستغلات، واضطربت التجارات، وعادت النعمة بلية
والمعونة حرماناً، والأمر مهملاً، والعهد مريجاً.
ولو أن التجار وأهل الجهاز صاحبوا الجمالين والمكارين والملاحين، حتى يعاينوا
ما نزل بأموالهم في تلك الطرق والمياه، والمسالك والخانات، لكان عسى أن يترك
أكثرهم الجهاز.
فصل منه
وقد قال الله عز وجل: " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض
" ، وقال: " فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم " وقال: " ومن كان
غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف " .
وقال يوسف النبي صلى الله عليه وسلم لفرعون وفرعون كافر: " اجعلني على خزائن
الأرض إني حفيظ عليم " .
وقالت بنت شعيب في موسى بن عمران: " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي
الأمين " : فجمع جميع ما يحتاج إليه في الكلمتين.
وفي قياسك هذا إسقاط جميع ما أدبنا الله به، وجعله رباطاً لمراشدنا في ديننا،
ونظاماً لمصالحنا في دنيانا.
والذي يلزمني لك أن لا أعمهم بالبراءة، والذي يلزمك أن لا تعمهم بالتهمة، وأن
تعلم أن نفعهم عام، وخيرهم خاص.
وقالوا: مثل الإمام الجائر مثل المطر، فإنه يهدم على الضعيف، ويمنع المسافر.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " حوالينا ولا علينا " .
والمطر وإن أفسد بعض الثمار، وأضر ببعض الأكرة فإن نفعه غامر لضرره.
وليس شيء من الدنيا يكون نفعه محضاً، وشره صرفا. وكذلك الإمام الجائر، وإن
استأثر ببعض الفيء، وعطل بعض الحكم، فإن مضاره مغمورة بمنافعه.
قالوا: وكذلك أمر الوكلاء والأوصياء والأمناء، لا تعلم قوماً الشر فيهم أعم
ولا الغش فيهم أكثر من الأكرة، وما يجوز لنا مع هذا أن نعمهم بالحكم مع أن
الحاجة إليهم شديدة، ونزع هذه العادة وهذا الخلق منهم أشد.
فصل منه
وأنا أظن أن الذنب مقسوم بينك وبين وكلائك. فارجع إلى نفسك فلعلك أن ترى أنك
إنما أتيت من قبل الفراسة، أو من قبل أنك لم تقطع لهم الأجرة السنية، وحملتهم
على غاية المشقة في أداء الأمانة وتمام النصيحة.
فصل منه
ولا بد في باب البصر بجواهر الرجال من صدق الحس، ومن صحة الفراسة، ومن
الاستدلال في البعض على الكل، كما استدلت بنت شعيب - صلوات الله عليه - حين
قضت لموسى عليه السلام بالأمانة والقوة، وهما الركنان اللذان تبنى عليهما
الوكالة.
فصل منه
وقد قالوا: ليس مما يستعمل الناس كلمة أضر بالعلم والعلماء، ولا أضر بالخاصة
والعامة، من قولهم: " ما ترك الأول للآخر شيئاً " .
ولو استعمل الناس معنى هذا الكلام فتركوا جميع التكلف، ولم يتعاطوا إلا مقدار
ما كان في أيديهم لفقدوا علماً جماً ومرافق لا تحصى، ولكن أبى الله إلا أن
يقسم نعمه بين طبقات جميع عباده قسمة عدل، يعطي كل قرن وكل أمة حصتها
ونصيبها، على تمام مراشد الدين، وكمال مصالح الدنيا.
فهؤلاء ملوك فارس نزلوا على شاطىء الدجلة، من دون الصراة إلى فوق بغداد؛ في
القصور والبساتين؛ وكانوا أصحاب نظر وفكر، واستخراج واستنباط، من لدن أزدشير
بن بابك إلى فيروز بن يزدجرد.
وقبل ذلك ما نزلها ملوك الأشكان، بعد ملوك الأردوان.
فهل رأيتم أحداً اتخذ حراقة، أو زلالة، أو قارباً؟ ! وهل عرفوا الخيش مع حر
البلاد ووقع السموم؟ ! وهل عرفوا الجمازات لأسفارهم ومنتزهاتهم؟ ! وهل عرف
فلاحوهم الثمار المطعمة، وغراس النخل على الكردات المسطرة؟ وأين كانوا عن
استخراج فوه العصفر؟ وأين كانوا عن تغليق الدور والمدن، وإقامة ميل الحيطان
والسواري المائلة الروس، الرفيعة السموك المركبة بعضها على بعض؟ ! وأين كانوا
عن مراكب البحر في ممارسة العدو الذي في البحر، إن طارت البوارج أدركتها، وإن
أكرهتها فاتتها بعد أن كان القوم أسرى في بلاد الهند، يتحكمون عليهم ويتلعبون
بهم؟ وأين كانوا عن الرمي بالنيران؟ ! نعم، وكانوا يتخذون الأحصار وينفقون
عليها الأموال، رجالهم دسم العمائم،وسخة القلانس، وكان الرجل منهم إذا مر
بالعطار، أو جلس إليه، فأراد كرامته دهن رأسه ولحيته، لايحتشم من ذلك
الكبير،وكان أهل البيت إذا طبخوا اللحم غرفوا للجار والجارة غرفة غرفة.
الأوطان والبلدان
زينك الله بالتقوى، وكفاك المهم من أمر الآخرة والأولى، وأثلج صدرك باليقين،
وأعزك بالقناعة، وختم لك بالسعادة، وجعلك من الشاكرين.
سألت - أبقاك الله - أن أكتب لك كتاباً في تفاضل البلدان، وكيف قناعة النفس
بالأوطان، وما في لزومها من الفشل والنقص، وما في الطلب من علم التجارب
والعقل.
وذكرت أن طول المقام من أسباب الفقر، كما أن الحركة من أسباب اليسر، وذكرت
قول القائل: " الناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم " .
ونسيت - أبقاك الله - عمل البلدان، وتصرف الأزمان، وأثارهما في الصور
والأخلاق، وفي الشمائل والآداب، وفي اللغات والشهوات، وفي الهمم والهيئات،
وفي المكاسب والصناعات، على ما دبر الله تعالى من ذلك بالحكمة اللطيفة،
والتدابير العجيبة.
فسبحان من جعل بعض الاختلاف سبباً للائتلاف، وجعل الشك داعية إلى اليقين،
وسبحان من عرفنا ما في الحيرة من الذلة، وما في الشك من الوحشة، وما في
اليقين من العز، وما في الإخلاص من الأنس.
وقلت: ابدأ لي بالشام ومصر، وفضل ما بينهما، وتحصيل جمالهما، وذكرت أن ذلك
سيجر العراق والحجاز، والنجود والأغوار، وذكر القرى والأمصار، والبراري
والبحار.
واعلم - أبقاك الله - أنا متى قدمنا ذكر المؤخر وأخرنا ذكر المقدم، فسد
النظام وذهبت المراتب. ولست أرى أن أقدم شيئاً من ذكر القرى على ذكر أم جميع
القرى. وأولى الأمور بنا ذكر خصال مكة، ثم خصال المدينة.
ولولا ما يجب من تقديم ما قدم الله وتأخير ما أخر لكان، الغالب على النفوس
ذكر الأوطان وموقعها من قلب الإنسان.
وقد قال الأول: " عمر الله البلدان بحب الأوطان " ، وقال ابن الزبير: " ليس
الناس بشيء من أقسامهم أقتنع منهم بأوطانهم " .
ولولا ما من الله به على كل جيل منهم من الترغيب في كل ما تحت أيديهم، وتزيين
كل ما اشتملت عليه قدرتهم، وكان ذلك مفوضاً إلى العقول، وإلى اختيارات النفوس
ما سكن أهل الغياض والأدغال في الغمق واللثق، ولما سكنوا مع البعوض والهمج،
ولما سكن سكان القلاع في قلل الجبال، ولما أقام أصحاب البراري مع الذئاب
والأفاعي وحيث من عز بز، ولا أقام أهل الأطراف في المخاوف والتغرير، ولما رضي
أهل الغيران وبطون الأودية بتلك المساكن، ولالتمس الجميع السكنى في الواسطة،
وفي بيضة العرب، وفي دار الأمن والمنعة. وكذلك كانت تكون أحوالهم في اختيار
المكاسب والصناعات وفي اختيار الأسماء والشهوات. ولاختاروا الخطير على
الحقير، والكبير على الصغير.
ألا تراهم قد اختاروا ما هو أقبح على ما هو أحسن من الأسماء والصناعات، ومن
المنازل والديارات، من غير أن يكونوا خدعوا أو استكرهوا.
ولو اجتمعوا على اختيار ما هو أرفع، ورفض ما هو أوضع من اسم أو كنية، وفي
تجارة وصناعة، ومن شهوة وهمة، لذهبت المعاملات، وبطل التمييز، ولوقع التجاذب
والتغالب، ثم التجارب، ولصاروا غرضاً للتفاني، وأكلة للبوار.
فالحمد لله أكثر الحمد وأطيبه على نعمه، ما ظهر منها وما بطن، وما جهل منها
وما علم! ذكر الله تعالى الديار فخبر عن موقعها من قلوب عباده، فقال: " ولو
أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل
منهم " . فسوى بين موقع قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم. وقال: " وما لنا
ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " . فسوى بين موقع
الخروج من ديارهم وبين موقع هلاك أبنائهم.
فصل منه
فقسم الله تعالى المصالح بين المقام والظعن، وبين الغربة وإلف الوطن، وبين ما
هو أربح وأرفع، حين جعل مجاري الأرزاق مع الحركة والطلب. وأكثر ذلك ما كان مع
طول الاغتراب، والبعد في المسافة، ليفيدك الأمور، فيمكن الاختبار ويحسن
الاختيار.
والعقل المولود متناهي الحدود، وعقل التجارب لا يوقف منه على حد. ألا ترى أن
الله لم يجعل إلف الوطن عليهم مفترضاً، وقيداً مصمتاً، ولم يجعل كفاياتهم
مقصورة عليهم، محتسبة لهم في أوطانهم؟ ألا تراه يقول: " فاقرءوا ما تيسر من
القرآن، علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله
وآخرون يقاتلون في سبيل الله " . فقسم الحاجات فجعل أكثرها في البعد. وقال عز
ذكره: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله " فأخرج
الكلام والإطلاق على مخرج العموم، فلم يخص أرضاً دون أرض، ولا قرباً دون بعد.
فصل منه
ونحن، وإن أطنبنا في ذكر جملة القول في الوطن، وما يعمل في الطبائع، فإنا لم
نذكر خصال بلدة بعينها، فنكون قد خالفنا إلى تقديم المؤخر وتأخير المقدم.
قالوا: ولم نجهل ولم ننكر أن نفس الإلف يكون من صلاح الطبيعة، حتى إن أصحاب
الكلاب ليجعلون هذا من مفاخرنا على جميع ما يعاشر الناس في دورهم من أصناف
الطير وذوات الأربع: وذلك أن صاحب المنزل إذا هجم منزله واختار غيره، لم
يتبعه فرس ولا بغل ولا حمار، ولا ديك ولا دجاجة، ولا حمامة ولا حمام، ولا هر
ولا هرة، ولا شاة، ولا عصفور؛ فإن العصافير تألف دور الناس، ولا تكاد تقيم
فيها إذا خرجوا منها. والخطاطيف تقطع إليهم لتقيم فيها إلى أوان حاجتها إلى
الرجوع إلى أوطانها، وليس شيء من هذه الأنواع مما تبوأ في الدور باجتلابهم
لها، ولا ما تبوأ في دورهم مما ينزع إليهم أحن من الكلب، فإنه يؤثره على
وطنه، ويحميه ممن يغشاه.
فذكروا الكلب بهذا الخلق الذي تفرد به دون جميع الحيوان.
وقالوا في وجه آخر: أكرم الصفايا أشدها ولهاً إلى أولادها، وأكرم الإبل أحنها
إلى أعطانها، وأكرم الأفلاء أشدها ملازمة لأمهاتها، وخير الناس آلفهم للناس.
فصل منه
وقلتم: خبرونا عن الخصال التي بانت بها قريش عن جميع الناس. وأنا أعلم أنك لم
ترد هذا، وإنما أردت الخصال التي بانت بها قريش من سائر العرب، كما ذكرنا في
الكتاب الأول الخصال التي بانت بها العرب عن العجم؛ لأن قريشاً والعرب قد
يستوون في مناقب كثيرة. قد يلفى في العرب الجواد المبر وكذلك الحليم الشجاع،
حتى يأتي على خصال حميدة؛ ولكنا نريد الخصائص التي في قريش دون العرب.
فمن ذلك أنا لم نر قريشياً انتسب إلى قبيلة من قبائل العرب، وقد رأينا في
قبائل العرب الأشراف رجالاً - إلى الساعة - ينتسبون في قريش، كنحو الذي وجدنا
في بني مرة بن عوف، والذي وجدنا من ذلك في بني سليم، وفي خزاعة، وفي قبائل
شريفة.
ومما بانت قريش أنها لم تلد في الجاهلية ولداً قط لغيرها ولقد أخذ ذلك منهم
سكان الطائف، لقرب الجوار وبعض المصاهرة، ولأنهم كانوا حمساً، وقريش حمستهم.
ومما بانت به قريش من سائر العرب أن الله تعالى جاء بالإسلام وليس في أيدي
جميع العرب سبية من جميع نساء قريش، ولا وجدوا في جميع أيدي العرب ولداً من
امرأة من قريش.
ومما بانت به قريش من سائر العرب أنها لم تكن تزوج أحداً من أشراف العرب إلا
على أن يتحمس، وكانوا يزوجون من غير أن يشترط عليهم، وهي عامر بن صعصعة،
وثقيف، وخزاعة، والحارث بن كعب، وكانوا ديانيين، ولذلك تركوا الغزو لما فيه
من الغصب والغشم، واستحلال الأموال والفروج.
ومن العجب أنهم مع تركهم الغزو كانوا أعز وأمثل، مثل أيام الفجار وذات كهف.
