ابن قتيبة

عيون الأخبار

 

 5.      كتاب العلم والبيان

 

 

العلم

في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات حدثني الزيادي قال: حدثنا عيسىِ بن يُونس عن الأوزاعي عن عبد الله بن سعد عن الضنَابِحِي عن معاوية بن أبي سفيان قال: نهَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الأغْلُوطات، قال الأوزاعي: يعني صِعَاب المسائل.
بين كعب الأخبار وقوم من أهل الشام حدثني سُهَيل بن محمّد عن الأصمعي قال: سمعت عِمْران بن حُدَير يُحدَث عن رجل من أهل الشام قد سماه، قال: قال كعب الأحبار لقوم من أهل الشام: كيف رأيكم في أبي مُسلم الخَوْلاني؟ فقالوا: ما أحْسَنَ رأيَنَا فيه وأخْذَنا عنه! فقال: إن أزهَدَ الناس في الحاكم أهْلُه، وإنْ مثل ذلك الجامة تكونُ في القوم فَيَرْغَبُ فيها الغُرَباء، ويَزْهَدُ فيها القُرَباء، فَبينَا ذلك غَارَ ماؤها وأصاب هؤلاء منفعتها، وبقي هؤلاء ينفكون، أي يتندمون.
لعيسى عليه السلام وفي الإنجيل أن عيسى صلى الله عليه لمّا أراهم العجائب، وضرب لهم الأمثال والحكمة، وأظْهَرَ لهم هذه الآياتِ، قالوا: أليس هذا ابنَ النَّجّار! أوَ لَيْست أمُّه مَرْيَمَ وأخُوه يعقوبَ ويوسفَ وشمعونَ ويَهُوذا وأخواته كلّهن عندنا! فقال لهم عيسى: إنّه لا يُسب النبي ولا يحَقَّر إلا في مدينته وبِيئَتِه.
لدغفل النسّابة وقد سُئل عن تحصيله علمه حدثنا الرياشي قال: حدّثنا الأصمعي قال: قيل لدَغْفَل النسّابة: بم أدركتَ ما أدركتَ من العلم؟ فقال: بلسْانٍ سَؤُول وقلبٍ عَقُول، وكنتُ إذا لَقِيتُ عالِماً أخذتُ منه أعطيته.
بين رؤبة بن العجاج والنسابة البكري حدثني أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي قال: حدثنا العَلاَء بن أسلم عن رؤبة بن العجّاج قال: أتيت النّسابة البكريّ فقال لي: من أنت. فقلت: أنا ابن العجاح. قال: قصرت وعًرفْت، لعلك من قوم إن سكتُّ عنهم لم يسألوني، وإن تكلمتُ لم يَعُوا عنَي. قلت: أرجو ألا أكونَ كذلك. قال: ما أعداءُ المُرُوءَة. قلت: تُخبرنى. قال: بنو عم السوء إن رأوا حسناً ستَرُوه، وإن رَأوا سيئاً أذاعوه. ثم قال: إن للعِلْم آفةً وهُجنة ونَكداً، فآفتُه نسيانُه، ونكده الكذبُ فيه، وهُجنته نشره عند غير أهله.
في طلب العلم كان يقال: لا يَزَال المرء عالماً ما طَلَب العِلْمَ فإذا ظَن أنْ قد عَلِمَ فقد جَهِلَ.
للنبي صلى الله عليه وسلم في أربعة أسباب لطلب العلم تُدخل النار حدثني شيخٌ لنا عن محمد بن عُبيد عن الصلْت بن مِهْرَان عن رجل عن الشعبي عن عبد اللّه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم العِلْمَ لأربعة دخل النار. ليُباهِيَ به العلماءَ أو يمارِيَ به السفهاءَ أو يُمِيلَ به وجوهَ الناس أو يأخُذَ به من الأمراء".
وحدثني عن أبي معاوية عن حجاج عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يُخْلِص العبادة لله أربعين يوماً إلّا ظهرت ينابيعُ الحِكْمة من قلبه على لسانه".
نصيحة لقمان لابنه
وقرأت في حِكَم لُقمان أنه قال لابنه: يا بُنَي، اغْدُ عالماً أو متعلَماً أو مُستمِعاً أو مُحِباً، ولا تكن الخامِسَ فتهلك.
وللنبي صلى الله عليه وسلم في حمل العلم حدّثني محمد بن داود عن سُوَيد بن سعيد عن إسماعيل عن ابن عياش عن مُعَاذ بن رِفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العِلْمَ من كلّ خَلَف عدولُه يَنْفُون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المُبْطِلين وتأويلَ الجاهلين".
لعلي عليه السلام وروى أبو خالد بن الأحمر عن عمرو بن قيس عن أبي إسحاق قال: قال علي عليه السلام: كَلِماتٌ لو رَحَّلْتم المَطِي فيهنّ لا تُصِيبوهنَّ قبل أن تُحركوا مثلَهن: لا يَرْجُوَنّ عَبْدٌ إلا ربّه، ولا يَخافنّ إلا ذنبَه، ولا يَسْتَحيي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحيي إذا سُئِل عمّا لا يَعْلَم أن يقول: اللّه أعلمُ. واعلموا أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأسُ ذهب الجسد، وإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان.
وكان يقول: من حق العالِم عليك إذا أتيتَه أن تُسلَم على القوم عامةً وتَخُصَّه بالتحية، وأن تَجْلِسَ قدَّامَة ولا تُشِيرَ بيدك، ولا تَغْمِزَ بعينك، ولا تقولَ قال فلان خلافاً لقوله، ولا تَغتابَ عنده أحداً، ولا تسَارَّ في مجلسه، ولا تأخُذَ بثوبه، ولا تُلَح عليه إذا كَسل، ولا تَغْرَضَ من صحبته لك، فإنما هو بمنزلة النخلة لا يزال يسقط عليك منها شيء.
وله عليه السلام في أن العلم خير من المال وفيما قال علي عليه السلام: يا كُمَيْل، العلم خير من المال، لأن العلم يَحرُسُك وأنت حرُس المال، والمال تَنْقُصه النفقة، والعلم يزكو على الأنفاق.
وقال: قيمةُ كلٌ امرء ما يُحسن.
ويقال إذا أرذل الله عبداً حَظَر عليه العِلمَ.
لبعض الشعراء وقال الشاعر:

يُعد رفيعَ القوم مَن كان عالِمـاً

وإن لم يكن في قومه بحسيبِ

وإنْ حل أرضاً عاش فيها بعلمه

وما عالِم في بلـدةٍ بـغـريبِ

لبزرجمهر قال بُزُرْجِمهْر: ما ورًثت الآباءُ الأبناءَ شيئاً أفضلَ من الأدب، لأنها تَكتسِب المال بالأدب بالجهل تُتْلفه فتقعُد عُدما منهما.
بين خالد بن صفوان ورجل وقال رجل لخالد بن صفوان: ما لي إذا رأيتُكم تتذاكرون الأخبار، وتتدارسون الآثار، وتتناشدون الأشعار، وَقَعَ عَلَي النوم؟ قال: لأنك حِمار في مسلاخ إنسان.
بين الوليد بن يزيد ورجل من ثقيف خرج الوليدُ بن يزيد حاجّاً ومعه عبدُ الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر فكانا ببعض الطريق يَلْعَبان بالشًطْرَنْج فاستأذن عليه رجل من ثَقِيف فأذِنَ له وسَتَرَ الشطْرَنْج بمنْدِيل، فلفا دخل سلم فسأله حاجَتَه؛ فقال له الوليد: أقرأتَ القرآن؟ قال: لا، يا أمير المؤمنين! شغلتني عنه أمورٌ وهَنَات. قال: أفتعرف الفِقْه؟ قال: لا. قال: أفَرَوْيت من الشَعر شيئاً. قال: لا. قال: أفعلِمتَ من أيام العرب شيئا؟ قال: لا. قال: فكَشَفَ المِنديل عن الشَطْرَنْج وقال: شاهك. فقال له عبد الله بن معاوية: يا أمير المؤمنين! قال: اسْكُت فما معنا أحد.
من كتاب الهند وفي كتاب للهند: العالِمُ إذا اغترب فمعه من عِلْمه كَافٍ، كالأسد معه قوَتُه التي يَعِيش بها حيثُ تَوجه.
وكان يقال: العلم أشرفُ الأحساب، والمودةُ أشدُّ الأسباب، قال الشاعر:

الحِلْمُ والعِلْـمُ خـلًـتـا كَـرم

للمرءِ زَيْنٌ إذا هما اجتمـعـا

صِنْوان لا يَستَتِمّ حسنـهُـمـا

إلا بجمـع لـذا وذاك مـعـا

كم من وضيع سما به العِلْمُ وال

حِلْمُ فنال العَلاءَ وارتـفـعـا

ومن رفيع البِنا أضَاعَـهُـمـا

أخمله ما أضاع فاتّـضـعـا

للأحنف ولابن المقفع في العلماء قال الأحنف: كادَ العلماءُ أن يكونوا أرْبابا، وكل عزٍّ لم يُؤَكَد بعِلْم فإلى ذُلّ ما يصير.
ولابن المقفّع وقال ابن المُقَفَّع: إذا أكرمك الناس لمالٍ أو سُلْطانٍ فلا تعْجِبَنًك ذلك، فإن زوال الكرامة بزوالهما، ولكنْ ليُعْجِبك إن أكرموك لِدِين أو أدب.
وفي بعض الحديث المرفوع: "مَثَلُ العلماء في الأرض مَثَل النجوم في السماء".
في فضل العلم
وكان يقال: استُدِل على فضل العلم أنه ليس أحدٌ يُحِبّ أن له بحظه منه خَطَراً.
ليونس بن حبيب، وأبي الأسود قال يونس بن حبيب: عِلْمُك من رُوحك، ومَالُك من بَدَنك.
قال أبو الأسود: الملوك حُكَامٌ على الناس، والعلماء حُكَامٌ على الملوك.
لبزرجمهر في فضل العالم على الغني قيل لبُزُرْجِمهْر: العلماءُ أفضلُ أم الأغنياء؟ فقال: العلماء. فقيل له: فما بالُ العلماء بأبواب الأغنياء أكْثَرُ من الأغنياء بأبواب العلماء؟ فقال: لمعرفة العلماء بفضل الغِنَى وجَهل الأغنياء بفضل العلم.
للنبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث: "ليس المَلَقُ من أخلاق المؤمن إلا في طلب العِلْم".
لابن عباس رضي الله عنهما قال ابن عبّاس: ذَلَلْتُ طالباً، فعزَزْتُ مطلوباً؛ وكان يقول: وجدتُّ عامّة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحيّ من الأنصار، إنْ كنتُ لأقِيل بباب أحدهم ولو شئتُ أذن لي، ولكن أبتغي بذلك طِيب نفسه.
في درجات العلم وكان يقال: أوَّلُ العلم الصمت والثاني الاستماعُ، والثالث الحِفْظُ، والرابع العقل، والخامس نشرُه.
للحسن قال الحسن: مَن أحسنَ عِبادَةَ اللّه في شبيبته لقاه الله الحكمة في سِنِّه، وذلك قولُه: "وَلما بَلَغَ أشُدَّهُ واسْتَوَى أتَيْنَاهُ حُكْماً وعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ".
في الحكمة، وصفات العالم قال بعض الحكماء من الصحابة: تقول الحكمةُ: مَن التمسني فلم يَجِدْنِي فَليفْعَلْ بأحسنِ ما يعْلم، وليترك أقبح ما يَعلم، فإذا فَعَلَ ذلك فأنَا معه وإن لم يَعرِفْني.
وكان يقال: لا يكون الرجلُ عالماً حتى يكونَ فيه ثلاثٌ: لا يَحْقِرُ مَن دونه في العلم، ولا يَحسُد من فوقه، ولا يأخذ على علمه ثَمناً.
لابن عيينة فيما يُستحب للعالم وقال ابن عُيينة: يُستَحَبّ للعالم إذا علَم ألا يُعَنَف، وإذا عُلَم ألا يأنَف.
لغيلان وفي كلام لغَيْلان: لا تكن كعلماء زمن الهَرْج إن علَموا أنِفوا وإن عًلّمُوا عَنفُوا.
من حكم لقمان وفي حكمة لُقْمان: إن العالمَ الحكيم يَدعو الناسَ إلى علمه بالصَمْت والوَقَار، وإن العالِم الأخْرَق يَطْرُد الناس عن علمه بالهَدَر والإكثار.
لإبراهيم بن منصور قال إبراهيم بن منصور: سَلْ مَسْألَةَ الحَمْقَى واحفَظْ حِفظَ الأكياس.
شعر لابن الأعرابي في طلب العلم وتدبّره وأنشد ابن الأعرابيّ:

ما أقربَ الأشياءَ حينَ يَسُوقُها

قدر وأبعدَها إذا لـم تُـقْـدرِ

فسل الفَقِيهَ تكُنْ فقيهاً مثـلَـهُ

مَن يَسْعَ في عمل بِفقْهٍ يَمْهَرِ

وتدبر الأمرَ الني تُعْنـى بـه

لا خيرَ في عمل بغير تدبُّـرِ

فلقد يَجِدُ المرءُ وهو مقَصٌـر

ويَخِيبُ جِدّ المرءَ غيرَ مقصَر

ذهب الرجالُ المُقْتَدَى بفَعَالهم

والمنكِرُون لكل أمرٍ مُنْكَـرِ

وبقيت في خَلَفٍ يُزَيِّن بعضُهم

بعضاً ليَدْفَعَ مُعْوِر عن معورِ

مثله لبعض الشعراء وقال الشاعر:

شِفَاءُ العمى طولُ السـؤال وإنّما

تمامُ العمى طولُ السكوتِ على الجَهْل

وقال بعضهم: خير ُخِصال المرء السؤالُ.
ويقال: إذا جلست إلى عالم فسل تفَقُهاً ولا تَسَلْ تَعَنُتاً.
للحسن في طلب العلم قال الحسن: مَن استتَر عَن الطلَب بالحَيَاء لَبِسَ للجهل سِرْبَالَه، فقَطِّعُوا سَرَابِيلَ الحياء فإنّه مَن رَق وجهُه رق عِلْمُه، وقال: إنَي وجدتُ العِلْم بين الحياء والستْر.
للخليل في منزلة الجهل وقال الخليل: منزلة الجهل بين الحياء والأنَفة.
لعلي بن أي طالب كرّم الله وجهه وقال علي بن أبي طالب عليه السلامِ: قُرِنت الهيْبَةُ بالخَيْبة، والحياءُ بالحِرْمان، والحِكْمة ضالةُ المؤمن فليَطْلُبْها ولو في يَدَيْ أهل الشرك.
نصيحة عروة بن الزبير لبنيه وقال عُرْوةُ بن الزُّبَيْر لبنيه: تعلموا العلم فإنْ تكونوا صِغَارَ قوم فعسى أنْ تكُونوا كِبَارَ قوم آخَرِين، فيا سوءتا ماذا أقبح من جهل بشيخ! في تعلُّم العلم وتعليمه وكان يقال: عَلم عِلْمَك مَنْ يَجْهَل، وتَعَلَم ممن يَعْلَم، فإنك إذا فعلتَ ذلك عَلِمتَ ما جَهِلتَ وحَفِظْتَ ما عَلِمت.
لبزرجمهر وقد سُئل عن إدراكه العلم قيل لبُزُرْجِمهْر: بِم أدركتَ ما أدركتَ من العلم؟ فقال: بِبُكُور كبُكُور الغُرَاب، وحِرْصٍ كحرص الخِنْزير، وصَبْرٍ كصبر الحِمَار.
للحسن في طلب العلم في الصّغر وقال الحسن: طلبُ العلم في الصِّغر كالنًقش في الحَجَر، وطلبُ العلم في الكِبَر كالنقش على الماء.
ويقال: التفقه على غير علم كحِمار الطاحونة يدور ولا يَبْرَح.
للنبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث المرفوع "ارحموا عزيزاً ذَلّ ارحموا غنياً افتقر ارحموا عالماً ضاع بين جُهال".
ويقال: أحق الناس بالرحمة عالم يجوز عليه حُكْمُ جاهل.
للمسيح عليه السلام في الحكمة قال المسيح عليه السلام: يا بَني إسرائيلَ لا تُلْقُوا اللؤلُؤَ إلى الخنازير، فإنّها لا تَصْنع به شيئاً، ولا تُعْطُوا الحِكْمةَ مَن لا يُريدها، فإن الحكمةَ أفضلُ من اللؤلؤ، ومن لا يرِيدها شَرُ من الخنازير.
لديمقراط، وغيره قال ديمقراط: عالِم معانِدٌ خير من منْصف جاهل.
وقال آخر: الجاهل لا يكون مُنصِفاً؛ وقد يكون العالمُ معانداً.
قال سُفْيان: تَعوذُوا باللهّ من فتنة العابد الجاهل، وفتنة العالم الفاجر.
قيل للحسن: الحِرْفَةُ في أهل العلم؛ ولغيرهم الثرْوة، فقال: إنّك طلبت قليلاً في قليل فأعجزك، طلبت المال وهو قليل في الناس، في أهل العلم وهم قليل في الناس.
شعر للخزيمي، ولآخر وقال الخُزَيْمي:

لا تَنْظُرَنّ إلى عَقْل ولا أدبٍ

إن الجدودَ قريناتُ الحماقات

وقال آخر:

 

 

 

وما ازددتُ من أدبي حَرْفا أسَر بِهِ

إلا تَزَيدْتُ حَرْفاً تحـتـه شُـومُ

إن المُقدم في حِنْقٍ بصَنْـعـتـه

أنى تَوجه منها فهـو مـحـروم

شعر الطائي لمحمد بن عبد الملك وقال الطائيّ لمحمد بن عبد الملك:

أبا جَعْفرٍ إنّ الجَهَالة أمها

وَلُود وأمُّ العلم جَذَّاءُ حائِلُ

لسفيان الثوري قال الثوْرِي: مَن طلب الرياسة بالعلم سريعاً فاته عِلم كثيرٌ؛ وقال: يَهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
لبعض أهل العلم قال بعض أهل العلم: يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالم ذنب واحد.
لبلال بن أي بردة شعر للخليل بن أحمد قال بلال بن أبي بُرْدة: لا يَمنعنكم سوءُ ما تعلمون منا أن تَقْبلوا أحسنَ ما تسمعون.
شعر للخليل بن أحمد وقال الخليل بن أحمد:

اعْمَل بعلمي ولا تَنْظُر إلى عملي

يَنفَعْك قولي ولا يَضْرُرْك تقصيري

كتب رجل إلى أخ له: إنّك قد أوتيتَ علماً فلا تُطْفِئَنّ نورَ علمك بظُلْمة الذنوب فتَبقى في الظلمة يومَ يسعى أهلُ العلم بنور علمهم.
لبعض الحكماء في اقتران العلم والعمل وقال بعض الحكماء: لولا العلمُ لم يُطْلب العمل، ولولا العملُ لم يُطلب العلم، ولأن ادعً الحقَّ جهلاً به أحب إلي من أن أدَعَه زُهْداً فيه.
مثله لمالك بن دينار، ولغيره وقال مالك بنُ دِينار: إن العالِمَ إذا لم يَعْمَل بعلمه زَلّت موعظتُه عن القول كما يَزلّ القَطْرُ عن الصَفَا.
ونحوه قولُ زياد: إذا خرج الكلامُ من القلب وَقَعَ في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يجاوِز الآذان.
ويقال: العلماءُ إذا عَلِمُوا كمِلوا، فإذا عَمِلوا شُغِلوا، فإذا شُغِلوا فُقدوا، فإذا فُقدوا طُلِبُوا فإذا طُلِبُوا هَرَبُوا.
قال الحسن: ما أحسنَ الرجلَ ناطقاً عالِماً ومُستَمعاً واعِياً وواعياً عامِلاً.
وقال ابن مسعود: إني لأحسَب الرجل يَنْسَى العلمَ بالخطيئة يَعْمَلُها.
وقال ابن عباس: إذا تَرَك العالمُ قولَ لا أدري أصِيبت مقاتِلُه.
شعر ليزيد بن الوليد بن عبد الملك وقال يزيد بن الوليد بن عبد الملك:

إذا ما تحدثتُ في مَجْـلِـسٍ

تَنَاهى حديثي إلى ما علِمتُ

ولم أعْدُ علمي إلى غـيره

وكان إذا ما تناهى قَصَرْتُ

وقال آخر:

إذا ما انتهَى عِلْمي تناهيتُ عـنـده

أطال فأملَى أم تناهى فاقْـصَـرا

ويخبِرُني عن غائب المرء ِفِعْـلُـه

كفى الفعلُ عما غَيَب المرءُ مُخْبِرا

لعمر بن الخطاب في تغاير الناس على العلم
قال عمرُ بن الخطّاب: لا أدركتُ لا أنا ولا أنت زماناً يتَغايَرُ الناس فيه على العِلْم؛ يتغايرون على الأزواج.
لسلمان الفارسي قال سَلْمان: علم لا يُقال به ككنز لا يُنْفَق منه.
للنبي صلى الله عليه وسلم في أصناف العلم وفي الحديث المرفوع: "العلم علمان علمٌ في القلب فذلك العلم النافع وعلمٌ محس اللسان فذلك حُجّةُ الله على ابن آدم".
لعمر بن عبد العزيز قال عُمر بن عبد العزيز: ما قُرِن شيء إلى شيء أحسن من حِلْم إلى علم ومن عَفْو إلى قُدْرة.
لأبي الدرداء قال أبو الدّرْدَاء: مَن يَزْددْ علماً يَزددْ وَجَعا.
لأفلاطون، وغيره في قول: لا أعلم قال أفلاطون: لولا أن في قول لا أعلم سبَباً لأنَي أعلمُ لقلتُ إنِّي لا أعْلَمُ.
وقال آخر: ليس معي من فضيلة العلم إلا علمي بأنَي لستُ أعلم.
للخليل بن أحمد في أصناف الرجال قال الخليل بنُ أحمد: الرجال أربعة: رجلٌ يدرِي ويدْرِي أنه يَدْرِي فذاك ناس فذكَر، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فعلِّموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه.
كتاب كسرى إلى بزرجمهر وهو في الحبس ورد بزرجمهر عليه كتب كِسْرى إلى بُزُرْجِمهْر وهو في الحبس: كانت ثمرةُ علمك أن صِرْتَ بها أهلاً للحبس والقتل. فكتب إليه بُزُرجمِهْر: أما ما كان معي الجد فقد كنتُ أنتفِعُ بثمرة العلم فالآن إذ لا جد فقد صِرتُ أنتفع بثمرة الصبر مع أني إن كنتُ فَقْدت كثيرَ الخير فقد استرحت من كثير الشر. لبزرجمهر ولبعض الحكماء قال بُزُرْجِمهْر: من صلح له العُمْرُ صلح له التعلمُ.
وقيل لبعض الحكماء: أيحسُن بالرجل أن يتعلَم؟ فقال: إن كانت الجَهَالةُ تَقْبُح به فإنّ العلم يَحْسُنُ به.
ويقال: التودد زَيْن العلم.
لعمر بن الخطاب قال عمر بن الخطاب: ما من غاشية أدوَم أرَقاً، وأبطأ شِبَعاً من عالم.
ولمالك بن دينار في طلب العلم قال مالك بن دينار: مَن طلب العلم لنفسه فالقليل منه يكفي، ومن طلبه للناس فحوائجُ ناس كثيرةٌ.
قال إِتقْرَاطُ: العلم كثير، والعُمر قصير، والصنعةُ طويلة، والزمان جديد، والتجرِبة خطأ. للمسيح عليه السلام قال المسيح عليه السلام: إلى متى تَصِفُون الطريقَ للمُدْلجين، وأنتم مُقيمون مع المتحيرين، إنما ينبغي من العلم القليلُ، ومن العمل الكثير.
سلمان في علمه قال سَلْمان: لو حدثتُ الناسَ بكل ما أعلَمُ لقالوا رَحِمَ الله قاتِلَ سَلْمان.
في القول بغير علم كان يقال: لا تقل فيما لا تعلم قلهَم فيما تَعلَم.
وكان يقال: العلم قائد، والعمل، سائق، والنًفْس حَرُون، فإذا كان قائدٌ بلا سائق بَلُدَتْ إذا كان سائقٌ بلا قائد عَدَلتْ يميناً وشِمَالاً، فإذا اجتمعا أنابت طَوْعاً وكَرْهاً.
لأيوب في تعرّف منزلة العلم قال أيُوب: لا يَعرِف الرجلُ خطأ مُعلَمه حتى يعرِفَ الاختلاف.
ويقال: غَرِيزة العقل أنْثى وما يُستفاد من العلم ذَكَرٌ ولن يصلُحَا إلا معاً.
للمسيح عليه السلام قال المسيح عليه السلام: إن أبْغَض العلماء إلى الله رجل يُحِث الذكرَ بالمَغِيب، ويُوَسع له في المجالس، ويُدْعى إلى الطعام، وتُفْرَغ له المَزَاوِد، بحق أقولُ لكم: إن أولئك قد أخذوا أجُورَهم في الدنيا، وإن الله يُضاعِف لهم العذابَ يومَ القيامة.
لابن عباس رضي الله عنهما على قبر زيد بن ثابت لما دُلًيَ زيد بن ثابت في قبره قال ابن عباس: من سَرًه أن يَرَى كيف ذهب العِلْمُ فهكذا ذَهَابُ العلم.
لبعض الشعراء في تلاقي العلماء وقال بعضُ الشعراء في تَلاَقِي العلماء:

إذا تَلاقَى القيُولُ وازْدحـمـتْ

فكيف حالُ البَعُوض في الوَسَطِ

وقال ابن الرقاع:

ولقد أصبتُ من الـمـعـيشةِ لَـذةً

ولَقِيتُ من شَظَفِ الخُطوبِ شِدَادَها

وعلمتُ حتّى لستُ أسألُ عالِـمـاً

عن حَرْفِ واحدةٍ لكـي أزدادَهـا

في أربع لا يأنف منهن الشريف ويقال: أربعٌ لا يَأْنف منهن الشريفُ: قيامُه عن مجلسه لأبيه، وخِدمتُه لضيفه، وقيامُه على فَرَسه وإن كان له مائةُ عبدٍ، وخدمته العالِم ليأخذَ من علمه.
لعطاء بن مصعب في غَلَبتْه
قيل لعطاء بن مُصْعَب: كيف غَلَبْتَ على البرامكةِ وعندهم مَن هو آدب منك. قال: ليس للقُرَباء ظَرَافَةُ الغُرَباء، كنتُ بعيدَ الدار، غريبَ الاسم، عظيمَ الكِبْر، صغير الجِرْم، كثير الالتواء، شحيحاً بالإملاء؛ فقَربني إليهم تَباعدني منهم، ورغَبهم فيَّ رغبتي عنهم.
بين الخزيمي وسعيد بن وهب، ثم بينه وبين أنس بن أي شيخ قاد أبو يعقوب الخُزَيْميٌ : تلقَاني سعيد بن وَهْب مع طلوع الشمس فقلت: أين تُريد؟ قال: أدُورُ لعليِّ أسمَع حديثاً حَسَناً، ثم تلقَّاني أنَس بن أبي شيخ فقلت: أين تُريد؟ قال: عندي حديث حَسَن فأنا أطلُب له إنساناً حَسَنَ الفهم حَسَنَ الاستماع، قلت: حدّثْني به قال: أنت حَسَنُ الفهم سَيءَ الاستماع، وما أرى لهذا الحديث إلا إسماعيلَ بن غَزْوان.
شعر للطائي وقال الطائيّ في نحو هذا:

وكُنْتُ أعَزَ مـن قـنُـوعٍ

تَعَوّضه صَفُوحٌ من مَلُول

فصِرْتُ أذلَّ من معنى دَقيقٍ

به فَقْر إلى فَهْـمٍ جَـلِـيل

في الفرق بين العالم والأديب كان يقال: إذا أردتَ أن تكون عالماً فاقصِد لفنّ من العلم، وإذا أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسَنَه.
شعر لإبراهيم بن مهدي قال إبراهيم بن المهديّ:

قد يُرْزَق المرءُ لم تتعب رواحِلُـهُ

ويُحْرَمُ الرِّزقَ مَن لم يُؤْتَ من تَعَبِ

مع أنني واجِدٌ في النـاس واحـدةً

الرزقُ أرْوَغُ شيءٍ عن قوي الأدَب

وخَلَةٍ ليس فيها مَن يُخـالـفـنـي

الرزق والنَوْك مَقرونانِ في سَبَـب

يا ثابِتَ العقل كم عاينتَ ذا حُـمُـقٍ

الرزقُ أغرى به من لازم الجَرًبِ

بين أنوشروان والموبذ قال أنوشِرْوان للمُوبَذ: ما رأسُ الأشياء؟ قال: الطبيعة النقيّة تكتفي من الأدب برائحته، ومن العلم بالإشارة إليه، وكما يذهب البذْر في السٌباخ ضائعاً، كذلك الحكمة تموت بموت الطبيعة، وكما تَغلِب السَباخُ طيبَ البَذْر إلى العَفَن، كذلك الحكمة تَفْسُد عند غير أهلها؛ قال كسرى: قد صدقتَ وبحق قلدناك ما قلًدناك.
قال بعضُ السلف: يكون في آخر الزمان علماء يُزَهِّدون في الدنيا ولا يَزْهَدُون ويُرَغبون في الآخرة ولا يَرْغبون، يَنْهَوْن عن غشيان الولاة ولا ينتْهون، يُقَربون الأغنياء ويُباعدون الفقراء، وَيَنْقبِضون عند الحُقرَاء، وينبسطون عند الكُبرَاء: أولئك الجبارون أعداء الرحمن.
لابن عمر في العلم نافع عن ابن عُمَر قال: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري.

الكُتُب والحفظ

للخليل بن أحمد حدّثني إسحاق بن إبراهيم قال: حدّثني قريش بن أنَس قال: سمعت الخليل بن أحمد يقول: اسْلَمْ من الوَحْدة. فقيل له: قد جاء في الوَحدةِ ما جاء. فقال: ما أفسدَها للجاهل، قال بعض الشعراء في قوم يَجمْعون الكُتُب ولا يَعْلَمون:

زَوامِلُ للأسفارِ لا عِلْمَ عندهـم

بجيدِها إلا كعِـلْـم الأبـاعِـرِ

لعمرُك ما يَدْرِي المِطي إذا غدا

بأحمالها أو راحَ ما في الغَرَائزِ

ليحيى بن خالد وللشعبي قال يحيى بن خالد: الناسً يكتُبون أحسنَ ما يَسمعون، ويحفظون أحسنَ ما يكتُبون ويتحدثون بأحسن ما يَحفظون.
قال الشَعْبيّ: لو أن رجلاً حفِظ ما نَسِيتُ كان عالماً.
لرجلً يصف رجلاً كان يغلط في علمه ووَصَف رجلٌ رجلاً فقال: كان يَغْلَطً في علمه من وجُوهٍ أربعةٍ: يَسمع غيرَ ما يُقال؛ ويَحفَظ غير ما يَسمع، ويكتُب غيرَ ما يحفَظ، ويُحدِّث بغير ما يَكْتُب.
لأبي نواس عن الأصمعي وأبي عبيدة قيل لأبي نُوَاس: قد بَعَثُوا إلى أبي عُبَيدة والأصمعي ليُجْمَعَ بينهما. فقال: أما أبو عُبَيدة فإن أمْكَنوه من شُقَره قرأ عليهم أسَاطيرَ الأولين، وأما الأصمعي فبُلْبلٌ في قَفَص يُطر بهم بنَغَماتَه.