ألا ترى أنهم عند بنيان الكعبة قال رؤساؤهم: لا تخرجوا في نفقاتكم على هذا
البيت إلا من صدقات نسائكم، ومواريث آبائكم! أرادوا مالاً لم يكسبوه ولا
يشكون أنه لم يدخله من الحرام شيء.
ومن العجب أن كسبهم لما قل من قبل تركهم الغزو، ومالوا إلى الإيلاف والجهاد،
لم يعترهم من بخل التجار قليل ولا كثير، والبخل خلقة في الطباع، فأعطوا
الشعراء كما يعطي الملوك، وقروا الأضياف، ووصلوا الأرحام، وقاموا بنوائب زوار
البيت، فكان أحدهم يحيس الحيسة في الأنطاع فيأكل منها القائم والقاعد،
والراجل والراكب وأطعموا بدل الحيس الفالوذج. ألا ترى أمية بن أبي الصلت
يقول، ويذكر عبد الله بن جدعان:
له داع بمكة مشمعل ... وحفص فوق دارته ينادي
إلى ردح من الشيزي ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد
فلباب البر هو هذا النشا، والشهاد يعني به العسل.
ألا ترى أن عمر بن الخطاب يقول: " أتروني لا أعرف طيب الطعام؟ لباب البر
بصغار المعزى " ، يعني خبز الحوارى بصغار الجداء.
ولقد مدحتهم الشعراء كما يمدح الملوك، ومدحتهم الفرسان والأشراف وأخذوا
جوائزهم؛ منهم: دريد بن الصمة، وأمية بن أبي الصلت.
ومن خصالهم أنهم لم يشاركوا العرب والأعراب في شيء من جفائهم، وغلظ شهواتهم؛
وكانوا لا يأكلون الضباب، ولا شيئاً من الحشرات؛ ألا ترى أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أتوا خوانه بضب فقال: " ليس من طعام قومي " ، لأنهم لم يكونوا
يحرشون الضباب، ويصيدون اليرابيع، ويملون القنافذ، أصحاب الخمر والخمير، وخبز
التنانير.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا أفصح العرب بيد أني من قريش،
ونشأت في بني سعد بن بكر " .
وذلك أن جميع قبائل العرب إنما كانت القبيلة لا تكاد ترى وتسمع إلا من
قبيلتها ورجالها، فليس عندهم، إلا عند قبيل واحد، من البيان والأدب والرأي
والأخلاق، والشمائل، والحلم والنجدة والمعرفة، إلا في الفرط.
وكانت العرب قاطبة ترد مكة في أيام المواسم، وترد أسواق عكاظ وذا المجاز؛
وتقيم هناك الأيام الطوال، فتعرف قريش، لاجتماع الأخلاق لهم والشمائل
والألفاظ، والعقول والأحلام، وهي وادعة وذلك قائم لها، راهن عندها في كل عام،
تتملك عليهم فيقتسمونهم، فتكون غطفان للميرة، وبنو عامر لكذا، وتميم لكذا،
تغلبها المناسك وتقوم بجميع شأنها.
فصل منه
وفتح مكة يسمى فتح الفتوح؛ وهو بيت الله، وأهله وحجاجه زوار الله؛ وهو البيت
العتيق والبيت الحرام؛ وفيه الحجر، والحجر الأسود.
وله زمزم، وهي هزمة جبريل - صلوات الله عليه - ، ومقام إبراهيم. وماء زمزم
لما شرب له، العاكف فيه والبادي سواء.
وبسبب كرامته أرسل الله طير الأبابيل وحجارة السجيل. وأهله حمس ولقاح لا
يؤدون إتاوة؛ ولهم السقاية، ودار الندوة، والرفادة، والسدانة.
قال: وأقسم الله تعالى بها، قال: " لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد "
. وقوله جل ذكره: " لا أقسم " أي: أقسم، وإنما قوله " لا " في هذا الموضع
صلة، ليس علة معنى " لا " الذي هو خلاف " نعم " .
وقالوا: ولو كان قوله: " وليطوفوا بالبيت العتيق " يراد به تقادم البنيان،
وما تعاوره من كرور الزمان، لم يكن فضله على سائر البلدان، لأن الدنيا لم تخل
من بيت ودار، وسكان وبنيان. وقد مرت الأيام على مصر، وحران، والحيرة، والسوس
الأقصى، وأشباه ذلك، فجعل البيت العتيق صفة له، ولو كان ذهب إلى ما يعنون،
كان من قبل أن يعتق وتمر عليه الأزمنة ليس بعتيق. وهذا الاسم قد أطلق له
إطلاقاً، فاسمه البيت العتيق، كما أن اسمه بيت الله.
ومن زعم أن الله تعالى حرمه يوم خلق السموات والأرض، فقولنا هذا مصداق له.
ومن زعم أنه إنما صار حراماً مذ حرمه إبراهيم، كان قد زعم أنه قد كان ولا
يقال له عتيق ولا حرام.
قالوا: ومما يصدق تأويلنا أنه لم يعرف إلا وهو لقاح، ولا أدى أهله إتاوة قط،
ولا وطئته الملوك بالتمليك: أن سابور ذا الأكتاف، وبخت نصر وأبا يكسوم
وغيرهم، قد أرادوه فحال الله تعالى دونه، فتلك عادة فيه، وسنة جارية له.
ولولا أن تبع أتاه حاجاً، على جهة التعظيم والتدين بالطواف، فحجه وطاف به،
وكساه الوصائل، لأخرجه الله منه.
وحجه بعض ملوك غسان ولخم، وهم نصارى، تعظيماً له، ولما جعل الله له في
القلوب.
والعتيق يكون من رق العبودية، كالعبد يعتقه مولاه. ويكون عتيقاً من النار،
كالتائب من الكبائر، وكالرجل يدعو إلى الإيمان فيستجاب له، ويتعلم ناس على
يده، فهم أيضاً عتقاء.
ويكون الرجل عتيقاً من عتق الوجه.
وربما كان عتيقاً كما يقال للفرس عتيق وليس بهجين ولا مقرف. وقد سمي أبو بكر
بن أبي قحافة - رضوان الله عليه - عتيقاً، من طريق عتق الوجه، ومن طريق أنهم
طلبوا المثالب والعيوب التي كانت تكون في الأمهات والآباء فلم يجدوها، قالوا:
ما هذا إلا عتيق.
فصل منه
قد قلنا في الخصال التي بانت بها قريش دون العرب. ونحن ذاكرون - وبالله
التوفيق - الخصال التي بانت بها بنو هاشم دون قريش.
فأول ذلك النبوة، التي هي جماع خصال الخير، وأعلاها وأفضلها، وأجلها وأسناها.
ثم وجدنا فيهم ثلاثة رجال بني أعمام في زمان واحد، كلهم يسمى علياً، وكل واحد
من الثلاثة سيد فقيه، عالم عابد، يصلح للرياسة والإمامة؛ مثل علي بن عبد الله
بن العباس بن عبد المطلب ابن هاشم، وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد
المطلب بن هاشم، وعلي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن
هاشم.
ثم وجدنا ثلاثة رجال بني أعمام، في زمان واحد، كلهم يسمى محمداً، وكلهم سيد
وفقيه عابد، يصلح للرياسة والإمامة، مثل محمد بن علي بن عبد الله بن العباس
بن عبد المطلب بن هاشم، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد
المطلب بن هاشم، ومثل محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن
هاشم.
وهذا من أغرب ما يتهيأ في العالم، ويتفق في الأزمنة، وهذه لا يشركهم فيها
أحد، ولا يستطيع أن يدعي مثلها أحد.
ولبني هاشم واحدة مبرزة، وثانية نادرة، يتقدمون بها على جميع الناس. وذلك أنا
لا نعرف في جميع مملكة العرب، وفي جميع مملكة العجم، وفي جميع الأقاليم
السبعة، ملكاً واحداً ملكه من نصاب واحد، وفي مغرس رسالة، إلا من بني هاشم،
فإن ملكهم العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعم
وارث، والعم أب. ولا نعلم أمة تدعي مثل هذا لملكها.
وهذا شيء سمعته من أبي عبيدة، ومنه استمليت هذا المعنى.
ولبني هاشم - مذ ملكوا هذه الدفعة - دون أيام علي بن أبي طالب والحسين بن علي
إلى يومنا هذا مائة وست عشرة سنة. كان أول بركتهم أن الله تعالى رفع الطواعين
والموتان الجارف، فإنهم كانوا يحصدون حصداً بعد حصد.
ثم الذي تهيأ واتفق، وخص به آل أبي طالب من الغرائب والعجائب والفضائل، ما لم
نجده في أحد سواهم: وذلك أن أول هاشمي هاشمي الأبوين كان في الدنيا ولد لأبي
طالب، لأن أباهم عبد مناف. وهو أبو طالب بن شيبة وهو عبد المطلب بن هاشم وهو
عمرو وهو أبو شيبة. وشيبة هو عبد المطلب. وهو أبو الحارث وسيد الوادي غير
مدافع، بن عمرو، وهو هاشم بن المغيرة، وهو عبد مناف.
ثم الذي تهيأ لبني أبي طالب الأربعة: أن أربعة إخوة كان بين كل واحد منهم
وبين أخيه في الميلاد عشر سنين سواء، وهذا عجب.
ومن الغرائب التي خصوا بها، أعني ولد أبي طالب، أنا لا نعلم الإذكار في بلد
من البلدان، وفي جيل من الأجيال، إلا أهل خراسان فمن دونهم، فإن الإذكار فيهم
فاش؛ كما أنك لا تجد من وراء بلاد مصر إلا مئناثاً، ثم لا ترى فيهن مفذاً بل
لا ترى إلا التؤام ومن البنات.
فتهيأ في آل أبي طالب أحصوا منذ أعوام وحصلوا، فكانوا قريباً من ألفين
وثلثمائة، ثم لا يزيد عدد نسائهم على رجالهم إلا دون العشر. وهذا عجب.
وإن كنت تريد أن تتعرف فضل البنات على البنين، وفضل إناث الحيوانات على
ذكورها، فابدأ فخذ أربعين ذراعاً عن يمينك، وأربعين ذراعاً عن يسارك، وأربعين
خلفك، وأربعين أمامك، ثم عد الرجال والنساء حتى تعرف ما قلنا، فتعلم أن الله
تعالى لم يحلل للرجل الواحد من النساء أربعاً ثم أربعاً، متى وقع بهن موت أو
طلاق، ثم كذلك للواحد ما بين الواحدة من الإماء إلى ما يشاء من العدد،
مجموعات ومتفرقات، لئلا يبقين إلا ذوات أزواج.
ثم انظر في شأن ذوات البيض وذوات الأولاد فإنك سترى في دار خمسين دجاجة
وديكاً واحداً، ومن الإبل الهجمة وفحلاً واحداً، ومن الحمير العانة وعيراً
واحداً. فلما حصلوا كل مئناث وكل مذكار، فوجدوا آل أبي طالب قد برعوا على
الناس وفضلوهم، عرف الناس موضع الفضيلة له والخصوصية.
وفي ولد أبي طالب - أيضاً - أعجوبة أخرى؛ وذلك أنه لم يوجد قط في أطفالهم طفل
يحبو، بل يزحف زحفاً لئلا ينكشف منه عن شيء يسوءه، ليكون أوفر لبهائه، وأدل
على ما خصوا به.
ولهم من الأعاجيب خصلة أخرى: وذلك أن عبيد الله بن زياد قتل الحسين في يوم
عاشوراء، وقتله الله يوم عاشوراء في السنة الأخرى.
وقالوا: لا نعلم موضع رجل من شجعان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان
له من عدد القتلى ما كان لعلي رضوان الله عليه، ولا كان لأحد مع ذلك من قتل
الرؤساء والسادة، والمتبوعين والقادة، ما كان لعلي بن أبي طالب. وقتل رئيس
واحد، وإن كان دون بعض الفرسان في الشدة، أشد؛ فإن قتل الرئيس أرد على
المسلمين وأقوى لهم من قتل الفارس الذي هو أشد من ذلك السيد.
وأيضاً أنه قد جمع بين قتل الرؤساء وبين قتل الشجعان.
وله أعجوبة أخرى؛ وذلك أنه مع كثرة ما قتل وما بارز، وما مشى بالسيف إلى
السيف، لم يجرح قط ولا جرح إنساناً إلا قتله، ولا نعلم في الأرض متى ذكر
السبق في الإسلام والتقدم فيه، ومتى ذكر الفقه في الدين، ومتى ذكر الزهد في
الأموال التي تشاجر الناس عليها، ومتى ذكر الإعطاء في الماعون، كان مذكوراً
في هذه الحالات كلها إلا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
قالوا: وكان الحسن يقول: قد يكون الرجل عالماً وليس بعابد، وعابداً وليس
بعالم، وعابداً وليس بعاقل، وعاقلاً وليس بعابد. وسليمان بن يسار عالم عاقل
عابد، فانظر أين يقع خصال سليمان من خصال علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولم يكن قصدنا في أول هذا الكتاب إلى ذكر هاشم، وقد كان قصدنا الإخبار عن مكة
بما قد كتبناه في صدر هذا الكتاب، ولكن ذكر خصال مكة جر ذكر خصال قريش، وذكر
خصال قريش جر ذكر خصال بني هاشم.
فإن أحببت أن تعرف جملة القول في خصال بني هاشم فانظر في كتابي هذا الذي فرقت
فيه بين خصال بني عبد مناف وبين بني مخزوم، وفرقت ما بين عبد شمس؛ فإنه هناك
أوفر وأجمع، إن شاء الله تعالى.
فصل منه
قالوا: وقد تعجب الناس من ثبات قريش، وجزالة عطاياهم، واحتمالهم المؤن الغلاظ
في دوام كسبهم من التجارة، وقد علموا أن البخل والبصر في الطفيف مقرون في
التجارة؛ وذلك خلق من أخلاقهم. وعلى ذلك شاهد أهل الترقيح والتكسب والتدنيق.
فكان في ثبات جودهم العالي على جود الأجواد، وهم قوم لا كسب لهم إلا من
التجارة، عجب من العجب.
ثم جاء ما هو أعجب من هذا وأطم، وذلك أنا قد علمنا أن الروم قبل التدين
بالنصرانية، كانت تنتصف من ملوك فارس، وكانت الحروب بينهم سجالاً، فلما صارت
لا تدين بالقتل والقتال، والقود والقصاص، اعتراهم مثل ما يعتري الجبناء حتى
صاروا يتكلفون القتال تكلفا. ولما خامرت طبائعهم تلك الديانة، وسرت في لحومهم
ودمائهم فصارت تلك الديانة تعترض عليهم، خرجوا من حدود الغالبية إلى أن صاروا
مغلوبين.
وإلى مثل ذلك صارت حال التغزغز من الترك. بعد أن كانوا أنجادهم وحماتهم،
وكانوا يتقدمون الخرلخية، وإن كانوا في العدد أضعافهم، فلما دانوا بالزندقة -
ودين الزندقة في الكف والسلم أسوأ من دين النصارى - نقصت تلك الشجاعة، وذهبت
تلك الشهامة.
وقريش من بين جميع العرب دانوا بالتحمس، وتشددوا في الدين، فتركوا الغزو
كراهة للسبي واستحلال الأموال واستحسان الغصب؛ فلما تركوا الغزو لم تبق مكسبة
سوى التجارة، فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم، وإلى النجاشي بالحبشة، وإلى
المقوقس بمصر، وصاروا بأجمعهم تجاراً خلطاء، وبانوا بالديانة والتحمس، فحمسوا
بني عامر بن صعصعة، وحمسوا الحارث بن كعب، فكانوا - وإن كانوا حمساً - لا
يتركون الغزو والسبي ووطء النساء، وأخذ الأموال، فكانت نجدتهم - وإن كان أنقص
- فإنها على حال النجدة، ولهم في ذلك بقية.
وتركت قريش الغزو بتة، فكانوا - مع طول ترك الغزو - إذا غزوا كالأسود على
براثنها، مع الرأي الأصيل، والبصيرة النافذة.
أفليس من العجب أن تبقى نجدتهم، وتثبت بسالتهم، ثم يعلون الأنجاد والأجواد،
ويفرعون الشجعان؟ ! وهاتان الأعجوبتان بينتان.
وقد علم أن سبب استفاضة النجدة في جميع أصناف الخوارج وتقدمهم في ذلك، إنما
هو بسبب الديانة، لأنا نجد عبيدهم ومواليهم ونساءهم، يقاتلون مثل قتالهم،
ونجد السجستاني وهو عجمي، ونجد اليمامي والبحراني والخوزي وهم غير عرب، ونجد
إباضية عمان وهي بلاد عرب، وإباضية تاهرت وهي بلاد عجم، كلهم في القتال
والنجدة، وثبات العزيمة، والشدة في البأس سواء. فاستوت حالاتهم في النجدة مع
اختلاف أنسابهم ويلدانهم. أفما في هذا دليل على أن الذي سوى بينهم التدين
بالقتال، وضروب كثيرة من هذا الفن؟ ! وذلك كله مصور في كتبي، والحمد لله.
وقد تجدون عموم السخف والجهل والكذب في المواعيد، والغش في الصناعة، في
الحاكة، فدل استواء حالاتهم في ذلك على استواء عللهم. ليست هناك علة إلا
الصناعة؛ لأن الحاكة في كل بلد شيء واحد. وكذلك النخاس وصاحب الخلقان، وبياع
السمك. وكذلك الملاحون وأصحاب السماد، أولهم كآخرهم، وكهولهم كشبانهم، ولكن
قل في استواء الحجامين في حب النبيذ.
فصل منه في ذكر المدينة
وأمر المدينة عجب، وفي تربها وترابها وهوائها، دليل وشاهد وبرهان على قول
النبي صلى الله عليه وسلم: " إنها طيبة تنفي خبثها وتنصع طيبها " لأن من
دخلها أو أقام فيها، كائنا من كان من الناس، فإنه يجد من تربتها وحيطانها
رائحة طيبة، ليس لها اسم في الأرابيح، وبذلك السبب طاب طيبها والمعجونات من
الطيب فيها. وكذلك العود وجميع البخور، يضاعف طيبها في تلك البلدة على كل بلد
استعمل ذلك الطيب بعينه فيها.
وكذلك صياحها والبلح والأترج والسفرجل، أعني المجعول منها سخباً للصبيان
والنساء.
فإن ذكروا طيب سابور بطيب أرياح الرياحين، وذلك من ريح رياحينها وبساتينها
وأنوارها، ولذلك يقوى في زمان، ويضعف في زمان.
ونحن قد ندخل دجلة في نهر الأبلة بالأسحار، فنجد من تلك الحدائق، ونحن في وسط
النهر، مثل ما يجد أهل سابور من تلك الرائحة.
وطيبة التي يسمونها المدينة، هذا الطيب خلقة فيها، وجوهرية منها، وموجود في
جميع أحوالها. وإن الطيب والمعجونات لتحمل إليها فتزداد فيها طيباً، وهو ضد
قصبة الأهواز وأنطاكية، فإن الغوالي تستحيل الاستحالة الشديدة.
ولسنا نشك أن ناساً ينتابون المواضع التي يباع فيها النوى المنقع، فيستنشقون
تلك الرائحة، يعجبون بها ويلتمسونها، بقدر فرارنا نحن من مواقع النوى عندنا
بالعراق، ولو كان من النوى المعجوم ومن نوى الأفواه.
ونحن لا نشك أن الرجل الذي يأكل بالعراق أربع جرادق في مقعد واحد من الميساني
والموصلي، أنه لا يأكل من أقراص المدينة قرصين؛ ولو كان ذلك لغلظ فيه أو
لفساد كان في حبه وطحينه لظهر ذلك في التخم وسوء الاستمراء، ولتولد على طول
الأيام من ذلك أوجاع وفساد كثير.
ولم يكن بها طاعون قط ولا جذام.
وليس لبلدة من البلدان من الشهرة في الفقه ما لهم ولرجالهم، وذكر عبد الملك
بن مروان روح بني زنباع فمدحه فقال: " جمع أبو زرعة فقه الحجاز، ودهاء
العراق، وطاعة أهل الشام " .
فصل منه في ذكر مصر
قال أبو الخطاب: لم يذكر الله جل وعز شيئاً من البلدان باسمه في القرآن كما
ذكر مصر، حيث يقول: " وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه " . وقال:
" فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين "
وقال: " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم
قبلة " وقال تعالى: " اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم " وقال في آية: " أليس
لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي " .
وذكر مصر في القرآن بالكناية عن خاصة اسمها، فمن ذلك: " وقال نسوة في المدينة
امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه " قالوا: هي مدينة منف، وهو موضع منزل
فرعون.
وأخبرني شيخ من آل أبي طالب من ولد علي صحيح الخبر: منف دار فاعون، ودرت في
مجالسه ومثاويه وغرفه وصفافه، فإذا كله حجر واحد منقور؛ فإن كانوا هندموه
وأحكموا بناءه حتى صار في الملاسة واحداً لا يستبان فيه مجمع حجرين، ولا
ملتقى صخرتين فهذا عجب. ولئن كان جبلاً واحداً، ودكاً واحداً، فنقرته الرجال
بالمناقير حتى خرقت فيه تلك المخاريق، إن هذا لأعجب.
وفي القرآن: " فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير
الحاكمين " .
قال: والأرض ها هنا مصر. وفي هذا الموضع كلام حسن، ولكنا ندعه مخافة أن نخرج
إلى غير الباب الذي ألفنا له هذا الكتاب.
قالوا: وسمى الله تعالى ملك مصر " العزيز " ، وهو صاحب يوسف، وسمي صاحب موسى
فرعون.
قالوا: وكان أصل عتو فرعون ملكه العظيم، ومملكته التي لا تشبهها مملكة.
قالوا: ومنهم مؤمن آل فرعون، وهي آسية بنت مزاحم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سيدة نساء العالم خديجة بنت خويلد، وفاطمة
بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم " .
قال: ولما هم فرعون بقتل موسى قالت آسية: لا تقتله عسى أن ينفعنا أو نتخذه
ولداً. وقالت: وكيف تقتله، ووالله ما يعرف الجمرة من التمرة.
ومنهم السحرة الذين كانوا قد أبروا على أهل الأرض، فلما أبصروا بالأعلام،
وأيقنوا بالبرهان، استبصروا وتابوا توبة ما تابها ماعز بن مالك، ولا أحد من
العالمين، حتى قالوا لفرعون: " اقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا،
إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر " .
وجاء في الحديث: " من أخرب خزائن الله فعليه لعنة الله " . قالوا: خزائن الله
هي مصر، أما سمعتم قول يوسف: " اجعلني على خزائن الأرض " ؟ وقال عبد الله بن
عمرو: " البركة عشر بركات: تسع بمصر والواحدة في جميع الأرض " .
فصل منه
وقال أهل العراق: سألنا بطريق خرشنة عن خراج الروم، فذكر مقداراً من المال،
وقال: هو كذا وكذا قنطاراً. فنظر بعض الوزراء فإذا خراج مصر وحده يضعف على
خراج بلاد الروم إذا جمعت أبواب المال من البلاد جميعاً.
وزعم أبو الخطاب أن أرض مصر جبيت أربعة آلاف ألف دينار.
فصل منه
ولا أعلم الفرقة في المغرب إلا أكثر من الفرقة في المشرق، إلا أن أهل المغرب
إذا خرجوا لم يزيدوا على البدعة والضلالة، والخارجي في المشرق لا يرضى بذلك
حتى يجوزه إلى الكفر، مثل المقنع وشيبان والإصبهبذ وبابك، وهذا الضرب.
فصل منه
وقد علمنا أن لجماعة بني هاشم طابعاً في وجوههم يستبين به كرم العتق وكرم
النجار، وليس ذلك لغيرهم.
ولقد كادت الأهواز تفسد هذا المعنى على هاشمية الأهواز، ولولا أن الله غالب
على أمره لقد كادت طمست على ذلك العتق ومحته. فتربتها خلاف تربة الرسول صلى
الله عليه وسلم: وذلك أن كل من تخرق طرق المدينة وجد رائحة طيبة ليست من
الأراييح المعروفة الأسماء.
فصل منه
قال زياد: الكوفة جارية جميلة لا مال لها، فهي تخطب لجمالها. والبصرة عجوز
شوهاء ذات مال فهي تخطب لمالها.
فصل منه
والفرات خير من ماء النيل. وإما دجلة فإن ماءها يقطع شهوة الرجال. ويذهب
بصهيل الخيل، ولا يذهب بصهيلها إلا مع ذهاب نشاطها، ونقصان قواها؛ وإن لم
يتنسم النازلون عليها أصابهم قحول في عظامهم، ويبس في جلودهم.
وجميع العرب النازلين على شاطئ دجلة من بغداد إلى بلد لا يرعون الخيل في
الصيف على أواريها على شاطئ دجلة، ولا يسقونها من مائها، لما يخاف عليها من
الصدام، وغير ذلك من الآفات.
وأصحاب الخيل من العتاق والبراذين إنما يسقونها بسر من رأى، مما احتفروها من
كارباتهم ولا يسقونها من ماء دجلة؛ وذلك أن ماء دجلة مختلط، وليس هو ماءً
واحداً، ينصب فيها من الزابين والنهروانات وماء الفرات، وغير ذلك من المياه.
واختلاف الطعام إذا دخل جوف الإنسان من ألوان الطبيخ والإدام غير ضار، وإن
دخل جوف الإنسان من شراب مختلف كنحو الخمر والسكر ونبيذ التمر والداذي كان
ضاراً. وكذلك الماء، لأنه متى أراد أن يتجرع جرعاً من الماء الحار لصدره أو
لغير ذلك، فإن أعجله أمر فبرده بماء بارد ثم حساه ضره ذلك، وإن تركه حتى يفتر
ببرد الهواء لم يضره. وسبيل المشروب غير سبيل المأكول .
فإن كان هذا فضيلة مائنا على ماء دجلة فما ظنك بفضله على ماء البصرة، وهو ماء
مختلط من ماء البحر ومن الماء المستنقع في أصول القصب والبردي؟ قال الله
تعالى: " هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج " .
والفرات أعذبها عذوبة، وإنما اشتق الفرات لكل ماء عذب، من فرات الكوفة.
فصل منه في ذكر البصرة
كان يقال: الدنيا البصرة.
وقال الأحنف لأهل الكوفة: " نحن أعذى منكم برية، وأكثر منكم بحرية، وأبعد
منكم سرية، وأكثر منكم ذرية " .
وقال الخليل بن أحمد في وصف القصر المذكور بالبصرة:
زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لا بد من زورة عن غير ميعاد
ترقى بها السفن والظلمان واقفة ... والضب والنون والملاح والحادي
ومن أتى هذا القصر وأتى قصر أنس رأى أرضاً كالكافور، وتربة ثرية، ورأى ضباً
يحترش، وعزالاً يقتنص، وسمكاً يصاد، ما بين صاحب شص وصاحب شبكة، ويسمع غناء
ملاح على سكانه، وحداء جمال على بعيره.
قالوا: وفي أعلى جبانة البصرة موضع يقال له الحزيز يذكر الناس أنهم لم يروا
قط هواءً أعدل، ولا نسيماً أرق، ولا ماء أطيب منها في ذلك الموضع.
وقال جعفر بن سليمان: " العراق عين الدنيا، والبصرة عين العراق، والمربد عين
البصرة، وداري عين المربد " .
وقال أبو الحسن وأبو عبيدة: " بصرت البصرة سنة أربع عشرة، وكوفت الكوفة سنة
سبع عشرة "
فصل منه
زعم أهل الكوفة أن البصرة أسرع الأرض خراباً، وأخبثها تراباً، وأبعدها من
السماء وأسرعها غرقاً، ومفيض مائها البحر، ثم يخرج ذلك إلى البحر الأعظم.
وكيف تغرق، وهم لا يستطيعون أن يوصلوا ماء الفيض إلى حياضهم إلا بعد أن يرتفع
ذلك الماء في الهواء ثلاثين ذراعاً، في كل سقاية بعينها، لا لحوض بعينه.