القرآن

لابن شقيق في أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون بيع المصاحف والأخذ على التعليم حدثني الزٌيادي قال: حدثنا عبدُ الوارث بن سعيد عن الجُرَيْرِي عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يَكْرَهون بَيْعَ المصاحِف ويَرَوْنه عظيماً، وكانوا يَكْرهون أن يَأخُذَ المعلمُ على تعليم الغِلْمان شيئاً.
لعلي بن أي طالب في المؤمن والفاجر حدثني محمد بن عبد العزيز عن خالد الكاهلي عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عليه السلام قال: مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مَثَل الأتْرجة ريحُها طَيب وطعمُها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التَمْرة طعمُها طيب ولا رِيحَ لهاة ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن مثل الرَّيْحَانة ريحها طيب وطعمها مُرٌّ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن مثل الحَنْظَلة طعمها مُر ولا رِيحَ لها.
للنبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو وحدثني محمد بن عُبَيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن إسماعيل بن أمية ولَيْث بن أبي سُلَيم عن نافع عن ابن عُمَر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا تُسَافروا بالقرآن إلى أرض العدو فإني أخاف أن يَنَاله العدو".
في الاستفتاح بالبسملة حدّثني أبو سفيان الغنوي قال: حدّثنا عُمَيْر بن عِمْران العَلاّف قال: حدثنا خُرَيمة ابن أسد المُرِّي قال: كان سعيدُ بن المُسيب يَستفتح القراءة ب"ببسم الله الرحمن الرحيم" ويقول: إنها أوّلُ شيءٍ كُتِب في المصحف، وأوّل الكُتُب، وأوّل ما كَتَبَ به سُليمانُ بن داود إلى المرأة.
بين عمران بن حُدَير وأعرابي وحدّثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعيّ قال: حدثنا رجل عن عِمْران بن حُدَيْر قال: قرأت علِى أعرابيّ آخر سُورة "براءة" فقال: كان هذا من آخر ما نَزَل. قالوا: كيف. قال: أرى أشياء تُقْضى وعُهوداً تُنْبَذُ. قال: وقرأتُ عليه سُورة الأحزاب فقال: كأنّها ليست بتامّة.
لعبد الله بن مسعود في الحواميم حدّثني محمدُ بن عُبيد قال: حدثنا سفيانُ بن عُييَنة عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد قال: قال ابن مسعود: "حم" دِيباج القرآن. قال: وزاد فيه مِسْعَر، قال عبد الله: إذا وقعتُ في ال "حم" وقعتُ في رَوْضات دَمِثات أتأنَق فيهن.
للحسن في حَمَلة القرآن حدّثني شيخٌ لنا عن المُحارِبي قال: حدّثنا بكر بن خُنَيس عن ضِرَار بن عَمْرو عن الحسن قال: قراء القرآن ثلاثةٌ: رجل اتّخذه بِضَاعةً ينقله من مصر إلى مصر، يطلُب به ما عند الناس؛ وقومٌ حفِظوا حروفَه، وضيًعوا حُدوده، واستدرُوا به الوُلاة، واستطالوا به على أهل بلادهم - وقد كَثَر الله هذا الضربَ في حَمَلة القرآن لا كثرهم الله - ورجلٌ قرأ القرآن فَبَدَأ بما يَعْلَم من دَواء القرآن فوَضَعه على دَاءِ قلبِه. فسَهِر ليلَه وهَمَلَت عيناه، تَسَرْبَلوا الخُشُوعَ، وارتدَوْا بالحُزْن، ورَكدُوا في محاريبهم، وجَثَوْا في بَرَانِسهم، فبهم يَسْقِي الله الغَيْثَ، ويُنْزِك النًصَر، ويَرْفَعُ البَلاءَ، واللِه لَهَذا الضَّرْبُ في حَمَلَة القرآن أقل من الكِبْريت الأحمر.
للنبي صلى الله عليه وسلم في فضل القرآن رَوَى الحارثُ الأعْورُ عن عليّ عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كتاب الله فيه خَبَرُ ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وحُكْمُ ما بينكم هو الفصلُ ليس بالهَوْل هو الذي لا تُزِيغُ به الأهواء ولا تَشْبَع منه العلماء ولا يَخْلُق عن كثرة الرد ولا تَنْقَضِي عجائبُه هو الذي مَن تركه من جبارٍ قَصَمه الله ومن ابتغى الهُدى في غيره أضلَه اللّه هو حَبْلُ اللّه المتين والذَكر الحكيم والصراط المستقيم خذها إليك يا أعور.
لابن مسعود فيما ينبغي لحامل القران المُحارِبيّ قال: حدثنا مالكُ بن مِغْول عمن أخبره عن المُسَيَّب بن رافع عن عبد الله بن مسعود قال: ينبغي لحامل القرآن أن يُعْرَف بليلِه إذ الناسُ نائمون، وبِحُزْنه إذ الناس يَفْرَحون، وببكائه إذ الناس يَضْحَكُون؛ وينبغي لحامل القرآن أن يكون عليماً حكيماً ليناً مُستَكِينا.
للنبي صلى الله عليه وسلم وكيع عن أبي مَعْشر المَدِيني عن طلحة بن عبيد الله بن كَريز قال: قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من تعظيم جَلاَل الله إكرَامَ في الشًيْبة في الإسلام وإكرامَ الإمام العادل وإكرامَ حامل القرآن".
لبعض المفسرين قال بعضُ المفسرين في قول اللهّ عَز وجل: "سَأصرِفُ عَن آيَاتيَ الَذِينَ يَتَكًبَرُونَ في الأرْض بِغَيْرِ الْحَق" أحْرِمهُم فَهْم القرآن.
لأعرابي وقد سمع ابن عباس يقرأ سورة من القرآن الكريم  
سَمِع أعرابيّ ابن عباسٍ وهو يقرأ "وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النًارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْهَا". فقَال: واللِه ما أنقذهم منها وهو يُريد أن يُدخِلَهم فيها، فقال ابن عباس: خُذْها من غير فقيه.

الحديث

للأعمش عن إسماعيل بن رجاء حدّثني إسحاقُ بنُ إبراهيمَ بن حبيب بن الشَهيد قال: حدّثنا محمد بنِ فُضَيْل عن الأعْمش قال: كان إسماعيلُ بن رَجَاء يَجمع صِبْيانَ الكُتَاب فيُحدَثهم كيلا يَنْسَى حَدِيثه.
بين حبيب بن أبي ثابت والأعمش وحدّثني إسحاق الشَهيديً قال: حدثنا أبو بكر بن عيّاش عن الأعمش قال: قال لي حبيب بن أبي ثابت: لو أنّ رجلاً حدَّثني عنك بحديثٍ ما بالَيْت أن أرْوِيه عنك.
لربيعة بن أبي عبد الرحمن حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي عن نافع عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: ألْف عن ألفٍ خير من واحدٍ عن واحدٍ إن فلاناً عن فلانٍ يَنْتَزع السُنَة من أيديكم.
للحسن في: وَيْح حدثني الرياشيٌ قال: رُوِي عن محمد بن إسماعيل عن مُعتَمِر قال: حدّثني مُنْقذٌ عن أيوب عن الحسن قال: وَيْح: رَحْمة.
للنبي صلى الله عليه وسلم حدثنا الرياشيّ قال: رَوى ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سُهَيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هُرَيرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَضَى باليمينِ مع الشاهد؛ قال ربيعة: ثم ذاكرتُ سُهَيْلاً بهذا الحديثِ فلم يَحفظه، فكان بعد ذلك يَرْوِيه عني عن نفسه عن أبيه عن أبي هُرَيرة.
لشعبة عن قتادة في الحديث حدثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن شُعْبة قال: كان قَتَادةُ إذا حدث بالحديث الجيِّد ثم ذهب يجيء بالثاني غدْوَه.
لشعبة وقد سُئِل عن الني يُترك حديثه يلغني عن ابن مَهْديٍّ قال: سئل شُعْبَةُ: مَن الذي يُتْرَكُ حديثه؟ فقال: الذي يُتَهم بالكَذِب، ومن تكثر بالغَلط، ومن يخطئ في حديث مُجْمَع عليه فلا يَتَهِمُ نفسَه ويُقيم على غَلَطِه، ورجل رَوَى عن المعروفين ما لا يَعْرفه المعروفون.
لمالك في أربعة لا يؤخذ العلم منهم وعن مالك أنه قال: لا يُؤخَذُ العلمُ من أربعة: سفيهٍ معلَن بالسفه، وصاحبِ هَوىً، ورجلٍ يَكذِب في أحاديث الناس وإن كنتَ لا تَتَهمه في الحديث، ورجل له فضل وتعفّف وصلاح لا يعرِف ما يحدث.
شعر للأصمعي يرثي سفيان ابن عيَيْنَة حدثني عبدُ الرحمن عن الأصمعي أنه رَثَى سفيان بن عُيينة فقال:

فَلْيَبْكِ سُفْيانَ باغي سُـنَةٍ دَرَسـتْ

ومُسْـتَـبِـيتُ أثـاراتٍ وآثـارِ

ومُبْتَغِي قُرْب إسنادٍ ومـوعـظةٍ

وافَقِيُّون من طَـارٍ ومـن طـارِ

أمْستْ مجالِسُه وَحْشاً مُـعَـطـلةً

من قاطنِين وحُجـاجٍ وعُـمًـار

مَن للحديث عن الزُهرِيِّ حين ثَوَى

أو للأحاديثِ عَنْ عَمْرِو بن دينارِ

لن يَسمَعُوا بعلي مَن قال حدّثنا ال

زهري من أهل بدْوِ أو بإحْضارِ

لا يَهنأ الشامِتَ المسرًورَ مَصْرَعهُ

من مارقينَ ومِن جُحَـاد أقـدار

ومِن زَنـادِقةٍ جَـهْـمٌ يَقُـودهـم

قَوْداً إلى غَضَبِ الرحمن والنـارِ

ومُلْحِدين ومُرتابين قد خَـلَـطُـوا

بِسُنًة الله اهـتـارا بـاهْـتـارِ

لآخر يرثي مالك بن أنس وقال آخر في مالك بن أنس الفقيه:

يَأبَى الجَوَابَ فما يُراجَعُ هَيْبَةً

والسائلون نَواكِـسُ الأذقـانِ

هَدْيُ التقيّ وعز سلطان التُقَى

فهو المُطاع وليس ذَا سُلْطانِ

لهشام بن حسّان عن الحسن حدّثنا أبو الخَطَاب قال: حدّثنا محمد بن سًوّار قال: حدّثنا هِشام بن حسان قال: كان الحسن يًحدثنا اليومَ بالحديث ويرُدُه الغَدَ ويزِيد فيه وينقُص إلا أن المعنى واحد.
لحذيفة بن اليمان حدثني أبو الخطاب قال: حدّثنا ميمون قال: حدّثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال حُذَيْفَةُ بن اليَمَان: إنا قوم عَرَب فنقدِّم ونؤَخِّر ونَزيد ونَنْقُص، ولا نرِيد بذلك كَذِبا.
لأبي إسحاق الشامي ولمسعر أبو معاوية قال: قال أبو إسحاق الشاميّ: لو كان هذا الحديث من الخبز نقص.
أبو أسامة قال: قال مِسعر: من أبغضني فجعله الله محدّثاً.
للأعمش ولسفيان في كراهية التحدث أبو معاوية قال: سمعت الأعمش يقول: والله لأنْ أتصدَق بِكِسْرة أحسن إليّ من أن أتحدث بستين حديثاً.
أبو أسامة قال: سمعت سُفْيانَ يقول: لوددتُ أنها قُطِعتْ من هامتي، وأومَأ إلى المَنْكب وأني لم أسْمَع منه شيئاً.
لأبن عيينة في مثل فلك المعنى قال ابن عُيَينة: ما أحدث لمَن أحِبّ أن يكون أحْفَظَ الناس للحديث.
قال بعضهم: إنَي لأسمْع الحديثَ عُطلا فأشَنَفه وأقرطه وأقلده فيَحسنُ، وما زدتُ فيه معنى، ولا نقصت منه معنى.
للأعمش وقد سأله حفص بن غياث عن إسناد الحديث أبو أسامة قال: سَأل حَفْص بن غياثٍ الأعمشَ عن إسناد حديثٍ فأخذ بِحَلْقه وأسنده إلى الحائط وقال: هذا إسناده.
مثله للسمّاك وللحسن وحدث ابن السًمِّاك بحديثٍ فقال له رجل: ما إسناده؟ فقال: هو من المُرْسَلَاتِ عُرْفا.
وحدث الحسن بحديث، فقال له رجلٌ : يا أبا سعيد، عمن؟ قال: وما يصنع بمَن؟ أما أنت فقد نالتْك موعِظتُه، وقامت عليك حجته.
للأعمش في طلب الفقه يَعْلَى قال: قال الأعمش: إذا رأيتُ الشيخ لم يطلب الفقهَ أحببتُ أن أصْفَعَه.
ابن عُيينة قال: قال الأعمش: لولا تَعَلُّم هذه الأحاديث كنتُ كبعض بَقَالي الكُوفة.
بين حاج خراساني وابن عُيَيْنة ازدحم الناس يوماً على باب ابن عيينة أيام المَوْسِم وبالقُرب منه رجل من حاجَ خُراسَان قد حطّ بمَحْمِله فَدِيس وكُسِرَ ما كان معه وانتهب كَعْكُه وسَوِيقُه، فقام يسيرُ إلى سفيانَ ويدعو وبقول: إني لا أحِل لك ما صنعتَ؛ فقال سفيان: ما يقول؟ فقال بعضهم: يقول لك: زدنا في السماع رحمك اللّه.
شعر العلاء بن المنهاد الغنوي في شريك أنشدني أبو حاتم عن الأصمعي للعَلاء بن المِنْهَال الغَنَوِي في شَرِيك:

ليت أبا شَرِيكٍ كـان حـياً

فيُقْصِرَ حين يُبصِرُه شَرِيكُ

ويَتْرُكَ من تَدرَيه علـينـا

إذا قلنا له هـذا أبـوكـا

مثله لآخر في شريك وقال آخر:

تحرّز سُفـيانٌ وفـرْ بـدينـهِ

وأمسى شرِيكٌ مُرْصَداً للدراهم

ولآخر في شهر بن حوشب وقال آخر في شَهْر بن حَوْشَبٍ:

لقد باع شهرٌ دينَه بـخَـرِيطةٍ

 

فمن يأمن القراء بعدك يا شهرُ

وذلك أنه كان دخل بيت المال فسَرَق خَرِيطةً، ورافق رجلًا من أهل الشام فَسَرق عَيْبَتَه.
ولابن مناذر يهجو ابن داب وقال ابن مُنَاذِر:

ومن يبغ الوَصَاةَ فإن عِنْـدي

وَصاةً للكُهُول وللـشَـبـابِ

خذوا عن مالكٍ وعن ابن عَوْنٍ

ولا تَرْوُوا أحاديثَ ابـن دَاب

لحبيب بن أبي ثابت ثم لسفيان عبد العزيز بن أبَان عن سُفيان عن حبيب بن أبي ثابت قال: طلبنا هذا الأمر وما لنا فيه نِيّة، ثم إنّ النية جاءت بعدُ؛ فقال سفيان: قال زيد بن أسْلَم: رأيتم رجلاً مدّ رِجله فقال: اقطعوها سوف أجْبُرها.
لرقبة بن مصقلة قيل لرَقَبَة: ما أكثر شَكّك! فقال: محاماة عن اليقين.
وبين شعبة وأيوب السختياني وقال بعضهم: سأل شُعْبَةُ أيُّوب السخْتِيَانيّ عن حديث فقال: أنا أشُك فيه. فقال: شَكُّكَ أحبّ إلي من يقينِ سبعة.
للشرقي بن قطامي وقد سُئِل عما كانت العرب تقول في صلاتها على موتاها حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثني بعضُ الرواة قال: قلت للشرَقِي بن قُطَامَي: ما كانتِ العربُ تقول في صلاتها على موتاها؟ فقال: لا أدري، فأكْذِب له؛ فقلت: كانوا يقولون:

ما كنتَ وَكْوَاكاً ولا بِـزَوَنَـكٍ

رُوَيْدكَ حتى يَبْعَثَ الحًقّ باعِثُهْ

وَكْوَاك: غليظ، وزونك: قصيرة قال: فإذا أنا به يُحدث به في المقصورة يومَ الجمعة.
لأبي نواس قال أبو نُوَاس:

حدثني الأزرقُ المحـدثُ عـن

عَمْرو بن شِمْر عن ابن مسعود

لا يُخلِفُ الوعدَ غيرُ كـافـرِه

وكافرٍ في الجحيم مَصـفـودِ

بين شقيق البلخي وعلي بن إسحاق في أبي حنيفة حدثني مِهْيَار قال: حدثني هُدْبَةُ بن عبد الوهاب عن شَقيق البَلْخِيّ أنه أطرى يوماً حنيفة رحمه الله بمَرْو فقال له عليّ بن إسحاق: لا تُطْرِه بمَرْو فإنهم لا يحتملون ذلك. فقال شَقِيق: قد مَدَحه مُساوِرٌ الشاعر فقال:

إذا ما الناسُ يوماً قَايَسُونـا

بآبِدَةٍ من الفُتْيَا ظَـرِيفَـهْ

أتيناهُمْ بمقْياسٍ صـحـيح

تِلادٍ من طراز أبي حنيفة

إذا سمع الفقِيهُ بها وعاها

وأثبتها بحبرٍ في، صحيفة

فقال له: قد أجابه بعض أصحابنا:

إذا ذُو الرَّأي خَاصمَ في قِياسٍ

وجاء بِبدْعَةٍ هَنَةٍ سـخـيفـه

أتيناهم بقـول الـلـهّ فـيهـا

وآثـارٍ مـبَـرَّزة شــريفة

فكم من فَرْج مُحْصَنَةٍ عَفِـيفٍ

أحلً حرامُه بأبي حـنـيفـه

أقال أبو حنيفة بنت صُـلْـبٍ

تكون من الزنا عُرْساً صحيحه

لرجل وقد سمع منادياً يطلب شيخاً ضالاً فأحضره إلى بِشر المريسي سَمِع رجل منادياً يُنادي: من يَدئُنا على شيخ ضل؟ فقال: ما سمعتُ كاليوم شيخٌ يُنَادي عليه، ثم جاء به إلى بِشْر المِريسِي فقال: هذا شيخ ضال فَخُذْ بيده؛ وكان بِشْرٌ يقول بخلقَ القرآن.

الأهواء والكلام في الدّين

بين المأمون وعلي بن موسى الرضي قال المأمونُ يوماً لعلي بن موسى رضي عليهما السلام: بم تدعون هذا الأمر. قال بقرابة علي من النبي صلى الله عليه وسلم، وبقرابة فاطمة رضي الله عنها. فقال المأمون: إن لم يكن هاهنا شيء إلا القرابة ففي خَلَفِ رسول الله !صلى الله عليه وسلم من أهل بيته مَنْ هو أقربُ إليه من علي، ومَنْ هو في القرآن مثلُه، وإن كان بقرابة فاطمةَ من رسول الله، فإن الحق بعد فاطمةَ للحَسَن والحُسَين وليس لعلي في هذا الأمر حق وهما حَيان؛ وإذا كان الأمر على ذلك، فإن عليّاً قد ابتزهما جميعاً وهما حيان صحِيحان، واستولى علي على ما لا يَجِبُ له. فما أحارَا علي بن موسى نطقا.
حدثنا الرياشيٌ قال سمعت الأصمعي ينشد:

وإنَي لأغْنَى الناس عن متـكـلـم

يَرعى الناسَ ضلالاً وليس بُمهتدي

وأنشدني أيضاً الرِّياشي:

وعاجزُ الرأي مِضْيَاع لفُرْصَتهِ

حتى إذا فات أمْرٌ عاتبَ القَدرا

وقال آخر:

إذا عُيروا قالوا مقاديرُ قُدَرَتْ

وما العارُ إلا ما تَجُر المَقَادرُ

وأنشدني سَهْلٌ عن الأصمَعِي:

يا أيها المُضْمِرُ هَماً لا تُهـم

إنك إن تُقدرْ لك الحُمَى تُحَمً

ولو غَدوْتَ شَاهِقاً من العَلَم

كيف تَوَقَيك وقد جَفً القَلَمْ

وأنْشَدني غيرُه:

هِيَ المقاديرُ فَلُمْـنِـي أو فَـدَرْ

إن كنتُ أخطأتُ فما أخطأ القَمَر

لأبي يوسف القاضي في طالبي الدين والكيمياء والحديث قال أبو يوسف: مَن طَلَب الدين بالكلام تَزَنْدَق، ومَن طلب المال بالكيمْيَاء أفْلَس، ومَن طَلَب غرائِبَ الحديث كَذَب.
لمسلم بن أبى مريم وقد كُسِرت رجله كان مُسْلِمُ بن أبي مَرْيم - وهو مَوْلًى لبعض أهل المدينة وقد حُمِل عنه الحديثُ - شديداً على القَدَرِنة، عائباً لهم ولكلامهم، فانكسَرت رِجلُه فتركها ولم يَجْبُرها، فكُلِّم في ذلك فقال: يَكْسِرها هو وأجبْرُها أنا لقد عاندته إذاً.
بين هشام بن الحكم وبين رجل قال رجل لهِشَام بن الحَكَم: أترى الله عز وجل في فضله وكَرَمه وعَدْله كَلًفَنَا ما لا نُطيق ثم يُعَذَبنا؛ فقال هشام: قد والله فَعَل، ولكننا لا نَسْتَطيع أن نتكلم.
بين قَدري ومجوسي حدثني رجلٌ من أصحابنا قال: صاحَبَ رجل من القَدَرِية مَجُوسِيّاً في سَفَر فقال القدَري: يا مجوسي، ما لك لا تُسْلِم؟ قال: حتى يَشَاء الله! قال: قد شاء الله ذلك، الشيطانَ لا يَدَعُك. قال المجوسي: فأنا مع أقواهما.
بين أبو عَمْرو بن العلاء وعَمْرو بن عبيد اجتمع أبو عَمْرو بن العَلاَء وعمرو بن عُبَيد فقال عمرو: إن الله وَعَدَ وَعْداً وأوْعَد ايعاداً وإنه مُنْجِزٌ وعْدَه ووعيدَه. فقال له أبو عَمْرو: أنت أعْجَم! لا أقول إنَك أعْجَمُ اللسان، ولكن أعجم القَلْب! أما تعلم، وَيْحَكَ! أن العرب تَعُد إنجاز الوَعْد مَكْرُمة، وتَرْكَ إيقاع الوعيد مكرمة ثم أنشد:

وإني وَإنْ أوْعدْتُه أو وعَـدْتُـه

 

لمُخْلِفُ إيعادي ومُنْجِزُ مَوْعدي

بين حبيب بن الشهيد وإياس بن معاوية في القدري
حبيب بن الشهيد قال: قال إِياسُ بن معاوية: ما كلَّمتُ أحداً بعَقْلي كفَه إلا صاحب القَدَر قلت: ما الظلمُ في كلام العرب؟ قال: هو أن يَأخُذ الرجلُ ما ليس له، قلت: فإن الله له كل شيء.
من كتاب الهند وفي كتاب للهند: اليقينُ بالقدر لا يَمنعُ الحازِمَ تَوَقَيَ المهالك، وليس على أحدٍ النّظرُ في القدر المُغَيَّب، ولكن عليه العمل بالحَزْم، ونحنُ نجمَعْ تصديقاً بالقدَرَ وأخذاً بالحَزْم.
بين ابن سوّار ورافضيّ حدثني خالد بن محمد الأزْدي قال: حدّثنا شَبَابَةُ بنُ سَوَّارٍ قال: سَمِعتُ رجلاً من الرافضة يقول: رحِمَ اللهّ أبا لُؤْلُؤةَ! فقلت: تَتَرَحّم على رَجُلٍ مَجُوسيّ قتل عُمَرَ بنَ الخَطّاب رضي اللّه عنه! فقال: كانت طعنَتُه لِعُمَر إسلامَه.
لأمير من أمراء المدينة ورجل شتم أبا بكر وعمر حدثني أحمدُ بن الخليل قال: حدثنا الأصمعي قال: أخبرني عاصم بن محمد العُمَرِيّ كنتُ جالساً عند أميرٍ من أمراء المدينة فأتِيَ برجلٍ شَتَم أبا بكر وعُمَر فأسلمه حجاماً حتى حذق.
لبعض شعراء الرافضة في محمد بن الحنفية وقال بعضُ شعراء الرافِضة في محمد بن الحَنَفِيّة:

ألا قُلْ للوَصِيّ فَدتْك نـفـسـي

أطلْتَ بذلك الجَبَل المُـقـامـا

أضَر بمعْشـرٍ وَالَـوْكَ مـنّـا

وسًمّوْك الخَلِـيفةَ والِإمـامَـا

وعَادَوْا فيك أهلَ الأرض طُـرّاً

مُقامك عنهمُ سـتـين عـامـا

وما ذاق ابن خَوْلة طَعْمَ مـوتٍ

ولا وَارتْ له أرضٌ عِظـامـا

لقد أمسى بمُورِق شِعْب رضْوى

تُراجعهُ الملائكةُ الـكـلامـا

شعر لكثير عزّة يمدح علي بن أبي طالب وأولاده وقال كُثَير عَزّة فيه وكان رافِضِيّاً يقول بالرَّجْعة:

ألا إن الأئِمّة مـــــــن قُــــــــرَيشٍ

وُلَاةً الـــحَـــق أربـــعةٌ سَــــــواءُ

علـي والـــثـــلاثةُ مـــن بـــنَـــيهِ

هُمُ الأسـبـاطُ لـيس بـهـــم خَـــفَـــاءُ

فسِـبْـــط سِـــبْـــطُ إيمـــانٍ وبِـــرٍّ

وسِـبْـطٌ غَــيَّبـــتَـــهْ كَـــرْبَـــلاَءُ

وسِـبْـطٌ لا يَذُوق الــمـــوتَ حـــتـــىِ

يَقُـودَ الـخـيلَ يَقْـدُمـهـــا الـــلِّـــوَاءُ

تغيب لا يُرَى عنهم زماناًبِرَضوَى عنده عَسَل وماءُ

 

وهم يذكرون أنه دخل شِعْبا باليمن في أربعين من أصحابه فلم يُرَ لهم أثر.
لطلحة بن مصرّف قال طلحة بن مُصرف لرجل: لولا أني على وُضوءٍ لأخبرتُك بما تقول الشَيعة.
شعر لهارون بن سعد العجلي الزيدي يتبرأ من الرافضة قال هارون بن سعد العِجْلي وكان رَأْسَ الزيدية:

ألم تَرَ أن الرافِـضِـين تَـفَـرًقُـوا

فكُلهُمُ في جَعْفـرٍ قـال مُـنْـكَـرَا

فطـائفة قـالـوا إِلـهٌ ومـنـهـمُ

طوائف سَمّتْهُ النبيَّ الـمُـطـهَـرَا

فإن كان يَرْضَى ما يقولون جعـفـرٌ

فإنَي إلى رَبي أفـارِق جَـعْـفَـرَا

ومن عَجب لم أقْضِهِ جِلْدُ جَفْـرِهـم

بَرِئتُ إلى الرحمن ممن تَـجَـفَـرا

بَرِئت إلى الرحمن من كل رافـضٍ

بَصيرٍ بباب الكُفْر، في الدين أعـورا

إذا كًفّ أهلُ الحق عنِ بدْعة مَضَـى

عليها وإن يَمْضُوا على الحق قصرا

ولو قال إن الفِيلَ ضب لـصـدّقـوا

ولو قال زِنْجِي تـحـوَّل أحْـمَـرَا

وأخْلَفُ من بَوْل الـبَـعِـير فـإنـه

إذا هـو لـلإقـبـال وُجـه أدْبَـرا

فَقُـبـحَ أقـوام رَمَـوْه بِـفــرْيةٍ

كما قال في عيسى الفِرَى من تَنصرا

لبعض أهل الأدب في الروافض سمعت بعضَ أهل الأدب يقول: ما أشبهَ تأويل الرافضة للقرآن بتأويل رجل للشِّعْر، فإنه قال يوماً: ما سمعتُ بأكذَبَ من بني تميم! زعموا أن قولَ القائل:

بَيْتٌ زُرَارةُ مُحْتَبٍ بِـفـنَـائه

ومُجاشِع وأبو الفوارِس نَهْشَلُ

إنما هو في رجال منهم، قيل له: ما تقول أنت. قال: البيت بيت اللّه، وزُرارة الحجر؛ قيل له: فمجاشع؟ قال: زمزم جَشِعت بالماء؛ قيل له: فأبو الفوارس. قال: أبو قُبَيْس؛ قيل: نهشل؟ قال: نهشل أشد. وفكر ساعةً ثم قال: نعم، نهشل! مِصباح الكعبة طويلٌ أسودُ فذاك نهشل!.
لأعشى همدان يذكر قتل الرافضة الناسَ قال أعشىِ هَمْدَان يذكُر قتلَ الرافضةِ الناسَ:

إذا سِرْت في عِجْل فسِر في صحابة

وكِندَة فاحذرْها حِذَارك للخَـسْـفِ

وفي شيعة الأعْـمـى زِيادٌ وغِـيلَة

ولَسْبٌ وإعمال لجنـدلة الـقَـذْفِ

الأعمى هو المُغيرة. وزياد يعني الخَنْق. واللسْب: السم؛ وإعمال لجِنْدلة القذف: يريد رَضْخهم رؤوسَ الناس بالحجارة.
ثم قال:

وكُلُّهُمُ شَر على أنَ رَأسَـهـم

حَمِيدَةُ والمَيْلاَءُ حاضِنةُ الكِسْفِ

والكِسْفُ هذا هو أبو منصور، سُفَي بذلك لأنه قال لأصحابه: قي نَزَلَ: "وَإنْ يَروا كِسْفاً مِنَ السًمَاءِ سَاقِطاً" وكان يَدِين بخَنْق الناس وَقَتْلِهم.
ثم قال:

مَتى كُنتَ في حيًيْ بِجَيلَةَ فاستَمِعْ

فإن لهم قَصْفا يَدلُ على حَتْـفِ

كان المغيرة بَجَلياً مولى لهم.

إذا اعتَزَمُوا يوماً على قَتْل زَائرٍ

تَدَاعَوْا عليه بالنُّبَاح وبالعَـزْفِ

ولابن عيينة وكان ابن عُيينة يُنشِد:

إذا مَا سَرك العَيْشُ

فَلا تأخذْ على كِنْدَهْ

يريد أن الخَنّاقين من المنصورية أكثرًهم بالكوفة من كِنْدَة، منهم أبو قُطْبة الخَنّاق.
قتل خالد بن عبد اللّه للمغيرة وشعر في ذلك حدثني أبو حاتم قال: حدّثنا الأصمعي عن ابن أبي زائدة قال: قال هِشَام بنُ القاسم: أخذ خالد بنُ عبد اللّه المُغِيرَةَ فقتله وصَلَبَه بوَاسِط عند مَنْظَرة العاشر، فقال الشاعر:

طال التًجاوُرُ من بَيانٍ واقـفـاً

ومن المُغِيرة عند جِذْع العَاشِرِ

يا ليته قد شال جِذْعـا نـخْـلَةٍ

بأبي حنيفة وابن قَيْس الناصر

وبيان هذا هو بيان التبان وكان يقول: إلي أشار الله إذ يقول: "هَذَا بَيَان للناس". وهو أوّل من قال بخَلْق القرآن.
سؤال الأعمش للمغيرة بن سعد عن علي بن أبي طالب وأما المغيرة فكان مَوْلًى لبَجِيلَة وكان سَبَائِياً وصاحبَ نِيْرَنْجَات. قال الأعمش: قلت للمغيرة: هل كان علي يُحْي المَوْتى؟ لقال: لو شاء لأحْيَا عاداً وثَمُودَ وقُرونَاً بين ذلك كثيراً.
بين إسماعيل بن مسلم المكي ورجل ادعى أنه علي بن أبي طالب بَلَغنِي عن أبي عاصِم عن إسماعيلَ بنِ مُسْلم المَكَي قال: كنتُ بالكوفة فإذا قوم من جِيرَاني يُكْثِرُون الدخولَ على رجل، فقلت: مَن هذا الذي تدخُلون عليه؟ فقالوا: هذا علي بن أبي طالب. فقلت: ادْخِلُوني معكم. فمضيتُ معهم وخَبأتُ معي سَوْطاً تحتَ ثِيابي فدخلْتُ فإذا شيخ أصْلَعُ بَطِين، فقلت له: أنت علي بن أبي طالب؟ فأوْمَأ برأسه: أي نعم؛ فأخرجتُ السوْة فما زلت أقنعُه وهو يقول: لتاوي لتاوي، فقلتُ لهم: يا فَسَقَة! عليُّ بن أبي طالبٍ نَبَطِي ثم قلت له: ويلك ما قصتك. قال: جُعْلْتُ فِدَاك، أنا رجلٌ من أهل السوَاد أخذني هؤلاء فقالوا: أنت عليّ بن أبي طالب.
حدّثني رجل من أصحاب الكلام قال: دخل هِشامُ بن الحَكَم على بعض الولاة العباسيين فقال رجل للعباسيّ: أنا أقَرِّر هِشاماً بأن عَلِياً كان ظالماً. فقال له: إن فعلتَ ذلك فلك كذا؛ فقال له: يا أبا محمد، أما علمتَ أن عَلِياً نازع العبّاسَ إلى أبي بكر؟ قال: نعم. قال: فأيُّهما كان الظالم لصاحبه؟ فتوقف هِشامٌ وقال: إن قلتُ العباسَ خِفتً العباسي، وإن قلت عَلِياً ناقضت قولي، ثم قال: لم يَكُن فيهما ظالمٌ. قال: فيختصم اثنان في أمر وهما مُحِقًان جميعاً؛ قال: نعم، اختصم المَلَكَان؛ إلى دَاوُدَ وليس فيهما ظالمٌ إنّما أرادا أن يُنَبِّهاه على ظلْمه، كذلك اختصم هذان إلى أبي بكر ليُعَرفاه ظُلْمَه فأسكتَ الرجلَ وأمرَ الخليفةُ لهشام بصِلَة.
شعر لحسان بن ثابت يمدح النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قال حسّان بن ثابت في النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما:

ثَلاَثَة بَـرزُوا بـسَـبْـقِـهُـمُ

نَضرَهم ربهـم إذا نُـشِـروا

عَاشُوا بلا فُـرْقَةٍ حـياتَـهُـم

واجتمعوا في الممات إذْ قُبِروا

فليس مِن مُسْلم لـه بَـصَـر

يُنْكِرُ من فَضْلهم إذا ذُكِـرُوا

شعر لأعرابي في عبد الله بن عمر
يمدح النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقال أعرابيّ لعَبْد اللهّ بن عُمَر:

إليكَ ابن خَيْرِ الناس إلا محمداً

وإلا أبا بَكرٍ نَرُوحُ ونَغْتَـدِي

مثله لأبي طالب ولعبيد اللّه بن عمر وقال أبو طالب في سُهَيْل بن بيضاء، وكان أسِرَ فأطْلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فِدَاءٍ، لأنه كان مُسْلماً مُكْرَهاً على الخروج:

وهم رَجعُوا سَهْلَ بنَ بَيْضاء راضياً

وسُرّ أبو بَكْرٍ بهـا ومُـحـمـدُ

وقال عُبَيد اللهّ بن عمر:

أنا عُبيدُ الله يَنـمِـينِـي عُـمَـرْ

خيرُ قُرَيْش مَن مَضَى ومَنْ غَبَرْ

بعدَ رسول الله والشَّـيْخ الأغَـر

مَهْلاً عُبيَد َالله في ذاك نَـظَـرْ

لحسان بن ثابت يرثي أبا بكر رضي الله عنه وقال حَسّان بن ثابت يَرْثِي أبا بَكْرٍ رَضِيَ الله عنه:

إذا تَذَكَّرتَ شَجْواً من أخي ثـقَةٍ

فاذْكُرْ أخاك أبا بَكرٍ بما فَعَـلا

خيرَ البَرِيَّة أتْقاها وأعْـدَلـهَـا

بعدَ النًبِي وأوفَاها بما حَـمَـلا

والثانِيَ الصادقَ المحمودَ مَشْهده

وأولَ الناس منهم صَدق الرُّسُلا

وكان حِبّ رسول الله قد عَلِمُوا

من البرية لم يَعدِل به رَجُـلا

بين جرير بن ثعلبة وشيطان حدثني مِهْيَار الرازي قال: قال جريرُ بنُ ثَعْلَبة: حَضَرْتُ شيطاناً مَرةً فقال: ارْفُقْ بِي فإنَي من الشِّيعة. فقلتُ: فمَن تَعْرِف من الشيعة؟ قال: الأعمش. فخليتُ سَبِيلَه.
شعر لأبي هريرة العجلي في محمد بن علي بن الحسين قال أبو هريرة العِجْليّ لمحمد بن علي بنِ الحُسَين عليهم السلامِ:

أبا جَعْفَرٍ أنت الوَلـي أحِـبـه

وأرضى بما تَرْضى به وأتابِعُ

أتتنْا رِجال يَحْمِلون عـلـيكُـمُ

أحادِيثَ قد ضاقتْ بهنَ الأضَالِعُ

أحاديثَ أفشاها المُغِيرَةُ فـيهـمُ

وشَر الأمورِ المُحْدَثَاتُ البَـدائِعُ

لعمر بن عبد العزيز حدثني هارونُ بنُ موسى عن الحسن بن موسى الأشْيَبِ عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال: قال عُمَرُ بن عبد العزيز: مَن جَعَل دِينَه غَرَضاً لخُصومات أكثَرَ التنقُل.
قال:

ما ضَر مَن أصبح المأمونُ سَائِسَهُ

إن لم يَسُسْه أبو بَكْرٍ ولا عُمـرُ

الردّ على المُلحِدين

بين ملحد وبعض أصحاب الكلام قال بعض المُلْحِدين لبعض أصحاب الكلام: هل من دَليل على حُدوث العَالَم؟ قال: الحركة والسكون فقال: الحَرَكَةُ والسُّكون من العَالَم، فكأنك إذا قلتَ: الدليلُ على حُدُوث العَالَم العَالَمُ. فقال له: وسُؤالُك إيايَ من العَالَم، فإذا جئتَ بمسألة من غير العالم جئتُك بدليل من غير العالم.
بين المأمون وثَنَوي نَاظَرَ عنده قال المأمونُ لثَنَوي يُناظر عنده: أسألُك عن حرفين قط، خبرْني: هل نَدِمَ مُسيءٌ قَط على إساءته؟ قال: بَلَى. قال: فالنًدَمُ على الإساءة إساءة أو إحسان؟ قال: بل إحسان. قال: فالذي ندَمِ هو الذي أساء أو غيرُه؟ قال: بل هو الذي أساء. قال: فأرى صاحبَ الخير هو صاحبَ الشر، وقد بطل قولُكم، إنّ الذي ينْظُر نَظَر الوعِيد هو الذي ينظُر نَظَر الرحمة. قال: فإني أزعم أن الذي أساء غير الذي نَدِم. قال: فَندِمَ على شيءٍ كان من غيره أو على شيءٍ كان منه؟ فأسْكَته.
بين الموبذ وهشام بن الحكم دخل المُوبَذُ علىِ هشام بنِ الحَكَم فقال له: يا هِشام، حولَ الدنيا شيء؟ قال: لا. قال: فإن أخرجتُ يدي فثَمَّ شيءٌ يَرُدُّها؟ قال هِشام: ليس ثَم شي يَرُدك، ولا شيء تُخْرِج يدك فيه؛ قال: فكيف أعرِف هذا؟ قال له: يا مُوبَذُ؛ أنا وأنت على طَرَف الدنيا فقلتُ لك يا مُوبَذ: إني لا أرى شيئاً، فقلتَ لي: ولم لا تَرَى، فقلتُ لك: ليس هاهنَا ظلام يمنعًني، قلتَ لي: يا هشام إني لا أرى شيئاً، فقلتُ لك: ولم لا ترى؟ قلتَ: ليس ضِياء أنظر به؛ فهل تكافأت المِلَتان في التناقض؟ قال: نعم. قال: فإذا تَكَافأتَا في التناقض لم تَتَكَافأ في الإبطال ليس شيء؟ فأشار المُوبَذُ بيده أن أصَبتَ.
ودخل عليه يوماً آخَرَ فقال: هما في القُوّة سَواء. قال: نعم، قال: فَجَوْهَرُهما واحد؟ قال المُوبَذُ لنفسه - ومَن حضَر يَسْمعُ - إن قلتُ: إن جَوْهَرهُما واحد عادا في نَعْتٍ واحد، وإن قلت: مُختلِفٌ اختلفا أيضاً في الهمَم والإرادات ولم يَتفِقا في الخَلْق، فإن أراد هذا قصيراً أراد هذا طويلاً؛ قال هِشام: فكيف لا تُسْلِم! قال: هَيْهاتَ! بين ملحد وهشام بن الحكم وجاءه رجل مُلْحِد فقال له: أنا أقول بالاثنين وقد عَرَفْتُ إنصافك فلستُ أخاف مُشَاغبَتَك فقال هِشام وهو مشغول بثَوْب يَنْشُره ولم يُقْبِل عليه: حَفِظك اللّه، هل يَقْدر أحدُهما أن يخلقَ شيئاً لا يَسْتعِين بصاحبه عليه؟ قال: نعم؟ قال هِشام : فما تَرْجو من اثنين! واحدٌ خَلَقَ كل شيءٍ أصحّ لك! فقال: لم يُكَلّمني بهذا أحَدٌ قبلكَ.
بين المأمون ومرتدّ إلى النصرانية قال المأمون لمُرْتدّ إلى النصرانية خَبَرنْا عن الشيء الذي أوحشَكَ في ديننا بعد أنْسِك به واستِيحاشِك ممّا كنتَ عليه؛ فإن وجدتَ عندنا دَواءَ دَائِك تعالجتَ به، وإن أخْطَأ بك الشَفَاءُ ونَبَا عن دائك الدَّوَاءُ كنتَ قد أعذرتَ ولم تَرْجِع على نفسك بلائمة، وإن قتلناك قتلناك بحُكْم الشريعة، وتَرْجِع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثقَةِ وتَعْلم أنّك لم تُقَصَر في اجتهاد ولم تُفَرط في الدخول من باب الحزم؛ قال المُرْتَدُّ: أوحشني ما رأيتُ من كثرة الاختلافِ فيكم، قال المأمون: لنا اختلافان: أحدُهما كالاختلاف في الأذان، والتكبير في الجنائز، والتشهُد، وصلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووُجُوه القِراءات، ووجوه الفُتْيا، وهذا ليس باختلافٍ، إنما هو تخيُرٌ وسعَة وتخفيفٌ من المِحْنة، فمن أذنَ مَثْنَى وأقام مثنى وأقام فُرَادىَ، ولا يَتَعايَرُون بذلك ولا يتَعَايبَوُن، والاختلافُ الآخرُ كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا، وتَأْوبل الحَدِيث معِ اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عَيْن الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنْكَرْت هذا الكتابَ، فقد يَنْبغي أن يكونَ اللفظُ بجميع التوراة والإنجيل متَفَقاً على تأويله كما يكون متَفقاً على تنزيله، ولا يكون بين جميع اليهود والنصارى اختلافٌ في شيء من التأويلات؛ وينبغي لك ألاَ تَرْجِع إلا إلى لُغَةٍ لا اختلافَ في تأويل ألفاظها؛ ولو شاء الله أن يُنْزِلَ كُتُبَه ويَجْعَلَ كلامَ أنبيائِهِ وورثةِ رسلِه لا يحتاج إلى تفسير الفَعَل، ولكنَا لم نَرَ شيئاً من الدَين والدُنيا دُفِع إلينا على الكفاية، ولو كان الأمرُ كذلك لسقَطَت البَلْوَى والمِحْنةُ، وذهبت المسابقةُ والمنافسة ولم يكن تفاضلٌ، وليسِ على هذا بَنَى الله الدنيا. قال المرتَد: أشهَدُ أن لا إلهَ إلا اللّه، وأن المَسِيحَ عَبْدٌ، وأن محمداَ صادقٌ، وأنك أميرُ المؤمنين حَقَاً.

الإعراب واللحن

بين عبد الملك بن مروان ورجل كان يرى رأي الخوارج حدثني أبو حاتمِ عن الأصْمَعِيّ قال: سمِعتُ مَوْلًى لآلِ عُمَر بنِ الخطاب يقول: أخذَ عبدُ الملك بنُ مَرْوانَ رجلاً كان يَرَى رَأي الخوارج، رأي شَبِيب؛ فقال له: ألستَ القائل:

ومِنّا سوَيْد والبَطِين وقَعْنَب

ومِنّا أمِيرُ المؤمنين شَبِيبُ

فقال: إنما قلتُ: "ومنا أميرَ المؤمنين شبيبُ" بالنصب، أي يا أميرَ المؤمنين. فأمر بتخلية سبيله.
رفيع بن سلمة يخاطب أبا عثمان النحوي حدّثني عبدُ اللّه بن حَيان قال: كتب رَفِيع بن سَلَمَة المعروف بحَمَاد إلى أبي عُثمان النَحْوِي :

تَفَكّرْتُ في النَّحْو حتى مَـلـل

تُ وأتعبتُ نفسي به والبَـدَنْ

وأتعبتُ بَكْـراً وأصـحـابَـهُ

بطولِ المسائل في كـل فَـن

فمِن عِلْـمِـه ظـاهِـر بَـينٌ

ومِن عِلْمهِ غامض قد بَطَـنْ

فكنتُ بظـاهـره عـالِـمـاً

وكنتُ بباطـنـه ذَا فِـطَـنْ

خلا أنَّ باباً علـيه الـعَـفَـا

ءُ للفاء يا لـيتَـه لـم يَكُـن

وللواوِ بـابٌ إلـى جَـنْـبِـهِ

من المَقْت أحْسبُه قد لُـعِـنْ

إذا قلتُ هـاتـوا لـمـا يُقَـا

ل لستُ بـآتِـيك أو تَـأتِـيَنْ

اجيبُوا لمـا قـيل هـذا كـذا

علي النصب قالوا لإضْمار أنْ

أو ما إن رأيتُ لها مَوْضِعـا

فاعرِفَ ما قيل إلا بِـظَـنّ

فقد خِفْتُ يا بَكْرُ مِن طُول ما

أفَكَر في أمْرِ أنْ أن أجَـنْ

لابن سيرين قال ابن سِيرينِ: ما رأيتُ على رجل أحْسن من فَصَاحة، ولا على امرأة أحسن من شَحْم.
لابن شبرمة في فضل تعلُّم العربية وقال ابن شُبْرُمة: إذا سَرك أن تَعْظُم في عَيْن مَن كنتَ في عينه صغيراً، ويَصْغُرَ في عينكَ من كان في عينك عظيماً فتعلم العربيةَ، فإنها تُجْرِيك على المَنْطِق وتُدْنِيك من السْلطان. ويقال: النحو في العِلْم بمنزلة المِلْح في القِدْر والرامِكِ في الطيب. ويقال: الإعرابُ حِلْيةُ الكلام ووَشْيُهُ.
لبعض الشعراء في النحو وقال بعضُ الشعراء:

النحوُ يَبْسُطُ من لسانِ الألْكَنِ

والمرءُ تًكْرِمُه إذا لم يَلْحَن

وإذا طلبتَ من الـعـلـوم

فأجَلها منها مُقِيمُ الألْسُـن

بين أعرابي ورجل لحن في سؤاله قال رجل لأعرابي: كيف أهلِك، بكسر اللام. - يُريد كيفَ أهلُك - فقال الأعرابي: صَلْباً، ظن أنه سأله عن هَلَكَته كيف تكون.
وقيل لأعرابي: أتهْمِز إسراييل؟ قال: إني إذاً لرجلُ سُوءٍ؛ قيل له: أتَجُرُّ فِلَسْطِين؟ قال: إني إذاً لَقَوِي.
وقيل لآخر: أتَهْمِز الفارة؟ فقال ة الهِرةُ تَهْمِزُها.
وقيل: كان بِشرٌ المَريسِي يقول لأصحابه: قضى الله لكم الحوائجَ على أحسِن الوجوه وأهنؤُها؛ فقال قاسم التّمار: هذا كما قال الشاعر:

إنَ سُلَيْمَيِ والله يَكْـلَـؤُهـا

ضَنتْ بشيءٍ ما كان يَرْزَؤُها

سمِعَ أعرابي مُؤَذناً يقول: أشهَدُ أنّ محمداً رسولَ اللّه، بنصب رسول؛ فقال: وَيْحَك يفعل ماذا؟ لمسلمة بن عبد الملك في اللحن، ومثله لآخرين قال مَسْلَمَةُ بن عبدِ الملك: اللحنُ في الكلام أقبحُ من الجُدَري في الوجه.
وقال عبدُ الملك: اللحن في الكلام أقبحُ من التفتيق في الثوب النفيس.
قال أبو الأسْوَد: إني لأجِدُ غَمْزاً كَغَمز اللحم.
بين الخليل بن أحمد وأعرابي قال الخليل بن أحمد: أنْشدَني أعرابي:

وإن كِلاباً هنه عَشْرُ أبـطُـن

وأنتَ بريءٌ من قبائلها العَشْر

فجعلتُ أعجَبُ من قوله: عَشْر ابطُنٍ حين أنَثَ لأنه عَنَى القَبِيلة، فلما رأى عجَبَي ذلك، قال: أليس هكذا قول الآخر:

فكان مَجِنَي عون من كنتُ أتَقي

ثلاث شُخُوص كاعِبانِ ومُعْصِرُ

لرجل من الصالحين قال رجل من الصالحين: لئِنْ أعرَبْنا في كلامنا حتّى ما نَلْحَن لقد لحَنا في أعمالنا حتى ما نعرِب .
لأعرابي سمع قوماً يلحنون دخلِ أعرابي السوقَ فسمِعهم يَلْحَنُون، فقال: سبحانَ اللِّه! يَلْحَنُون ويَرْبَحُون ونحن لا نلحَن ولا نربَح! بين رجل وزياد دخل رجل على زِيادٍ فقال له: إنّ أبينَا هَلَك، وإن أخِينا غَصَبنا على ميراثنا من أبانا. فقال زياد: ما ضيعتَ من نفسك أكثرُ مما ضاع من مالك.
بين بلال وشبيب بن شيبة قال الرياشي عن محمد بن سلام عن يُونُسَ قال: قال بلالُ لشَبِيب بن شَيْبَةَ وهو يَسْتَعْدِي على عَبْدِ الأعلى بن عبد الله بنِ عامرٍ قال: أحْضِرْنِيه. قال: قد دعوتُه لكُل ذلك يأبى؛ قال بلال: فالذنبً لكلّ.
لبعض الشعراء قال بعض الشعراء:

إما تَرَيْني وأثوابـي مُـقَـارِبة

ليستْ بخَزٍّ ولا من نَسْجِ كَتَّـان

فإن في المَجْدِ هِمًاتِي وفي لُغَتي

عُلْوِيَّةً ولسَاني غـير لَـحَّـانِ

بين زياد ومولى له وقال فِيلٌ مَوْلَى زيادٍ لزيادٍ: أهْمَوا لنا هِمَار وَهْشٍ. فقال: ما تقول. وَيْلَك! فقال: أهْدَوْا لنا أيراً؛ فقال زياد: الأوّلُ خَير.
سَمِع أعرابي والياً يَخْطُب فَلَحن مرّةً أو اثنتين، فقال: أشْهَدُ أنك مَلَكتَ بقَدَر.
وسَمِع أعرابي إماماً يقرأ: "وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَى يُؤْمِنُوا" بفتح تاء تنكحوا، فقال سبحانَ الله! هذا قبلَ الإسلام قبيح فكيف بَعْدَه! فقيل له: إنه لحنَ، والقراءةُ "وَلَا تُنْكِحُوا فقال: قبحه الله، لا تجعلوه بعدها إِماماً فإنه يُحِلُّ ما حَرَّمَ اللّه. قال الشاعر في جارية له:

أوّلُ ما اسْمَعُ منها في السحَرْ

تذكيرُها الأنْثَى وتأنيثُ الذَكَرْ

والسًوْءَةُ السوءُ في ذِكْر القَمَرْ بين الحجاج ورجل عجمي قال الحجاج لرجل من العَجَم نَخّاس: أتَبِيعُ الدّوابً المَعِيبة من جندُ السلطان؟ فقال: شَرِيكاتنا في هوازها وشًرِيكاتنا في مداينها وكما تجيء تكون". فقال الحجّاج: ما تقول. ففَسَروا له ذلك فضَحِك وكان لا يضحَك.
للحجاج أمَّ الحجّاجُ قوماً فقرأ والعاديات ضبحاً" وقرأ في آخرها "أن رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ" بنصب أن، ثم تنبه على اللام في لَخَبِير وأنّ "إنّ لما قبلها لا تكون إلا مكسورة فحَذَفَ الّلامَ من خبير، فقرأ "أن رَبهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذ خَبِير".
للخيل بن أحمد في تصغير واصل قال أبو زيد: قلتُ للخليل بن أحمد: لِمَ قالوا في تَصْغير واصل أو يصل ولم يقولوا وَيْصِل؟ فقال: كَرِهوا أن يُشَبَّهَ كلامهُم بنبح الكلاب.

التشادق والغَريب

بين عيسى بن عمر وبلال بن أبي بردة حدثني سهلٌ عن الأصمَعيّ قال: كان عيسى بنُ عُمَر لا يَدَعُ الإعرابَ لشيء. وخاصم إلى بلال بن أبي بردةَ في جارية اشتراها مُصَابةً، فقال: لأن يذهبَ بعضُ حَق هذا أحبّ إليه من أن يَلْحَنَ؛ فقال له: ومَن يعلم ما تقول. فقال: ابن طرنوبة.
وبينه وبين عمر بن هبيرة وقد ضربه وضربه عمرُ بنُ هُبَيْرة ضرباً كثيراً في وَديعة أودعها إياه إنسانٌ فطلبها، فما كان يزيد على أن يقول: واللِه إن كانت إلا أثياباً في اسَيْفاط قَبَضَها عَشَارُوك.
بين أبي خالد النُّميري وجارية تَبِع أبو خالد النُّمَيْري صاحبُ الغَريب جارية مُتَنَقِّبة فكلّمها فلم تُكلًمْه، فقال: يا خريدةُ، لقد كنتِ عندي عَرُوباً أَنَمِقُكِ وتشْنَئِينا! بين سهل بن هارون وجارية رومية له وقال سهلُ بن هارونَ لجارية له رُومية أعجمية: إن أقل ما يَنْطِوي عليه ضميري من رَسِيس حبك لأجل من كل جليل، وأكثرُ من كل كثير.
شعر مالك بن أسماء في جارية له وقال مالك بنُ أسماء في جارية له:

أمُغَطًى مني على بَصَري لـل

حب أم أنتِ أكملُ الناس حُسنا؟

وحَـديثٍ ألَـذُّهُ هـو مـمــا

يَشْتَهِي الناعتـون يُوزنُ وَزْنـا

مَنْطِق صَائبٌ وتَلْـحَـنُ أحـيا

ناً وأحْلَى الحديثِ ما كان لَحْنـا

قال ابن درَيْد: استثقل منها الإعرابَ.
بين أبي علقمة وأعين الطبيب دخل أبو عَلْقَمَة علي أعْينَ الطبيب فقال له: أمتعَ الله بك، إني أكلت من لحوم هذه الجَوَازِل فطَسِئْتُ طَسْاةً، فأصابني وَجَعٌ ما بين الوَابِلَة إلى دَأيَة العنقُ فلم يزل يَربوُ ويَنْمِي حتى خالط الخِلْبَ والشَراسِيفَ، فهل عندك دواء؟ فقال أعْيَن: نعم، خذ خربقاً وشلفقاً وشِبْرِقاً فزَهْزِقْهُ وزَقْزِقه واغْسِلْه بماء رَوْثٍ واشربْه؛ فقال أبو عَلْقمة: لم أفهمْ عنك؛ قال أعين: أفهمتُك كما أفهمتَنِي.
وقال له يوماً آخَرَ: إني أجِد مَعْمَعةً في بطني وقَرْقرةً؛ فقال له: أما المعمعةُ فلا أعرِفها، وأما القرقرةُ فهي ضُرَاطٌ لم يَنفَج.
بين الهيثم بن العُريان ورجل أتى رجلٌ الهَيْثَمَ بنَ العًرْيان بغَرِيم له قد مطَلَهُ حقَّه فقال: أصلح اللّه الأميرَ، إنّ لي على هذا حَقًا قد غلبني عليه؛ فقال له الآخرُ: أصلحك الله، إن هذا باعني عَنْجَداً واستنسأتُه حوْلاً وشرطتُ عليه أن أعطيَه مُشاهرة فهو لا يلقاني في لَقَمٍ إلا اقتضانِي. فقال له الهيثمُ: أمن بني أميّة أنت. قال: لا، قال: فمن بني هاشم. قال: لا؛ قال: فمن أكفائهم من العرب؟ قال: لا؛ قال: وَيْلِي عليك! انَزْع ثيابَه يا جِلْوَاز فلما أرادوا نَزْعَ ثيابِه قال: أصلحك الله، إنّ إزاري مُرَعْبَل. قال: دعوه، فلو تَرَك الغريبَ في وقتٍ لتركه في هذا الوقت.
لأبي علقمة بالبصرة ومرّ أبو علقمة ببعض الطُّرُق بالبصرة فهاجت به مِرةٌ فسقط ووَثَب عليه قومٌ فأقبلوا يعصِرون إِبهامَه ويُؤذِّنون في أذنه، فافْلِتَ من أيديهم وقال: ما لكمِ تَتَكاكَأون عليَ كما تتكأْكَاون على ذِي جِنَّة! إفْرَنْقِعُوا عَنَي. فقال رجلٌ منهم: دَعُوه فإنّ شيطانه هِنديٌ، أمَا تسمعونه كلّم بالهِنديّة.
وله يخاطب حجّام يحجمه
وقال لحجّام يَحْجِمُه: انظُر ما آمُرك به فاصنَعْه، ولا تكن كمن أمِر بأمرٍ فضيّعه، أنْقِ غسل المَحَاجِم واشدُدْ قُضُبَ المَلاَزِم وأرْهِفْ ظُبّات المَشارِط وأسْرع الوضع وعجل النًزْعَ وليْكُن شرطُك وَخْزاً، ومضُك نَهْزاً، ولا تُكرِهن آبيَاً، ولا تردن آتِياً. فوضع الحجّامُ محاجمه في جونته ومضى.
بين أعرابي وأبي المكنون النَّحْوي سَمِع أعرابي أبا المكنون النَحْوي في حَلْقَته وهو يقول في دعاء الاستسقاء: اللهم ربّناَ وإلهَنَا ومولانا صلّ على محمد نبيّنا؛ اللهم ومَن أراد بنا سوءاً فأحِطْ ذلك السوءَ به كإحاطة القلائد على تَرَائب الوَلَائد، ثم - ارسِخْه على هَامَته كرُسُوخ السَجِّيل على هَام أصحاب الفِيل؛ اللهم اسْقنا غَيْثاً مُغيثاً مَريئاً مَريعاً مُجَلْجلاً مُسْحَنْفِراً هَزِجاً سَحًّا سفُوحاً طَبَقاً غدقاً مُثْعَنجِراً. فقال الأعرابيّ: يا خليفةَ نوح هذا الطوفان وربّ الكعبة، دَعْني آوِي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُني من الماء.
بين أبي الأسود الدؤلي وغلام يقعَر في كلامه أبو الحسن قال: كان غلام يُقعَر في كلامه، فأتى أبا الأسود الدُّؤلي يلتمس ما عنده؛ فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟ قال: أخذته الحُمى فَطَبَخَتْه طَبْخاً وفَضَخَتْه فَضْخاً وفنخته فَنْخاً فتركته فَرْخا" قال أبو الأسود: فما فعلت امرأته التي كانت تُجارُه وتُشَاره وتُزارُه وتهارُّه؛ قال: طلقها فتزوٌجت غيره فرَضِيت وحَظِيَت وبَظِيَت. قال أبو الأسود: قد عرفنا حَظِيت؛ فما بِظيَت؟ قال: حرف من الغريب لم يبلغك. قال أبو الأسود: يابن أخي، كل حرف من الغريب لم يبلغ عمك فاستُره كما تستر السنًوْرُ خُراها.
لزيد بن كثيرة قال زيد بن كثيرة: أتيتُ بابَ كبير دار وهناك حَداد، فأردتُ أن ألج الدارَ فدَلَظَي دَلْظةً وادرس الناس عليهم فوالله إن زَلْنا نَظَارِ نَظَارِ حتى عَقَل الطلُ.
وقال أيضاً: أتيتُ بابَ كبير وإذا الرجالُ صَتِيتَان وإذا أرْمدَاءُ كثيرة وطُهَارةٌ لا أحْصِيهم ولحَامٌ كأنها آكَام.
شعر للطائي وقال الطائي :

أيوسف جئتَ بالعَجَب العجيبِ

تركتَ الناسَ في شَك مُرِيبِ

سمعتُ بـكـل داهـيةٍ نـآدٍ

ولم أسْمَع بـسـراج أديبِ

أمَا لَوْ أنّ جهلَك كان عِلْمـاً

إذاً لنفذتَ في عِلم الغُـيوبِ

فما لَكَ بالغَرِيب يد ولـكـنْ

تَعَاطِيكَ الغريبَ من الغَريبِ

لرؤبة بن العجاج قال رؤبة بن العَجّاج: خرجت مع أبي، نريد سليمان بنَ عبد الملك، فلمّا صِرْنا في الطريق اهْدِيَ لنا جَنْبٌ من لَحْم عليه كَرَافِئُ الشَحْم وخريطة من كَمْاةٍ ووطْب من لَبَن فطبَخْنا هذا بهذا، فما زال ذِفْرَيَايَ تَنْتِحَان منه إلى أن رجعتُ الكَرَافئُ: الطبقات، وكذلك كرافئ السحاب"

وصايا المعلّمين

من عتبة بن أبي سفيان لعبد الصمد مؤدَب ولده قال عُتبة بن أبي سُفيان لعبد الصمد مؤدِّب ولده: ليكن إصلاحُك بَني إصلاحَك نفسك، فإن عُيوبَهم معقودة بعَيْبك، فالحسنُ عندهم ما استحسنتَ، والقبيحُ ما استقبحت؛ وعلِّمهم سِيَرَ الحكماءِ، وأخلاقَ الأدباء، وتهدَدْهم بي وأدَبْهم دوني؛ وكن لهم كالطبيب الذي لا يَعْجَل بالدواء حتى يَعْرِف الداء؛ ولا تَتَكِلَنَ على عذر مني، فإني قد اتكلتُ على كِفاية منك.
من الحجاج لمؤدب بنيه قال الحجّاج لمؤدب بنيه: علِّمهم السباحة قبل الكتابة، فإنهم يَجدون مَنْ يكتُبُ عنهم، ولا يَجِدون مَن يَسْبَحُ عنهم.
من عبد الملك لمؤدب ولده وقال عبد الملك لمؤدٌب ولده: علِّمْهم الصدق كما تُعَلَمهم القرآن وجَنِّبْهم السًفِلَةَ فإنّهم أسوأ الناس رِعَةً وأقلُهم أدباً، وَجَنَبْهُم الحَشَم فإنّهم لهم مَفْسَدة؛ وأحفِ شُعُورَهم تَغْلُظْ رِقابُهم، وأطْعِمْهم اللحمَ يَقْوَوْا؛ علَمهم الشِّعر يَمْجُدُوا ويَنْجُدُوا، ومُرْهم أن يَستاكوا عَرْضاً ويَمُصوا الماء مصاً ولا يَعبُوُه عَبًّا؛ وإذا احتجتَ إلى أن تتناولَهم بأدب فليكن ذلك في سِتْر لا يعلَمُ به أحدٌ من الغاشية فَيَهُونُوا عليه.
وقال آخر لمؤدَب ولده: لا تُخْرجهم من عِلْم إلى عِلْم حتى يُحْكِمُوه، فإن اصطِكَاكَ العلم في السمع وازدحامَه في الوَهم مَضَلَةٌ للفهم.
شعر شريح إلى معلم ولده يوصيه به
وكان لشُرَيح ابن يلْعَب بالكلاب، فكتَب شُرَيحٌ إلى مُعلمه:

تَركَ الصلاةَ لأكْلُبٍ يَسعى بـهـا

طلب الهِرَاش مع الغِوَاةِ الرُّجس

فإذا خَلَوْتَ فَعَـضّـه بـمَـلاَمَةٍ

وِعظَتْهُ وَعْظَكَ للأرِيب الكَـيس

وإذا همَمْتَ بضَـرْبِـه فـبـدرَةٍ

وإذا بلغتَ بها ثلاثاً فـاحْـبِـس

واعْلَمْ بأنك ما فعلتَ فنـفـسُـه

مع ما يُجَرعُني أعَز الأنْـفُـس

وقال آخر لرجل يلعب بالكلاب:

أيها المُبْتلَى بحب الكـلابِ

لا يُحِبّ الكلابَ إلا الكلاب

لو تَعَريتَ وسطها كنتَ منها

إنما فُقتَها بلُبْس الـثـياب

وقال آخر:

لتَبْـكِ أبـا أحـمـدٍ قِـردةٌ

وكَلْبُ هِرَاشٍ ودِيك صَدُوحُ

وطيرٌ زِجَـالٌ وقُـمْـرِية

هَتُوفُ العَشِي وكَبْشٌ نَطُو

من حكم لقمان بلغني عن أبي الحسن العُكْلي عن عبد الله بن بكر بن عبد الله المُزنيّ قال: سمعت أبي يقول قال لقمان: ضربُ الوالدِ وَلَده كالسمَاد للزرع.
وصية عمر لأهل الشام حدّثني محمد بن عُبَيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن ابن المبارك عن أسامة ابن زيد عن مكحول قال: كتب عمر إلى أهل الشام: عَلَموا أولادَكًم السَبَاحةَ والرمْي والفُرُوسية. ما كانت تسميه العرب الكامل من الرجال وكانت العرب تُسمَي الرجل، إذا كان يكتُب ويُحسِن الرًمْي ويُحسِن العَوْم وهي السِّباحة ويقول الشَعْر، الكاملَ.