وهذه أرض بغداد في كل زيادة ماء ينبع الماء في أجواف قصورهم الشارعة بعد
إحكام المسنيات التي لا يقوى عليها إلا الملوك، ثم يهدمون الدار التي على
دجلة فيكسون بها تلك السكك، ويتوقعون الغرق في كل ساعة.
قال: وهم يعيبون ماء البصرة، وماء البصرة رقيق قد ذهب عنه الطين والرمل
المشوب بماء بغداد والكوفة، لطول مقامه بالبطيحة، وقد لان وصفا ورق.
وإن قلتم: إن الماء الجاري أمرأ من الساكن، فكيف يكون ساكناً مع تلك الأمواج
العظام والرياح العواصف، والماء المنقلب من العلو إلى السفل؟ ومع هذا إنه إذا
سار من مخرجه إلى ناحية المذار ونهر أبي الأسد وسائر الأنهار، وإذا بعد من
مدخله إلى البصرة من الشق القصير، جرى منقضاً إلى الصخور والحجارة، فراسخ
وفراسخ، حتى ينتهي إلينا.
ويدل على صلاح مائهم كثرة دورهم، وطول أعمارهم، وحسن عقولهم، ورفق أكفهم،
وحذقهم لجميع الصناعات، وتقدمهم في ذلك لجميع الناس.
ويستدل على كرم طينهم ببياض كيزانهم وعذوبة الماء البائت في قلالهم، وفي لون
آجرهم، كأنما سبك من مح بيض. وإذا رأيت بناءهم وبياض الجص الأبيض بين الآجر
الأصفر لم تجد لذلك شبهاً أقرب من الفضة بين تضاعيف الذهب.
فإذا كان زمان غلبة ماء البحر فإن مستقاهم من العذب الزلال الصافي، النمير في
الأبدان، على أقل من فرسخ، وربما كان أقل من ميل.
ونهر الكوفة الذي يسمونه إنما هو شعبة من أنهار الفرات، وربما جف حتى لا يكون
لهم مستقىً إلا على رأس فرسخ، وأكثر من ذلك، حتى يحفروا الآبار في بطون
نهرهم، وحتى يضر ذلك بخضرهم وأشجارهم. فلينظروا أيما أضر وأيما أعيب.
وليس نهر من الأنهار التي تصب في دجلة إلا هو أعظم وأكبر وأعرض من موضع الجسر
من نهر الكوفة، وإنما جسره سبع سفائن، لا تمر عليه دابة لأنها جذوع مقيدة بلا
طين، وما يمشي عليها الماشي إلا بالجهد؛ فما ظنك بالحوافر والخفاف والأظلاف؟
! وعامة الكوفة خراب يباب، ومن بات فيها علم أنه في قرية من القرى ورستاق من
الرساتيق، بما يسمع من صياح بنات آوى، وضباح الثعالب، وأصوات السباع. وإنما
الفرات دمما إلى ما اتصل به إلى بلاد الرقة، وفوق ذلك.
فإما نهرهم فالنيل أكبر منه، وأكثر ماءً، وأدوم جرية.
وقد تعلمون كثرة عدد أنهار البصرة، وغلبة الماء، وتطفح الأنهار.
وتبقى النخلة عشرين ومائة سنة وكأنها قدح. وليس يرى من قرب القرية التي يقال
لها النيل إلى أقصى أنهار الكوفة نخلة طالت شيئاً إلا وهي معوجة كالمنجل. ثم
لم نر غارس نخل قط في أطراف الأرض يرغب في فسيل كوفي، لعلمه بخبث مغرسه، وسوء
نشوه، وفساد تربته، ولؤم طبعه.
وليس لليالي شهر رمضان في مسجدهم غضارة ولا بهاء، وليس منار مساجدهم على صور
منار البصرة، ولكن على صور منار الملكانية واليعقوبية.
ورأينا بها مسجداً خراباً تأويه الكلاب والسباع، وهو يضاف إلى علي بن أبي
طالب، رضوان الله عليه.
ولو كان بالبصرة بيت دخله علي بن أبي طالب ماراً لتمسحوا به وعمروه بأنفسهم
وأموالهم.
وخبرني من بات أنه لم ير كواكبها زاهرة قط، وأنه لم يرها إلا ودونها هبوة،
وكأن في مائهم مزاج دهن. وأسواقهم تشهد على أهلها بالفقر. وهم أشد بغضاً لأهل
البصرة من أهل البصرة لهم؛ وأهل البصرة هم أحسن جواراً، وأقل بذخاً، وأقل
فخراً.
ثم العجب من أهل بغداد وميلهم معهم، وعيبهم إيانا في استعمال السماد في أرضنا
ولنخلنا، ونحن نراهم يسمدون بقولهم بالعذرة اليابسة صرفاً، فإذا طلع وصار له
ورق ذروا عليه من تلك العذرة اليابسة حتى يسكن في خلال ذلك الورق.
ويريد أحدهم أن يبني داراً فيجيء إلى مزبلة، فيضرب منها لبناً، فإن كانت داره
مطمئنة ذات قعر حشا من تلك المزبلة التي لو وجدها أصحاب السماد عندنا لباعوها
بالأموال النفيسة.
ثم يسجرون تنانيرهم بالكساحات التي فيها من كل شيء، وبالأبعار والأخثاء،
وكذلك مواقد الكيران.
وتمتلىء ركايا دورهم عذرة فلا يصيبون لها مكاناً، فيحفرون لذلك في بيوتهم
آباراً، حتى ربما حفر أحدهم في مجلسه، وفي أنبل موضع من داره. فليس ينبغي لمن
كان كذلك أن يعيب البصريين بالتسميد.
فصل منه
وليس في الأرض بلدة أرفق بأهلها من بلدة لا يعز بها النقد، وكل مبيع بها
يمكن.
فالشامات وأشباهها الدينار والدرهم بها عزيزان، والأشياء بها رخيصة لبعد
المنقل، وقلة عدد من يبتاع. ففي ما يخرج من أرضهم أبداً فضل عن حاجاتهم.
والأهواز، وبغداد، والعسكر، يكثر فيها الدراهم ويعز فيها المبيع لكثرة عدد
الناس وعدد الدراهم.
وبالبصرة الأثمان ممكنة والمثمنات ممكنة، وكذلك الصناعات، وأجور أصحاب
الصناعات. وما ظنك ببلدة يدخلها في البادي من أيام الصرام إلى بعد ذلك بأشهر،
ما بين ألفي سفينة تمر أو أكثر في كل يوم، لا يبيت فيها سفينة واحدة، فإن
باتت فإنما صاحبها هو الذي يبيتها، لأنه لو كان حط في كل ألف رطل قيراطاً
لانتسفت انتسافا.
ولو أن رجلاً ابتنى داراً يتممها ويكملها ببغداد، أو بالكوفة، أو بالأهواز،
وفي موضع من هذه المواضع، فبلغت نفقتها مائة ألف درهم، فإن البصري إذا بنى
مثلها بالبصرة لم ينفق خمسين ألفاً؛ لأن الدار إنما يتم بناؤها بالطين
واللبن، وبالآجر والجص، والأجذاع والساج والخشب، والحديد والصناع، وكل هذا
يمكن بالبصرة على الشطر مما يمكن في غيرها. وهذا معروف.
ولم نر بلدة قط تكون أسعارها ممكنة مع كثرة الجماجم بها إلا البصرة: طعامهم
أجود الطعام، وسعرهم أرخص الأسعار، وتمرهم أكثر التمور، وريع دبسهم أكثر،
وعلى طول الزمان أصبر، يبقى تمرهم الشهريز عشرين سنة، ثم بعد ذلك يخلط بغيره
فيجيء له الدبس الكثير، والعذب الحلو، والخاثر القوي.
ومن يطمع من جميع أهل النخل أن يبيع فسيلة بسبعين ديناراً، أو بحونة بمائة
دينار، أو جريباً بألف دينار غير أهل البصرة؟
فصل منه
ولأهل البصرة المد والجزر على حساب منازل القمر لا يغادران من ذلك شيئاً.
يأتيهم الماء حتى يقف على أبوابهم؛ فإن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا حجبوه.
ومن العجب لقوم يعيبون البصرة لقرب البحر والبطيحة؛ ولو اجتهد أعلم الناس
وأنطق الناس أن يجمع في كتاب واحد منافع هذه البطيحة، وهذه الأجمة، لما قدر
عليها.
قال زياد: قصبة خير من نخلة.
وبحق أقول: لقد جهدت جهدي أن أجمع منافع القصب ومرافقه وأجناسه، وجميع تصرفه
وما يجيء منه، فما قدرت عليه حتى قطعته وأنا معترف بالعجز، مستسلم له.
فأما بحرنا هذا فقد طم على كل بحر وأوفى عليه؛ لأن كل بحر في الأرض لم يجعل
الله فيه من الخيرات شيئاً، إلا بحرنا هذا، الموصول ببحر الهند إلى ما لا
تذكر.
وأنت تسمع بملوحة ماء البحر، وتستسقطه وتزري عليه. والبحر هو الذي يخلق الله
تعالى منه الدر الذي بيعت الواحدة منه بخمسين ألف دينار؛ ويخلق في جوفه
العنبر، وقد تعرفون قدر العنبر. فشيء يولد هذين الجوهرين كيف يحقر؟ ولو أنا
أخذنا خصال هذه الأجمة وما عظمنا من شأنها، فقذفنا بها في زاوية من زوايا
بحرنا هذا لضلت حتى لا نجد لها حسا، وهما لنا خالصان دونكم، وليس يصل إليكم
منهما شيء إلا بسببنا وتعدينا فضل غنا.
وقال بعض خطبائنا: نحن أكرم بلاداً، وأوسع سواداً، وأكثر ساجاً وعاجاً
وديباجاً، وأكثر خراجاً.
لأن خراج العراق مائة ألف ألف واثنا عشر ألف ألف، وخراج البصرة من ذلك ستون
ألف ألف، وخراج الكوفة خمسون ألف ألف.
فصل منه في ذكر الحيرة
ورأيت الحيرة البيضاء وما جعلها الله بيضاء، وما رأيت فيها داراً يذكر إلا
دار عون النصراني العباداني.
ورأيت التربة التي بينها وبين قصبة الكوفة، ورأيت لون الأرض فإذا هو أكهب
كثير الحصى، خشن المس.
والحيرة أرض باردة في الشتاء، وفي الصيف ينزعون ستور بيوتهم مخافة إحراق
السمائم لها.
في البلاغة والإيجاز
قال عمرو بن بحر الجاحظ: درجت الأرض من العرب والعجم على إيثار الإيجاز، وحمد
الاختصار، وذم الإكثار والتطويل والتكرار، وكل ما فضل عن المقدار.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويل الصمت، دائم السكت يتكلم بجوامع
الكلم، لا فضل ولا تقصير، وكان يبغض الثرثارين المتشدقين.
وكان يقال: أفصح الناس أسهلهم لفظاً، وأحسنهم بديهة.
والبلاغة إصابة المعنى والقصد إلى الحجة مع الإيجاز، ومعرفة الفصل من الوصل.
وقيل: العاقل من خزن لسانه، ووزن كلامه، وخاف الندامة.
وحسن البيان محمود، وحسن الصمت حكم.
وربما كان الإيجاز محموداً، والإكثار مذموماً. وربما رأيت الإكثار أحمد من
الإيجاز. ولكل مذهب ووجه عند العاقل. ولكل مكان مقال، ولكل كلام جواب. مع أن
الإيجاز أسهل مراما وأيسر مطلباً من الإطناب، ومن قدر على الكثير كان على
القليل أقدر.
والتقليل للتخفيف، والتطويل للتعريف، والتكرار للتوكيد، والإكثار للتشديد.
فصل منه
وأما المذموم من المقال، فما دعا إلى الملال، وجاوز المقدار، واشتمل على
الإكثار، وخرج من مجرى العادة.
وكل شيء أفرط في طبعه، وتجاوز مقدار وسعه، عاد إلى ضد طباعه، فتحول البارد
حاراً، ويصير النافع ضاراً، كالصندل البارد إن أفرط في حكه عاد حاراً مؤذياً،
وكالثلج يطفىء قليله الحرارة، وكثيره يحركها.
وكذلك القرد لما فرط قبحه، وتناهت سماجته استملح واستظرف.
وإلى هذا ذهب من عد الإكثار عياً، والإيجاز بلاغة.
في
تفضيل البطن على الظهر
عصمنا الله وإياك من الشبهة، وأعاذنا وإياك من زيغ الهوى، وفضلات المنى، ووهب
لنا ولك تأديباً مؤدياً إلى الزيادة في إحسانه، وتوفيقاً موجباً لرحمته
ورضوانه.
وقد كان كتابك يا ابن أخي - وفقك الله - ورد علي، تصف فيه فضيلة الظهور وصفاً
يدل على شغفك بها، وحبك إياها، وحنينك إليها وإيثارك لها، وفهمته.
فلم تمنع - أعاذك الله من عدوك - من الإجابة عن كتابك في وقت وروده، إلا
عوارض أشغال مانعة، وحوادث من التصرف والانتقال من مكان إلى مكان عائقة.
ولم آمن أن لو تأخر الجواب عليك أكثر مما تأخر، أن يسبق إلى قلبك أني راض
باختيارك، ومسلم لمذهبك، وموافق لك فيه، مساعد لك عليه، ومنقاد معك فيما
اعتقدت منه، ومجد في طلبه، ومحرض عليه.
فبادرت بكتابي هذا، منبها لك من سنة رقدتك، وداعياً إلى رشدك. فإنك تعلم -
وإن كنت لي في مذهبي مخالفاً، وفي اعتقادي مبايناً - أن اجتماع المتباينين
فيما يقع بصلاحهما أولى في حكم العقل، وطريق المعرفة منه فيما أبادهما، وعاد
بالضرر في اختيارهما عليهما.
وأنا، وإن كنت كشفت لك قناع الخلاف، وأبديت مكنون الضمير بالمضادة، وجاهدتني
بنصرة الرأي والعقيدة في حب الظهور، وتلفيق الفضائل لها، غير مستشعر لليأس من
رجعتك، ولا شاك في لطائف حكمتك، وغوامض فطنتك.
وقد أعلم أن معك - بحمد الله - بصيرة المعتبرين، وتمييز الموفقين وأنك إذا
أنعمت فكراً وبحثاً ونظراً، رجعت إلى أصل قوي الانقياد والموافقة، ولم تتورط
في اللجاج فعل المعجبين، ولم يتداخلك غرة المنتحلين؛ فإنا رأينا قوماً
انتحلوا الحكمة وليسوا من أهلها، بل هم أعلام الدعوى، وحلفاء الجهالة، وأتباع
الخطأ، وشيع الضلالة، وخول النقص، الذين قامت عليهم الحجة بما نحلوه أنفسهم
من اسمها، وسلبوه من فهم عظيم قدرها ومعرفة جليل خطرها، ولم يجلوا الرين عن
قلوبهم والصدأ عن أسماعهم، بالتنقير والبحث والتكشف، ولم ينصبوا في عقولهم
لأنفسهم أصلاً يئلون في اعتقادهم عليه، ويرجعون عند الحيرة في اختلاف آرائهم
إليه. فضلوا، وأصبح الجهل لهم إماماً، والسفهاء لهم قادة وأعلاما.
ونحن نسأل الله بحوله وطوله ومنه، ألا يجعلك من أهل هذه الصفة، وأن يريك الحق
حقاً فتتبعه، والباطل باطلاً فتجتنبه، وأن يعمنا ببركة هذا الدعاء، وجماعة
المسلمين، وأن يأخذ إلى الخير بنواصينا، ويجمع على الهدى قلوبنا، ويؤلف فيه
ذات بيننا، فإنك ما علمت - وأتقلد في ذلك أمانة القول - ممن أحب موافقته
ومخالطته، وأن يكون في فضله مقدماً، وعن كل عضيهة منزها.
وما أعلم حالاً أنا عليها في الرغبة لك فيما أرغب لنفسي فيه، والسرور بتكامل
أحوالك، واستواء مذهبك، وما أزابن به من إرشادك ونصيحتك، وتسديدك وتوفيقك،
إلا وصدق الطوية مني فيها أبلغ من إسهامي في فضل صفتها. والله تعالى المعين
والمؤيد والموفق، والمبدع، وحده لا شريك له. والحمد لله، كما هو أهله، وصلى
الله على محمد وآله وسلم كثيراً.
يا أخي - أرشدك الله - إنك أغرقت في مدح الظهر من الجهة التي كان ينبغي لك أن
تذمها، وقدمتها من الحجة التي ينبغي لك أن تؤخرها. وآثرتها وهي محقوقة بأن
ترفضها.
وما رأينا هلاك الأمم الخالية، من قوم لوط، وثمود وأشياعهم وأتباعهم، وحلول
الخسف والرجفة والآيات المثلات والعذاب الأليم والريح العقيم، والغير والنكير
ووجوب نار السعير، إلا بما دانوا به من اختيار الظهور. قال الله تعالى، في
قصة لوط: " أتأتون الذكران من العالمين. وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم
بل أنتم قوم عادون " .
فذمهم الله - تبارك وتعالى - كما ترى، وبلغ بهم في ذكر ما استعظم من عتوهم
إلى غاية لا تدرك صفتها، ولا يوقف على حدها مع آي كثيرة قد أنزلها فيهم، وقصص
طويلة قد أنبأ بها عنهم، وروايات كثيرة أثرها فيمن كان من طبقتهم.
وسنأتي منها بما يقع به الكفاية دون استفراغ الجميع، مما حملته الرواة، ونقله
الصالحون.
فصل منه
والحق بين لمن التمسه، والمنهج واضح لمن أراد أن يسلكه. وليس في العنود درك
فلج. والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وترك الذنب أيسر من التماس
الحجة، كما كان غض الطرف أهون من الحنين إلى الشهوة. وبالله تعالى التوفيق.
فصل منه
نبدأ الآن بذكر ما خص الله به البطون من الفضائل، ليرجع راجع، وينيب منيب
مفكر، وينتبه راقد، ويبصر متحير، ويستغفر مذنب، ويستقيل مخطىء، وينزع مصر،
ويستقيم عاند، ويتأمل غمر، ويرشد غوي، ويعلم جاهل، ويزداد عالم.
قال الله عز وجل فيما وصف به النحل: " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه
شفاء للناس " .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في خير بطون قريش.
ووجدنا الأغلب في صفة الرجل أن يقال إنه معروف بكذا مذ خرج من بطن أمه، ولا
يقال من ظهر أبيه.
ويقال في صفات النساء: " قب البطون نواعم " . ويقال: خمصانة البطن، ولا يقال:
خمصانة الظهر.
ويقال: فلان بطن بالأمور، ولا يقال: ظهر. ويقال: بطانة الرجل وطهارته، فيبدأ
بالبطانة.
وبطن القرطاس خير من ظهره، وبطن الصحيفة موضع النفع منها لا ظهرها، وببطن
القلم يكتب لا بظهره، وببطن السكين يقطع لا بظهرها.
وخلق الله جل وعز آدم من طين، ونسله من بطن حواء.
ورأينا أكثر المنافع من الأغذية في البطون لا في الظهور؛ فبطون البقر أطيب من
ظهورها، وبطن الشاة كذلك.
ومن أفضل صفات علي رضي الله عنه أن كان أخمص بطينا.
وأسمع من غنائهم:
بطني على بطنك يا جارية ... لا نمطاً نبغي ولا باريه
ولم يقل ظهري على ظهرك، فجعل مماسة البطن غانياً عن الوطاء، كافياً من
الغطاء.
ولو لم يكن في البطن من الفضيلة إلا أن الوجه الحسن، والمنظر الأنيق من حيزه،
وفي الظهر من العيب، إلا أن الدبر في جانبه، لكان فيها أوضح الأدلة على كرم
البطن ولؤم الظهر.
ولم نرهم وصفوا الرجل بالفحولة والشجاعة إلا من تلقائه، وبالخبث والأبنة إلا
من ظهره.
وإذا وصفوا الشجاع قالوا: مر فلان قدماً، وإذا وصفوا الجبان قالوا: ولى
مدبراً.
ولشتان بين الوصفين: بين من يلقى الحرب بوجهه وبين من يلقاه بقفاه، وبين
الناكح والمنكوح، والراكب والمركوب، والفاعل والمفعول، والآتي والمأتي،
والأسفل والأعلى، والزائر والمزور، والقاهر والمقهور.
ولما رأينا الكنوز العادية والذخائر النفيسة، والجواهر الثمينة مثل الدر
الأصفر، والياقوت الأحمر، والزمرد الأخضر، والمسك والعنبر والعقيان واللجين،
والزرنيخ والزئبق، والحديد والبورق، والنفط والقار، وصنوف الأحجار، وجميع
منافع العالم وأدواتهم وآلاتهم، لحربهم وسلمهم، وزرعهم وضرعهم، ومنافعهم
ومرافقهم ومصالحهم، وسائر ما يأكلونه ويشربونه، ويلبسونه ويشمونه، وينتفعون
برائحته وطعمه، ودائع في بطون الأرض، وإنما يستنبط منها استنباطاً، ويستخرج
منها استخراجاً، وأن على ظهرها الهوام القاتلة، والسباع العادية التي في
أصغرها تلف النفوس ودواعي الفناء وعوارض البلاء، وأنه قل ما يمشي على ظهرها
من دابة، إلا وهو للمرء عدو، وللموت رسول، وعلى الهلكة دليل لم يمتنع في
عقولنا، وآرائنا ومعرفتنا من الإقرار بتفضيل البطن على الظهر في كل وقت، وعلى
كل حال.
ومن فضيلة البطن على الظهر أن أحداً إن ابتلي فيه بداء كان مستوراً، وإن شاء
أن يكتمه كتمه عن أهله، ومن لا ينطوي عنه شيء من أمره، وغابر دهره.
ومن بلية الظهر أنه إن كان داء ظهر وبان، مثل الجرب والسلع والخنازير وما
أشبهها، مما سلمت منه البطون وجعل خاصاً في الظهور.
وفضل الله تعالى البطون بأن جعل إتيان النساء، وطلب الولد، والتماس الكثرة
مباحاً من تلقائها، محرماً في المحاش من ورائها، لأنه حرام على الأمة إتيان
النساء في أدبارهن، لما جاء في الحديث عن الصادق صلى الله عليه وسلم: " لا
تأتوا النساء في محاشهن " .
وقد ترى بطانة الثوب تقوم بنفسها، ولا ترى الظهارة تستغني.
وجعل الله تعالى البطن وعاءً لخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، ثم جعل أول
دلائل نبوته أن أهبط إليه ملكاً حين أيفع، وهو يدرج مع غلمان الحي في هوازن،
وهو مسترضع في بني سعد، حين شق عن بطنه، ثم استخرج قلبه فحشي نوراً، ثم ختم
بخاتم النبوة. ولم يكن ذلك من قبل الظهر.
فصل منه
ومما فضلت به البطون: أن لحم السرة من الشاة أطيب اللحم، ولحم السرة من السمك
الموصوف، وسرة حمار الوحش شفاء يتداوى به، ومن سرة الظباء يستخرج المسك. وهذا
كله خاص للبطون ليس للظهور منه شيء.
وبدأ الله عز وجل في ذكر الفواحش بما ظهر منها، ولم يبدأه بما بطن فقال: "
إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " ، فجعله ابتداءً في الذم.
والظهر في أكثر أحواله سمج، والبطن في أكثر أحواله حسن. والظهر في كل الأوقات
وحشة ووحش، والبطن في كل الأوقات سكن وأنس.
ولم نرهم حين بالغوا في صفات النساء بدءوا بذكرها إلا من جهة البطن فقالوا:
مدمجة الخصر، لذيذة العناق، طيبة النكهة، حلوة العينين، ساحرة الطرف، كأن
سرتها مدهن، وكأن فاها خاتم، وكأن ثدييها حقان، وكأن عنقها إبريق فضة. وليس
للظهور في شيء من تلك الصفات حظ.
وأنى نبلغ في صفة البطون، وإن أسهبنا، وكم عسى أن نحصي من معايب الظهور وإن
اجتهدنا وبالغنا. ألا ترى أن حد الزاني ثمانون جلدة ما لم يكن محصناً، وحد
اللوطي أن يحرق. وكلاهما فجور ورجاسة، وإثم ونجاسة. إلا أن أيسر المكروهين
أحق بأن يميل إليه من ابتلي، وخير الشرين أحسن في الوصف من شر الشرين.
ولو أنا رأينا رجلاً في سوق من أسواق المسلمين يقبل امرأة فسألناه عن ذلك،
فقال: امرأتي. وسألوها فقالت: زوجي لدرأنا عنهما الحد، لأن هذا حكم الإسلام.
ولو رأيناه يقبل غلاماً لأدبناه وحبسناه؛ لأن الحكم في هذا غير الحكم في ذاك.
ألا ترى أنه ليس يمتنع في العقول والمعرفة أن يقبل الرجل في حب ما ملكت يمينه
حتى يقبلها في الملا كما يقبلها في الخلا، يصدق ذلك حديث ابن عمر: " وقعت في
يدي جارية يوم جلولاء كأن عنقها إبريق فضة فما صبرت حتى قبلتها والناس ينظرون
" .
فصل منه
وقد رأيت منك أيها الرجل إفراطك في وصف فضيلة الظهور، وفي محل الريبة وقعت،
لأنا روينا عن عمر أنه قال: " من أظهر لنا خيراً ظننا به خيراً، ومن أظهر لنا
شراً ظننا به شراً " .
وإنما يصف فضل الظهر من كان مغرماً بحب الظهور، وإلى ركوبه صباً، وبالنوم
عليه مستهتراً، وبالولوع بطلبه موكلا، ومن كان للحلال مبايناً، ولسبيله
مفارقاً، ولأهله قالياً، وللحرام معاوداً، وبحبله مستمسكا وإلى قربه داعياً،
ولأهله موالياً.
وقد اضطررتنا بتصييرك المفضول فاضلا، والعام خاصاً، والخسيس نفسياً ،
والمحمود مذموماً، والمعروف منكراً، والمؤخر مقدماً، والمقدم مؤخراً، والحلال
حراماً، والحرام حلالا، والبدعة سنة، والسنة بدعة، والحظر إطلاقاً، والإطلاق
حظراً، والحقيقة شبهة والشبهة حقيقة، والشين زيناً والزين شيناً، والزجر
أمراً والأمر زجرأ، والوهم أصلا والأصل وهماً، والعلم جهلاً والجهل فضلاً إلى
أن أدخلنا عليك الظن، وألحقناك التهمة، ونسبناك إلى غير أصلك، ونحلناك غير
عقيدتك، وقضينا عليك بغير مذهبك. و " يداك أوكتا، وفاك نفخ " . فلا يبعد الله
غيرك! أوجدنا أيها الضال المضل، المغلوب على رأيه، المسلوب فهمه، المولى على
تمييزه، الناكص على عقبه في اختياره، المفارق لأصل عقده، المدبر بعد الإقبال
في معرفته، الساقط بعد الهوى في ورطته، المتخلي من فهمه، الغني عن إفهامه،
المضيع لحكمته، المنزوع عقله، المختلس لبه، المستطار جنانه، المعدوم بيانه،
في الظهور بعد الفضائل التي أوجدناكها في البطون، إما قياساُ، وإما اختياراً،
وإما ضرورة، وإما اختباراً وإما اكتساباً، أو في كتاب منزل، أو سنة مأثورة،
أو عادة محمودة، أو صلاح على خير.
أم هل لك في مقالتك من إمام تأتم به، أو أستاذ تقتفى أثره، وتهتدي بهداه،
وتسلك سننه.
فصل منه
وقد حضتني عليك عند انتهائي إلى هذا الموضع رقة، وتداخلتني لك رحمة، ووجدت لك
بقية في نفسي؛ لأنه إنما يرحم أهل البلاء.
والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به، وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلاً.
فرأيت أن أختم بأبسط الدعاء لك كتابي، وأن أحرز به أجري وثوابي، ورجوت أن
تنيب وترجع بعد الجماح واللجاج، فإن للجواد استقلالاً بعد الكبوة،وللشجاع كرة
بعد الكشفة، وللحليم عطفةً بعد النبوة.