البيان

للنبي صلى الله عليه وسلم في البيان حدّثني عَبْدة بن عبد الله قال: حدثنا يحيى بن آدم عن قيس عن الأعمش عن عِمارة بن عُمَير عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان سِحراً" فأطيلوا الصلاةَ وأقْصِرُوا الخُطَبَ.
وقال العبّاس: يا رسولَ اللّه، فيم الجَمَالُ. قال: "في اللسان".
وكان يقال: عَقْلُ الرجل مدفون تحت لسانه.
ليزيد بن المهلب وقال يزيد بن المُهلًب: أكرهُ أن يكون عقلُ الرجل على طَرَف لسانه. يريد أنه لا يكون عقلُه إلا في الكلام.
وقال الشاعر:

كَفَى بالمرء عَيْباً أن تـراهُ

له وَجْة وليس له لسـان

وما حُسْنُ الرجالِ لهم بزَيْن

إذا لم يُسعد الحسنَ البـيانُ

لخالد بن صفوان وقال خالد بن صفوان لرجل: رحم الله أباك، فإنّه كان يَقْرِي العَيْنَ جَمَالاً، والأذنَ بياناً.
شعر للنمر بن تولب وقال النَمِرُ بن تَوْلَب:

أعذنِي رَبِّ من حَصَرٍ وعِيٍّ

ومن نفس أعالِجُها عِـلَاجـا

ومن حاجاتِ نَفْسي فاعْصِمَني

فإن لمُضْمراتِ النفس حَاجا

وصف أعرابي رجلًا يتكلّم فيُحسِن فقال:

يضَعُ الهِنَاءَ مواضِعَ النُّقْبِ

من أمثال العرب في البلاغة ومثلُه قولُهم: فلان يُجِيد الحَزَ، ويُصِيب المَفْصِل. وربما قالوا: يُقِلّ الحز.
لمعاوية في عبد الله بن عباس وقال معاوية في عبد الله بن عبّاس:

إذا قال لم يَتْرُك مقالاً ولم يَقِـفْ

لِعِيٍّ ولم يَثْنِ اللسانَ على هُجْر

يُصَرف بالقول اللسانَ إذا انتحى

ويَنْظُرُ في أعطافه نَظَرَ الصَقْرِ

ولحسان في ابن عباس وقال حسّان فيه:

إذا قال لم يَتْرُك مـقـالاً لـقـائلٍ

بملتَقَطَاتٍ لَا تَرَى بينها فَـصـلا

شَفَى وكَفَى ما في النفوس فلم يَدَعْ

لذي إزْبَةٍ في القول جِدَا ولا هَزْلا

سَموتَ إلى العلْيَا بغـير مَـشـقةٍ

فنِلْتَ فُرَاهَـا لَا دَنِـيَا ولَا وَغْـلا

ويقال: الصمتُ مَنَامٌ والكلامِ يَقَظةٌ .
ويقال: خير الكلام ما لم يُحْتج بعده إلى الكلام.
للعباس بن الحسن الطالبي ذكر العباس بن الحسن الطالبي رجلاً فقال: ألفاظُه قوالِبُ معانيه.
أعرابي يمدح رجلاً ومدح أعرابي رجلاً فقال: كلامه الوَبْلُ على المَحْل، والعَذْبُ البارِدُ على الظًمَأ.
وقال الحُطَيئة:

وأخذتُ أقطارَ الكلام فلم أدَعْ

فَمًّا يضُر ولا مَدِيحاً يَنْفَـعُ

الحطيئة وعمرو بن عبيد
وكان الحطيئة يقول: إنما شِعْري حَسَبٌ موضوع. فسَمِع ذلك عمرُو بن عُبَيْد فقال: كَذَبَ، تَرَّحَه الله، إنما ذلك التقوى.
جواب عمرو بن عبيد لمن سأله عن صفة البلاغة قيل لعمرو بن عًبيد: ما البلاغة؟ فقال: ما بلغك الجَنة، وعَدَل بك عن النار. قال السائل: ليس هذا أريد. قال: فما بَصرك مواقِعَ رُشْدك، وعواقِبَ غَيك. قال السائل: ليس هذا أريد. قال: من لم يُحسِن الاستماع لم يُحْسِن القول. قال: ليس هذا أريد. قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا مَعْشَر الأنبياء بِكَاءٌ"، وكانوا يكرهون أن يزيدَ مَنْطِق الرجل على عقله. قال: ليس هذا أريد. قال: كانوا يخافون من فتنة القول ومن سَقَطات الكلام ما لا يخافون من فتنة السكوت ومن سَقَطَات الصَّمْت. قال: ليس هذا أريد. قال: فكأنك إنما تريد تخير اللفظ حسن إفهام؟ قال: نعم. قال: إنك إن أردت تقرير حجة الله في عقول المكلفين، وتخفيف المَؤُونة على المُستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المرِيُدين، بالألفاظ المُسْتَحْسَنة في الآذان، المقبولة عند الأذهان، رغبةً في سُرْعة استجابتهم، ونَفْي الشواغل عن قلوبهم، بالمَوْعِظَة الحسنة من الكتاب والسُّنة، كنت قد اوتيتَ فصلَ الخِطَاب، واستوجبتَ على الله جزيلَ الثواب.
لبعضهم في زياد قال بعضهم: ما رأيت زياداً كاسِراً إحْدَى أعَيْنيه واضعاً إحدى رِجليه على الأخرى يُخاطب رَجُلًا إلا رحمتُ المُخاطَبَ.
مثله لآخر في زياد وقال آخر: ما رأيتُ أحداً يتكلم فيُحسن إلا أحببْتُ أن يَصْمُتَ خوفاً من أن يُسيءَ إلا زياداً فإنه كلما زاد زاد حُسْناً، وقال:

وقبلَك ما أعييتُ كاسِر عَينِه

زِياداً فلم تَقْدِرْ علي حَبَائِلُهْ

لعمر بن الخطاب في عمرو بن العاص قال محمد بن سلام: كان عمرً بن الخطاب إذا رأى رجلاً يُلجْلِج في كلامه قال: خالق هذا وخالق عَمْرو بن العاص واحد!.
لعبد الملك في عمرو بن سعيد الأشدق وتكلم عمرو بن سعيد الأشْدَق، فقال عبد الملك: لقد رجوتُ عثْرَته لما تكلم، فأحسن حتى خَشِيت عَثْرَته إن سكت.
بين معاوية وصحار العبدي أبو الحسن قال: قال معاوية لصُحَار العَبدي: ما هذه البلاغةُ التي فيكم. فقال: شيءٌ تَجِيشُ به صدُورُنا ثم تَقْذِفُه على ألسنتنا. فقال رجل من القوم: هؤلاء بالبُسْر أبصرُ. فقال صُحَار: أجل، والله إنّا لنعلم أن الريحَ تُلقحه وأن البرد يُعقده وأن القَمَر يَصْبغه وأن الحر يُنْضِجُه. فقال معاوية: ما تَعُدون البلاغةَ فيكم؟ قال: الإيجاز، قال: وما الإيجاز؟ قال: أن تُجيب فلا تبطئ، وتقولَ فلا تخطئ، ثم قال: يا أمير المؤمنين، حسن الإيجاز ألا تبطئَ ولا تخطئَ.
أبو الحسن قال: وَفَد الحسن بن علي على معاوية الشأمَ، فقال عمرو بن العاص: إن الحسنَ رَجُلْ أمَة فلو حملتَه على المِنْبَر فتكلم فسَمِع الناسُ من كلامه عابُوه؛ فأمره فَصعد المِنْبَر فتكلم فأحسن؛ وكان في كلامه أنْ قال: أيها الناس، لو طلبتُم ابناً لنبيكم ما بين جَابَرْس إلى جَابَلْق لم تَجِدُوه غيري وغيرَ أخي وَإنْ أدرِي لَعَلهُ فِتْنَة لَكُمْ ومتاع إلَى حِين. فساء ذلك عَمْراً وأراد أن يَقْطع كلامه، فقال: يا أبا محمد، هل تَنْعَت الرُّطَب؟ فقال: أجل، تلْقِحُه الشمَال وتُخَرجه الجَنُوب ويُنْضِجُه بَرْدُ الليل بحرً النهار. قال: يا أبا محمد، هل تَنْعَتُ الخِرَاءَة؟ قال نعمِ، تُبعِد المَمْشَى في الأرض الصحْصَح حتى تَتَوارَى من القوم، ولا تَسْتَقْبِل القِبْلَة ولا تَسْتدْبِرها، ولا تَسْتَنْجي بالروْثَة ولا العَظْم، ولا تبول في الماء الراكد؛ وأخَذَ في كلامه.
وكان يقال: كل شيء ثَنَيْتَه يقْصُر ما خلا الكلامَ، فإنك كلما ثنيتَه طال.
للحسن في أصناف الرجال قال الحسن: الرجال ثلاثة: رجلٌ بنفسه، ورجل بلسانه، ورجل بماله.
بين صعصعة بن صوحان ومعاوية تكلم صَعْصَعةُ بن صُوحان عند معاوية فعَرِق، فقال معاوية: بَهَرك القولُ! فقال صعصعة: إنّ الجِيَادَ نضَّاحة للماء.
ويقال: أبلغُ الكلام ما سابق معناه لفظَه.
من كتاب الهند في صفات البلاغة والبليغ
وفي كتاب للهند: أوّلُ البلاغة اجتماعُ آلةِ البلاغة، وذلك أن يكون الخطيبُ رابِطَ الجأْش، ساكِنَ الجوارح قليلَ اللفْظ مُتَخَيراً للفظ، لا يُكلم سَيدَ الأمّة بكلام الأمة، ولا الملوكَ بكلام السوقة، ويكون في قوَاه فَضْل للتَصرُّف في كل طبقة، ولا يُدَقِّق المعانيَ كلَّ التدقيق، ولا يُنَقِّح كلّ التنقيح ولا يُصفَيها كلَّ التَصْفِية ولا يُهذَبها غايةَ التهذيب، ولا يفعل ذلك حتىِ يُصادِفَ حكيماً أو فيلسوفا عليما. ويكون قد تَعوّد حَذْفَ فُضول الكلام وإسقاطَ مشْترَكاتِ الألفاظ، قد نَظَر في صِناعة المَنْطِق على جِهَة الصناعة والمُبالغة لا على جهة الاعتراض والتصفُّح.
مثله لجعفر بن يحيى البرمكي في البيان ونحو هذا قول جعفر بن يحيى البَرْمكيّ وقيل له: ما البيان؟ فقال: أن يكون الاسم يُحيط بمعناك ويَحْكِي عن مَغْزَاك، وتُخْرِجه من الشركة ولا تَستعين عليه بالفِكْرة، والذي لا بدَّ له منه أن يكونَ سَليماً من التكلُّف، بعيداً من الصنعة، بريئاً من التعَقد، غَنِياً عن التأويل.
للأصمعي في البليغ قال الأصمعي: البليغ مَن طبق المَفْصِل وأغناك عن المفسر.
رد الحجاج على قتيبة بن مسلم وقد اشتكى من أمور قال المدائني: كتب قُتَيبةُ بن مُسلم إلى الحجاج يشكو قِفةَ مَرْزِثَتِه من الطعام وقلة غِشْيانه النساء وحَصَره على المِنْبر؛ فكتب إليه: استكْثر في الألوان لتُصِيبَ من كلٌ صَحْفة شيئاً، واستَكْثِر من الطرُوقَة، تجِدْ بذلك قوةً على ما تُريد، وأنْزِل الناس بمَنْزِلة رجل واحد من أهل بيتك وخاصتك، وارْم ببصرك أمَامَك تبلُغْ حاجتك.
لبعض الشعراء في العيّ والبلاغة قال بعض الشعراء:

إن كان في العِيَ آفاتٌ مُقَدَرَةٌ

ففي البلاغة آفات تًساوِيهـا

بين معاوية ورجل تكلم عنده تكلم رجل عند معاوية فَهذَر، فلما أطال قال: أأسكتُ يا أميرَ المؤمنين؟ قال: و هل تكلمتَ! في العي واللحن ويقال: أعيا العِيّ بلاغةٌ بِعي، وأقبحُ اللَّحْن لَحْنٌ بإعراب.
وقال أعرابي: الحظ للمرء في أذنه، والحظُّ لغيره في لسانه.
ويقال: رب كلمةٍ تقول دَعْني.
ويقال: الصمتُ أبلغُ من عِيً ببلاغة.
ونحوه قول الشاعر:

أرى الصمتَ أدْنى لبعض الصًوَابِ

وبعض التًكَـلـم أدنـى لـعِـي

لجعفر البرمكي، وغيره وقال جعفر البَرْمَكي: إذا كان الإكثارُ أبلغَ كان الإيجازُ تقصيراً، وإذا كان الإيجازُ كافِياً؛ كان الإكثارُ عياً.
قال ابن السماك: العربُ تقول: العَيُّ الناطق أعيا من العَي الصامت.
قال أنوشِرْوَان لبزُرْجِمِهْر: متى يكون العييُ بليغا؟ فقال: إذا وَصَف حَبِيباً.
قال يُونُس بن حبيب: ليس لعي مُرُوءةٌ، ولا لمنقوص البيان بَهَاء، ولو بَلَغَ يَأفُوخه أعنانَ ماء.
لبعض الشعراء قال بعضُ الشعراء:

عَجِبت لإدلال العَيِي بـنـفـسـه

وصمتِ الذي قد كان بالحق أعلما

وفي الصمت سَتْرٌ لِلعَمِي وإنمـا

صحيفةُ لبَ المَرْءِ أن يتكلَـمـا

لسعيد بن العاص قال سعيدُ بن العاص: مَوْطِنان لا أسْتَحْيِ عن العِي فيهما: إذا أنا خاطبتُ جاهلاً، وإذا أنا سألتُ حاجةً لنفسي.
لأعرابي وقد ذكر رجلاً ويعيا ذكر أعرابي رجلاً يَعْيَا فقال: رأيتُ عَوْراتِ الناس بين أرْجُلِهم، وعَوْرَةَ فلان بَيْنَ فَكيْه.
وعابَ آخرُ رجلاً فقال: ذاك من يَتَامَى المَجْلِس، أبلغُ ما يكون في نفسه أعيا ما يكون عند جُلَسائه.
قال ربيعة الرًّأي: الساكتُ بين النائِم والأخْرَس.
لأبي مسهر في فضل الكلام على الصمت تذاكر قوم فضلَ الكلام على الصمت وفضلَ الصمت على الكلام، فقال أبو مُسْهِر: كلا إن النجْمَ ليس كالقَمَر، إنك تَصِف الصمتَ بالكلام، ولا تَصِفُ الكلامَ بالصمت.
لسليمان بن عبد الملك في الكلام وذم قومٌ في مجلس سليمانَ بنِ عبد الملك الكلامَ، فقال سليمان: اللهم غَفْراً، إن من تكلم فأحْسَنَ قَدر أن يَصْمُت فيُحْسِن؛ وليس مَن صَمَت فأحْسن قادراً على أن يتكَلم فيُحسن.
لبكر بن عبد الله ولابن الخطاب في الصمت قال بكرُ بن عبد الله: طول الصمتِ حُبْسَةٌ.
ونحوه قول عُمَر بن الخطاب: ترك الحركةِ عُقْلَة.
بين نوفل بن مساحق وامرأته
وكان نَوْفل بن مُساحِق إذا دخل على امرأته صَمَتَ، وإذا خرج من عندها تكلم؛ فقالت له: أما عندي فتطْرِق، وأنا عند الناس فتَنْطِق! فقال: أدق عن جَلِيلكِ وتجلينَ عن دقيقي.
من حِكم لقمان وفي حكمة لقمان: يا بُنَي، قد ندِمتُ على الكلام ولم أنْدمَ على السكوت.
حكاية في فضيلة الصمت قال ابن إسحاق: النسنَاسُ خَلْق باليَمن لأحدهم عَيْن ويَدٌ ورِجْل يَقْفِز بها، وأهل اليمن يصطادونهم؛ فخرج قومٌ في صيدهم فَرأوْا ثلاثةَ نَفَر منهم فأدْرَكُوا واحداً فعَقَرُوه وذَبحوه وتَوَارَى اثنان في الشجَر، فقال الذي ذَبَحه: إنه لسَمِينٌ. فقال أحدُ الاثنين: إنه أكَلَ ضِرْواً. فأخذوه فذَبَحُوه، فقال الذي ذَبَحه: ما أنفعَ الصمتَ! قال الثالث: فها أنا الصميتُ، فأخذوه وذبحوه. "الضرْوُ: حبة الخضراء".
كان يقال: إذا فَاتَك الأدب فالزم الصمتَ.
وقال بعضهم: لا يجترئ على الكلام إلا فَائِقٌ أو مَائِق.
لشاعر يمدح رجلاً وقاد الشاعر يمدح رجلاً:

صَمُوتٌ إذا ما الصمتُ زينَ أهلَه

وفَتًاقُ أبْكارِ الكلام المُـخَـتَـم

لأبي الدرداء في إنصاف الأذن من الفم قال أبو الدرداء: أنْصِفْ أذُنَيْكَ مِن فِيكَ، فإنما جُعُلَ لك أذُنَانِ اثنتان، وفَمٌ واحدٌ لتَسْمَعَ أكثرَ مما تقول.
لقشيري في حظ الأذن واللسان حَضَر قشيري مجلساً من مجالس العرب فأطال الصمتَ، فقال له بعضهم: بحق سُميتم خُرْسَ العرب. فقال القُشَيْرِيّ: يا أخي، إنّ حظّ الرجل في أذُنه لنفسه، وحظَّه في لسانه لغيره.
لبعض الحكماء في الصمت وقال بعضُ الحكماء: أكثِرِ الصمتَ ما لم تكن مسؤولاً فإن فَوْت الصواب أيسرُ من خَطَل القول؛ وإذا نازَعتْك نَفْسُك إلى مراتب القائلين المُصِيبين، فاذكُر ما دون الصواب من وَجَل الخطأ وفضائح المُقصَرين.
بين الهيثم بن صالح ورجل تكلم عنده بخطأ تكلم رجلٌ في مجلس الهَيْثم بن صالح بخطأ، فقال له الهيثمُ: يا هذا، بكلام مثلك رُزِقَ أهلُ الصمت المحبة.
شعر لأبي نواس في فضيلة الصمت وقال أبو نُوَاس:

خَلَ جَـــنْـــبَـــيْك لِــــرَام

وامْـض عَـنْـــهُ بِـــسَـــلاَم

مُتْ بداءِ الصَمتِ خَيْرٌ لكَ من داءِ الكلَام

 

إنما السالمُ من أل

جَمَ فـــاه بِـــلـــجَـــــام

وقال آخر:

رأيتُ اللسانَ على أهـلـه

إذا ساسه الجهلُ لَيْثاً مغيرا

لمالك بن دينار حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: حدثنا صاحبٌ لنا عن مالك بن دينار أنه قال: لو كانت الصحُف من عندنا لأقللنا الكلام.
للأصمعي في تظرف العربي والفارسي وقال الأصمعي: إذا تظرّفَ العربي كَثُر كلامه، وإذا تظرف الفارسي كثر سكوته.
لحاتم الطائي قال حاتم طيء: إذا كان الشيءُ يَكْفِيكَهُ الترْكُ فاتركه.
نصيحة عبد اللّه بن الحسن لابنه قال عبد الله بن الحسن لابنه: استعن على الكلام بطول الفِكْر في المَواطن التي تدعوك فيها نفسُكَ إلى القول، فإنّ للقول ساعاتٍ يضُرّ فيها الخطأ ولا ينفع فيها الصواب.
شعر لإياس بن قتادة وقال إياس بن قَتَادة:

تُعَاقِبُ أيدينا ويَحْلم رأينا

ونَشْتم بالأفعال لا بالتكلُم

بين ابن السماك وجارية له تكلم ابن السَّمَّاك يوماً وجاريةٌ له تسمع كلامه، فلما دخل إليها قال: كيف رأيتِ كلامي قالت: ما أحسَنَه لولا أنّك تُكثر تَرْدَاده! قال: أردده حتّى يَفْهَمَه مَن لم يَفْهَمْه. قالت: إلى أن يَفْهَمه من لم يَفْهَمْه قد ملَه مَن فَهمه! للمسيح عليه السلام قال عيسى بنُ مَرْيم: مَن كان مَنْطِقُه في غير ذكرٍ فقد لغا، ومَن كان نظرُه في غير اعتبار فقدسَهَا، ومن كان صَمْته في غير فكرٍ فقد لها.
العباس بن زفر وجرير كان العباس بن زُفَر لا يُكلم أحداً حتى تَنْبسطَ الشمس، فإذا انْفَتَل عن صلاته ضَرَب الأعناق وقَطَع الأيدي والأرْجل. وكان جَرِير لا يتكلم حتى تبزُغَ الشمس، فإذا بَزَغت قَذفَ المُحْصَنَات.
من التوراة قال قَتَادة: مكتوب في التّوراة: لا يُعاد الحديث مرتين.
للزهري قال الزُهْرِيُ: إعادة الحديث أشدُّ من وَقْع الصَخْر.
من كتاب للعجم
وفي كتب العجم: أن أربعةً من الملوك اجتمعوا فقالوا كلُهم كلمةً واحدةً كأنها رمية بسهم: ملك فارس، وملك الهند، وملك الروم، وملك الصين. قال أحدهم: إذا تكلمت بالكلمة مَلَكَتْني ولم أمْلِكها. وقال آخِر: قد نَدِمتُ على ما قلتُ ولم أنْدَم على ما لم أقُل. وقال آخر: أنا على رد ما لم أقل أقدرُ مني على رد ما قلتُ. وقال آخر: ما حاجتي إلى أن أتكلّم بكلمة، إن وقعتْ عليّ ضرْتني، وإن لم تقع علي لم تنفعني.
لزبيد اليامي في كلمة لابن مسعود قال زُبَيْد الياميّ: أسكتتني كلمةُ ابن مسعود عشرين سنة: مَنْ كان كلامه لا يوافق فعلَه فإنما يُوَبخ نفسه.
من كتاب كليلة ودمنة وفي كتاب كليلة ودمنة: ثلاثة يؤمرون بالسكوت: الراقي في جبل طويل، وآكل السمك. والمُرَوَي في الأمر الجسيم.
لبعض الشعراء قال بعض الشعراء:

قد أفلح السالمُ الصَّمُوتُ

كلامُ واعي الكلام قوتُ

ما كل نطْقٍ لهُ جـوابٌ

جوابُ ما يُكرهُ السكوتُ

يا عجباً لامرئ ظَـلُـومٍ

مُستيقِـن أنـهُ يمـوتُ

للأحنف في مجلس معاوية بلغني عن أبي أسامة عن ابن عَوْن عن الحسن قال: جلسوا عند معاوية فتكلموا وصَمَتَ الأحنف فقال معاوية: يا أبا بَحْر، ما لك لا تتكلم، قال: أخافُكم إن صَدَقْتُكم، وأخاف اللّه إن كذبت لابن عباس حدّثني محمد بنُ داود قال: حدّثنا الحُمَيديّ قال: حدثنا أبو الحَكَم مَرْوان بن عبد الواحد عن موسى بن أبي درهمِ عن وهب بن منبه قاد: قال ابن عبّاس: كفىِ بك ظالِماً ألا تزالَ خَاصِماً، وكفى بك آثماَ ألّا تَزال مُمَارِياً، وكفى بك كاذباً ألّا تزال مُحدَثاَ بغير ذكر الله تعالى.
شعر في عثرة اللسان وقال بعضهم:

يَمُوتُ الفتى من عَثْرةٍ بـلـسـانِـهِ

وليس يموتُ المرءُ من عَثْرة الرِّجْل

فعثرتُه من فِيهِ تَـرْمِـي بـرأسـهِ

وعثرتُه بالرجْل تَبْرا على مَـهْـل

لبعض الحكماء في صفة البلاغة سُئِل بعضُ الحكماء عن البلاغة، فقال: من أخذ معاني كثيرة فأداها بألفاظ قليلة، أو أخذ معانيَ قليلةً فوَلّد فيها ألفاظاً كثيرة.
بلغني عن أبي إسحاق الفَزَاري قال: كان إبراهيمُ يُطِيل السكوتَ، فإذا تكلمِ انبسط فقلت له ذاتَ يوم: لو تكلمتَ! فقال: الكلام على أربعة وُجُوه، فمنه كلام ترجو منفعته وتَخْشم عاقبَتُه، فالفضلُ منه السلامةُ؛ ومنه كلام لا ترجو منفعتَه ولا تخشى عاقبتَه، فأقلُّ ما لَكَ في تركه خِفة المَؤُونة على بَدَنك ولسانك؛ ومنه كلامٌ لا ترجو منفعتَه وتخشى عاقبته، وهذا هو الدَّاء العُضال؛ ومن الكلام كلام ترجو منفعته وتَأمَنُ عاقبته، فهذا الذي يجب عليك نَشْره. قال: فإن هو قد أسقط ثلاثَةَ أرباع الكلام.

الاستدلال بالعين والإشارة والنُّصبة

يقال: رب طرف من لسان قال أعرابي:

إن كاتمونا القلى نمـت عـيونـهـم

والعين تظهر ما في القلب أو تصف

وقال آخر:

إذا قلوب أظهرت غير ما

تضمره أنبتك عنها العيون

آخر:

أما تبصر في عـين

ي عنوان الذي أبدي

شعر لذي الرُّمة وقال ذو الرُمة:

نَعَمْ هاجت الأطلالُ شَوْقاً كَفَى بـه

من الشًوقِ إلا أنهُ غـيرُ ظـاهِـر

فما زِلْتُ أطْوِي النفسَ حتى كأنًهـا

بِذِي الرمْثِ لَمِ تخطر على بال ذَاكِر

حَيَاءً وإشْفاقاً من الـرَّكْـبِ أن يَرَوْا

دليَلاً على مُستوْدَعات الضـمـائرِ

للحارثي يذكر ميتاً وقال الحارثي يذكُر ميتاً:

أتيناه زوَاراً فأمجـدَنـا قِـرى

من البَث والدًاءِ الدَخيل المُخَامِرِ

وأوسَعَنا عِلْماً بـرد جـوابِـنـا

فأعْجِبْ به من ناطقٍ لم يُحَاوِرِ

ومثل هذا قولُ القائل: سَل الأرضَ فقل لها: من شَق أنهارَكِ، وغَرَس أشجارَكِ، وجَنَى ثِمَارَكِ، فإن لم تُجِبك حِوَاراً، أجابتْك اعتبارا.
لأبي العتاهية قال أبو العتَاهِيَة:

وللقَلْبِ على القلبِ

دليلٌ حين يَلْـقـاهُ

وللناس من النـاس

مقاييس وأشـبـاهُ

يُقاسُ المرءُ بالمرءِ

إذا ما هو ماشـاهُ

وفي العين غِنًى للعي

ن أن تَنْطِق أفـواهُ

الشعر

يقال: خيرُ الشَعْر ما رَوًاك نفسَهُ.
ويقال: خيرُ الشعر الحَوْلِي المُنقَح المُحَكًك.
لأعرابي وقد سمع رجلاً ينشد شعراً لنفسه سَمِع أعرابي رجلاً يُنشِد شِعْراً لنفسه، فقال: كيف تَرَى؟ قال: سُكر لا حَلاوةَ له لبعض علماء اللغة قيل لبعض علماء اللغة: أرأيتَ الشاعرين يجتمعان على المعنى الواحد في لفظ واحد؟ فقال: عُقول رجالٍ تَوَافت على ألسنتها.
شعر لبشار يصف نفسه قال بَشّار يَصِف نفسَه:

زَوْرُ مُـلـوكٍ عـلـيه ابَّــهَةٌ

يُعرفُ من شِعره ومن خُطَـبِـهْ.

للـه مـا راح فـي جَـوَانـحـهِ

من لُؤْلُؤ لا يُنام عـن طَـلـبِـهْ

يَخرُجْن من فـيه فـي الـنَـدي

كما يِخرُج ضوءُ السراج من لَهَبِهْ

ترنُـو إلـيه الـحُـداثُ غــاديةً

ولا تَمَلُّ الحديثَ مـن عَـجَـبِـهْ

تِلْعَابةٌ تَعـكُـفُ الـمـلـوكُ بـه

تأخذ من جِـده ومـن لَـعِـبِـهْ

يَزدحِـمُ الـنـاس كـلً شـارقةٍ

ببابه مُـسـرعـينَ فـي أدبِـهْ

للطائي يذكر الشعر وقال الطائي يذكر الشعر:

إن القَوافِيَ والمَسَاعِيَ لم تَـزَلْ

مِثلَ النًظَام إذا أصـابَ فَـريدا

من أجل ذلك كانتِ العربُ الألَى

يَدْعُون هذا سُؤْدداً مَجْـمُـودا

وتَنِد عندهـمُ الـعُـلا إلا عُـلاً

جُعلت لها مِرَرُ القَرِيض قُيُودا

وقال أيضاً:

ولم أر كالمعروف تُدْعَى حًقوقُه

مغارِمَ في الأقوام وهي مَغانِـمُ

وإنّ العُلاَ ما لم تَر الشعر بينهـا

لكالأرض غُفْلاً ليس فيها مَعَالِمُ

وما هو إلا القولُ يَسْرِي فيغتدِي

له غُرَرٌ في أوجـهٍ ومَـواسِـمُ

يرى حكْمةً ما فيه وهو فُكَـاهةٌ

ويُقْضَى لما يَقْضي له وهو ظالمُ

ولولا خِلالٌ سَنَها الشعرُ ما دَرَى

بُغاةُ العُلاَ من أينَ تُؤْتَى المكارمُ

ولآل عُمر بن لَجأ لبعض الشعراء: أنا أشعرُ منك؛ قال: ولمَ ذاكَ. قال: لأنَي أقولُ البيتَ وأخاه، ولأنك تقول البيتَ وابن عفَه.
لعقيل بن علفة قيل لعَقِيل بن عُلَفة: ألا تُطِيل الهِجَاء. فقال: يَكفِيك من القِلاَعة ما أحاط بالعُنُق. وقال بعضُهم: خيرُ الشِّعر المُطْمِع.
لكًثير إذا عَسُر عليه قول الشعر قيل لكًثَير: يا أبا صَخْر، كيف تصنع إذا عسر عليك قولُ الشعر. قال: أطوف بالرِّباع المُخْلِيَة والرياض المُعشِبة، فيسهُل عليّ أرْصَنُه وشُرع إليّ أحسنُه.
ويقال: إنه لم يُستَدْعَ شارِدُ الشعر بمثل الماء الجاري، والشَّرَف العالي، والمكان الخَضِر الخالي أو الحالي.
بين عبد الملك بن مروان وأرطأة بن سُهَيّة وقال عبدُ الملك بن مَرْوان لأرْطَاةَ بنِ سُهَيّة: هل تقول الآن شعراً. قال: ما أشرَب، ولا أطْرَب، ولا أغْضَب؛ وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه.
لكُثيّر عزّة وقيل لكُثَيِّر: ما بَقِيَ من شِعرك. فقال: ماتت عَزّة فما أطرب، وذهب الشَبَابُ فما أعْجَب، ومات ابن لَيْلَى فما أرغَب - يعني عبدَ العزيز بن مَرْوان - وإنما الشعر بهذه الخِلالَ.
لبعضهم في أشعر الناس وقيل لبعضهم: من أشعرُ الناس؟ فقال: امرؤُ القيس إذا رَكِب، والنابغة إذا رَهِب، وزهير إذا رَغِب، والأعشى إذا طَرِب.
للعجاج في عدم إحسانه الهجاء وقيل للعجّاج: إنك لا تُحسِن الهجاء. فقال: إن لنا أحلاماً تمنعًنا من أن نَظْلِمَ، وأحساب تمنعُنا من أن نُظْلَمَ، وهل رأيتَ بانِياً لا يُحسِن أن يَهْدِم!.
للمؤلف في وصف الشعر
وقلتُ في وصف الشَعر: الشعر مَعْدِنُ عِلْم العرب، وسِفْرُ حِكمتِها، وديوان أخبارها، ومستَوْدعُ أيامها، والسُورُ المضروبُ على مآثرها، والخَندَقُ المحجوزُ على مفاخرها، والشاهدُ العَدْلُ يومَ النَفار، والحُجةُ القاطِعةُ عند الخِصَام؛ ومن لم يقم عندهم على شَرَفه وما يدَّعِيه لسلفه من المناقب الكريمة والفَعَال الحميد بيت منه، شَدَّتَ مَساعيه وإن كانت مشهورة، ودرسَت على مُرور الأيّام وإن كانت جِساماً؛ ومن قيدها بقوافي الشعر، وأوثقها بأوزانه، وأشهَرها بالبيت النادر، والمَثَل السائر، والمعنى اللطيف، أخلدها على الدهر، وأخلصها من الجَحْد، ورفع عنها كَيْدَ العُدو وغض عينَ الحسود.
وما جاء في الشعر كثير. وقد أفردتُ للشعراء كتاباً، وللشعر باباً طويلاً في كتاب العرب.
وذكرت هذه النُتْفَةَ في هذا الكتاب كراهِيَةَ أن أخْلِيَه من فَنٍّ من الفنون.

حُسن التشبيه في الشِعر

لابن الزبير الأسدي في وصف الثريا من ذلك قولُ ابن الزَبِير الأسَديّ في الثُّرَيّا:

وقد لاح في الغَوْر الثرَيّا كأنما

به راية بيضاءُ تَخْفِقُ للطعْنِ

شبه الثُّرَيّا حين تدلت للمَغِيب براية بيضاء تخفق للطعن.
لعنترة في الذباب ومن ذلك قولُ عنترةَ في الذُبَاب:

وخَلاَ الذُبابُ بها فليس بنـازِحٍ

هَزِجاً كفِعْل الشارِبِ المُنَرَنَم

غَرِداً يَحُك ذِرَاعَه بـذرَاعِـهِ

فِعْلَ المُكِب على الزَناد الأجْذَم

شبًه حكه يده بيده برَجُل مقطوع الكفَين يَقْدَح النار بعُودَيْن.
ولأعرابي في العنب ومن ذلك قولُ أعرابي في العِنَب:

يَحْمِلْنَ أوعِيَةَ السُلافِ كأنّما

يَحْمِلْنها بأكارع النَغْـرَانِ

أوعية السلاف: العنب، جعله ظرفاً للخمر، وشبه شُعَب العناقيد التي تَحمِل الحب بأرجل النغران. "والنغَرُ: طائلاً مثل العصفور أحمر المِنْقار".
لآخر وقال الآخر، وكان غَشِي عَيْنَيْه بياضٌ أو نَزَل فيهما ماءٌ :

يقولون مَاء طيِّبٌ خان عـينـهُ

وما ماءُ سُوءٍ خان عَيْني بطيبِ

ولكنّه أزمانَ أنـظُـرُ طـيب

بعَيْنَيْ غدا فيٍّ علا فوق مَرْقَب

كأن ابن حَجْلٍ مَد فضلَ جَناحِه

على ماء إنسانَيْهِما المُتَـغَـيِّبَ

شبّه ما علا الحَدَقة بجَناح من فِرَاخ الزنابير قد مدَ على ناظره.
لامرئ القيس في العقاب ومن ذلك قولُ امرئ القيس وذكر العُقَاب:

كأن قلوبَ الطير رطبـاً ويابـسـاً

لَدَى وَكْرِها العُنّاب والحَشَفُ البالي

شبه الرطْب بالعُنّاب، واليابس بالحَشَف. وشبّه شيئين بشيئين في بيت واحد.
ولأوس بن حجر وذَكَر السيف ومن ذلك قولُ أوْس بن حَجَر وذَكَر السيف:

كانّ مَدَب النمل يلتمِسُ الرُبَى

ومَدْرَج ذَرٍّ خاف بَرْداً فأسهلا

شبه فِرِندَ السيف بمدرج الذر ومدبّ النمل.
لأبي نواس في البازي ومن ذلك قولُ أبي نُوَاس في البازيّ:

ومَنْسِر أكْلَفُ فيه شَغاً

كأنّه عَقْدُ ثَمَانـينـا

لأعرابي في امرأة ومن ذلك قولُ أعرابيٍّ في امرأة:

قامت تَصَدَى له عَمْداً لتقتُـلَـه

فلم يَرَ الناس وَجْداً مثلَ ما وَجَدا

بجِيد آدَمَ لـم تُـعـقـد قـلائِده

ونَاهِدٍ مثل قَلْب الظَّبِيْ ما نَهَدا

فظل كالحائِم الهَيْمَانِ لـيس لـه

صَبْر ولا يَأمَنُ الأعداءَ إن وَرَدا

شبه ثَدْيَها في نُهوده بقلب الظبي في صلابته، ولا نعلم أحداً شبه الثّدْي بقلب الظَّبْي غيره.
مثله لجحمر العُكْلي ومن ذلك قولُ جِحْمر العُكْلي في امرأة:

على قَدَمٍ مكنونة اللـونِ رَخْـصَةٍ

 

وكَعْب كَذِفْرَى جُؤْذُر الرَّمْل أدرَمَا

شبّه كعبها بأصل أذُن الجُؤْذُر، وهو الصغير من أولاد البقر.
حميد بن ثور يصف فرخ القطاة ومن ذلك قول حُمَيد بنِ ثَوْر يصف فَرْخ القطاة:

كانً على أشداقهِ نَوْرَ حَنْوَةٍ

إذا هو مَذَ الجِيدَ منه لَيطْعَمَا

دعبل يهجو امرأة ومن ذلك قول دِعْبل يهجو امرأة:

كأن الثآلِيلَ في وجههـا

إذا سَفَرَتْ بِدَدُ الكِشْمِش

لها شَعْرُ قِـرْدٍ إذا ازيَنـتْ

ووجهٌ كبَيْض القَطَا الأبْرَش

لأبي نواس يصف البط ومن ذلك قولُ أبي نُوَاس في وصف البطّ:

كأنّما يَصْفِرْنَ من مَلاَعق

لبعضهم في جارية سوداء ومن ذلك قولُ بعض الرجّاز في جارية سوداء:

كأنّها والكُحْلُ في مِرْوَدِها

تَكْحُلُ عينيها ببعض جِلْدِها

للجعدي في فرس ومن ذلك قولُ الجَعْدِيّ في فرس:

خِيطَ على زَفْرَةٍ فَتَمّ ولـم

يَرْجعْ إلى دِقَةٍ ولا هَضَمَ

يقول: هو منتفِخ الجَنْبَيْن، فكأنه زَفَر فانتفخ جنباه ثم خِيطَ على ذلك.
للطرماح في الثور

                     ومن ذلك قول الطِّرِمّاح يصف الثوْر:

 

يَبْدو وتُضمِره البلاد كأنهُ

 

سيفٌ علـى شَـرَف يُسَـل ويُغْـمَـدُ

قول النابغة للنعمان ومن ذلك قول النابغة للنُعمان:

فإنَك كالليل الذي هو مُـدْرِكِـي

وإنْ خِلتُ أن المُنْتأى عنك واسِعُ

وللنابغة أيضاً في المرأة ومن ذلك قولُه في المرأة:

نَظَرتْ إليك بحاجةٍ لم تَقْضِهـا

نَظَرَ المريض إلى وجوه العُودِ

يقول: نظرْت إليك ولم تَقْدِر أن تتكلم، كما ينظُر المريضُ إلى وجُوه عُواده ولا يَقْدِر أن يُكلَمهم.
لطرفة بن العبد ومن ذلك قولُ طَرَفَة:

لعمرُكَ إنّ الموتَ ما أخطأ الفَتَى

لَكَالطَوَل المُرْخَى وثنْيَاهُ بالـيَدِ

لبعض الضبيين يصف أباريق الثرب

 

ومن ذلك قول بعضِ الضَّبِئين يصف أباريق الشَّرَاب :

 

كأنّ أباريقَ الشَمُول عَشِيةً

إوَزٌ بـأعْـلَـى الـطَـف عـوجُ الـحـنـاجــر

لأبي الهندي ونحوه قولُ أبي الهنديّ:

سَيُغْني أبَا الهِنْدِي عن وَطْبِ سالم

أباريقُ لم يَعْلَقْ بها وَضَرُ الزُبْدِ

مُقدَمَة قَـزًّا كـأنَ رِقَـابَـهـا

رِقَابُ بَناتِ الماءِ تَفْزَعً للرًعْـد

لنُصَيب في عبد العزيز بن مروان ومن ذلك قولُ نُصَيب في عبد العزيز بن مَرْوان:

وكلبُك آنسُ بالمُعْـتـفِـين

من الأمِّ بابنتِهـا الـزائِرْه

لعدي بن الرفاع في ظبية

 

ومن ذلك قولُ عَلِي بن الرِّقاع في الظبية:

تُزْجِي أغنّ كأن إِبْرَة رَوقِـه

قلم أصاب من الحًواة مِدَادَها

ومن ذلك قولُ بشار:

كأن مُثَار النَقْع فوق رُؤوسِهم

وأسيافَنَا ليلٌ تَهَاوى كواكِبُـهْ

ومنِ ذلك قولُه:

جَفتْ عيني عن التَغْمِيض حتّى

كأنّ جُفونَها عنهـا قِـصَـارُ

ومن ذلك قولُ الآخر:

ومولًى كأنّ الشمسَ بيني وبينه

إذا ما التقينا ليس ممن أعاتبُهْ

يقول: لا أقْدِرُ على النظر إليه من بُغْضه، فكأن الشمس بيني وبينه.
ومن ذلك قولُ الآخر:

كأن نيرانَهم في كل مَنْـزِلةٍ

مُصًبّغَاتٌ على أرسانِ قَصارِ

الناس يَستحسنون هذا، وأنا أرَى أن أقول: الأولى أن يُشبه المُصبَّغات بالنيران، لا النيران بالمصبغات.

الأبيات التي لا مِثْلَ لها

حدثني أبو الخطاب قال: حدّثنا مُعْتَمر عن لَيْث عن طاوس عن ابن عباس قال: إنّها كلمة نبي.

سَتُبدي لك الأيامُ ما كنتَ جاهلاً

ويأتِيكَ بالأخبار من لم تُـزَوَد

أبرع بيت قالته العرب حدثني الرياشيّ عن الأصمعي قال: أبرعُ بيت قالته العرب قولُ أبي ذُؤَيب:

والنفسُ راغبة إذا رغَّبتَها

وإذا تُرَد إلى قليل تَقْنَعُ

لحميد بن ثور الهلالي في الكِبَر: وأحسن ما قيل في الكِبَر قولُ حُمَيْد بن ثَوْر الهِلالي:

أرَى بَصرِي قد رَابَني بعد صِحةٍ

وحسبُك داءً أن تَصِح وتَسْلَمـا

لأوس بن حجر وأحسن مَن ابتدأ مرثية أوس بن حَجَر في قوله:

أيتُها النفسُ أجْمِلي جَزَعا

إن الذي تَكْرَهِين قد وَقَعا

للنابغة وأغرب مَن ابتدأ قصيدة النابغةُ في قوله:

كِلينِي لِهَمٍّ يا أميمة ناصِـبٍ

وليلٍ أقاسِيهِ بَطِيءِ الكواكبِ

أحسن بيت قيل في الجبن لنهشل بن حري حدّثني الخَثْعَمِيّ الشاعر قال: أحسنُ بيتٍ قيل في الجُبْن قولُ نَهْشَل بن حَري:

فلو كان لي نفسان كنتُ مُقاتلاً

بإحداهما حتى تَموتَ وأسلما

وفي قساوة القلب قال: وبيت المُخبَّل في قَساوة القلب:

يُبْكَى علينا ولا نَبْكِي على أحدٍ

لنحنُ أغلظُ أكباداً من الإبـلَ

وفي الاستعفاف قال: وبيت عَبِيد في الاستعفاف:

مَنْ يسأل الناسَ يَحْرِمُوه

وسَائِلُ اللـه لا يَخِـيبُ

في الاحتفاظ المال لمنجوف بن مرة قال: وبيت مَنْجوف بن مُرّة السلمي في الاحتفاظ بالمال:

وأدفعُ عن مالي الحقوقَ وإنَهُ

لجٌم فإنّ الدهرَ جَم مصائبُهْ

وفي إكرام النفس للحطيئة قال: وبيت الحُطَيئة في إكرام النفس:

واكرِمُ نفسي اليومَ عن سُوء طعْمَةٍ

ويَقْنَي الحياءَ المرء والرمحُ شاجِرُه

لكعب في الإقدام قال: وقول كعب في الإقدام:

نَصِلُ السيوفَ إذا قَصًرْنَ بخَطْوِنَا

قُدماً ونُلْحِقُها إذا لم تَـلْـحَـقِ

ولعمر بن الإطنابة في الصبر قال: وبيت عمرو بن الإطْنابة في الصبر:

وقَوْلِي كُلَما جَشَأتْ وجاشت

مكانَكِ تُحْمَدي أو تَستريحي

لقَطَري بن الفُجَاءة وأحسن من هذا عندي قول قطَرِيّ:

وقَوْلي كلما جَشَأتْ لنـفـسـي

من الأبطال وَيْحَكِ لا تُرَاعِـي

فإنكِ لو سألـتـه بـقـاء يومٍ

على الأجَل الذي لكِ لم تُطَاعِي

لمسكين الدارمي في الجود قال: وبيت مِسكين الدارِميّ في الجُود:

طَعَامي طَعَام الضَيفِ والرَّحْلُ رَحْلُهُ

ولم يُلْهِني عنه الغزالُ المُـقَـنَّـعُ

ومثله في حسن الجوار قال: وفي حسن الجِوَار قوله:

ناري ونارُ الجارِ واحدة

وإليه قبلي تُنْزَلُ القدار

ما ضر جاراً لي أجاوِرُه

ألّا يكونَ لبابه سِـتْـرُ

لجميل قال: وممن رضي بالقليل جَمِيل، قال:

أقلَب طَرْفي في السماء لعـلَـهُ

يُوافقُ طرْفي طرَفها حين تَنْظُرُ

وقول الآخر:

أليس الليلُ يُلْبِس أم عَمْرو

وإيّانا فذاك بنـا تَـدَانِـي

تَرَى وَضَحَ النهار كما أراهُ

ويعلوها النهار كما علاني

لعمر بن كلثوم في الجهل قال: وبيت عمرو بن كلْثُوم في الجهل:

ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علـينـا

فنَجْهَل فوق جهل الجاهلينا

وللنابغة في ترك الإلحاح قال: وبيت النابغة في ترك الإلحاح :

فاستبق وُدَكَ للصديق ولا تكن

قَتَباً يَعضُ بغَارِبٍ مِلْحَاحـا

للمهلهل في إدراك الثأر قال: وفي إدراك الثأر قول مُهَلْهِل:

لقد قتلتُ بني بَكْرٍ بـربـهِـمُ

حتى بكيتُ وما يَبْكِي لهم أحدُ

لعروة بن الورد في تبليغ العذر في الطلب قال: وبيت عْرْوة بن الوَرْد في تبليغ العذر في الطلب:

لِتُبْلِغَ عُذْراً أو تُفِـيدَ غـنـيمةً

ومُبلِغْ نفس عُذْرَها مثلُ مُنْجِح

لجميل في إنفاق المال والتوكل على اللّه تعالى قال: وبيت جميل في إنفاق المال والتوكل على الله تعالى:

كُلُوا اليومَ من رزق الإله وأَبْشِرُوا

فإنّ على الرحمن رِزْقَكُمُ غـدا

للعباس بن مرداس في الشجاعة قال: وفي الشجاعة قول العباس بن مِرْدَاس:

أشُدُّ على الكَتِيبة لا ابالِـي

أحَتْفِي كان فيها أم سِواها

للمتلمس في المال قال: وبيت المتلمّس في المال وتثميره:

قليلُ المال تُصلحه فيَبْقَـى

ولا يبقى الكثيرُ على الفسادِ

أهجى بيت: للطرماح في تميم وأخبرنا دِعْبِل بن عليّ الشاعر قال: أهجى بيتٍ قيل قولُ الطَرمَّاح في تميم:

تميمٌ بطُرْقِ اللُّؤْم أهدَى من القَطَا

ولو سَلَكتْ طُرْقَ المكارِم ضَلَّتِ

وللأخطل قال: وكذلك قولُ الأخْطَل:

قوم إذا استنْبَحَ الأضيافُ كلبَهُمُ

قالوا لامِّهمُ بُولي على النارِ

قول الحطيئة للزبرقان في قصر الهمّة قال غيره: وقولُ الطِّرِمّاح في القِلّة والخُمول:

دَع المكارِمَ تَرْحَلْ لِبُغـيتـهـا

واقعُدْ فإنّك أنت الطاعِمُ الكاسِي

وللطرماح في القلة والخمول
قال غيره: وقولُ الطَرِمّاح في القِلّة والخُمول:

لو كان يَخْفَى على الرَّحمن خافيةٌ

من خَلْفِه خَفِيَتْ عنهُ بَنُـو أسَـدِ

ونحوه قولُ الآخر:

وأنت مَلِيح كلحم الـحُـوَا

رِ لا أنت حُلْوٌ ولا أنت مُرّ

وكذلك قولُ جَريرٍ في التَّيم:

وأنّك لو رأيتَ عـبـيد تَـيْم

وتَيْماً قلتَ أيُّهما الـعـبـيدُ

ويُقْضَى الأمرُ حينَ تَغِيبَ تيمٌ

ولا يُسْتَأذَنُون وهم شُهُـودُ

أحسن ما قيل في الهيبة شعراً وأحسن ما قيل في الهيبة:

يُغْضِي حَيَاءً وُيغضى من مَهَابته

 

فما يُكًلّمُ إلا حـين يبـتـسِـمُ

لمحمد بن أبي حمزة في مصلوب وأغرب ما قيل في مصلوبٍ قولُ محمد بن أبي حَمْزة مَوْلَى الأنصار:

لَعَمْرِي لئن أصبحتَ فـوقَ مُـشَـذبٍ

طَوِيلٍ تُعَفَيكَ الرياحُ مع الـقَـطْـرِ

لقد عِشْتَ مبـسـوطَ الـيدين مُـرَزَأً

وعُوفيتَ عند الموت من ضغطة القبر

وأفْلِتَ من ضِيق الـتُـراب وغَـمـه

ولم تَفْقَدِ الدنيا فهل لك مـن شـكـر

لأعرابي في مجوسي وأغرب ما قيل في مجوسيٍّ قول أعرابيّ:

شَهِدْتُ عليك بطِيبِ المُشَاش

وأنَّك بحر جَوادٌ خِـضَـم

وأنَّك سيدُ أهل الـجَـحـيم

إذا ما تَرَدَّيْتَ فيمن ظَلَـمْ

لإبراهيم بن إسماعيل في دعي ومن أغرب ما قيل في دَعِي قولُ إبراهيم بن إسماعيل البنوي:

لو أنّ مَوْتَى تميم كلّها نْشِـرُوا

وأثبتوك لقيل الأمرُ مصنـوعُ

مثل الجديدِ إذا ما زِيدَ في خَلَقٍ

تَبَين الناسُ أن الثوبَ مرقوعُ

ونحوه قولُ الآخر:

أجارتَنا بَانَ الخَلِيطُ فأَبشِري

فما العَيْشُ إلا أن يَبِين خليطُ

أعاتبُه في عِرْضِه ليصونَـه

ولا عِلْمَ لي أن الأميرَ لقِيطُ

لدعبل في مالك بن طوق ونحوه قولُ دِعْبِل في مالك بن طَوْق:

الناسُ كلًهُمُ يسعَى لـحَـاجـتـه

ما بين ذِي فَرَح منهم ومَهْمـوم

ومالك ظَل مشغولًا بنِـسْـبـتـه

يَرُم منها خَرَاباً غيرَ مَـرْمـوم

يبني بيوتاً خراباً لا أنـيسَ بـهـا

ما بين طَوْقٍ إلى عَمْرو بن كُلْثوم

التلطُّف في الكلام والجواب وحسن التعريض

بين معاوية وعقيل بن أبي طالب حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: ترك عَقِيل عليَاً وذهب إلى مُعاوية، فقال معاوية: يا أهل الشأم، ما ظنكم برجلٍ لم يصلُحْ لأخيه. فقال عَقِيل: يا أهل الشأم، إن أخي خيرٌ لنفسه وشر لي، وإن مُعاوية شر لنفسه وخير لي.
قال: وقال مُعاوية يوماً: يا أهل الشأم، إن عمّ هذا أبو لَهَب. فقال عَقيل: يا أهل الشأم، إن عمة هذا حَمَالة الحَطَب. وكانت أمّ جميل امرأة أبي لهب وهي بنت حَرْب.
بين عبيد الله بن زياد وقيس بن عباد وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا أبو هِلاَل عن قَتَادة قال: قال عُبَيد الله ابن زِيَر لقَيس بن عَبّاد: ما تقول فيّ وفي الحسين. فقال: أعفِني أعفاك الله! فقال: لَتَقُولَن. قال: يجيء أبوه يوم القيامة فيشفَعَ له، ويجيء أبوك فيشفَع لك. قال: قد علمتُ غِشّك وخُبْثك، لئن فارقتني يوماً لأضَعَنّ بالأرض أكثَرك شَعْراً.
لميمون بن مهران قيل لمَيْمُون بن مِهْران: كيف رِضَاك عن عبد الأعلى؟ قال: نِعْمَ المرء عمرُو بن ميمون.
بين عمر بن الخطاب وعبد اللّه بن الزبير مر عمر بن الخطّاب بالصبيان وفيهم عبد الله بن الزبير، ففرّوا ووقف؛ فقال له عمر: ما لك لم تَفِر مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم أجْرِم فأخافَك، ولم يكن بالطريق ضِيق فأوسعَ لك.
جواب رجل لعبد الله بن طاهر حدّثني الفضلُ بن محمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة قال: قال عبد الله بن طاهر ذاتَ يوم لرجل أمره بعمل: احذر أن تخطئ فأعاقَبك بكذا "لأمر عظيم" قلت له: أيها الأمير؛ كانت هذه عقوبتَه على الخطأ فما ثوابُه على الإصابة!.
بين قرشي وتغلبي
رأى رجل من قريش رجلاً له هيئةٌ رَثَّة، فسأل عنه، فقالوا: مِنْ تَغْلِب. فوقف له وهو يطوف بالبيت، فقال له: أرى رِجْلين قَلّما وطئتا البطحاء، فقال له: البطحاوات ثلاث: بطحاء الجزيرة، وهي لي عونك؛ وبطحاء ذي قار ، وأنا أحقُّ بها منك؛ وهذه البطحاء وسواء العاكفُ فيه والبادي.
بين معاوية وعبد الرحمن بن حسان حدثني سَهْل عن الأصمعيّ عن أبي عَمْرو بن العلاء أو غيره: أنّ معاوية عَرَض فرساً على عبد الرحمن بن حَسّان فقال: كيف تراه؟ قال: أراه أجَشَّ هَزيماً.
يريد قول النجاشِيّ:

ونَجَّى ابن حَرْبٍ سابحٌ ذُو علَالةٍ

أجشُ هَزِيمٌ والرماحُ دَوَانِـي

بين أبي بكر وطلحة بن عبيد الله حدّثني محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو سَلَمة عن حمَاد بن سلمة قال: أخبرنا داود بن أبي هند عن محمد بن عَبَّاد المخزومي أن قريشاً قالت: قيِّضُوا لأبي بكر رجلاًَ يأخذه. فقيضوا له طَلْحَة بن عُبيد الله، فأتاه وهو في القوم فقال: يا أبا بكر قم إليّ. قال: إلامَ تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعُزَّى. قال أبو بكر: مَنِ الَّلات. قال: بناتُ اللّه. قال: فمن أمّهم. فسكت طلحة وقال لأصحابه: أجيبوا صاحبَكم. فسكتوا؛ فقال طلحة: قم يا أبا بكر، فإني أشْهد أن لا إلهَ إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسولُ الله. فأخذ أبو بكر بيده فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلم.
بين عمر ورجل عن قندابيل حدثني محمد بن عُبَيد عن مُعاوية عن أبي إسحاق عن عًبيد اللّه بن عمر أنّ عمر قال: كل يُخبرنا عن قَنْدَابِيل؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ماؤها وَشَل، وتمرُها دَقَل، ولصها بَطَل؛ إن كان بها الكثيرُ جاعوا، وإن كان بها القليلُ ضاعوا. قال عمر: لا يسألني الله عن أحدٍ بعثته إليها أبداً.
بين مسروق وشريح في مرض زياد حدّثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعيّ قال: مَرِض زِيادٌ فدخل عليه شُرَيْح، فلما خرج بعث إليه مسروقُ بن الأجدع يسأله كيف تركتَ الأمير؟ قال: تركته يأمر ويَنْهَى. فقال مسروق، : إن شُرَيحاً صاحبُ تعريض فسَلُوه. فسألوه، قال: تركته يأمر بالوصيّة وينَهم عن البكاء.
ولابن شريح أيضاً في موت ابنه ومات ابن لشُرَيح ولم يشعرُ به أحدٌ، فغدا عليه قوم يسألون به، وقالوا: كيف أصبح من تَصِل يا أبا أميّة. فقال: الآن سكن عَلَزُه ورجاه أهلُه.
حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثني بعض الأعراب قال: هَوِيَ رجلٌ امرأة ثم تزوّجها، فأهدَى إليها ثلاثين شاةً وزِقّا من خَمْر، فشرِب الرسولُ في الطريق بعضَ الخمر وذبح شاةً؛ فقالت للرسول لمّا أراد الانصراف: اقرأ على مولاك السلام، وقل له إنّ شهرنا نَقَص يوماً وإن سُحَيْما راعي شائِناً أتانا مرثوماً. فلما أتى مولاه فأخبره ضربه حتى أقرِّ.
لأعرابي خطب إلى قوم ثم كره ذلك حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: خَطَب أعرابي إلى قوم، فقالوا: ما تبذل مر الصَّدَاق. وارتفع السجْف فرأى شيئاً كَرِهَه، فقال: واللّه ما عندي نَقْد، وأني لأكره أن يكون علي دَيْن.
بين سلم بن قتيبة والشعبي حدّثني عبد الرحمن عن الأصمعي قال: قال سَلْم بن قُتَيبة للشَّعْبيّ: ما تشتهي؟ قال: أعز مفقود، وأهون موجودة قال: يا غلام اسقه ماء.
بين ابن عون وابن عمه المدائني قال: كان لابن عَوْنٍ ابن عمٍّ يُؤذيه، ولَاحَاه يوماً فقال له ابن عون، لمّا بلغ منه: لتسكتُنّ أو لأشتمِنّ مُسَيْلِمَة. فشهد بعد ذلك عند عُبيد اللهّ بن الحسن، فردّ شهادتَه.
بين المُغيرة بن شعبة ورجل شاوره في امرأة يتزوجها المدائني قال: قال المغيرة بن شعْبة: ما خَدَعني أحدٌ قط غير غلام من بني الحارث بن كعب، فإني ذكرت امرأة منهم، فقال: أيها الأمير! لا خير لك فيها، إني رأيت رجلاًَ قد خلا بها يقبلها. ثم بلغني بعدُ أنه تزوّجها، فأرسلت إليه فقلت: ألم تعلمني أنك رأيت رجلاًَ يقبلها. فقال: بلى! رأيت أباها يقبّلها.
من خطب لبائع سنانير على أنه نخاس دواب قال المدائني: أتى شريحاً القاضيَ قومٌ برجل، فقالوا: إن هذا خَطَب إلينا: فسألناه عن حرفته فقال: أبيع الدوابَّ؛ فلما زوّجناه، فإذا هو يبيع السنانير؛ قال: أفلا قلتم أيَّ الدوابّ تبيع؟ وأجاز ذلك.
ابن شبرمة وسؤال عيسى بن موسى له عن رجل لا يعرفه
المدائني قال: دخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شُبْرُمَة، فقال له: أتعرفه؟ وكان رُمِي عنده برِيبة؛ قال: نعم، إنّ له بيتاً وشَرَفاً وقَدَماً، فخلى سبيله فلما خرج قال له أصحابه: أعَرَفته؟ قال: لا، ولكني أعلم أن له بيتَاَ يأوي إليه، وشرفه أذناه ومَنْكِباه، وقَدمه هي قدمه التي يمشي عليها.
للشعبي وقد سُئِل عن رجل المدائني قال: سُئل الشعبيّ عن رجل، فقال: إنه لنافذ الطعْنة، رَكِين القعدة. يعني أنه خَياط، فأتوه فقالوا: غَرَرتنا. فقال: ما فعلت! وإنه لَكَما وصفت.
بين العريان بن الهيثم وابن باقلاني المدائني قال: أتيَ العُرْيانُ بن الهيثم بشابٍّ سَكران، فقال له: من أنت؟ فقال:

أنا ابن الذي لا ينزلً الدهرَ قِدْرُهُ

وإن نزلتْ يوماً فسوف تعـودُ

ترى الناسَ أفواجاً إلى شَوْء نارِه

فمنهم قِيامٌ حولَـهـا وقُـعـودُ

فظنّ أنه من بعض أشراف الكوفة فخلاه، ثم ندِم على ألاّ يكون سأله مَنْ هو، فقال لبعض الشُرَط: سَلْ عن هذا. فسأل، فقالوا: هو ابن بَيّاع البَاقِلي.
بين زياد وحارثة بن بدر الغداني دخل حارثةُ بن بحر الغُدَاني على زِياد، وكان حارثة صاحب شرابٍ وبوجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر بوجهك؟ فقال حارثة: أصلح الله الأمير، ركِبت فرساً لي أشقر فَحَملني حتى صَدم بي الحائط؛ فقال زياد: أما إنك لو ركبت الأشهب لم يُصبك مكروه: عَنَي زياد اللبنَ، وعني حارثةُ النبيذَ.
لقوم يشربون النبيذ فسقط الذباب في قدح أحدهم قعد قوم على نبيذ فسَقَط ذُباب في قَدَع أحدهم، فقال رجل منهم: غطً التميميّ. فقال آخر: غطَهَ فإن كان تميمياً رسَبَ، وإن كان أزْديَا طَفَا. قال رب المنزل: ما يسرني أنه كان قال بعضكم حرفاً. وإنما عنى أن أزْدَ عُمَان ملاحون.
بين رجل وامرأة كانت تأتيه المدائني قال: رأى رجلِ في يد امرأة كانت تأتيه خاتَمَ ذهب، فقال لها: ادفعي إليّ خاتمك أذكرك به. فقالت: إنه ذهَب، وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود لعلك تعود.
لأبي بكر في النبي صلى الله عليه وسلم حدثني الزياديّ قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز بن صُهَيْب عن أنَس قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مُردفاً أبا بكر شيخاً يُعْرَف، ورسول الله شابُّ لا يُعرف، فَيْلقَى الرجلُ أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، مَنْ هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. فيحسب السامع أنه يهديه الطريق، وإنما يعني سبيلَ الخير.
بين عمر بن هبيرة وهو يساير سنان بن مكمل على بغلة كان سِنَان بن مُكًمل النمير في يُساير ابن هُبَيْرةً يوماً وهو على بغلة، فقال له عمر بن هبيرة: غُض من بغلتك؛ قال: كلا! إنها مكتوبة. أراد ابن هبيرة قول الشاعر:

فغضُ الطَرفَ إنًك من نُمَيْرٍ

فلا كَعْباً لغتَ ولا كـلَابَـا

وأراد سنان قولَ الآخَر:

لا تأمَنَن فَزَارياً خَلَوْتَ بـه

على قَلُوصك واكتبْها بأسيارِ

بين معاوية والأحنف في الشيء الملفف في البجاد حدثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: قال معاوية للأحنف: يا أحنف، ما الشيء الملفف في البِجَاد؟ فقال: هو السخِينة يا أمير المؤمنين. أراد معاوية قول الشاعر:

إذا ما مات مَيتٌ من تـمـيم

فسرَّك أن يعيش فجيء بزَادِ

بخُبْزٍ أو بتمر أو بـسـمـنٍ

أو الشي الملًففِ في البِجَادِ

وأراد الأحنف أن قريشاً تُعًير بأكل السخينة.
المدائني قال: سأل الحَرَسِي أبا يوسف القاضي عن السواد؛ فقال: النور في السواد. يعين نور العينين في سواد الناظر.
بين شيطان الطاق وخارجي المدائني قال: لقي شيطانَ الطاق خارجي فقال: ما أفارقك أو تبرأ من عليّ فقال: أنا من علي ومن عثمان بريء. يريد أنه من علي، وبريء من عثمان.
بين عمر ورجل عرضت به امرأته سمع عمر بن الخَطاب امرأةً في الطوَاف تقول:

فمنهنّ من تُسْقَى عذْب مُبَرَّدٍ

نُقَاخ فتلكم عند ذلك قَـرتِ

ومنهن من تُسْقَى أخضَرً آجنٍ

أجَاج ولولا خَشْيةُ الله فَرتِ

فعلم ما تشكو، فبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم، فخيره بين خمسمائة درهم أو جمارية من الفَيْء على أن يطلًقها، فاختار خمسمائة، فأعطاه وطلقها.
بين أحمد بن محمد وامرأة في محمد بن زانة حدّثني أحمد بن محمد أبو نصر الكاتب قال: كنت واقفاً بهذا المكان، وأقبلت امرأة من هذه الناحية، وغلامٌ من الناحية الأخرى أبيضُ الوجه رائعه، ونظرت إليه المرأة، فلما التقيا قالت له: ما اسمك يا فتى. قال: محمد. قالت: ابن من. قال: ابن زانة. وتبسم عن ثغر أفلج مختلف قبيح؛ فقالت: واحَرَبَاهُ على ما قال! فقلت لها: قد وقعتُ لك عليها. قالت: من أين قلت: من كنية أبي الخير النصراني كاتب سعيد الحاجب. أراد أن الياء إذا نُقلت عن أبي الخير إلى زانة، صار هذا أبا الخر، وصار هذا ابن زانية.
لابن أبي علقمة في بني ناجية مر ابن أبي عَلْقَمة بمجلس بني ناجية فكَبَا حمارُه لوجهه فضحكوا؛ فقال: ما يضحككم! إنه رَأى وجوه قُرَيش فسَجَد.
للجاحظ في أبى الهذيل يخاطب محمد بن الجهم قال عمرو بن بحر قال أبو الهذيل لمحمد بن الجَهْم وأنا عنده: يا أبا جعفر، إني رجلٌ منخرِق الكفّ لا ألِيق درهماً، ويدي هذه صَنَاعٌ في الكَسْب ولكنها في الإنفاق خَرْقاء، كم من مائة ألف درهمٍ قَسَمتها على الإخوان في مجلس وأبو عثمان يعلم ذلك! أسألُك باللّه يا أبا عثمان، هل تعلم ذلك. قال: يا أبا الهذيل ما أشك فيما تقول. قال: فلم يرضَ أن حَضَرتُ حتى استشهدني، ولم يرض إذ استشهدني حتى استحلفني.
لعلي بن أبي طالب قال المدائنيّ: بعث يزيد بن قَيْس الأرحَبيّ، وكان والياً لعليّ، إلى الحسن والحسين رضي اللّه عنهم بهدايا بعد انصرافه من الولاية وتَرَكَ ابن الحَنَفِيّة، فضرب علي - عليه السلام - على جنب ابن الحنفيّة وقال:

وما شَرُّ الثلاثةِ أمَّ عمرو

بصاحِبِك الًذي لا تَصْبِحينا

فرجع يزيد إلى منزله وبعث إلى ابن الحنفية بهديّة سنية.
بين أعرابي ورجل في صورة خمسة حدثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: حدّثني موسى بن محمد قاضي المدينة، قال: مرّ رجل بأعرابي يوقد في أصل مِيلٍ، فقال: كم على الميل. فقال: لستُ أقرأ، ولكنّ كتابه فيه. قال: وما كتابه. قال: مِحْجَنٌ وحَلْقَةِ سِمْط وثلاثة أطْباء وحَلْقَة مُذَنَبة "يعني صورة خمسة".
بين سعد بن مالك وعمرو بن مالك بن ضبيعة قال أبو اليقظان: إن عمرو بن مالك بن ضُبَيْعة هو الذي قيل فيه:

لذي الحِلْم قبل اليوم ما تُقْرَعُ العصا

وما علَمَ الإنسانُ إلّا لـيَعْـلَـمـا

وذلك أن سعد بن مالك كان عند بعض الملوك، فأراد الملك أن يبعث رائداً يرتاد له منزلاً ينزِله، فبعث بعمرو فأبطأ عليه، فآلى الملك لئن جاء ذامًّا أو حامداً ليقتلنّه؛ فلما جاء عمرو وسَعْد عنده، قال سعد للملك: أتأذَنُ لي فأكلِّمه؟ قال: إذاً أقطع لسانك. قال: فأشير إليه قال: إذاً أقطع يدك. قال: فأومئ إليه. قال: أقطع حِنْوَ عينك. قال: فأقرَعُ له العصا. قال: اقرَعْ. فأخذ العصا فضرب بها عن يمينه ثم ضرب بها عن شماله ثم هَزَّها بين يديه، فلقن عمرو، فقال: أبيْتَ اللَعْنَ! أتيتُك من أرض زائرها واقف، وساكنُها خائف، والشَبْعىَ بها نائمة والمهزولةُ ساهرة جائعة، ولم أر خِصْباً محلاً، ولا جدباً منزلاً.
بين معاوية وعمرو بن العاص لما حُكَم أبو موسى وقَدِمَ ليحكم، دسّ معاويةُ إلى عَمْرو رجلاً ليعلم علمَه وينظر كيف رأيه؛ فأتاه الرجل فكلّمه بما أمره به، فعَضّ عمرو على إبهامه ولم يُجبه، فنَهَض الرجل فأتى مُعاويةَ فأخبره؛ فقال: قاتله اللّه أراد أن يُعلمني أني فَرَرْتُ قارحاً.
بين الحجاج وجبر بن حبيب في رجل سأله عنه الحجاج حدّثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعي قال: حدّثنا عيسى بن عمر قال: سأل الحجاج جبر بن حبيب عن رجل، وكره أن يعاقبه إن دلّ عليه، فقال: تركته والله جسداً يُحَرك رأسُه يُصَب في حلقه الماء، والله لئن حُمِلَ على سرير ليكونَنّ عليه عورةً؛ قال: فتركه.
لعلي بن أبي طالب في قتل عثمان رضي الله عنه وتفسير محمد بن سيرين لقول علي
حدّثني القاسم بن الحسن عن خالد بن خِدَاش عن حَمّاد عن مُجالد عن عُمَيْر بن روذي قال: خَطَبَنا علي عليه السلام فقال: لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل عثمان لا أدخلها ولئن يدخل النار إلا من قتل عثمان لا أدخلها؛ فقيل له: ما صنعتَ! فَرقتَ الناس! فَخَطَبهم فقال: إنكم قد أكثرِتم في قتل عثمان، ألَا وإن الله قَتَله وأنا معه. قال: فحدثنا خالد عن حَمّاد عن حَبِيب بن الشَهِيد عن محمد بن سِيرِينَ قال: كلمة عربيّه لها وجهان. أي وسيقتلني معه.
بين زياد وشريف من أشراف البصرة كنى عن مسكنه وولده سأل زيادٌ رجلاً بالبصرة: أين منزلك. فقال: وَاسِط. قال: ما لك من الولد؟ قال: تسعة. فلما قام، قيل لزياد: كَذَبك في كل ما سألته، ما له إلا ابن واحد، وإن منزلَه بالبصرة. فلما عاد إليه، قال: ذكرتَ أن لك تسعة من الولد، وأن منزلك بواسط؟ قال: نعم؟ قال: خُبٌرتُ بغير ذلك؛ قال: صَدَقتُ وصَدَقوك، دفنت تسعة بنين فهم لي، ولي اليوم ابن واحد ولست أدري أيكون لي أم لا، وأما منزلي إلى جانب الجبان بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، فأي منزل أوسط منه؛ قال: صدقت.
للمختار الثقفي حدثني أبو حاتم عن الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: قال المختار لجنده: يا شُرْطة الله، ليَخرجَن إلى قريبِ على الكعبة الحرام دابَّةٌ له ستُّ قوائم وله رأسٌ بلا عُنُق، ثم التفت إلى رجل إلى جانب فقاَل: أعني اليَعسوب.
قول إبراهيم إذا لم يعجبه الرجل كان إبراهيم إذا لم يُعجبه الرجل قال: ما هو بأعجب الناس إلي.
قول مسلم بن يسار إذا غضب على البهيمة بلغني عن معاوية بن حَيان عن المبارك بن فَضَالة عن عبد الله بن مسلم بن يَسَار، قال: كان أبي إذا غَضِب على البهيمة، قال: أكلتِ سماً قاضياً.
قول الحسن إذا أخِذ من لحيته شيء حدثني زيد بن أخزم قال: حدثنا أبو قُتَيبة قال: حدثنا أبو المِنهال البَكْرَاويّ قال: كان الحسن إذا أخِذَ من لِحْيته شيء، قال: لا يكن بك السوءُ.
وللحسن أيضاً في الإجابة بآية من آيات القرآن الكريم وقيل للحسن: أتى رجلٌ صاحباً له في منزله وكان يصلي، فقال: أدخل؟ فقال في صلاته: "ادْخُلُوهَا بِسَلاَم آمِنِينَ" فقال: لا بأس.
لمحمد بن علي كان محمد بن عليٍّ إذا رأى مُبتلى أخفى الاستعاذة. وكان لا يسمع من داره يا سائل بورك فيك، ولا يا سائل خذ هذا، ويقول: سَموهم بالحسن الجميل عباد الله، فتقولون: يا عبد الله بورك فيك.
لعلي بن أبي طالب في أبعد ما بين المشرق والمغرب والسماء والأرض قيل لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: كم بين السماء والأرض. قال: دعوة مستجابة. قيل: فكم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم "يعني للشمس".
رشْم عمر بن مهران كانَ رشْمُ عمر بن مِهْران الذي يرشم به على طعامه: اللهم احفظه ممن يَخْطَفه.
لرجل من بين أسد وابنته وجماعة من بني فزارة خرج رجل من بين أسَد بإبل له يسقيها، ومعه ابنة له جميلة عاقلة، حتى دفع إلى ماء لبني فَزَارة، فسألهم أن يأذنوا له في سقي إبله؟ فقالوا: على ألا تجأجئ بها، قال: فإذاً لا تشرب شُرْبَ خير. قالوا: إن رَضِيتَ وإلا فانصرفْ. فقالت له الجارية: اشْرُطْ لهم ما طلبوا وأنا أكفيك. فأخذ الدلوَ، وجعلت الجارية ترتجز وتقول:

جاريةٌ شَبتْ شبابَ العُسْلُج

ذاتُ وِشاحينِ وذاتُ دملُج

وذات ثَغْرٍ أشنب مُفلَّـج

وذات خَلْقٍ مُستتب مُدمج

في أبيات كثيرة، فشربت الإبل حتى رَوِيتْ من غير أن جأجأ بها.
بين أعرابيين تبايعا كبشاً وتبايع أعرابيان على أن يشرب أحدهما لبناً حازراً ولا يتنحنح، فلما شربه وتَقَطّع في حَلْقه؛ قال: كَبْش أملح؛ فقال صاحبه: فَعلَهَا ورب الكعبة! فقال: مَن فعلها فلا أفلح. وكان ما تبايعا عليه كبشا.
جواب أعرابي للأصمعي في شاء قال الأصمعي: قلت لأعرابي معه شَاءٌ: لمن هذه الشّاء؟ فقال: هي للّه عندي.
جواب سعيد بن جبير للحجاج حدثني أبو الخَطّاب قال: حدّثنا أبو داود عن عمَارة بن زاذان قال: حدثنا أبو الصهباء قال: قال الحجّاج لسَعيدِ بن جُبَيْر: اخْتَرْ أيَ قِتْلةٍ شئتَ. فقال له: بل اختر أنت لنفسك، فإن القصاص أمامك.
قول جعفر بن يحيى لهرثمة وقد ولي الحرس مكانه
وَليَ هَرْثمةُ الحرسَ مكان جعفر بن يحيى، فقال له جعفر: ما انتقلت عني نعمةٌ صارت إليك.
بين ابن القرية رسول الحجاج إلى هند بنت أسماء في تطليقها، وجواب هند أمر الحجاجُ ابن القِرية أن يأتي هندَ بنت أسماء فيطلقها بكلمتين، ويُمَتَعها بعشرة آلاف درهم؛ فأتاها فقال لها: إن الحجّاج يقول لك: كنتِ فبِنْتِ، وهذه عشرة آلاف مُتْعة لك؛ فقالت: قل له: كنا فما حَمدنا، وبِنّا فما ندمْنَا؛ وهذه العشرة الآلاف لك ببشارتك إياي بطلاقي.
لابن سفيان بن عُيَيْنة سئل سُفيان بن عُيَيْنة عن قول طاوُس في ذَكَاة السمك أو الجراد. فقال ابنه عنه: ذَكَاتُه جدُه.
ليزيد بن المقنع في بيعة يزيد بن معاوية اجتمع الناس عند معاوية وقام الخطباء لبيعة يزيد وأظهر قوم الكراهة، فقام رجل من عُذرَة يقال له يزيد بن المقنّع، واخترط من سيفه شبراً، ثم قال: أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية، فإن يَهْلِكْ فهذا، وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: أنت سيد الخطباء.
بين ابن شبرمة وحجازي قال رجل من أهل الحجاز لابن شُبْرُمَة: مِنْ عندنا خَرَجَ العلمُ. قال ابن شبرمة: ثم يَعُدْ إليكم.
بين معاوية وابن عباس قال المدائنيّ: قال معاويةُ لابن عبّاس: أنتم يا بني هاشِم تُصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم.
وقال له معاوية: ما لبينَ الشَبَق في رجالكم؛ فقال: هو في نسائكم أبْيَن.
بين ابن ظبيان التيمي وزُرعة بن ضمرة أبو اليقظان قال: قال ابن ظَبْيان التًيْمي لزُرْعة بن ضَمْرَة: لقد طلبتك يوم الأهواز و ظَفِرتُ بك لقطعت منك طَابِقَاً سُخْنا. قال: أفلا أدلُك على طابق هو أسخن وأحوج إلى القطع؟ قال: بلى! قال: بَظْرٌ بين إسْكَتَيْ أمّك.
بين الحجاج والفضيل بن بزوان أبو اليقظان قال: بعث الحجاج إلي الفُضَيْل بن بَزَوَان العدواني، وكان خيراً من أهل الكوفة، فقال: إني أريد أن أوليك. قال: أوَ يُعفيني الأمير؟ فأبى وكتب عهده، فأخذه وخرج من عنده فرمى بالعهد وهَرَب، فأخِذَ وأتِيَ به الحجاجُ، فقال: يا عدو الله؛ فقال: لستُ لله ولا للأمير بعدوّ؛ قال: ألم أكرمك! قال: بل أردتَ أن تُهينني. قال: ألم أستعملك! قال: بل أردت أن تستعبدني. قال: "إِنًمَا جَزَاءُ الًذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ" الآية؛ قال: ما استوجب واحدةً منهن؛ قال: كل ذلك قد استوجبت بخلافك. وأمر رجلاً من أهل الشأم أن يضرب عُنقه ما كُتب في زوايا مجلس زياد بالكوفة سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني حجر بن عبد الجبار عن عبد الملك بن عُمَيْر قال: كان في مجلس زياد، الذي يجلس فيه للناس بالكوفة، في أربع زوياه كتاب بقلم جليل: "الوالي شديد في غير عنف، لين في غير ضعف؛ الأعْطِية لإبًانِها، والأرزاقُ لأوقاتها؛ البُعُوث لا تجَمَر. المحسن يُجْزَى بإحسانه، والمسيء يُؤْخذ على يديه" كلما رفع رأسه إلى زاوية قرأ ما فيها.
بين الحجاج وأبو الجهم بن كنانة قال سليمان: وحدثنا أبو سفيان الحميري قال: أبْلَى أبو جَهْم بن كِنَانة يوم الراوية، فقال له الحجاج: من أنت؟ قال: أنا أبو جهم بن كنانة. قال له الحجاج: قد زدناك في اسمك ألفاً لاماً فأنت أبو الجهم، وزدنا في عطائك ألفاً.
بين معاوية وشدّاد بن أوس في المفاضلة بين علي ومعاوية العباس بن بَكار عن عُبَيد الله بن عمر الغَسّاني عن الشعبيّ قال: قال مُعاوية لشَدّاد بن أوس: يا شدّاد، أنا أفضل أم علي؟ وأينا أحبُّ إليك؟ فقال: علي أقدمُ هِجْرةً، وأكثرُ مع رسول الله إلى الخير سابقةً، وأشجعُ منك قلباً، وأسلمُ منك نَفْساًة وأما الحبّ فقد مضى عليّ، فأنت اليوم عند الناس أرجى منه.
قول الأحنف لمعاوية في يزيد قال الأحنفُ لمعاوية في كلام: أنت أعلمُنا بيزيد في ليله ونهاره، وسرّه وَعلانيَته، فلا تلقمه الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة.
بين جامع المحاربيّ والحجاج  
خطب الحجّاجُ فشكا سوءَ طاعة أهل العراق؛ فقال جامع المحاربيّ: أمَا إنهم لو أحبُوك أطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك، فدع ما يباعدهم منك إلى ما يقرِّبهم إليك، والتمس العافيةَ فيمن عونك تُعْطَها ممن فوقك، وليكن إيقاعُك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدِك. فقال الحجاج: واللّه ما أراني أردّ بني اللًكِيعة إلى طاعتي إلا بالسيف. فقال: أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخِيار. قال الحجاج: الخِيَار يومئذ لله، قال: أجل! ولكنك لا تدري لمن يجعله الله. فقال: يا هَنَاهُ، إنك من مُحارب! فقال جامع:

وللحرب سميناً وكنـا مُـحـاربـاً

إذا ما القَنَا أمسى من الطعن أحمرا

فقال الحجاج: والله لقد هَمَمتُ أن أخلع لسانك فأضربَ به وجهك. فقال له: يا حجاج إن صَدَقْناك أغضبناك، وإن كَذَبناك أغضبنا الله، فَغَضبُ الأمير أهونُ علينا من غضب الله.
بين شيخ من قضاعة وعجوز ترشده الطريق قال الأصمعي أخبرنا شيخٍ من قضَاعة، قال: ضَلَلْنا مرةً الطريقَ فاسترشدنا عجوز فقالت: استبطِن الواديَ وكن سيلا حتى تبلُغَ.
كتاب معاوية إلى قيس بن سعد وجواب قيس ابن الكلبي قال: كتب معاوية إلى قيس بن سعد: أما بعد، فإنما أنت يهودي، إن ظَفِرَ أحبُّ الفريقين إليك عَزَلك واستبدل بك، وإن ظفر أبغضُهما إليك قتلك وزرَ بك، وقد كان أبوك وَتَرَ قوسَه ورمى غَرَضَه، فأكثر الحَز وأخطأ المَفْصِل، فخذلك قومُه، وأعردَ يومُه، ثم مات طريداً بحَوْران؛ والسلام. فكتب إليه قيس بن سعد: أما بعد، فإنما أنت وثن ابن وثن، دخلت في الإسلام كرهاً وخِرِجت منه طوعاً، لم يقمُ إيمانك ولم يحدُث نِفاقك، وقد كان أبي وَتَر قوسه ورمى غرضه، وشَغب عليه من لم يبلُغ كعبه ولم يشُق غُباره، ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداءُ الدين الني خرجت إليه؟ والسلام.
بين الأعمش وخالد بن صفوان قال يحيى بن سَعِيد الأموي: سمعت الأعمش يقول لخالد بن صَفْوان: شَعَرت أن منزلك لا يُعرف إلا بي حتى يقال عند منزل الأعمش؛ فقال خالد: صدقتَ، مثل حمام عنترة، ويقال وردان وبيطار "حيان".
بين الربيع وشريك بين يدي المهديّ قال الربيع لِشَريك بين يدي المهديّ: بلغني أنك خُنت أمير المؤمنين. فقال شَرِيك: لو فعلنا ذلك لأتاك نصيبُك.
بين عربي ورجل من الموالي قال رجل من العرب: أرِيتُ البارحةَ في منامي كأني دخلت الجنةَ فرأيت جميع ما فيها من القصور، فقلت: لمن هذه؟ فقيل: للعرب. فقال رجل عنده من الموالي: أصعِدتَ الغرف؟ قال: لا. قال: فتلك لنا.
بين قتيبة بن مسلم وعبيد اللّه بن زياد بن ظبيان وكتب قُتَيبة بن مسلم إلى عُبيد الله بن زياد بن ظَبْيان: أما بعد، فإن عشمشم أعشى الشجر. فكتب إليه ابن ظَبْيَان: من ذلك الشجر كان بَرْبَطُ أبيك. يعني مسلم بن عمرو، وكان مغنيِّاً ليزيد بن معاوية.
بين بحر بن الأحنف وجارية أبيه قال بَحْر بن الأحنف لجارية أبيه زَبْرَاء: يا فاعلة. فقالت: لو كنتُ كما تقول أتيتُ أباك بمثلك.
مثله بين رجل وابنه وقال رجلاً لابنه: يابن الفاعلة. فقال: واللهّ لئن كنتَ صدقتَ ما فعلَتْ حتى وجدَتْك فحلَ سوء.
بين ابنة الخس ورجل أراد امتحان عقلها أتت ابنةُ الخُسّ عُكَاظ، فأتاها رجل يَمتِحن عقلَها ويمتحِن جوابَها، فقال لها: إني أريد أن أسألكِ. قالت: هاتِ. قال: كاد، فقالت: المنتَعِل يكون راكباً. قال: كاد؛ قالت: الفقر يكون كُفْراً. قال: كاد؛ قالت: العَرُوس تكون مَلِكاً. قال: كاد؛ قالت: النَعَامة تكون طائراً. قال: كاد؛ قالت: السرار يكون سَحَراً. ثم قالت للرجل: أسألك. قال: هاتي. قالت: عجبت؛ قال: للسباخ لا ينبت كلؤُها ولا يجف ثراها. قالت: عجبت؛ قال: للحجارة لا يكبَرُ صغيرُها ولا يَهْرَم كبيرُها. قالت: عجبت؛ قال: لشُفْرِك لا يُحْرَك قعرُه ولا يُملأ حفرُه.
المدائي قال: كان عُرَام بن شُتَيْر عند عمر بن هُبَيْرة، فألقى إليه ابن هبيرة خَاتَمه وفصه أخضر، فعقد عرام في الخاتم سَيْراً. أراد عمر قول الشاعر:

لقد زَرِقَتْ عيناك يابن مُكَعْبَـرٍ

كَما كُل ضَبي من القوم أزرقُ

وأراد عُرَام:

لا تأمنن فَزَارِياً خلوتَ بـه

على قَلُوصك واكْتُبها بأسيارِ


قال جرير للأخطل: أزقتُ نومَك، واستهضمت قومَك؛ قال الأخطل: قد أزقت نومي، ولو نِمتُ كان خيراً لك.
لعمرو بن العاص يخطب بصفين أراد معاويةُ أن يخطُب بصِفَينَ فقال له عمرو بن العاص: دعني أتكلم، فإن أتيتُ على ما تريد وإلا كنتَ من وراء ذلك. فأذِنَ له؛ فتكلم بكلمات، قال: قلموا المُسْتَلْئِمَة وأخرو الحُسر، كونوا مِقص الشارب، أعيرونا أيدِيَكم ساعةً، قد بلغ الحق مَفْصِلَه، إنما هو ظالم أو مظلوم.
بين عبد الملك بن مروان وأعرابي يصف الخمر حدثني ابن أبي سعد عن محمد بن الحسن التميمي عن عبد الله بن أحمد بن الوَضَّاح، قال: دخل أعرابي على عبد الملك بن مروان؟ فقال له: يا أعرابي صف الخمر فقال :

شمول إذا شُجت وفي الكأس مُزة

لها في عِظَام الشاربـين دَبـيبُ

تُريك القَذَى من دونها وهي دونه

لوجه أخيها في الإناء قُطُـوبُ

فقال: ويحك يا أعرابي! لقد اتهمك عندي حسنُ صفتك لها. قال: يا أمير المؤمنين واتهمك عندي معرفتُك بحسن صفتي لها.

مقطّعات ألفاظ تقع في الكِتاب والكلام

لو أخطأتُ سبيلَ إرشادك، لما أخطأتُ سبيلَ حسن النية فيما بين وبينك.
لو خطر ذلك ببالي من فعلك، ما عرّضتُ سترَ الإخاء للهَتْك بيني وبينك.
قد أحسنت في كذا قديماً. وفعلُك كذا إحدى الحُسْنَيَيْن بل ألطفهما موقعاً.
أنت رجكٌ لسانُك فوق عقلك وذكاؤك فوق حزمك. فقَدِّم على نفسك مَنْ قدمك على اللّه يعلم أنك ما خطرتَ ببالي في وقتٍ من الأوقات إلا مَثَّلَ الذكرُ منك لي محاسنَ تزيدني صبابةً إليك وضَنًّا بك واغتباطا بإخائك.
لعل الأيام أن تُسهِّل لأخيك السبيل إلى ما تقتضيه نفسُك من بِرك ومعَاوضتك ببعض ما سَلَف لك.
ما هذا الغباء العجيب الذي إلى جانبه فِطنةٌ لطيفة.
حكمُ الفَلَتات خِلافُ حكم الإصرار.
من أخطأ في ظاهر دنياه وفيما يُؤخذ بالعين، كان حَرِياً أن يخطئ في باطن دينه وفيما يؤخذ بالعقل.
ومن أوّل ما أحب أن أوثَرِك به وأقضِيَ فيه واجبَ حقك، تنبيهُكَ على عظيم ما لله عندك، وحَثُّك على الازدياد مما يَزيدك.
من كان بمثل موضعك فجُمِعَ له حمدُ إخوانه ورضا مُعامِليه والاستقصاءُ مع ذلك لمن استكفاه، فقد عَظُمت النعمةُ عليه، ولا أعلم بما أسمع فيك إلا أنك كذلك والحمد للّه.
ما أغنى الفقيرَ عن الحمد، وأحوجَه إلى ما يجد به طعمَ الحمد! قد حَسدك من لا ينام دون الشَفاء، وطلبك من لا يُقصِّر دون الظفر، فاشدُد حَيَازِيمَك وكن على حَذر.
أنت تَتَجَنى على مالك لتُتلفه بأسباب العِلَل، كما يدفع عنِ ماله البخيلُ بوجوه الاعتلال.
أنت طالبُ مَغْنَم، وأنا دافعِ مَغْرَم، فإن كنتَ شاكراً لما مَضى، فاعذرْ فيما بَقي.
مكرُك حاضر، ووفاؤك متأخر.
أنا راضٍ بعفوك، باذل لمجهودي.
نوائب الأيام رمَتْ به ناحيتك؛ وإذا رأيتَه أنبأك ظاهرُه عن باطنه ودعاك إلى محبّته قبوله، وهو في الأدب بحيث المستغنى عن النسب.
قد آن أن تَدَع ما تسمع لما تعلم وإلَّا يكون غيرُك فيما يُبلغك أوثَقَ من نفسك فيما تعرِفه.
هذا فلان قد أتاك على رِقَةٍ من حاله وبُعْدٍ من شُقَّته، فَنَشدْتُك الله أن تقدم شيئاً على تصديق ظنّه وسد خَلّته وبَلِّ ما يَبست هذه النكبةُ من أديمه، فإنه غَذِي نعمةٍ وخدينُ مُروعة.
أنا أسأل اللهّ أن يُنجز لي ما لم تزل الفِرَاسة تَعِدُنِيه فيك.
الحِّريةُ نسبٌ.
فهمت ما اعتذرتَ به في تأخرك، وغضضتَ به منى طَرْفاً طامحاً إليك ونفساً تَوّاقةً إلى قُرْبك.
وَصَلَ كتابك فكان موقعه مَوْقِعَ الروح من البَدَن. فإن أمير المؤمنين يحب ألا يَدَع سبيلاً من سُبُل البر وإن عَفَا ودَثَر إلا أناره وأوضح مَحَجًته، ولا خَلَّة من خلال الخير لا أولَ لها: اهتبل الفرصة في إنشائها، واختيار مَكرمة ابتدائها، لتجِبَ له مساهمةُ الفارِط في أجره ويكونَ أسوةَ الغابر في ثوابه.
لولا وجوبُ تقديم العذر لصاحب السلطان، في الذهول عن مواصلة من يجب عليه مواصلته، بما يستولي عليه من الشغل بعمله، إذاً لكَثُرَ العَتْبُ.
إنك لكل حسن أبليته، ومعروف أسديتَه، وجميل أتيتَه، وبَلَاءٍ كان لك ربيتَه، أهلٌ في الدين والحَسَب القديم.
لك - أعزّك اللهّ - عندي أيادٍ تشفَعُ لي إلى محبّتك، ومعروف يُوجب عليك الرب والإتمام.
بلغتني عِلّتك فنالني من ألمها، وغالني مما مسّك فيها حسبُ حقّك وما يخُصّني من كل حالٍ تصرّفت بك.
أعتذر إليك من تأخر كتبي عنك بترامي النُّقلة وتقاذُف الغُرْبة وعدِم الطمأنينة، فإني منذ شارقتُك كما قال القائل:

وكنتً قذَاة الأرض والأرض عينُها

تُلَجْلج شخصي جانباً بعد جـانـبِ

إني - أعزَك الله - على تشوّقك متزيد، فما أحاشِي بك أحداً، ولا أقف لك على حسنةٍ بوماً إلا أنسَتْنِيها لك فَضْلةُ غده.
الحمد للّه الني جعل الأمير معقودَ النيّةِ بطاعته، مطويَ القلب على مُناصحته، مشحوذَ السيفِ علىِ عدوّه؛ ثم وَهَب له الظفرَ، ودوّخ له البلاد، وشرّد به العدو، وخصّه بشَرَف الفتوح العِظام شرقاَ وغرباً، وبرّاً وبحراً.
إلى الله أشكو شدّة الوحشة لغَيْبتك، وفَرْطَ الجَزَع من فِراقك، وظلمةَ الأيام بعدك؛ وأقول كما قال حبيب بن أوْس:

بَينَ البَيْنُ فقدَها قلّمـا تـع

رفُ فقداً للشمس حتَى تَغِيَبا

ورد كتابُك، فيا لَهُ وارداً بالرِّيَ على ذي ظَمَأ! ما أنقعه للغليل، وأعدَلَ شهادتَه لك بكرم العقد، وصدق الود وحُسن المغيب، ورعاية حق التحَرُّم، وبُعدِ الشيمة من شِيَم أهل الزمان إلا من عَصم اللّه، وقليلٌ ما هم، ولله أبواك لقد أوجداك.
قد أجل الله خَطَرَك عن الاعتذار، وأغناك في القول عن الاعتلال، وأوجب علينا أن نقنَعَ بما فعلتَ، ونرضى بما أتيت وَصَلْتَ أو قَطَعت، إذ وَثقنا بحُسن نيّتك ونَقَاء طونتك، وألزِمنا أن نأخذ أنفسَنا لك بما لا نُحمِّلك مثله، ولا نلتمس منك مقابلة به.
ما أخْر كتبي عنك إلا ما أنا عليه من إيثار التخفيف بقطع الكتب، إلا عند حقٍّ يقع فأقضيه، أو نعمةٍ تُحدث فأهنيه بها، والقصدِ للزيادة في البِرّ بالزيادة في الغيب، واستدعاءِ دوام الوِداد بانتهاز فُرَص الوصل.
كتاب المؤلف إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر وكتبتُ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر: أمّا شكري للأمير على سالف معروفه فقد غَارَ وأنجد. وأمّا ابتهالي إلى الله في جزائه عني بالحُسْنَى فإخلاص النيّة عند مَظَانّ القَبول. وأمّا أملي فأحياه على بُعد العهد بلاؤه عندي، كان ما تقدّم منه شافعاً في المزيد، وفسحةُ وعدِه إياي عند مفارقتي له، إذ كان مؤذناً بالإنجاز. وأمّا زَلَلي في التأخُّر عما أوجب الله عليّ له، فمقرونٌ بالعقوبة فيما حُرِمته من عز رِياسته، ونَباهة صُحبته، وعلو الدرجة به، وإن كنتُ سائرَ أيام انقطاعي عنه مُعتلقاً بسبب لا خيارَ معه. مكاتبتك - أعزّك اللّه - وأنا مُجاورُك ببلدٍ عون السعي إليك مُجِلاًّ لقدرك مما أكْبِر. لاقِيك بكتابي هذا فلان، وله عليّ حقّان: حقٌّ عمّ المسلمين فلزمني بلزومه لهم، وحق خصّني بالحُرْمة والعِشرا فرأيَكَ في كذا إن سَهُل السبيلُ إلى ذلك ورَحُب، وإن يَعُقْ عائق فلستَ على جميل رأيٍ عندي بمُتَّهَم.
للمتفضِّل أن يُخصّ بفضله من يشاء؛ والله الحمدُ ثم له فيما أعطى، ولا حجّةَ عليه فيما منع مُستعفِي السلطانِ أحدُ ثلاثةٍ: رجلٌ آثر اللَهّ وما عنده، وأسأل اللّه توفيقَه؛ ورجلٌ عَجَز عن عمله فخاف بعجزه عواقبَ تقصيره، وأستعينُ اللّه؛ ورجلٌ سَمَتْ به نفسه عن قليل هو فيه إلى كثير أمّله. وأعوذُ بالله من أن أدَنَس نعمةَ اللّه بك عليّ وعلى سَلَفي قبلي بالتصدَي لمن لا يُشبه دهرُه يومَك، ولا أكثرُ جهده في المعروف أقل عَفْوِك.
كن كيف شئتَ، فإنِّي واحدُ أمري خالصة سَرِيرتي، أرى ببقائك بقاء سُروري، وبتمام النعمة عليك تمامها عندي، فإنه ليس من نعمة يُجددها الله لأمير المؤمنين في نفسه خاصّةً اتصلتْ برعيته عامّة، وشَمِلْت المسلمين كافّة، وعَظُم بلاءُ اللّه عندهم فيها، ووجب عليهم شكره عليها؛ لأن الله جعل بنعمته تمامَ نعمتهم، وبسلامته هدوءَهم واستقامتَهم، وبتدبيره صلاح أمورهم وأمنهم، وبذَبِّه عن دينهم حفظ حريمهم، وبحياطته حَقْن عمائهم وأمْنَ سُبُلهم وبِرِعْيَته اتساقَهم وانتظامَهم؛ فأطال الله بقاء أمير المؤمنين مُؤَيداً بالنصر، مُعَزاً بالتمكين، موصى الطلب بالظفر، ومدّةِ البقاء بالنعيم المقيم.
فهمتُ كتابك ولم تَعْدُ في وعدك ووعيدك سبيلَ الراغبِ في رَبّ عارفته، المحامي على سالف بَلَائه، المُؤثْرِ لاستتمام صَنيعته. وإني لأرجو أن أكون على غاية ما عليه ذُو منِيةٍ حسنةٍ شكر مُصطنعه، وعناية بأداء ما يلزَمُه لولي نعمته، ومراقبةٍ لرئيسه في سرٌ أمره وعَلَانِيته، وإيثار للقليل من جميل رأيه على كثيرِ المنافع مع سَخَطه. وليس مذهبي فيما أشرحه من العذر وأطيل بذكره الكتب، مذهبَ من يموه بالاحتجاج ويَحتالُ في الاعتذار، ومَنْ تُطْعمه نفسه في سلامة النعمة مع فساد النيِّة، وفي محمود العاقبة مع شَرَهِ النفس، وفي زيادة الحال مع التفريطِ في العمل. ولو كنتُ ممن سوّلتْ له نفسه ذلك سائرَ دهره، لقد وجب إلى أن يَضطرّني إلى النزوع عنه تأديبُك وتقويمك، وإني لمجتهدٌ أن يكون أثرُ فعلي هي المخبر عني عون قولي، وأن يكون ما أمُتّ به إليك ظاهرَ كِفايتي دون ذِمَامي.
لولا ما أنا بسبيله من العمل، وما في الإخلال به من تعريضه للانتشار ودخول الخَلَل، وعلمي بأن طاعةَ السلطان مقرونة بطاعة الأمير، وأنه لا فرقَ عنده بين الجاني على السلطان وعليه، لكنتُ الجوابَ راجلاً معظماً لأمره، مُكبِراً لسُخْطه؛ وإن كان الله قد جعل عند الأمير من إيثار الحق والعمل به، وتقديم الرويّة قبل الإيقاع، والاستئناء بمن وَضَح ذنبه وظهر جُرمه عون من وقعتْ الشبهةُ في أمره، ما أمّنني بادرةَ غَضَبه ونازلَ سَطْوته.
لم أكن أحسِبَني أحًلّ عندك محلَّ مَنْ جَهِل حظًه، وعَدم تمييزَه، وغَبِي عَمّا عليه وعمّا له، إذ توهمتَ عليّ أنّي أبيع خطيراً من رضاك، ونفيساً من رَأيك، وشرفاً باقياً على الأيام بطاعتك، وعُدّةً للنوائب أستظهر بها من نصرتك، بالثمن البخس الحقير من كذا، أو أن أستبدلَ بما أنا ذو فاقة إليه من عز كَنَفك ومنيع فَرَاك، ما قد وهب الله الغنيَ عنده بحمده.
كان ورودك وشخوصُك في وقتين انطويا عني، وكان مُقامك في حالِ شغلٍ منك ومني، ولذلك فقدْتَني في القاضِين لحقك والمثابرين على لقائك.
وَرَدَ كتابك مضمَناً من بِرّك وتَطَوُلك ما حسّن شكري، وأثقل ظهري، وأرْتج عن مضاهاتك بمثله قولي؛ فذكرت به - إذ تحيّرت عون تأمُّله، وضَعُفتُ عن تحمُّله، وعَجَزت عن الشكر عليه عند تمحّله - قولَ القائل:

أنت امرؤ أوليتَنـي نِـعـمـاً

أوهَتْ قُوَى شكري فقد ضعُفا

لا تُـحـدِثَـنّ إلـي عـارفةً

حتّى أقومَ بشكر ما سَـلَـفـا

ألفاظ تقع في كتب الأمان

كتاب أمان هذا كتاب من فلان لفلان: إني أمنتُك على عَمك ومالك ومَوَاليك وأتباعك، لك ولهم ذمة الله المُوفَى بها، وعهده المسكونُ إليه، ثم ذمهُ الأنبياء الذين أرسلهم برسالته وأكرمهم بوحيه، ثم ذِمَمُ النجباء من خلائفه: بحقن عمك ومَنْ دخل اسمُه معك في هذا الكتاب، وسلامةِ مالك وأموالهم وكذا وكذاة فاقبلوا معروضه، واسكنوا إلى أمانه، وتعلّقوا بحبل ذمته، فإنه ليس بعد ما وَكد من ذلك مُتَوَثَق لداخِلٍ في أمان إلا وقد اعتلقتم بأوثق عُرَاه، ولجأتم إلى أحرز كهوف والسلام.
وفي كتاب آخر: هذا كتاب من فلان: إن أمير المؤمنين، لِمَا جعل اللّه عليه نيّته في إقالة العاثر واستصلاح الفاسد، رأى أن يتلافاك بعفوه، ويتغمد زَلّاتك برُحْمه، ويبسُط لك الأمانَ على ما خرجتَ إليه من الخلاف والمعصية: على دمك وشعرك وبَشَرك وأهلك وولدك ومالك وعَقَارك؛ فإن أنت أتيتَ وسَمِعت وأطعتَ، فأنت آمن بأمان اللّه على ما أمّنك عليه أمير المؤمنين، ولك بذلك ذمة الله وذمّة رسوله، إلا ما كان من حق قائم بعينه لمسلم أو معاهد، والله بذلك راع وكفيل، وكفى بالله وكيلا.
وفي كتاب آخر: إن فلاناً استوهب أميرَ المؤمنين ذنبَك، وسأله أن يَقبل توبتَك وإنابتك، ويؤمِّنك على دمك وشعرك وبشرك وأهلك وولدك ومالك وعَقَاراتك، على أن تسمع وتًطيع وتُشايع، وتُوالي أولياءه وتُعادي أعداءه؛ فأجابه أمير المؤمنين إلى ذلك، لرأيه في العفو والصفح وما يحتسب في ذلك من الثواب والأجر، فأنت آمن بأمان الله على كذا لا تُؤخذ بشيء مما سلق من أحداثك، ولا تتبع فيه بمكروه ما أقمتَ على الوفاء ولم تُحدِث حَدَثاً تفسَخ به أمانَك وتجعل به سبيلاً على نفسك والله لك بذلك راع كفيل؛ وكفى به شهيداً.