وأنا أقول: جعلنا الله وإياك ممن أبصر رشده، وعرف حظه، وآثر الإنصاف
واستعمله، ورفض الهوى وأطرحه؛ فإن الله تعالى لم يبتل بالهوى إلا من أضله،
ولم يبعد إلا من استبعده.
في النبل والتنبل وذم الكبر
قد قرأت كتابك وفهمته، وتتبعت كل ما فيه واستقصيته، فوجدت الذي ترجع إليه بعد
التطويل، وتقف عنده بعد التحصيل، قد سلف القول منا في عيبه، وشاع الخبر عنا
في ذمه، وفي النصب لأهله، والمباينة لأصحابه، وفي التعجب منهم، وإظهار النفي
عنهم.
والجملة أن فرط العجب إذا قارن كثرة الجهل، والتعرض للعيب إذا وافق قلة
الإكتراث، بطلت المزاجر، وماتت الخواطر. ومتى تفاقم الداء، وتفاوت العلاج،
صار الوعيد لغواً مطرحاً، والعقاب حكماً مستعملاً.
وقد أصبح شيخك، وليس يملك من عقابهم إلا التوقيف، ولا من تأديبهم إلا
التعريف.
ولو ملكناهم ملك السلطان، وقهرناهم قهر الولاة، لنهكناهم عقوبة بالضرب،
ولقمعناهم بالحصر.
والكبر - أعزك الله تعالى - باب لا يعد احتماله حلماً، ولا الصبر على أهله
حزماً، ولا ترك عقابهم عفواً، ولا الفضل عليهم مجداً، ولا التغافل عنهم
كرماً، ولا الإمساك عن ذمهم صمتاً.
واعلم أن حمل الغنى أشد من حمل الفقر، واحتمال الفقر أهون من احتمال الذل.
على أن الرضا بالفقر قناعة وعز، واحتمال الذل نذالة وسخف. ولئن كانوا قد
أفرطوا في لوم العشيرة، والتكبر على ذوي الحرمة، لقد أفرطت في سوء الاختيار،
وفي طول مقامك على العار.
وأنت مع شدة عجبك بنفسك، ورضاك عن عقلك، خالطت من موته يضحك السن، وحياته
تورث الحزن، وتشاغلك به من أعظم الغبن.
وشكوت تنبلهم عليك، واستصغارهم لك، وأنك أكثر منهم في المحصول، وفي حقائق
المعقول. ولو كنت كما تقول لما أقمت على الذل ولما تجرعت الصبر وأنت بمندوحة
منهم، وبنجوة عنهم. ولعارضتهم من الكبر بما يهضهم، ومن الامتعاض بما يبهرهم.
وقلت: ولو كانوا من أهل النبل عند الموازنة، أو كان معهم ما يغلط الناس فيه
عند المقايسة لعذرتهم واحتججت عنهم، ولسترت عيبهم، ولرقعت وهيهم. ولكن أمرهم
مكشوف، وظاهرهم معروف.
وإن كان أمرهم كما قلت، وشأنهم كما وصفت، فذاك ألوم لك، وأثبت للحجة عليك.
وسأؤخر عذلك إلى الفراغ منهم، وتوقيفك بعد التنويه بهم.
أقول: وإن كان النبل بالتنبل، واستحقاق العظم بالتعظم وبقلة الندم والاعتذار،
وبالتهاون بالإقرار، فكل من كان أقل حياءً، وأتم قحة، وأشد تصلفاً، وأضعف
عدة، أحق بالنبل وأولى بالعذر.
وليس الذي يوجب لك الرفعة أن تكون عند نفسك دون أن يراك الناس رفيعاً، وتكون
في الحقيقة وضيعاً.
ومتى كنت من أهل النبل لم يضرك التنبل، ومتى لم تكن من أهله لم ينفعك التنبل.
وليس النبل كالرزق، يكون مرزوقاً الحرمان أليق به، ولا يكون نبيلاً السخافة
أشبه به.
وكل شيء من أمر الدنيا قد يحظى به غير أهله، كما يحظى به أهله.
وما ظنك بشيء المروءة خصلة من خصاله، وبعد الهمة خلة من خلاله، وبهاء المنظر
سبب من أسبابه، وجزالة اللفظ شعبة من شعبه، والمقامات الكريمة طريق من طرقه.
فصل منه
واعلم أنك متى لم تأخذ للنبل أهبته، ولم تقم له أداته، وتأته من وجهه، وتقم
بحقه، كنت مع العناء مبغضاً، ومع التكلف مستصلفاً. ومن تبغض فقد استهدف
للشتام، وتصدى للملام.
فإن كان لا يحفل بالشتم، ولا يجزع من الذم، فعده ميتاً إن كان حياً؛ وكلباً
إن كان إنساناً.
وإن كان ممن يكترث ويجزع، ويحس ويألم، فقد خسر الراحة والمحبة، وربح النصب
والمذمة.
وبعد، فالنبل كلف بالمولي عنه، شنف للمقبل عليه، لازق بمن رفضه، شديد النفار
ممن طلبه.
فصل منه
والسيد المطاع لم يسهل عليه الكظم، ولم يكن له كنف الحلم، إلا بعد طول تجرع
للغيظ، ومقاساة للصبر. وقد كان معنى القلب دهره، ومكدود النفس عمره، والحرب
سجال بينه وبين الحلم، ودول بينه وبين الكظم. فلما انقادت له العشيرة، وسمحت
له بالطاعة، ووثق بظهور القدرة خلاف المعجزة سهل عليه الصبر، وغمر بعلوه
دواعي الجزع، بطلت المجاذبة، وذهبت المساجلة.
والذي كان دعاه إلى تكلف الحلم في بدء أمره وإلى احتمال المكروه في أول شأنه،
الأمل في الرياسة، والطمع في السيادة، ثم لم يتم له أمره، ولم يستحكم له عقده
إلا بعد ثلاثة أشياء: الاحتمال، ثم الاعتياد، ثم ظهور طاعة الرجال.
ولولا خوف جميع المظلومين من أن يظن بهم العجز، وألا يوجه احتمالهم إلى الذل
لزاحم السادة في الحلم رجال ليسوا في أنفسهم بدونهم، ولغمرهم بعض من ليس معه
من أسبابهم.
فصل منه
ولا يكون المرء نبيلاً حتى يكون نبيل الرأي، نبيل اللفظ، نبيل العقل، نبيل
الخلق، نبيل المنظر، بعيد المذهب في التنزه، طاهر الثوب من الفحش، إن وافق
ذلك عرقاً صالحاً، ومجداً تالداً.
فالخارجي قد يتنبل بنفسه، والنابتي قد يخرج بطبعه. ولكل عز أول، وأول كل قديم
حادث.
ومن حقوق النبل أن تتواضع لمن هو دونك، وتنصف من هو مثلك، وتتنبل على من هو
فوقك.
فصل منه
وكان بعض الأشراف في زمان الأحنف، لا يحتقر أحداً، ولا يتحرك لزائر، وكان
يقول: " ثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل " فكان الأحنف ما يزداد إلا علواً، وكان
ذلك الرجل لا يزداد إلا تسفلاً.
وقد ذم الله تعالى المتكبرين، ولعن المتجبرين، وأجمعت الأمة على عيبه،
والبراءة منه، وحتى سمي المتكبر تائهاً، كالذي يختبط في التية بلا أمارة،
ويتعسف الأرض بلا علامة.
ولعل قائلاً أن يقول: لو كان اسم المتكبر قبيحاً، ولو كان المتكبر مذموماً،
لما وصف الله تعالى بهما نفسه، ولما نوه بهما في التنزيل حين قال: " الجبار
المتكبر " ، ثم قال: " له الأسماء الحسنى " .
قلنا لهم: إن الإنسان المخلوق المسخر، والضعيف الميسر، لا يليق به إلا
التذلل، ولا يجوز له إلا التواضع.
وكيف يليق الكبر بمن إن جاع صرع، وإن شبع طغى، وما يشبه الكبر بمن يأكل
ويشرب، ويبول وينجو. وكيف يستحق الكبر ويستوجب العظمة من ينقصه النصب، ويفسده
الراحة؟.
فإذا كان الكبر لا يليق بالمخلوق فإنما يليق بالخالق؛ وإنما عاند الله تعالى
بالكبر لتعديه طوره، ولجهله لقدره، وانتحاله ما لا يجوز إلا لربه. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم: " العظمة رداء الله، فمن نازعه رداءه قصمه " .
فصل منه
والنبيل لا يتنبل، كما أن الفصيح لا يتفصح؛ لأن النبيل يكفيه نبله عن التنبل،
والفصيح تغنيه فصاحته عن التفصح. ولم يتزيد أحد قط إلا لنقص يجده في نفسه،
ولا تطاول متطاول إلا لوهن قد أحس به في قوته.
والكبر من جميع الناس قبيح، ومن كل العباد مسخوط، إلا أنه عند الناس من عظماء
الأعراب، وأشباه الأعراب أوجد، وهو لهم أسرع، لجفائهم وبعدهم من الجماعة،
ولقلة مخالطتهم لأهل العفة والرعة، والأدب والصنعة.
فصل منه
ولم نر الكبر يسوغ عندهم ويستحسن إلا في ثلاثة مواضع: من ذلك أن يكون المتكبر
صعباً بدوياً، وذا عرضية وحشياً، ولا يكون حضرياً ولا مدرياً، فيحمل ذلك منه
على جهة الصعوبة ومذهب الجاهلية، وعلى العنجهية والأعرابية.
أو يكون ذلك منه على جهة الانتقام والمعارضة، والمكافأة والمقابلة.
أو على أن لا يكون تكبره إلا على الملوك والجبابرة، والفراعنة وأشباه
الفراعنة.
وصاحبك هذا خارج من هذه الخصال، مجانب لهذه الخلال. إن أصاب صديقاً تعظم
عليه، وإن أتاه ضيف تغافل عنه، وإن أتاه ضعيف من عليه، وإن صادف حليماً اعتمر
به.
وينبغي أن يكون خضوعه لمن فوقه على حسب تكبره على من دونه.
ومن صفة اللئيم أن يظلم الضعيف، ويظلم نفسه للقوي، ويقتل الصريع، ويجهز على
الجريح، ويطلب الهارب، ويهرب من الطالب، ولا يطلب من الطوائل إلا ما لا خطار
فيه ولا يتكبر إلا حيث لا يرجع مضرته عليه، ولا يقفو التقية ولا المروءة، ولا
يعمل على حقيقته.
ومن اختار أن يبغي تبدى، ومن أراد أن يسمع قوله ساء خلقه، إذ كان لا يحفل
ببغض الناس له ووحشة قلوبهم منه، واحتيالهم في مباعدته، وقلة ملابسته.
وليس يأمن اللئيم على إتيان جميع ما اشتمل عليه اسم اللؤم إلا حاسد.
فإذا رأيته يعق أباه، ويحسد أخاه، ويظلم الضعيف، ويستخف بالأديب، فلا تبعده
من الخيانة، إذ كانت الخيانة لؤماً؛ ولا من الكذب، إذ كان الكذب لؤماً؛ ولا
من النميمة، إذ كانت النميمة لؤماً. ولا تأمنه على الكفر فإنه ألأم اللؤم،
وأقبح الغدر.
ومن رأيته منصرفاً عن بعض اللؤم، وتاركاً لبعض القبيح، فإياك أن توجه ذلك منه
على التجنب له، والرغبة عنه، والإيثار لخلافه، ولكن على أنه لا يشتهيه أو لا
يقدر عليه، أو يخاف من مرارة العاقبة أمراً يعفي على حلاوة العاجل؛ لأن اللؤم
كله أصل واحد وإن تفرقت فروعه، وجنس واحد وإن اختلفت صوره، والفعل محمول على
غلبته، تابع لسمته. والشكل ذاهب على شكله، منقطع إلى أصله، صائر إليه وإن
أبطأ عنه، ونازع إليه وإن حيل دونه. وكذلك تناسب الكرم وحنين بعضه لبعض.
ولم تر العيون، ولا سمعت الآذان، ولا توهمت العقول عملاً اجتباه ذو عقل، أو
اختاره ذو علم، بأوبأ مغبة، ولا أنكد عاقبة، ولا أوخم مرعىً، ولا أبعد مهوىً،
ولا أضر على دين، ولا أفسد لعرض، ولا أوجب لسخط الله، ولا أدعى إلى مقت
الناس، ولا أبعد من الفلاح، ولا أظهر نفوراً عن التوبة، ولا أقل دركاً عند
الحقيقة، ولا أنقض للطبيعة، ولا أمنع من العلم، ولا أشد خلافاً على الحلم، من
التكبر في غير موضعه، والتنبل في غير كنهه.
وما ظنك بشيء العجب شقيقه، والبذخ صديقه، والنفج أليفه، والصلف عقيده.
والبذاخ متزيد، والنفاج كذاب، والمتكبر ظالم، والمعجب صغير النفس. وإذا
اجتمعت هذه الخصال، وانتظمت هذه الخصال في قلب طال خرابه، واستغلق بابه.
وشر العيوب ما كان مضمناً بعيوب، وشر الذنوب ما كان علة للذنوب.
والكبر أول ذنب كان في السماوات والأرض، وأعظم جرم كان من الجن والإنس، وأشهر
تعصب كان في الثقلين، وعنه لج إبليس في الطغيان، وعتا على رب العالمين، وخطأ
ربه في التدبير، وتلقى قوله بالرد. ومن أجله استوجب السخطة، وأخرج من الجنة،
وقيل له: " ما يكون لك أن تتكبر فيها " .
ولإفراطه في التعظيم خرج إلى غاية القسوة، ولشدة قسوته اعتزم على الإصرار،
وتتايع في غاية الإفساد، ودعا إلى كل قبيح، وزين كل شر، وعن معصيته أخرج آدم
من الجنة، وشهر في كل أفق وأمة، ومن أجله نصب العداوة لذريته، وتفرغ من كل
شيء إلا من إهلاك نسله، فعادى من لا يرجوه ولا يخافه، ولا يضاهيه في نسب، ولا
يشاكله في صناعة، وعن ذلك قتل الناس بعضهم بعضاً، وظلم القوي الضعيف، ومن
أجله أهلك الله الأمم بالمسخ والرجف، وبالخسف وبالطوفان، والريح العقيم،
وأدخلهم النار، وأقنطهم من الخروج.
والكبر هو الذي زين لإبليس ترك السجود، ووهمه شرف الأنفة، وصور له عز
الانتقاض، وحبب إليه المخالفة، وآنسه بالوحدة والوحشة، وهون عليه سخط الرب،
وسهل عليه عقاب الأبد، ووعده الظفر، ومناه السلامة، ولقنه الاحتجاج بالباطل،
وزين له قول الزور، وزهده في جوار الملائكة، وجمع له خلال السوء، ونظم له
خلال الشر؛ لأنه حسد والحسد ظلم، وكذب والكذب ذل، وخدع والخديعة لؤم. وحلف
على الزور، وذلك فجور. وخطأ ربه، وتخطئة الله جهل، وأخطأ في جلي القياس وذلك
غي، ولج واللجاج ضعف. وفرق بين التكبر والتبدي. وجمع بين الرغبة عن صنيع
الملائكة وبين الدخول في أعمال السفلة.
واحتج بأن النار خير من الطين. ومنافع العالم نتائج أربعة أركان: نار يابسة
حارة، وماء بارد سيال، وأرض باردة يابسة، وهواء حار رطب. ليس منها شيء مع
مزاوجته لخلافه إلا وهو محي مبق. على أن النار نقمة الله من بين جميع
الأصناف، وهي أسرعهن إتلافاً لما صار فيها. وأمحقهن لما دنا منها.
هذا كله ثمرة الكبر، ونتاج النية. والتكبر شر من القسوة، كما أن القسوة شر
المعاصي. والتواضع خير الرحمة، كما أن الرحمة خير الطاعات.
والكبر معنىً ينتظم به جماع الشر، والتواضع معنىً ينتظم به جماع الخير،
والتواضع عقيب الكبر، والرحمة عقيب القسوة. فإذا كان للطاعة قدر من الثواب
فلتركها وعقيبها، ولما يوازنها ويكايلها، مثل ذلك القدر من العقاب. وموضع
الطاعة من طبقات الرضا، كموضع تركها من طبقات السخط إذ كانت الطاعة واجبة،
والترك معصية.
والكبر من أسباب القسوة. ولو كان الكبر لا يعتري إلا الشريف والجميل، أو
الجواد، أو الوفي أو الصدوق، كان أهون لأمره، وأقل لشينه، وكان يعرض لأهل
الخير، وكان لا يغلط فيه إلا أهل الفضل، ولكنا نجده في السفلة، كما نجده في
العلية، ونجده في القبيح كما نجده في الحسن، وفي الدميم كما نجده في الجميل،
وفي الدني الناقص، كما نجده في الوفي الكامل، وفي الجبان كما نجده في الشجاع،
وفي الكذوب كما نجده في الصدوق، وفي العبد كما نجده في الحر، وفي الذمي ذي
الجزية والصغار والذلة، كما نجده في قابض جزيته والمسلط على إذلاله.
ولو كان في الكبر خير لما كان في دهر الجاهلية أظهر منه في دهر الإسلام، ولما
كان في العبد أفشى منه في الحر، ولما كان في دهره الجاهلية أظهر منه في دهره
الإسلام، ولما كان في العبد أفشى منه في الحر، ولما كان في السند أعم منه في
الروم والفرس.
وليس الذي كان فيه آل ساسان وأنو شروان وجميع ولد أزدشير بن بابك كان من
الكبر في شيء. تلك سياسة للعوام، وتفخيم لأمر السلطان، وتسديد للملك.
ولم يكن في الخلفاء أشد نخوة من الوليد بن عبد الملك، وكان أجهلهم وألحنهم.
وما كان في ولاة العراق أعظم كبراً من يوسف بن عمر، وما كان أشجعهم ولا
أبصرهم، ولا أتمهم قواماً، ولا أحسنهم كلاماً.
ولم يدع الربوبية ملك قط إلا فرعون، ولم يك مقدماً في مركبه، ولا في شرف
حسبه، ولا في نبل منظره، وكمال خلقه، ولا في سعة سلطانه وشرف رعيته وكرم
ناحيته. ولا كان فوق الملوك الأعاظم والجلة الأكابر، بل دون كثير منهم في
الحسب وشرف الملك وكرم الرعية، ومنعة السلطان، والسطوة على الملوك.
ولو كان الكبر فضيلة وفي التيه مروءة، لما رغب عنه بنو هاشم ولكان عبد المطلب
أولى الناس منه بالغاية، وأحقهم بأقصى النهاية.
ولو كان محمود العاجل ومرجو الآجل، وكان من أسباب السيادة أو من حقوق
الرياسة، لبادر إليه سيد بني تميم، وهو الأحنف بن قيس؛ ولشح عليه سيد بكر بن
وائل وهو ملك، ولاستولى عليه سيد الأزد وهو المهلب.
ولقد ذكر أبو عمرو بن العلاء جميع عيوب السادة، وما كان فيهم من الخلال
المذمومة، حيث قال: " ما رأينا شيئاً يمنع من السودد إلا وقد وجدناه في سيد:
وجدنا البخل يمنع من السودد، وكان أبو سفيان بن حرب بخيلا. والعهار يمنع من
السودد، وكان عامر بن الطفيل سيداً، وكان عاهراً. والظلم يمنع من السودد،
وكان حذيفة بن بدر ظلوماً، وكان سيد غطفان. والحمق يمنع من السودد، وكان
عتيبة بن حصن محمقاً، وكان سيداً. والإملاق يمنع من السودد، وكان عتبة بن
ربيعة مملقاً. وقلة العدد تمنع من السودد وكان شبل بن معبد سيداً، ولم يكن من
عشيرته بالبصرة رجلان. والحداثة تمنع من السودد، وساد أبو جهل وما طر شاربه،
ودخل دار الندوة وما استوت لحيته.
فذكر الظلم، والحمق، والبخل، والفقر، والعهار، وذكر العيوب ولم يذكر الكبر؛
لأن هذه الأخلاق وإن كانت داءً فإن في فضول أحلامهم وفي سائر أمورهم ما يداوى
به ذلك الداء، ويعالج به ذلك السقم؛ وليس الداء الممكن كالداء المعضل، وليس
الباب المغلق كالمستبهم؛ والأخلاق التي لا يمكن معها السودد، مثل الكبر
والكذب والسخف، ومثل الجهل بالسياسة.
وخرجت خارجة بخراسان فقيل لقتيبة بن مسلم: لو وجهت إليهم وكيع بن أبي سود
لكفاهم فقال: وكيع رجل عظيم الكبر، في أنفه خنزوانة، وفي رأسه نعرة، وإنما
أنفه في أسلوب؛ ومن عظم كبره اشتد عجبه، ومن أعجب برأيه لم يشاور كفياً، ولم
يؤامر نصيحاً، ومن تبجح بالانفراد وفخر بالاستبداد كان من الظفر بعيداً، ومن
الخذلان قريباً، والخطاء مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة. وإن كانت
الجماعة لا تخطىء والفرقة لا نصيب.
ومن تكبر على عدوه حقره، وإذا حقره تهاون بأمره. ومن تهاون بخصمه ووثق بفضل
قوته قل احتراسه، ومن قل احتراسه كثر عثاره.
وما رأيت عظيم الكبر صاحب حرب إلا كان منكوباً ومهزوماً ومخدوعاً. ولا يشعر
حتى يكون عدوه عنده، وخصمه فيما يغلب عليه أسمع من فرس، وأبصر من عقاب، وأهدى
من قطاة، وأحذر من عقعق، وأشد إقداماً من الأسد، وأوثب من فهد، وأحقد من جمل،
وأروغ من ثعلب، وأغدر من ذئب، وأسخى من لافظة، وأشح من صبي، وأجمع من ذرة،
وأحرص من كلب، وأصبر من ضب. فإن النفس إنما تسمح بالعناية على قدر الحاجة،
وتتحفظ على قدر الخوف، وتطلب على قدر الطمع، وتطمع على قدر السبب.
فصل منه
وأقول بعد هذا كله: إن الناس قد ظلموا أهل الحلم والعزم، حين زعموا أن الذي
يسهل عليهم الاحتمال معرفة الناس بقدرتهم على الانتقام، فكيف والمذكور بالحلم
والمشهور بالاحتمال يقيض له من السفهاء، ويؤتى له من أهل البذاء ما لا يقوم
له صبر، ولا ينهض به عزم. بل على قدر حلمه يتعرض له، وعلى قدر عزمه يمتحن
صبره ولأن الذي سهل عليه الحلم، ومكنه من العزم، معرفة الناس بقدرته على
الانتقام، واقتداره على شفاء الغيظ؛ فإن منعه لنفسه، ومجاذبته لطبعه مع الغيظ
الشديد، والقدرة الظاهرة، أشد عليه في المزاولة وأبلغ في المشقة والمكابدة،
من صبر الشكل على أذى شكله، واحتمال المظلوم عن مثله، وإن خاف الطمس، وتوقع
العيب.
فصل منه
ومن بعد هذا، فمن شأن الأيام أن يظلم المرء أكثر محاسنه ما كان تابعاً، فإذا
عاد متبوعاً عادت عليه من محاسن غيره بأضعاف ما منعته من محاسن نفسه، حتى
يضاف إليه من شوارد الأفعال، ومن شواذ المكارم إن كان سيداً، ومن غريب
الأمثال إن كان منطيقاً، ومن خيار القصائد إن كان شاعراً، مما لا أمارات لها،
ولا سمات عليها.
فكم من يد بيضاء وصنيعة غراء، ضلت فلم يقم بها ناشد، وخفيت فلم يظهرها شاكر.
والذي ضاع للتابع قبل أن يكون متبوعاً، أكثر مما حفظ، والذي نسي أكثر مما
ذكر، وما ظنك بشيء بقيته تهب السادة، ومشكوره يهب الرياسة، على قلة الشكر،
وكثرة الكفر.
وقد يكون الرجل تام النفس ناقص الأداة، فلا يستبان فضله، ولا يعظم قدره،
كالمفرج الذي لا عشيرة له، والإتاوي الذي لا قوم له. وقد يعظم المفرج الذي لا
ولاء له ولا عقد جوار، ولا عهد حلف، إذا برع في الفقه وبلغ في الزهد، بأكثر
من تعظيم السيد، كجهة تعظيم الديان. كما أن طاعة السلطان غير طاعة السادة،
والسلطان إنما يملك أبدان الناس،ولهم الخيار في عقولهم، وكذلك الموالي
والعبيد.
وطاعة الناس للسيد، وطاعة الديان طاعة محبة ودينونة، والقلوب أطوع لهما من
الأبدان، إلا أن يكون السلطان مرضياً، فإن كان كذلك فهو أعظم خطراً من السيد،
وأوجه عند الله من ذلك الديان.
وربما ساد الأتاوي لأنه عربي على حال. والمفرج لا يسود أبداً لأنه عجمي لا
حلف له، ولا عقد جوار، ولا ولاء معروف، ولا نسب ثابت. وليس التسويد إلا في
العرب، والعجم لا تطيع إلا للملوك.
والذي أحوج العرب في الجاهلية إلى تسويد الرجال وطاعة الأكابر، بعد دورهم من
الملوك والحكام والقضاة، وأصحاب الأرباع، والمسالح والعمال. فكان السيد، في
منعهم من غيرهم ومنع غيرهم منهم، ووثوب بعضهم عل بعض، في كثير من معاني
السلطان.
في المودة والخلطة
أطال الله بقاءك، وأعزك وأكرمك، وأتم نعمته عليك.
زعم - أبقاك الله - كثير ممن يقرض الشعر ويروي معانيه، ويتكلف الأدب ويجتبيه،
أنه قد يمدح المرجو المأمول، والمغشي المزور، بأن يكون مخدوعاً، وعمي الطرف
مغفلا، وسليم الصدر للراغبين، وحسن الظن بالطالبين، قليل الفطنة لأبواب
الاعتذار، عاجزاً عن التخلص إلى معاني الاعتلال، قليل الحذق برد الشفعاء،
شديد الخوف من مياسم الشعراء، حصراً عند الاحتجاج للمنع، سلس القياد إذا
نبهته للبذل، واحتجوا بقول الشاعر:
إيت الخليفة فاخدعه بمسألة ... إن الخليفة للسؤال ينخدع
فانتحال المأمول للغفلة التي تعتري الكرام، وانخداع الجواد لخدع الطالبين
ومخاريق المستميحين، باب من التكرم، ومن استدعاء الراغب، والتعرض للمجتدي،
والتلطف لاستخراج الأموال، والاحتيال لحل عقد الأشحاء، وتهييج طبائع الكرام.
وأنا أزعم - أبقاك الله - أن إقرار المسئول بما ينحل من ذلك نوك، وإضماره
لؤم، حتى تصح القسمة، ويعتدل الوزن.
وأنا أعوذ بالله من تذكير يناسب الاقتضاء، ومن اقتضاء يضارع الإلحاح. ومن حرص
يعود إلى الحرمان، ومن رسالة ظاهرها زهد، وباطنها رغبة. فإن أسقط الكلام
وأوغده، وأبعده من السعادة وأنكده، ما أظهر النزاهة وأضمر الحرص، وتجلى
للعيون بعين القناعة، واستشعر ذلة الافتقار.
وأشنع من ذلك، وأقبح منه وأفحش، أن يظن صاحبه أن معناه خفي وهو ظاهر، وتأويله
بعيد الغور وهو قريب القعر.
فنسأل الله تعالى السلامة فإنها أصل النعمة عليكم، ونحمده على اتصال نعمتنا
بنعمتكم، وما ألهمنا الله من وصف محاسنكم.
والحمد لله الذي جعل الحمد مستفتح كتابه، وآخر دعوى أهل جنته.
ولو أن رجلاً اجتهد في عبادة ربه، واستفرغ مجهوده في طاعة سيده، ليهب له
الإخلاص في الدعاء لمن أنعم عليه؛ وأحسن إليه، لكان حرياً بذلك أن يدرك أقصى
غاية الكرم في العاجل، وأرفع درجات الكرامة في الآجل.