ألفاظ تقع في كتب العهود


أمَرَه بتقوى الله فيما أسْندَ إليه وجعد بسبيله، وأن يُؤْثِرَ الله وطاعتَه آخذاً ومُعطياً، وأعلمه أن اللّه سائِلُه عمّا عَمِل به وجَازِيه عليه، وأنّه خارجٌ من دُنياه خُروجَه من بطن أمه إما مَغْبوطاً محموداً، وإمّا مذموماً مسلوباً. فليعتبر بمَنْ كان قبلَه من الوُلاَة الذينَ وَلُوا مثلَ مَا وَلي، أين صار بهم مَرُّ الليل والنهار، وما انقلبوا به من أعمالهمِ إلى قبورهم! ويتَزوَّد لنفسه الزادَ النافعَ الباقيَ "يَوْمِ تَجدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أمَداً بَعِيداً".
وفي فصل أخر: وقد ولّاك أميرُ المؤمنين ما ولاّك من أمور رعيّته، وأشركك فيما أشركك فيه من أمانته، ثِقةً بك، رجاءً لمتابعتك وإيثارك الحق وأهلَه، ورفضِك الباطلَ وأهلَه؛ وعَهِدَ إليك في ذلك بما إن أخذتَ به أعانك الله وسددك، وإن خالفتَه خَذَلك وعاقبك.
وفي الحج: فإنّ أمير المؤمنين قد اختارك من إقامة الحج لوَفْد اللّه وزَوْر بيته، للأمر العظِيم قدرُه، الشريف منزلتُه، فعليك بتقوى الله؛ وإيثار مُراقبتِه، ولزوم الهُدى المحمودِ والطريقةِ المُثْلَى والسِّيرة الجميلة التي تُشْبِه حالَك.
فصل: فإن اللّه نَزه الإسلام عن كل قبيحة، وأكرمه عن كل رذيلة، ورفعه عن كل دنيّة، وشرفه بكل فضيلة، وجعل سيماء أهلِه الوقارَ والسكينةَ.
فصل: وإن أحقّ الناس بالازدياد في طاعته ومناصحته وأداءِ الأمانة في عمله مَنْ عَظُم حق الأمير عليه في الخاصّة بفضل الصنيعة من الأمير عنده، مع حق الله عليه في العامّة بحقَ الولاية.
فصل: وكنتَ سيفاً من سيوف الله، ويكْلاً من أنكاله لأهل الشقاق، وشَجًى لمن ابتغى غيرَ سبيل المؤمنين، قد أحكمتك التجارِبُ وضَرستك الأمور، وفُرِرْتَ عن الذكاء وحَلَبْتَ الدهرَ أشطُرَه.
فصل: أنت ابن الحرّية والمروّة، ومن لا يلحَقه عارُ أبوة ولا بُنُوة.
فصل: قد التمستُ مواجهتك بشكرك ووصفِ ما أجِن لك وأخلص من وفك وأجِلّ من قدرك وأعتدّ من إحسانك فَلَفتني عن ذلك تَعَذُّر الخَلْوة مع انقباضٍ وحشمة.
فصل: قد أغنى الله بكرمك عن ذَرِيعةٍ إليك؛ وما تُنازِعني نفسي إلى استعانةٍ عليك إلا أبى ذلك حسنُ الظنّ بالله فيك، وتأميلُ نُجْح الرغبةِ إليك دون الشفعاء عندك.
فصل: مثلك تقرّب إلى الله بالتواضُع لنعمته، والإغاثة لمستغيثه، والعائدةِ على راجيه بفضله.
فصل: تَباً لمن يأتي رأيك! وقبحاً لعُزُوب عقلك، وأفن تدبيرك! ما أبعدَ مذهبَك في الخطأ، وأسوأ أثَرِك على السلطان، وأقصَرَ باعَك عن النهوض! جزالة تقدك، ومَهَانةٌ تُضْرِعك وزَهْوٌ يعلُوك، ونحْوة يشمخَ لها عِرْنينك. لقد انصرف رأيُ أمير المؤمنين عنك، ودعوتَ له عَتْبَك، وكشفتَ له عن قِنَاع سترك، واجتررتَ إليك سَخْطته وعَطَفْتَ نحوَك مَوْجِدَته، وكنتَ على نصيبك منه والضنّ بمنزلتك عنده أولى تقدُّماً وأقربَ رُشْداً. واللّه الغني الحميد.
أصناف أصحاب السلطان أصحاب السلطان ثلاثة: رجلٌ يجعل الدنيا نُصْبَ عينه، ينصِب فيها للخاصّة مَكَايد ويرفَع عن مصلحة العامّة همّتِه، يُذهله عن التقوى الهوى، وتُنسيه أيامُ القدرة العثرةَ، حتى تنصرِم مدّتُه وتنقضيَ دولتُه، لم يرتهن بدنياه شُكْراً ولا قَدّم بها إلى مَعَاده ذُخراً. ورجلٌ لا يَحْفِل مع صَلاح الخاصّة ما دخل من الخلل في أمور العامّة، ولا مع وفور حظه ما أدخل النقص في حظ رعيته. ورجل حاول في ولايته إرضاءَ من وَلي له وعليه، وأعانته النيّة وخَذَلته الكفاية. وقد جمع الله لك الثقة والرضا ممن فوقك، والانقيادَ والمحبة ممن عونك، وأعاد إلى الناس بك عهدَ السلف الماضي وعَمَر بك آثارهم، حتى كأنهم بك أحياء لم تحترمهم منية وجميعٌ لم تنصدِعْ بينهم فُرْقة، فليَهْنِئْك أن مَنْ تقدمك من أهل الفضل في السيرة غيرُ متقدم لك، ومن معك مُقَصِّر عنك، ومن دونك مُقتفٍ لأثرك. فلا زالت الأيام لك، ولا زالت النعم عنك، ولا انتقلت عُرَى الأمور وأزِمّتها عن يدك.
فصل: أبَى طبعُ الزمان أن يسمَحَ لنا بك، كما أبى ذلك في مثلك، فلم يزل حض اعْتَرَض بمكروهه دونك، وكم من نعمةٍ ذهلتْ عنها النفس حين أدبرت بخيرك، فإنّ تَعَلُق القلب بك على قَدْرك في مواهب الله وقدرِها عندك.
 
فصل: ولم تأت في جميع ما عدّدتُ من أياديك شيئاً، وإن كان متناهيَاً إلى الغاية، مختاراً كالأمنية، متجاوزاً للاستحقاق، إلا وأنت فوقه والمأمولُ للزيادة فيه.
وفي كتاب: إن كان ما خبّرني به فلان عن هَزْلَ فقد أحوجنا هزلُك إلى الجهد، ووَقَفَنا موقف المعتذرين من غير ذنب، وإن كان عن حقيقةٍ فقد ظهر لنا من ظُلمك وتحريفك ما دلّ على زُهْدك منا في مثل الذي رَغِبنا منك فيه.
فصل في كتاب العيد: كتابي إلى الأمير يوم كذا بعد خروجي فيه ومَنْ قِبَلي من المسلمين إلى المًصَلَى وقضائنا ما أوجب الله علينا من صلاة العيد، ونحن بخير حال اجتمع عليها فريق من المسلمين في عيد من أعيادهم ومَجْمعٍ من مجامعهم؛ وكان مَخْرَجُنا إلى المصلَّى أفضلَ مَخْرجٍ، ومُنصَرَفُنا عنه أفضل مُنصرَف، بما وهب الله من سكون العامة وهدوئها والفتها، واحتشاد الحند والشاكريّة بأحسنِ الزِّيّ والهيئة، وأظهرِ السلاح والعُدّة. فالحمد لله على كذا، وهَنَأ اللّه الأمير كذا.
فصل: القلب قرينُ وَلَهٍ حليفُ حَيْرة، أنظُر بعينٍ كليلةٍ وأحضُر بقلب غائب: إلى ورود كتابك بما تعتزمه. فأما النوم فلو مَثَل لعيني لنفَرَتْ إلفاً للسُّهاد.
فصل في كتاب بَيْعة: فبايِعُوا لأمير المؤمنين ولفلانٍ بعدَه على اسم الله وبركته وصُنعِ اللهّ وحُسن قضائه لدِينه وعِباده، بيعة منبسِطةً لها أكفُّكم، منشرحةً بها صدورُكم، سليمةَ فيها أهواؤكم، شاكرين لله على ما وفّق له أمير المؤمنين.
للأحنف يخاطب معاوية وقد عدّد عليه ذنوباً عدّد معاويةُ على الأحنف ذنوباً؛ فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين! لِمَ ترُدُّ الأمورَ على أعقابها! أما والله إنّ القلوبَ التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، وإن السيوفَ التي قاتلناك بها لعَلَى عَوَاتقنا، ولئن مددْتَ لنا بشبر من غدرٍ، لنمدُّنّ إليك باعاً من أختر ولئن شئت لتستسقينَ كَدرَ قلوبنا بصفو حلمك. قال معاوية: فإني أفعل.
بين سوار ورجل تقدم رجل إلى سوار، وكان سوّار له مُبغضاً، فقال سوار في بعض ما يكلمه به: ابن الإخناء! فقال: ذاك خَصْمي. فقال له الخصمِ: أعدني عليه. فقال له الرجل: خذ له بحقه وخذ لي بحقي. ففهم، وسأله أن يغفر له ما فرَط منه إليه، ففعل.
بين معاوية وخُرَيم بن فاتك الأوزاعي قال: دخل خُرَيْم بن فاتك على معاوية، فنظر إلى ساقَيْه فقال: أفي ساقين، لو كانتا على جاريةٍ عاتق فقال له خرَيم: في مثل عَجِيزتك يا أمير المؤمنين.

الخطب

خُطَب النبي صلى الله عليه وسلم

تتْبَعتُ خُطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ أوائلَ أكثرها: "الحمد نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مُضِل له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له". ووجدت في بعضها: "أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحدثُّكم على طاعته".
ووجدت في خطبة له بعد حمد اللّه والثناء عليه: "أيها الناس إن لكم مَعَالِمَ فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نِهايةً فانتهوُا إلي نهايتكم؛ إن المؤمنَ بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين أجل قد بَقِي لا يدري ما الله قاضٍ فيه؛ فليأخذِ العبدُ لنفسه من نفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكِبَر، ومن الحياة قبل الموت؛ والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت مُسْتَعْتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار".
ووجدتُ كلّ خطبة مفتاحها الحمدً إلا خطبة العيد فإن مفتاحها التكبير. وتكبير الإمام في أن يَنزِل عن المِنْبر أربع عشرة تكبيرة.

خطبة لأبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه


حدثني أبو سَهْل قال: حدثني الطًنَافِسي عن محمد بن فُضَيلْ قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن عُكَيْم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه فقال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وحدَه وأن تُثنوا عليه بما هو أهلُه، وتَخْلِطوا الرغبةَ بالرهبة، والإلحافَ بالمسألة؛ فإن اللّه أثنى على زكريا وأهله بيته فقال: "إنهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً". ثم اعلموا أن الله قد ارتهن بحقِّه أنفسَكم، وأخَذَ على ذلك مواثيقَكم، واشترى منكم القليلَ الفانيَ بالكثير الباقي. هذا كتابُ الله فيكم لا تَفْنَى عجائبُه ولا يُطفأ نورُه، فصدِّقوه وانتصِحُوه واستضِيئوا منه ليوم الظُّلمة. ثم اعلموا أنكم تغدون وتروحون في أجلٍ قد غُيِّبَ علمُه عنكم، فإن استطعتم ألا ينقضَ إلا وأنتم في عملٍ لله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا باللّه. فسابقوا في مَهَل؛ فإن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم ونسُوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالَهم، والوَحَا الوَحَا، والنجاءَ النجاءَ! فإن من ورائكم طالباً حثيثاً مَرّه، سريعاً سيره.
وفي غير هذه الرواية: أين مَنْ تعرِفون من إخوانكم! قد انتهت عنهم الأعمال، ووروا على ما قدموا وحلوا عليهم بالشْقوَة والسّعادة. أينَ الجَبّارون الني بَنَوا المدائنَ وحصَّنوها بالحوائط! قد صاروا تحتَ الصَخْر والآكام.

خطبة لأبي بكر أيضَاً رضي اللّه عنه

رواها إبراهيم بن محمد من ولد أبي زيد القارئ.
حَمِد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن أشْقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك. فرفع الناس رؤوسَهم؛ فقِال: ما لكم يا معشرَ الناس إنكم لطَعانون عَجِلون، إن المَلِك زهده اللّه فيما في يده، ورَغَبه فيما في يديْ غيره، وانتقصه شطرَ أجله، وأشرب قلبَه الإشفاقَ، فهو يحسد على القليل، ويتسخْط الكثير، ويسأم الرخاءَ، وتنقطع عنه لذة البهاء، لا يستعمِل العِبْرة ولا يسكُن إلى الثقة، فهو كالدرهم القسِىّ والسّراب الخادع، جَذْل الظاهر حزين الباطن، فإذا وَجَبَتْ نفسُه ونَضَب عمرُه وضَحَا ظِلُّه، حاسَبَه اللّه فأشدّ حِسابَه وأقل عفَوه ألا إنّ الفقراء هم المرحومون، وخير الملوك من آمن باللّه، وحَكَم بكتاب اللّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإنكم اليوم على خلافة نبوّة، ومَفْرِق مَحَجّة، وسَتَروْن بَعْدي مُلْكاً عضوضاً، وآفةً شَعَاعاً ودماً مُفَاحاً. فإن كانت للباطل نَزْوَة، ولأهل الحق جَوْلة؛ يعفو لها الأثَر، وتموت السُّنن فالزَمُوا المساجد، واستشِيروا القرآن، والزموا الجماعة. وليكن الإبرامُ بعد التشاوًر، والصفقة بعد طُول التناظُر، أي بلادكم خرسة فإن الله سيفتح عليكم أقصاها كما فتح أدناها.

خطبة أبي بكر رضي اللّه عنه يوم سقيفة بني ساعدة

أراد عُمَر الكلامِ، فقال له أبو بكر: على رِسْلِك. نحنُ المهاجرون أوّلُ الناس إسلاماً، وأوْسَطُهم داراً، وأكرمُهم أحساباً، وأحسنُهم وُجوهاً، وأكثرُ الناس وِلايةً في العرب وأمسُّهم رَحِماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمَنا قبلكم، وقُدِّمْنا في القرآن عليكم، فأنتم إخوانُنا في الدِّين، وشركاؤنا في الفَيْء، وأنصارُنا على العَدُوّ، اويْتُم وواسَيْتُم، فجزاكم اللّه خيراً؛ نحن الأمَراءُ، وأنتم الوزراء لا تَدِينُ العربُ إلا لهذا الحَي من قرَيش، وأنتم محقوقون ألا تَنْفَسوا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم.

خطبة لأبي بكر رضي اللّه عنه

الهيثم عن مُجالد عن الشِّعْبيّ قال: لما بويع أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه، صَعِد المنبرِ فنزل مَرْقاةً من مَقْعَد النبيّ صلى الله عليه وسلم فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني وَليتُ أمرَكُم ولست بخيرِكم، ولكنه نزل القرآن وسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. اعلموا أيها الناس أن أكيس الكَيْس التُقَى، وأن أحمقَ الحُمْق الفُجُور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخُذَ له بحقه، وأضعفَكم عندي القويُ حتى آخذَ منه الحقّ، إنما أنا متبع ولست بمبتدِع، فإن حسنتُ فأعِينوني، وإن زُغْتُ فقوَموني. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

خطبة لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه

قال: ولما وَلي عمر صعِد المنبر وقال:
ما كان اللُه ليراني أرى نفسي أهلًا لمجلس أبي بكر، ثم نزل عن مجلسه مَرْقاة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اقرأوا القرآن تُعْرَفوا به، واعمَلوا به تكونوا من أهله. إنه لم يبلُغ حق ذي حقً أن يُطاعَ في معصيةِ الله. ألا وإني أنزلتُ نفسي من مال الله بمنزلة وَالي اليتيم: إن استغنَيْتُ عَفَفتُ وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف تَقرمَ البَهْمَةِ الأعرابية: القَضْمَ لا الخَضْمَ.

خطبة لعثمان بن عفّان رضي اللّه عنه

قال: ولما وَلي عثمان صعِد المنبر فقال: رحمهما الله، لو جلسا هذا المجلس ما كان بذلك مِن بأس، فجلس على فِرْوة المنبر فرماه الناسُ بأبصارهم، فقال: إن أولَ مركب صعبٌ، وإن مع اليوم أياماً، وما كُنا خُطَباء، وإن نعشْ لكم تأتكم الخطبةُ على وجهها إن شاءً الله تعالى.

خطبة لعليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه

خطب فقال: أما بعدُ، فإن الدنيا قد أدْبرتْ وآذنتْ بوَدَاع، وإن الآخرةَ قد أقبلتْ فأشرفتْ باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا السباق. ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجَل، فمن قصر في أيام أمله بل حضور أجله فقد خَسِرَ عمله. ألاَ فاعمَلوا لله في الرغْبة كما تعمَلون له في الرهْبَة. ألا وإِنَي لم أرَ كالجنة نامَ طالبُها، ولا كالنار نام هاربُها. ألا وإنه مَن لم ينفعه الحق ضره الباطل، ومن لم يستقِم به الهُدَى جارَ به الضلال. ألا وإنكم قد أمِرتم بالظعْن، ودُلِلتم على الزاد؛ وإن أخوفَ ما خافُ عليكم اتباعُ الهوى وطولُ الأمل.

خطبة عليّ عليه السلام بعد مقتل عثمان رضي اللّه عنه

أيها الناس، كتابَ الله وسنّةَ نبيكم. لا يذعي مدع إلا على نفسه. شُغِلَ مَن الجنة والنارُ أمَامَه. ساعٍ نَجا، وطالب يرجو، ومقَصَر في النار: ثلاثة؛ واثنان: مَلَكٌ طارَ بجَناحَيْه، ونبيّ أخذ اللّه بيديه، لا سادِسَ. هَلَك مَن اقتحم، ورَديَ مَن هوَى. اليمينُ والشِّمالُ مَضَلَّة، والوسْطى الجادَّةُ: مَنْهَج عليه باقي الكتاب وآثارُ النبوّة. إن اللهّ أدّب هذه الأمةً بأدبين: السوطِ والسيفِ فلا هَوَادَةَ فيهما عند الإمام. فاستتِروا ببيوتكم، واصْلحوا ذاتَ بَيِنْكم؛ والتوبة من ورائكم. مَن أبدى صَفْحته للحق هَلَك. قد كانت أمور مِلْتُم عليّ فيها مَيْلَةً لم تكونوا عندي محمودين ولا مًصيبين. واللِّه أن لو أشاءُ أن أقول لقلتُ. عفا الله عمّا سَلَف. انظروا، فإن أنكرتم فأنكِروا. وإن عَرَفتم فارْوُوا. حق وباطل، ولكُل أهل. والله لئن أمِّرَ الباطلُ لَقَدِيماً فعل؛ ولئن أمَرَ الحق لَرب ولعل. ما أدبر شيءٌ فأقبل.

خطبة أيضاً لعليّ رضي اللّه عنه

خطب عليّ حين قُتِلَ عاملُه بالأنْبار فقال في خطبته: يا عَجَباً من جِدَ هؤلاء في باطلهم وفَشَلِكم عن حَقِّكم! فقًبْحاً لكم وتَرَحاً حين صِرت غَرَضاً يُرْمَى، يُغارُ عليكم ولا تُغِيرون، وتُغزَون ولا تَغزون، ويُعصَى اللُه وتَرضون. إن أمرتُكم بالمسير إليهم في الحر قلتم: حَمَارَة القَيْظ، أمهلنا حتى يَنْسلِخَ الحر، وإن أمرتُكم بالمسير إليهم في الشتاء قلتم: أمهِلْنا حتى ينسلِخَ الشتاء هذا أوانُ قر؛ كل هذا فِراراً من الحرّ والقُر، فأنتم والله من السيف أفرّ، يا أشباهَ الرجال ولا رجال! أحلام الأطفال وعقول رَبَّاتِ الحِجَال؛ أفسدتُم علي رأي بالعِصْيان والخِذْلان، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب شُجاعٌ ولكن لا عِلْمَ له بالحرب. لله أبوهم! هل منهم أحدٌ أشدُّ لها مِرَاساً وأطولُ تَجْرِبةً منِّي! لقد نهضت فيها وما بلغتُ العشرين فها أنا الآن قد نيّفتُ على الستين، ولكن لا رأيَ لمن لا يُطاع.

خطبة لمعاوية رحمة اللّه

بلغني عن شُعَيْب بن صَفْوَان قال: خطب معاوية فقال:
أيها الناس، إنّا قد أصبحنا في دَهْر عَنُود، وزَمن شديد، يُعَدُّ فيه المحسِنُ مُسيئاً، ويزدادُ الظالمُ فيه عُتُواً، لا ننتفع بما عَلِمنا، ولا نَسأل عما جَهِلْنا، ولا نتخوَّف قارِعةً حتى تَحُل بنا. فالناس أربعة أصناف: منهم مَن لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مَهانةُ نفسِه وكَلال حدَه ونَضِيض وَفْره؛ ومنهم المُصلِت لسيفه والمُجلِب بخيله ورَجْلِه والمُعلِن بشرِّه، قد أشْرَط نفسَه وأوْبق دِينَه لحُطَامٍ يَنتهِزه أو مِقْنَب يقوده أو مِنْبر يَفْرَعُه، ولبئس المَتْجَران تراهما لنفسك ثمناً ومما عند اللّه عِوَضاً. ومنهم مَن يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامَنَ من شخصه وقارَبَ من خَطْوه، وشفَر من ثوبه، وزَخرَفَ نفسَه للأمانة، واتخذ سِتر الله ذَرِيعةً إلى المعصية. ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضُؤُولةٌ في نفسه وانقطاع من سببه، فقصَر به الحال عن أمله، فتحلى باسم القناعة وتزيّن بِلباس الزُهّاد، وليس من ذاك في مَرَاحٍ ولا مَغذًى. وبقي رجَالٌ غضّ أبصارَهم ذكرُ المَرْجِع، وأراقَ دموعهم خوفُ المَحْشر فهم بين شَرِيد نَاد، وخائفٍ مُنقَمِع، وساكتِ مَكْعُوم، وداعٍ مُخْلِص، ومُوجَع ثَكْلَان، قد أخملْتهم التقيّة، وشَمِلَتْهم الذَلَة، فهم في بَحر أجَاج، أفواهُهم ضامرة، وقلوبُهم ضامرة، وقلوبُهم قَرِحَةٌ، قد وُعِظُوا حتى مَلوا، وقُهِروا حتى ذَلُّوا، وقتِلوا حتى قَلُّوا. فلتكنِ الدنيا في أعينكم أصغرَ من حًثَالة القَرَظ وقُرَاضة الجَلَم، واتعِظُوا بمَن كان قبلكم قبل أن يَتَعِظ بكم مَن بعدكم، وارفضوها ذَميمةً، فإنها قد رَفضتْ مَن كان أشغفَ بها منِكم.

خطبة ليزيد بن معاوية بعد موت معاوية

خَطَبَ فقال: إن معاوية كان حَبْلاً من حِبال الله، مده ما شاء أن يَمُده، ثم قطعه حينَ شاء أن يَقطَعه؛ وكان دونَ مَن قَبْله وهو خيرٌ ممن بعده، ولا أزَكًيه عند ربه وقد صار إليه فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعاقبْه فبذنبه. وقد وَليتُ الأمرَ بعده، ولستُ أعتذر من جَهْل ولا أشتغل بطلب علم. وعلى رِسْلكم! إذا كَرِهَ الله أمراً غيّره.

خطبة لعُتْبة بن أبي سُفيان

أبو حاتم عن العُتْبيّ قال: احتبسَتْ كُتُب معاويةَ حتى أرْجَفَ أهلُ مصر بموته ثم ورد كتابه بسلامته، فصعِد عتبةُ المنبر والكتابُ في يده فقال: يا أهل مصرَ! قد طالت معاتبتُنا إياكم بأطراف الرِّماح وظُبَات السيوف حتى صِرْنَا شَجًى في لَهَواتِكم ما تُسِيغُنا حلوقُكم، وأقْذَاءً في أعيُنكم ما تَطْرِف عليها جفونُكم. فحين اشتدت عُرىَ الحق عليكم عَقْداً، واسترختْ عُقْدُ الباطل منكم حَلاً، أرجفتُم بالخليفة وأردتًم توهينَ السلطان وخُضتم الحقَّ إلى الباطل، وأقدمُ عهدكم به حديثَ! فارْبَحُوا أنفسَكم إذ خَسِرْتم دينَكم، فهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخَبَر السار عنه والعهدِ القريب منه. واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم؛ فأصلِحوا لنا ما ظَهَر، نَكِلْكُم إلى الله فيما بَطَن؛ وأظهِرُوا خيراً وإن أسررتُم شراً فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون. وعلى الله نتوكل وبه نستعين.

خطبة لعُتْبة أيضاً

وبهذا الإسناد أن عُتبة خطب أهلَ مصر حين هاجوا فقال: يا أهل مصر، خف على ألسنتكم مدحُ الحق ولا تفعلونه، وذمُ الباطل وأنتم تأتُونه كالحِمَار يَحْمِل أسفاراً أثقله حَمْلُها ولم ينفعْه عِلْمها. وإني واللّه لا أداوِي أدواءَكم بالسيف ما اكتفيت السًوْط، ولا أبلغ السوطَ ما كفتني الدرَة، ولا أبطئ عن الأولى إن لم تصلحوا عن الأخرى؛ ناجزاً بناجز، ومَن حذّر كمن بشر فدعوا قال ويقول من قبل أن يقال فعل ويفعل فإن هذا اليوم الذي ليس فيه عِقَاب، ولا بعده عِتَاب.

خطبة لعبد اللّه بن الزُّبَيْر

خطب عبد اللّه بن الزُبير حين قُتِلَ أخوه مُصْعَب فقال:
الحمد للّه الذي يُعِز مَن يشاء وُيذِل مَن يشاء. إنه لن يذلّ من كان الحق معه وإن كان فَرْداً، ولن يعزَّ من كان أولياء الشيطان حزبه وإن كان معه الأنام. أتانا خبرٌ من قِبل العراق أجزَعَنا وأفرَحنا: قتلُ مُصْعَب رحمه الله. فأما الذي أحزنَنَا من ذلك فإن لفراق الحميم لَذْعَةً يَجِدها حميمُه عند المًصيبة به ثم يَرْعَوِي بعدها ذَوُو الرأي إلى جميل الصبرِ وكريم العزاء. وأما الذي أفرحنا من ذلك فعلمُنا أنّ قتله شهادة، وأن ذلك لنا وله الخِيَرَة. ألا إن أهل العراق أهلَ الشَقاق والنِّفاق باعوه بأقلّ ثمن كانوا يأخذونه به. إنا واللّه ما نموت حَبَجاً ولا نموتُ إلا قتلاً، قَعْصاً بالرماح تحتَ ظِلال السيوف، ليس كما تموت بنو مروان والله إنْ قُتِل رجلٌ منهم في جاهليّةٍ ولا إسلام. ألا إنما الدنيا عَارِيةٌ من الملك الأعلى الذي لا يَبِيدُ ذكرُه ولا يَذل سلطانُه، فإن تُقبِل علي لا آخُذْها أخْذَ البَطِر الأشِر، وإن تُدبر عني لا أبْكِ عليها بُكاءَ الخَرِف المُهْتَر. ثم نزل.

خطبة زياد البتراء

حدثني عبد الرحمن عن الأصمعيّ عن أبي بكر بن أبي عاصم ببعضها، وحدثني أبي عن الهيثم بن عَدِي، قال: لما قدم زيادٌ أميراً على البَصْرة فنظر إلى أبياتها، قال: رُبَّ فَرحٍ بإمارتي لن تنفعَه، وكاره لها لن تَضُره؛ فدخل وعليه قَباء أبيض ورِداء صغير، فصعِد المنبر، فخطب الناسَ خطبة بتراء: لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أولَ من خطبها، ثم قال: أما بعد، فقد قال معاوية ما قد علِمتم، وشهِدت الشهودُ بما قد سمِعتم، وإنما كنت امرأً حَفظ الله منه ما ضَيّع الناسُ، ووَصَل ما قطعوا ألا وإنا قد وَلينا ووَليَنَا الوالون، وسسنا وساسنا السائسون، وإنا وجدنا هذا الأمرَ لا يُصلحه إلا شدّةٌ في غير عُنْف، ولينٌ في غير ضعف. وأيم اللهّ ما من كِذْبة أكبرُ شاهداً من كِذْبة إمام على منبر؛ فإذا سمعتموها منّي فاعتمِزُوها فيّ واعلموا أن عندي أمثالَها، وإذا رأيتموني آمر فيكم بالأمر فأنفِذوه على إذلاله. وايم الله إن لي فيكم لصَرْعىَ كثيرة، فليحذَرْ كلّ امرئ منكم أن يكون من صَرْعاي. وايمُ اللّه لآخُذن البريء بالسقيم، والمطيعَ بالعاصي، والمقبلَ بالمدبر، حتى تستقيمَ لي قَنَاتُكم، وحتى يقولَ القائل: "انْج سعد فقد قُتِل سُعَيْد!. فقال إليه عبد الله بن الأهْتم التميمي، فقال: أيها الأمير، أشهد أنك اوتيتَ الحكمةَ وفصلَ الخطاب. فقال له: كَذَبتَ، ذاك نبيّ الله داود. ثم قام إليه الأحنفُ فقال: إنما المرءْ بجده، والسيف بحَده، والجواد بشده، وقد بلغك جدُك أيها الأمير ما تري وإنما الحمدُ بعد البَلاَء، والثناءُ بعد العطاء، وإنا لا نُثْنِي حتى نَبْتَلي. ثم قام إليه مِرْداس بن أدَيّة، فقال: قد سمِعنا مقالتك أيها الأمير، وإنّ خليلَ الله إبراهيمَ عليه السلام أدىّ عن اللّه في الذي أديتَه، قال اللّه تعالى: "لا تَزِرُ وَازرَةٌ وِزْرَ أخْرَى" وأنت تزعُم أنك تأخُذ البريء بالسقيم، والمطيعَ العاصي، والمقبلَ بالمدبر. فقال له: اسكت، فواللّه ما أجِد إلى ما أريد سبيلاً، إلا أن أخوضَ إليه الباطلَ خوضاً. ثم نزل.
وقال في خطبة له أخرى: حَرامٌ عليّ الطعامُ والشرابُ حتى أسوِّيَها بالأرض هَدْماً وإحراقاً. إيّايَ ودَلَجَ الليل، فإني لا أوتَى بمُدلج إلا سَفَكتً دمه، وإيّايَ ودَعْوَى الجاهليّة، فإني لا أجد أحداً دعَا بها إلا قطعتُ لسانَه. وقد أحدثتم أحداثاً، وأحدثنا لكل ذنبٍ عقوبة؛ فمن غَرق قوماً غَرقته، ومن أحرق قوماً أحرقتُه، ومن نَقَبَ بيتاً نقبتُ عن قلبه، ومَنْ نَبَش قبراً دفنتُه فيه حيًّاً؛ فكُفوا أيديكم وألسنتكم أكُفَ عنكم. وقد كانت بيني وبين أقوام منكم أشياءُ قد جعلتُها دَبْرَ أذني وتحت قَدَمِي، فمن كان محسناً فليزددْ، ومن كان مسيئاً فلينزعْ. إني لو علمتُ أن أحدكم قد قتله السل من بُغْضي لم أكشِف له قِناعاً ولما أهتِكْ له سِتْراً، حتى يُبديَ لي صَفْحتَه، فإذا فعل ذلك لم أناظره؛ فأعينوا على أنفِسكم وأتَنِفوا أمركم.