وعلى أني لا أعرف معنىً أجمع لخصال الشكر، ولا أدل على جماع الفضل، من سخاوة
النفس بأداء الواجب.
ونحن وإن لم نكن أعطينا الإخلاص جميع حقه، فإن المرء مع من أحب، وله ما
احتسب.
ولا أعلم شيئاً أزيد في السيئة من استصغارها، ولا أحبط للحسنة من العجب بها.
ومما يستديم الخطأ لبث لبتقصير وإهمال النفس، وترك التوقف، وقلة المحاسبة،
وبعد العهد بالتثبت. ومهما رجعنا إليه من ضعف في عزم، وهان علينا ما نفقد من
مناقل الحلم، فإنا لا نجمع بين التقصير والإنكار.
ونعوذ بالله أن نقصر في ثناء على محسن، أو دعاء لمنعم. ولئن اعتذرنا لأنفسنا
بصدق المودة وبجميل الذكر، فلما يعد لكم، من تحقق الآمال، والنهوض بالأثقال
أكثر.
على أنكم لم تحملونا إلا الخف، وقد حملناكم الثقل. ولم تسألونا الجزاء على
إحسانكم، وقد سألناكم الجزاء على ما سألناكم. ولم تكلفونا ما يجب لكم،
وكلفناكم ما لا يجب.
ومن إفراط الجهل أن نتذكر حقنا في حسن الحظ، ولا نتذكر حقكم في تصديق ذلك
الظن وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما عظمت نعمة الله على أحد إلا
عظمت عليه مؤنة الناس " .
وأنا أسأل الله الذي ألزمكم المؤن الثقال، ووصل بكم آمال الرجال، وامتحنكم
بالصبر على تجرع المرار، وكلفكم مفارقة المحبوب من الأموال، أن يسهلها عليكم،
ويحببها إليكم، حتى يكون شغفكم بالإحسان الداعي إليه، وصبابتكم بالمعروف
الحامل عليه، وحتى يكون حب التفضل، والمحبة الاعتقاد المنن الغاية التي
تستدعي المدبر، والنهاية التي تعذر المقصر، وحتى تكرهوا على الخير من أخطأ
حظه، وتفتحوا باب الطلب لمن قصر به العجز.
ثم اعلم - أصلحك الله - أن الذي وجد في العبرة، وجرت عليه التجربة، واتسق به
النظم، وقام عليه وزن الحكم، واطرد منه النسق، وأثبته الفحص، وشهدت له
العقول. أن من أول أسباب الخلطة، والدواعي إلى المحبة، ما يوجد على بعض الناس
من القبول عند أول وهلة، وقلة انقباض النفوس مع أول لحظة، ثم اتفاق الأسباب
التي تقع بالموافقة عند أول المجالسة، وتلاقي النفوس بالمشاكلة عند أول
الخلطة.
والأدب أدبان: أدب خلق، وأدب رواية، ولا تكمل أمور صاحب الأدب إلا بهما، ولا
يجتمع له أسباب التمام إلا من أجلهما، ولا يعد في الرؤساء، ولا يثنى به
الخنصر في الأدباء، حتى يكون عقله المتأمر عليهما، والسائس لهما.
فصل منه
فإن تمت بعد ذلك أسباب الملاقاة تمت المصافاة، وحن الإلف إلى سكنه. والشأن
قبل ذلك لما يسبق إلى القلب، ويخف على النفس، ولذلك احترس الحازم المستعدى
عليه من السابق إلى قلب الحاكم عليه.
وكذلك التمسوا الرفق والتوفيق، والإيجاز وحسن الاختصار، وانخفاض الصوت، وأن
يخرج الظالم كلامه مخرج لفظ المظلوم.
نعم، وحتى يترك اللحن بحجته بعد، ويخلف الداهية كثيراً من أدبه، ويغض من
محاسن منطقه. التماساً لمواساة خصمه في ضعف الحيلة، والتشبه به في قلة
الفطنة.
نعم، وحتى يكتب كتاب سعاية ومحل وإغراق وتحد، فيلحن في إعرابه، ويتسخف في
ألفاظه، ويتجنب القصد، ويهرب من اللفظ المعجب ليخفي مكان حذقه، ويستر موضع
رفقه، حتى لا يحترس منه الخصم، ولا يتحفظ منه صاحب الحكم، بعد أن لا يضر بعين
معناه، ولا يقصر في الإفصاح عن تفسير مغزاه، وهذا هو الموضع الذي يكون العي
فيه أبين، وذو الغباوة أفطن، والردي أجود، والأنوك أحزم، والمضيع أحكم؛ إذ
كان غرضه الذي إياه يرمي، وغايته التي إليها يجري، الانتفاع بالمعنى المتخير
دون المباهاة باللفظ، وإنما كانت غايته إيصال المعنى إلى القلب دون نصيب
السمع من اللفظ المونق، والمعنى المتخير؛ بل ربما لم يرض باللفظ السليم حتى
يسقمه ليقع العجز موقع القوة، ويعرض العي في محل البلاغة. إذا كان حق ذلك
المكان اللفظ الدون، والمعنى الغفل.
هذا إذا كان صاحب القصة ومؤلف لفظ المحل والسعاية، ممن يتصرف قلمه، ويعلل
لسانه، ويلتزق في مذاهبه، ويكون في سعة وحل لأن يحط نفسه إلى طبقة الذل وهو
عزيز، ومحل العي وهو بليغ، ويتحول في هيئة المظلوم وهو ظالم، ويمكنه تصوير
الباطل في صورة الحق، وستر العيوب بزخرف القول؛ وإذا شاء طفا، وإذا شاء رسب،
وإذا شاء أخرجه غفلاً صحيحاً.
وما أكثر من لا يحسن إلا الجيد، فإن طلب الردى جاوزه. كما أنه ما أكثر من لا
يستطيع إلا الردى، فإن طلب الجيد قصر عنه.
وليس كل بليغ يكون بذلك الطباع، وميسر الأداة، وموسعاً عليه في تصريف اللسان،
وممنونا عليه في تحويل القلم.
وما أكثر من البصراء من يحكي العميان، ويحول لسانه إلى صورة لفظ الفأفاء بما
لا يبلغه الفأفاء ولا يحسنه التمتام. وقد نجد من هو أبسط لساناً وأبلغ قلماً،
لا يستطيع مجاوزة ما يشركه، والخروج مما قصر عنه.
فصل منها
ولولا الحدود المحصلة والأقسام المعدلة، لكانت الأمور سدىً، والتدابير مهملة،
ولكانت عورة الحكيم بادية، ولاختلطت السافلة بالعالية.
فصل منها
وأنا أقول بعد هذا كله: لو لم أضمر لكم محبة قديمة، ولم أضر بكم بشفيع من
المشاكلة، ولا سبب الأديب إلى الأديب، ولم يكن علي قبول، ولا علي حلاوة عند
المحصول، ولم أكن إلا رجلاً من عرض المعارف، ومن جمهور الأتباع لكان في
إحسانكم إلينا، وإنعامكم علينا، دليل على أنا قد أخلصنا المحبة، وأصفينا لكم
المودة.
وإذا عرفتم ذلك بالدليل النير الذي أنتم سببه، والبرهان الواضح الذي إليكم
مرجعه، لم يكن لنا عند الناس إلا توقع ثمرة الحب، ونتيجة جميل الرأي، وانتظار
ما عليه مجازاة القلوب.
وبقدر الإنعام تجود النفوس بالمودة، وبقدر المودة تنطلق الألسن بالمدحة.
وهذه الوسيلة أكثر الوسائل وأقواها في نفسي: أني لم أصل سببي بمحرم غمر ولا
بمبخل غفل، ولا بضيق العطن حديث الغنى، ولا بزمر المروة مستنبط الثرى؛ بل
وصلته بحمال أثقال ومقارع أبطال، وبمن ولد في اليسر وربي فيه، وجرى منه على
عرق ونزع إليه.
فصل منها
ولا خير في سمين لا يحتمل هزال أخيه، وصحيح لا يجبر كسر صاحبه.
فصل منها
وقد تنقسم المودة إلى ثلاث منازل: منها: ما يكون على اهتزاز الأريحية وطبع
الحرية.
ومنها: ما يكون على قدر فرط وسائل الفاقة ومنها: مايحسن موقعه على قدر طباع
الحرص وجشع النفس.
فأرفعها منازل حب المشغوف شكر النعمة. وهو الذي يدوم شكره، ويبقى على الأيام
وده. والثاني هو الذي إنما اشتد حبه على قدر موضع المال من قلب الحريص الجشع،
واللئيم الطمع. فهذا الذي لا يشكر، وإن شكر لم يشكر إلا ليستزيد، ولم يمدح
إلا ليستمد. وعلى أنه لا يأتي الحمد إلا زحفاً، ولا يفعله إلا تكلفاً.
وأنا أسأل الله الذي قسم له أفضل الحظوظ في الإنعام، أن يقسم لنا أفضل الحظوظ
في الشكر. وما غاية قولنا هذا ومدار أمرنا إلا على طاعة توجب الدعاء، وحرية
توجب الثناء، شاكرين كنا أو منعمين، وراجين كنا أو مرجوين.
ومن صرف الله حاجته إلى الكرام، وعدل به عن اللئام فلا يعدن نفسه في الراغبين
ولا في الطالبين المؤملين، لأن من لم يجرع مرارة المطال، ولم يمد للرحيل
التسويف، ويقطع عنقه بطول الانتظار، ويحمل مكروه ذل السؤال، ويحمل على طمع
يحثه يأس، كان خارجاً من حدود المؤملين.
ومن استولى على طمعه الثقة بالإنجاز، وعلى طلبته اليقين بسرعة الظفر، وعلى
ظفره الجزيل من الإفضال، وعلى إفضاله العلم بقلة التثريب، بالسلام من التنغيص
بالتماس الشكر، وبالبكور وبالرواح وبالخضوع إذا دخل، والاستكانة إذا جلس. ثم
مع ذلك لم يكن ما أنعم به عليه ثواباً لسالف يد، ولا تعويضاً من كد، كانت
النعمة محضة خالصة، ومهذبة صافية، وهب نعمتكم التي ابتدأتمونا بها.
ولا تكون النعمة سابغة ولا الأيدي شاملة، ولا الستر كثيفاً ذيالاً، وكثير
العرض مطبقاً، ودون الفقر حاجزاً، وعلى الغنى ملتحفاً، حتى يخرج من عندكم، ثم
يحتسب إلى شاكر حر.
فصل منها
وأنتم قوم تقدمتم بابتناء المكارم في حال المهلة، وأخذتم لأنفسكم فيها بالثقة
على مقادير ما مكنتم الأواخي، ومددتم الأطناب، وثبتم القواعد. ولذلك قال
الأول:
عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسود من يسود
وأبو الفرج - أعزه الله - فتى العسكرين، وأديب المصرين جمع أريحية الشباب،
ونجابة الكهول، ومحبة السادة، وبهاء القادة وأخلاق الأدباء، ورشاقة عقول
الكتاب، والتغلغل إلى دقائق الصواب، والحلاوة في الصدور، والمهابة في العيون،
والتقدم في الصناعة، والسبق عند المحاورة، شقيق أبيه وشبه جده، حذو النعل
بالنعل، والقذة بالقذة. لم يتأخر عنهما إلا في ما لا يجوز أن يتقدمهما فيه،
ولم يقصر عن شأوهما إلا بقدر ما قصرا عن سنخهما، وهم وإن قصروا عن مدى
آبائهم، وعن غايات أوائلهم، فلم يقصروا عن جلة الرؤساء، وأهل السوابق من
الكبراء، ولست ترى تاليهم إلا سابقاً، ومصليهم إلا للغاية مجاوزاً. ليس فيهم
سكيت ولا مبهور ولا منقطع، قد نقحت أعراقهم من الإقراف والهجنة، ومن الشوب
ولؤم العجمة.
ومتى عاينت أبا الفرج وكماله، ورأيت ديباجته وجماله، علمت أنه لم يكن في
ضرائبهم وقديم نجلهم، خارجي النسب، ولا مجهول المركب، ولا بهيم مصمت، ولا
كثير الأوضاح مغرب، بل لا ترى إلا كل أغر محجل، وكل ضخم المحزم هيكل.
إني لست أخبر عن الموتى ولا أستشهد الغيب، ولا أستدل بالمختلف فيه ولا الغامض
الذي تعظم المؤنة في تعرفه، والشاهد لقولي يلوح في وجوههم، والبرهان على
دعواي ظاهر في شمائلهم؛ والأخبار مستفيضة، والشهود متعاونة.
وأنت حين ترى عتق تلك الديباجة، ورونق ذلك المنظر، علمت أن التالد هو قياد
هذا الطارف.
أما أنا فلم أر لأبي الفرج - أدام الله كرامته - ذاماً ولا شائناً ولا عائباً
ولا هاجياً، بل لم أجد مادحاً قط إلا ومن سمع تسابق إلى تلك المعاني، ولا
رأيت واصفاً له قط إلا وكل من حضر يهش له ويرتاح لقوله. قال الطرماح:
هل المجد إلا السودد العود والندى ... ورأب الثأى والصبر عند المواطن
ولكن هل المجد إلا كرم الأرومة والحسب، وبعد الهمة، وكثرة الأدب، والثبات على
العهد إذا زلت الأقدام، وتوكيد العقد إذا انحلت معاقد الكرام، وإلا التواضع
عند حدوث النعمة، واحتمال كل العثرة، والنفاذ في الكتابة، والإشراف على
الصناعة.
والكتاب هو القطب الذي عليه مدار علم ما في العالم وآداب الملوك، وتلخيص
الألفاظ، والغوص على المعاني السداد، والتخلص إلى إظهار ما في الضمائر بأسهل
القول، والتمييز بين الحجة والشبهة وبين المفرد والمشترك، وبين المقصور
والمبسوط، وبين ما يحتمل التأويل مما لا يحتمله، وبين السليم والمعتل.
فبارك الله لهم فيما أعطاهم، ورزقهم الشكر على ما خولهم، وجعل ذلك موصولاً
بالسلامة، وبما خط لهم من السعادة، إنه سميع قريب، فعال لما يريد.
|