خطبة للحجاج حين دخل البصرة

دخل وهو متقلد سيفاً متنكِّبٌ قوساً عربية، فعلا المنبرَ فقال:

أنا ابن جَلا وطلاع الثـنَـايَا

مَتَى أضَع العمامةَ تعرِفُوني


إن أمير المؤمنين نَكَبَ عيدانَه بين يديه، فوجدني أمرها عُوداً وأصْلَبَها مَكْسِراً، فوجًهني إليكم. ألا فوالله لأعْصِبَنكم عَصْبَ السلَمة، ولألحُوَنكم لحْوَ العُود، ولأضرِبنكم ضربَ غرائبِ الإبل، حتى تستقيمَ لي قَنَاتُكم، وحتى يقولَ القائل: "أنْجُ سعدُ فقد قُتِل سعيدا". ألَا وإياي وهذه السقَفَاءَ والزَّرَافاتِ، فإني لا أوتَى بأحدٍ من الجالسين في زَرَافةٍ إلا ضربتُ عُنُقَه. هكذا حدثنيه أحمد بن سعيد عن أبي عُبَيد في كتاب غَرِيب الحديث. وقال لي غيره: هو إيايَ وهذه الشفَعاءَ والزَّرَافات. وقد فسرتُ الحديثَ في كتابي المؤلَّف في غريب الحديث.

خطبة للحجاج أيضاً

أرْجَف الناس بموت الحجاج، فخطب فقال: إن طائفةً من أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، نَزَغَ الشيطانُ بينهم، فقالوا: مات الحجاج ومات الحجاج! فَمْهْ! وهل يرجو الحجاج الخيرَ إلا بعد الموت! والله ما يسرني أموتَ وأنٌ لي الدنيا وما فيها! وما رأيت الله رضِيَ بالتخليد إلا لأهوِن خَلْقه عليه إبليس. ولقد دعا اللّه العبدُ الصالحُ فقال: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي"، فأعطاه ذلك إلا البقاء. فما عسى أن يكون أيها الرجل! وكلكمِ ذلك الرجل!. كأنَي والله بكلَ حي منكم ميتاً، وبكل رطب يابساً أفرُع طُولًا في ذِراع عَرْضاً، وأكلتِ الأرضُ لحمَه ومَضتْ صديدة وانصرف الحبيبُ من ولده يَقْسِم الخبيثَ من ماله؛ إن الذين يعقِلون يعلَمون ما أقول. ثم نزل.

خطبة أخرى للحجّاج حين أراد الحج

خطب فقال: أيها الناس إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني هذا، وأوصيته بخلاف ما أوصَى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، في الأنصار؛ إن رسول الله أوصَى أن يُقبَلَ من مُحسنهم، وأن يُتجاوَز عن مُسيئهم؛ وإني أمرتُه ألّا يقبلَ من محسنكم ولا يتجاوزَ مسيئكم. ألَا وإنكم ستقولون بعدي مقالةً لا يمنعُكم من إظهارها إلا مخافتي، ستقولون بعد لا أحسَنَ الله له الصَحابة! ألاَ وإني مُعجل لكم الجوابَ: لا أحسَنَ الله لكم الخِلاَفة. ثم نزل.

خطبة للحجاج أيضاً

من خطبة للحجاج وقول الحسن فيه خطب فقال في خطبته: سوْطي سيفي، فنِجَادةُ في عُنُقي، وقائمُه في يدي، وذُبَابه قلادة لمن اغتر بي! فقال الحسن: بُؤْساً لهذا! ما أغره بالله!.
بين رجل حلف بالطلاق أن الحجاج في النار وفتوى ابن سيرين وحلف رجل بالطلاق أن الحجاج في النار، ثم أتى امرأتَه فمنعته نفسها فأتى سِيرِين يستفتيه؛ فقال: يابن أخي، امض فكن مع أهلك، فإن الحجاجَ إن لم يكن في النار لم يَضُرك أن تَزنيَ.

خطبة لعمر بن عبد العزيز رحمة اللّه عليه

حدّثني أبو سَهْل عن إسحاق بن سليمان عن شُعَيب بن صَفْوان عن رجل من آل سَعِيد بن العاص، قال: كان آخر خطبةٍ خطب بها عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنْ حَمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنكم لم تُخْلَقوا عَبَثاً، ولن تُتْركوا سدى، وإنّ لكم مَعاداً يَنزِل الله فيه للحكم فيكم لفصل بينكم، فخاب وخَسِر من خَرَج من رحمة الله وحُرِمِ جنةً عَرْضُها السمواتُ والأرضُ. ألم تعلموا أنه لا يأمَن غداً إلا من حَذِر اليومَ وخاف، وباع نافداً بباقٍ، وقليلاً بكثيرٍ، وخوفاً بأمانٍ؛ ألا ترون أنكم في أسْلاب الهالكين، وستكون من بعدكم للباقين كذلك، حتى تُرَدّ إلى خير الوارثين! ثم إنكم في كل يوم تُشيِّعون غادياً ورائحاً إلى اللّه قد قَضَى نَحْبَه، حتى تُغيَّبوه في سدْع من الأرض في بطن صَدْعِ غير موَسَّد ولا ممهَّد، قد فارَقَ الأحباب وباشرَ الترابَ وواجه حساَبَ، فهو مرتَهَنٌ بعمله، غني عما ترك فقير إلى ما قدمّ. فاتَقُوا اللهّ قبل انقضاء مَوَاقِيته ونزول الموت بكم! غَنيٌ عما ترك فقير إلى ما قدمّ. فاتَقُوا اللهّ قبل انقضاء مَوَاقِيته ونزول الموت بكم أمَا إني أقول هذا وما أعلم أنّ عند أحدٍ من الذنوب أكثرَ مما عندي، فأستغفر الله وأتوبُ به. ثم رفع طَرَفَ رِدائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.

خطبة لخالد بن عبد اللّه يوم عيد


خطب فذكر اللّه وجلالَه ثم قال: كنتَ كذلك ما شئتَ أن تكون، لا يَعلم كيف أنت إلا أنت، ثم ارتأيتَ أن تخلُقَ الخَلْق، فماذا جئتَ به من عجائب صُنْعك، والكبير والصغير من خلقك، والظاهر والباطن من ذرك: من صُنوف أفواجه وأفراعه وأزواجه، كيف أدمجتَ قوائم الذرة والبَعُوضة إلى ما هو أعظمُ من ذلك من الأشباح التي امتزجتْ بالأرواح!.
وخَطَب يوماً فسقطتْ جَرَادةٌ على ثوبه فقال: سبحانَ مَنِ الجرادةُ من خلقه، أدمَجَ قوائمها، وطوّقها جَنَاحها، ووَشى جلدَها، وسَفطها على ما هو أعظمُ منها.

خطبة للحجاج

خطب فقال: أيها الناس، احفَظُوا فُروجكم، وخذوا الأنفس بضميرها، فإنها أسوكُ شيء إذا أعْطِيَتْ، وأعصَى شيء إذا سًئلت. وإني رأيت الصبر عن مَحَارِم اللهّ أيسَرَ من الصبر على عذاب اللّه.

خطبة سليمان بن عبد الملك

خطب فقال: إن الدارَ دارُ غُرورٍ ومنزلُ باطلٍ، تُضحك باكياً وتُبْكي ضاحكاً، وتُخيف آمناً وتُؤمن خائفاً، وتُفقر مُثرياً وتُثري مُقْتِراً، مَيالةٌ غَرارة لَعّابة بأهلها! عبادَ الله! اتَّخذوا كتاب الله إماماً، وارتضُوا به حَكَماً، واجعلوه لكم قائداً، فإنه ناسخٌ لِمَا كان قبله ولم ينسَخْه كتابٌ بعده. اعلموا عبادَ اللّه أن هذا القران يجلو كَيْدَ الشيطان كما يجلو ضوءُ الصبح إذا تنفّس، ظلامَ الليل إذا عسعس.

خطبة يزيد بن الوليد بعد قتله الوليد

حمِد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، والله ما خرجت أشَراً ولا بَطَراً ولَا حِرْصاً على الدنيا ولا رغبةً في الملك، وما بي إطراءُ نفسي، وإني لظَلُومٌ لها إن لم يرحَمْني اللهّ، ولكن خرجت غَضَباً لله ودِينه، داعياً إلى اللّه وإلى سنة نبيه، لَمّا هُدمت معالمُ الهدى، وأطفئ نورُ أهل التقوى، وظَهَر الجبار العَنِيد، المستحِل لكل حُرْمة، والراكبُ لكل بِدْعة، الكافرُ بيوم الحساب، وإنه لابن عَمِّي في النًسَب وكَفِيئي في الحَسَب؛ فلمّا رأيتُ ذلك استخرتُ اللّه في أمره وسألته ألا يَكِلَني إلى نفسي، ودعوتُ إلى ذلك مَنْ أجابني من أهلا وِلايتي، حتى أراح الله. منه العبادَ، وطهّر منه البلاد، بحَوْله وقُوّته لا بحولي وقوتي.
أيها الناس، إنّ لكم! عليّ ألّا أضَعَ حَجَراً على حجر، ولا لَبِنةً على لبنة، ولا أكْرِي نهراً، ولا أكنِزُ مالًا، ولا أعطيه زوجاً ولا وَلَداً، ولا أنقُلُه من بلد إلى بلد حتى أسُد فقرَ ذلك البلد وخَصَاصةَ أهله، فإنْ فَضَلَ فضلٌ نقلتُه إلى البلد الذي يَلِيه. ولا أجَمَركم في بُعُوثكم فأفتنَكم وأفتِنَ أهليكم، ولا أغْلِق بابي دونكم فيأكُلَ قَوِيكم ضعيفكم، ولا أحمِلُ على أهل جِزْيتكم ما أجْليهم به عن بلادهم وأقطَعُ به نَسْلَهم. ولكم علي إدرارُ العَطَاء في كل سنةٍ والرزقِ في كل شهر، حتى يستويَ بكم الحال فيكونَ أفضلُكم كأدناكم. فإن أنا وَفَيت لكم فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكانفة، وإن لم أفِ لكم فلكم أن تخلعوني، إلا أن تستتيبوني، فإن أنا تبت قبلتم مني، وإن عرفتم أحداً يقوم مَقَامي ممن يُعرف بالصَلاَحُ يعطيكم من نفسه مثلَ الذي أعطيتُكم فأردتم أن تُبايعوه، فأنا أولُ مَنْ بايعه ودَخَل في طاعته. أيها الناس، إنه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم.
فلما بُويع مَرْوانُ نَبَشَه وصَلَبه. وكانوا يقرأون في الكتب: يا مبذَر الكنوز ويا سجاداً بالأسحار، كانت ولايتُك لهم رحمةً وعليهم حجة، أخذوك فصَلَبوك.

خطبة أبي حمزة الخارجيّ


خطب أبو حمزةَ الخارجي بمكة فذكر رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم،، ثم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بما هُمْ أهله، ثم قال: ووَلي عثمانُ فسار سِتَّ سنين بسِيرة صاحبَيْه وكان عونَهما، تم سار في الستّ الأواخر بما أحبط به الأوائل، ثم مضى لسبيله. ووَليَ عليٌ فلم يَبْلُغ من الحق قَصْداً ولم يرفِعْ له مناراً، ثم مضى لسبيله. ثم وَلي معاوية لَعِينُ رسولِ الله وابن لعينه، اتّخذ عبادَ الله خوَلاً، ومالَ الله دوَلاً، ودِينَه دَغَلا، ثم مضى لسبيله، فالعَنُوه لعنه الله. ثم ولي يزيدُ بن معاوية، يزيد الخمور، ويزيد القُرود، ويزيد الفهود، الفاسقُ في بَطْنه والمأبون في فَرْجه. ثم اقتصَّهم خليفةً خليفَةَ. فلما انتهى إلى عمر بن عبد العزيز أعرضَ عن ذكره. ثم ذكر يزيدَ بنَ عبد الملك فقال: يأكلُ الحرامَ، ويلبَس الحُلّة بألف دينار، قد ضُرِبَت فيها الأبشارُ، وهُتِكت الأستار، حَبَابةُ عن يمينه وسَلامة عن يَساره تغنَيانه، حتى إذا أخَذَ الشرابُ فيه كل مَأْخَذٍ قَد ثوبَه ثم التفتَ إلى إحداهما فقال: ألَا أطِير! نعم! طِرْ إلى النار. ثم ذكر أصحابَه فقال: شبابٌ والله مُكتهلون في شَبَابهم، غَضيضةٌ عن الشر أعينُهم، ثَقِيلة عن الباطل أرجلُهم، أنْضاءُ عِبادة، وأطْلاح سَهَر، ينظُرُ اللّه إليهم في جوف الليل مُنْحنِيةً أصلابُهم على أجزاء القرآن، قد أكلت الأرض رُكَبَهم وأيديَهم وجِبَاهَهم، واستقلُوا ذلك في جَنْب الله، حتى إذا رأوُا السهام قد فُوَقَتْ، والرماحَ قد أشْرِعتْ، والسيوفَ قد انتُضِيتْ. وأرْعدت الكتيبةُ بصواعق الموت، مضى الشاب منهم قدماً، حتى اختلفت رجلاه على عُنُق فرسه، وتخضبتْ محاسِنُ وجهه بالدماء، فأسرعت إليه سِباعُ الأرض وانحطَّتْ إليه طيرُ السماء، فكم من عيْنٍ في مِنْقار طائرٍ طالما بَكَى صاحبُها في جوف الليل من خوف اللّه! وكم من كف زَايَلَتْ مِعْصَمَها طالما اعتمَدَ عليها صاحبُها في جوف الليل بالسجود لله! ثم قال: اوه أوّه وبكى ثم نزل.

خطبة لقَطَرِيّ الخارجيّ

ذَكَر فيها الذي قالوا مَنْ أشد منا قوةً، فقال: حُمِلُوا إلى قُبُورهم فلا يُدْعَوْنَ رُكْباناً، وأنْزِلوا فلا يُدعون ضِيفاناً، وجعلوا لهمِ من الضًرِيح أجْناناً، ومن التراب أكفاناً، ومن الرفَ جِيراناً، فهم جِيرةٌ لا يُجيبون داعياَ ولا يَمنعون ضَيماً، إن أخصَبوا لم يفرحوا، أو أقحَطوا لم يَقْنَطوا؛ جميع أوحادٌ، وجِيرةٌ أبعاد، لا يَزُورون ولا يُزارون. فاحذَرُوا ما حَذّركم الله وانتفعوا بمَوَاعظه واعتصِموا بحبله.

وفي خطبة ليوسف بن عمر

اتقوا الله عبادَ الله! فكم من مُؤَمَل أملاً لا يبلُغه، وجاِمعٍ مالاً لا يأكله، ومانعٍ ما سوف يَتركُه، ولعله من باطل جَمَعَه، ومن حقٍّ مَنَعَه، أصابه حراماً ووَرَّثَه عدواً، إحتمل إصْرَه وباء بوِزْره، ووَرَد على ربّه آَسفاً لاهِفاً، قد خَسِر الدنيا والآخرةَ، ذلك هو الخُسْرانُ المبين.

وفي خطبة للحجاج

قال مالك بن دِينار: سمعته على المنبر يقول: امرأً زور عمله امرأً حاسَبَ نفسَه، امرأً فكر فيما يقرؤُه في صحيفته ويراه في مِيزانه، امرأً كان عند هواه زاجراً، وعند هَمَه آمراً، أخذ بعِنَان قلبه كما يأخُذ بخِطام جَمَله، فإن قاده إلى طاعة الله تَبِعه، وإن قاده إلى مَعْصِية الله كفه.

خطبة للمنصور

خطب المنصور بمكة فقال: أيها الناس، إنما أنا سلطانُ الله في أرضه، أسوسُكم بتوفيقه وتَسْديده وتأيِيده وتَبْصيره، وخازنُه على فَيْئه أعمَلُ فيه بمشيئته، وأقْسِمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جَعَلني عليه قُفْلا إذا شاء أن يفتَحَني لإعطائكم وقَسْم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفِلني عليها أقفلني. فارغَبُوا إلى الله واسألوه في هذا اليوم الشريف الني وهَبَ لكم فيه من فَضْله ما أعلمكم في كتابه، إذ يقول: "اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الِإسْلامَ دِينَاً" أن يُوَفقني للصَّواب والرشاد، ويُلْهِمَني الرأفةَ بكم والإحسانَ إليكم، ويَفْتَحَني لإعطائكم وقَسْم أرزاقكم بالعَدْل عليكم.

خطبة لداود بن عليّ


خطب فقال: أحرزَ لسانٌ رأسَه، اتعظ امرؤٌ بغيره، اعتبَرَ عاقل قبل أن يُعْتَبَر به، قأمسكَ الفَضْلَ من قوله وقدّم الفضلَ من عمله. ثم أخذ بقائم سيفه فقال: إن بكم داءً هذا عواؤُه، وأنا زعيمٌ لكم بشِفائه، وما بعد الوعيدِ إلّا الإيقاع.

خطبة لدواد بن عليّ أيضاً

لما قام أبو العبّاس في أول خِلافته على المنبر قام بوجهٍ كورقة المصحف فاستَحْيَا فلم يتكلَّم؛ فنَهَض داودُ بن عليّ حتى صَعِد المنبرة فقال المنصور: فقلت في شيخِنا وكبيرِنا ويدعو إلى نفسه فلا يختلف عليه اثنان، فانتضَيْتً سيفي وغَطيت ثوبي وقلتُ: إن فَعَلَ ناجزتُه، فلما رَقِيَ عَتَباً استقبل الناسَ بوجهه عون أبي العباس، ثم قال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين يَكْرَه أن يتقدّم قولُه فعلَه، ولأثَر الفِعال عليكم أجْوَر من تَشْقيق المَقَال، وحسبكُم بكتابِ الله مُمْتَثَلاً فيكم، وابن عمّ رسولِ اللهّ خليفةً عليكم. والله قَسَماً بَرا لا أريد إلّا اللَه به ما قام هذا المقامَ أحد بعد رسول الله أحق به من عليّ بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا، فلَيظُنَّ ظانكم وليَهْمِسْ هامسُكم. قال أبو جعفر: ثم نزل وشِمْتُ سيفي.

خطبة لأعرابيّ

أما بعد، فإن الدنيا دارُ بَلَاء والآخرةَ دارُ بقاء، فخُذُوا أيها الناس لمَقَرّكم من مَمَرّكم، ولا تهْتِكوا أستاركم عند من لا يَخْفَى عليه أسراركم، ففي الدنيا أحيِيتم ولغيرها خُلقتم. أقول قولي هذا، والمستَغْفَرُ اللّه، والمدعوُ له الخليفةُ ثم الأميرُ جعفر بن سليمان.

خطبة المأمون يوم الجمعة

الحمد لله مستخلِص الحمدِ لنفسه، ومستوجبه على خَلْقه، أحمدُه وأستعينُه وأومن به وأتوكَل عليه، وأشهَدُ إنْ لا إلهَ إلا اللُّه وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسولُ أرسله بالهُدَى ودِينِ الحق ليُظهِرَه على الدينِ كلَه ولو كَرِهَ المُشركون. أوصِيكم عِبادَ الله بتقوى الله وحدَه، والعمل لما عنده، والتنجُّز لوعده، والخوفِ لوعيده، فإنه لا يسلَم إلا من اتّقاه ورَجَاه، وعَمِل له وأَرْضاه. فاتَّقوا اللّه عبادَ اللّه وبادِرُوا آجالَكم بأعمالكم، وابتاعُوا ما يبقَى به يزولُ عنكم، وترحّلوا فقد جُدً بكم، واستعِدُوا للموت فقد أظلَّكم، وكُونوا قوماً صِيحَ بهم فانتبهُوا، وعلِموا أنّ الدنيا ليسْت لهم بدار فاستَبْدلواة فإنّ الله لم يخلُقْكم عبثاً ولم يترُكْ سُدًى؛ وما بين أحدِكم وبين الجنّة والنار إلا الموتُ أنْ يَنزِلَ به. وإنّ غايةً تنقصُها اللحظة وتَهدِمها الساعةً الواحدةُ لجديرة بقِصَر المُدّة، وإنّ غائباً يحدُوه الجديدانِ الليلُ والنهارُ لحرىِ بسُرعة الأوْبة، وإنّ قادماً يحُلّ بالفوز أو بالشِّقْوة لمستحِق لأفضل العدة، فتَقي عبدٌ ربَّه، ونَصَح نفسَه، وقَدّم توبته، وغَلَب شهوتَه، فإنّ أجلَه مستور عنه، وأملَه خادع له، والشيطان مُوكَّل به يُزَينُ له المعصيةَ ليركبها، وُيمَنِّيه التوبةَ ليُسَوّفها، حتىِ تهجُمَ عليه منيتُه أغفَل ما يكون عنها. فيا لها حسرةً على في غَفْلة: أن يكون عمرُه عليه حُجّةَ، أو تؤدَيهَ أيامُه إلى شْقْوة نسألُ الله يجعلَنا وإيّاكم ممن لا تُبطره نعمة، ولا تُقصَر به عن طاعته غَفْلة، ولا تُحلّ به بعد الموت فَزْعة، إنه سميع الدعاء، وبيده الخيرُ، وإنه فعال لما يُريد.

وفي خطبة المأمون يوم الأضحى بعد التكبير الأوّل


إنَ يوصكم هذا يومٌ أبانَ الله فضلَه، وأوجبَ تشريفَه، وعَظّم حُرْمته، ووَفَق له من خَلا صفوتَه، وابتَلَى فيه خليلَه، وفَدَى فيه من الذَبْح نبئه، وجعله خاتمَ الأيام المعْلومات من العَشْر ومتقدَم الأيام المعدودات منِ النفْر؛ يومٌ حرامٌ من أيام عِظام في شهرَ حَرَام، يومُ الحجِّ الأكبر يومٌ دعا اللُّه إلى مَشْهَده، ونزَل القرآنُ بتعظيمه، قال اللهّ جلّ وعزّ: "وَأذِّنْ في الناس بالحج"َ؛ الآيات؛ فتقربوا إلى اللّه في هذا اليوم بذبائحكم، وعَظِّموا شعائرَ الله واجعلوها من طَيبِ أموالَ وبصحّة التقوى من قلوبكم، فإنه يقول: "لَنْ يَنَالَ اللَّه لُحُومُهَا وَلَا دمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التًقْوَى مِنْكُمْ"، ثم التكبير والتحميد والصلاة على النبي والوصية بالتقوى، ثم قال بعد ذكر الجنة والنار: عَظُمَ قدرُ الدارين وارتفع جزاءُ العملين وطالت مدّة الفريقين الله للّه! فوالله إنه الجِدُ لا اللعِبُ، وإنه الحقُّ لا الكذِب، وما هو إلا الموت والبَعْث والمِيزان والحِساب والقِصَاص والصَراط ثم العقاب والثَواب، فمن نَجَا يومئذٍ فقد فاز، ومن هَوَى يومئذ فقد خاب. الخيرً كلّه الجنّة، والشر كله في النار.

وفي خطبة المأمون يوم الفطر بعد التكبير الأوّل

إنّ يومكم هذا يومُ عِيدٍ وسُنَّة وابتهال ورغبة، يومٌ خَتَم الله به صيامَ شهر رمضان وافتتح به حجَّ بيته الحَرَام، فجعله خاتمةَ الشهر وأوّلَ أيام شهور الحجّ، وجعله مُعقِّباً لمفروض صيامكم ومنتفَل قيامكم، أحل فيه الطعامَ لكم وحَرم فيه الصيامَ عليكم؛ فاطلبوا إلى الله حوائجكَم استغفروه لتفريطكم، فإنه يُقال: لا كبيرَ مع استغفار، ولا صغير مع إصرار. ثم التكبير والتحميد وذكر النبيّ عليه السلام والوصية بالتقوى. ثم قال: فاتقوا الله عبادَ الله وبادروا الأمرَ الذي اعتدَلَ فيه يقينُكم، ولم يتحضِر الشكُ فيه أحداً منكم، وهو الموت المكتوبُ عليكم، فإنه لا تُستقالُ بعده عَثْرةٌ، ولا تُحْظَر قبله توبة. واعلموا أنه لا شيءَ قبله إلا دونَه ولا شيءَ بعده إلا فوقَه. ولا من على جَزَعه وعَلَزه وكُرَبه، ولا يُعين على القبر وظُلْمته وضِيقه ووَحْشته وهَوْل مَطْلَعه ومسألة ملائكته، إلا العملُ الصالحُ الذي أمر اللّه به. فمن زَلَّت عند الموت قَدَمُه، فقد ظهرت ندامتُه، وفاتته استقالتُه، ودعا من الرَّجْعة إلى ما لا يجاب إليه، وبذَلَ من الفِدْية ما لا يُقْبَلُ منه. فالله اللَّه عبادَ اللهّ! وكونوا قوماً سألوا الرَّجْعةَ فأعْطُوها إذ مُنِعَهَا الذين طَلَبوها فإنه ليس يتمنَى متقدون قبلكم إلا هذا المهلَ المبسوطَ لكم. واحذَرُوا ما حذَّركم الله، واتَقوا اليومَ الذي جمَعُكم الله فيه لوَضْع مَوَازينكم، ونَشْر صُحُفكم الحافِظةِ لأعمالكم. فلينظُرْ عبدٌ ما يَضَعُ في زاده مما يثقل به، وما يًمِلُ في صحيفته الحافِظة لما عليه وله؛ فقد حَكَى الله لكم ما قال مفرطون عندها إذ طال إعراضُهم عنها، قال: "وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقِينَ مما فيه"! الآية. وقال: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْم الْقِيَامَةِ". ولستُ أنهاكم عن الدنيا بأعظمَ مما نهتْكم الدنيا عن نفسها، فإنه كل ما لها ينهَى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها. وأعظمُ ما رأته أعينكم من عجائبها فمُّ كتاب اللّه لها ونَهْيُ اللّه عنها، فإنه يقول: "فَلَا تَغُرنًكُمُ الحَيَاة الدنْيَا وَلاَ يَغُرنكُمْ بِالله الغَرُورُ" وقال: "إنمَا الْحَيَاةُ الدُنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ" الآية. فانتفعوا بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلَموا أنّ قوماً من عباد اللهّ أدركتُهم عِصمةُ اللّه فحذِروا مَصَارِعَها، وجانَبُوا خدائعها، وآثروا طاعةَ الله فيها، فأدركوا الجنَّة بما تركوا منها.

كلام مَنْ أرتِجَ عليه

لعيسى بن عمر حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: خَطَب أميرٌ مرّةً فانقطع فخجِل، فبعث إلى قوم من القبائل عابوا ذلك وَلفَهم، وفيهم يَرْبوعِي جَلْد، فقال: اخطُبُوا؛ فقام واحدٌ فمرّ في الخطبًة، حتىٍ إذا بلغ "أما بعد" قال: أما بعد أما بعد، ولم يدرِ ما يقول: ثم قال: فإنّ امرأتي طالق ثلاثا، لم أرِد أن أجمع اليوم فمنْعتني.
وخطب آخر، فلما بلغ "أما بعد" بَقِي ونَظرَ فإذا إنسان ينظر إليه، فقال: لعنك الله! تري ما أنا فيه وتَلْمَحني ببصرك أيضاً.
قال: وقال أحدهم: رأيتُ القَرَاقير من السُّفُن تجرِي بيني وبين الناس.
قال: وصَعِد اليربوعيً فخطب فقال: أمّا بعدُ فوالله ما أدرِي ما أقولُ ولا فِيمَ أقمتموني. أقول ماذا. فقال بعضهم: قل في الزيت؛ فقال: الزيتُ مبارك، فكُلُوا منه وادّهِنوا. قال: فهو قولُ الشُطَار اليوم إذا قيل: لم فعلت ذا؟ فقل في شأن الزيت وفي حال الزيت.
ليزيد بن أبي سفيان ولما أتى يزيدُ بن أبي سُفْيان الشأم والياً لأبي بكر رضي الله عنه، خطب فأرتِج عليه، فعاد إلى الحمد لله فأرتج عليه، فعاد إلى الحمد لله ثم أرتج عليه، فقال: يا أهل الشأْم عسى الله أن يجعل من بعد عسرٍ يُسراً، ومن بعد عِيً بياناً، وأنتم إلى إمامٍ عادل أجوجُ منكم إلى إمام قائل. ثم نزل. فبلغ ذلك عَمرو بن العاص فاستحسنه.
لثابت قطنة بسجستان صعِد ثابتً قُطْنَة منبراً بسِجِسْتان فحمِد الله ثم أرتج عليه، فنزل وهو يقول:

فإلا أكُنْ فيكم خطيباً فإنّـنـي

بسيفي إذا جَدّ الوَغَي لخَطَيبُ

فقيل له: لو قلتَها على المنبر كنتَ أخطبَ الناس.
لعبد اللّه بن عامر بالبصرة وأرتج على عبد اللهّ بن عامر بالبَصْرة يومَ أضْحَى، فَمكَث ساعةً ثم قال: والله لا أجمَعُ عليكم عِيًّا ولُؤماً، من أخَذَ شاةً من السوق فهي له وثمنُها عليّ.
لخالد بن عبد اللّه القسري وارتج على خالد بن عبد اللّه القَسْرِيّ فقال: إن هذا الكلامَ يجيء أحياناً ويعزُبُ أحياناً، وربما طُلِب فأبَى، وكُوبِرَ فعسا، فالتّأنِّي لمجيّه، أيسرُ من التَّعاطِي لأبيه؛ وقد يَختَلِط من الجريء جَنَانهُ، وينقطع من الذَرِب لسانُه، فلا يُبْطره ذلك ولا يَكْسِره؛ وسأعودُ إن شاء الله.
لمعَن بن زائمة وأرتج على مَعن بن زائدة فضرب المنبر برجله ثم قال: "فَتَى حُرُوبٍ لا فَتَى مَنَابر".
لعبد ربه اليشكريّ وكان عبد ربه اليَشْكُريّ عاملاً لعيسى بن موسى على المدائن، فصعِد المنبرَ فحمِد الله وارتج عليه فسكت، ثم قال: والله إني لأكون في بيتي فتجيءُ على لساني ألفُ كلمة، فإذا قمتُ على أعوادكم هذه جاء الشيطانُ فمحاها من صَدْري، ولقد كنتُ وما في الأيّام أحب إلي من يوم الجمعة، فصِرْتُ وما في الأيام يوم أبغضُ إلي من يوم الجمعة، وما ذلك إلاّ لخطبتكم هذه. لروح بن حاتم صَعِدَ رَوْح بن حاتم المنبَر، فلما رأى جَمْعَ الناس حَصِر، فقال: نَكَسوا رؤوسَكم وغُضُوا أبصاركم، فإن أوّلَ مَرْكبٍ صعْب، وإذا يسر اللّه فَتْحَ قُفْل تيسر.
رجل دُعي ليخطب في نكاح فأرتج عليه ودُعِي رجلٌ ليخطب في نكاح فحَصِر، فقال: لَقَنوا موتاكم شهادةَ أنْ لا إلهَ إلا الله. فقالت امرأةٌ حضرتْ: ألهذا دعوناك! أماتك الله!.
لعبيد اللّه بن زياد، ولعبد الملك قال عُبَيد الله بن زِياد: نِعْمَ الشيءُ الإمارةُ لولا قعقعةُ البريد والتشرُف للخُطَب.
قيل لعبد الملك: عَجل عليك الشَّيبُ؛ فقال: كيف لا يُعجل علي وأنا أعرِض عقلي على الناس في كل جمعة مَرةً أو مرتين.
للدندان الهاشمى ووَليَ رجل من بني هاشم يُعْرَف بالدَنْدَان بحر اليمامة، فلما صعِد المنبر أرتج عليه فقال: حيا اللهّ هذه الوجوهَ وجعلني فِداءَها، إنَي قد أمرتُ طائفي بالليل ألا يرى أحداً إلا أتاني به وإن كنت أنا هو ثم نزل.

المنابر

قال بعض المفسرين في قول اللّه جل وعزّ "ومَقَامٍ كَرِيم"؛ إنه المنبر. وقال: الشاعر:

لنا المساجدُ نَبْنِيها ونَعْمُرُها

وفي المنابر قَعْداتٌ لنا ذُلُلُ

فلا نَقِيلُ عليها حين نركَبُها

ولا لهنّ لنا من مَعْشرٍ بَدَلُ

وقال الكُمَيْت يذكر بني أمية:

مُصيبٌ على الأعوادِ يومَ ركُوبِهِ

لِمَا قال فيها مخطئ حين ينزِلُ

يُشَبِّهها الأشباهَ وهي نَصِـيبُـه

له مَشْرَب منها حرامٌ ومأكَـلُ

وقال بعض المُحْدَثين :

فما مِنبرٌ دنسته باستِ لا أفكل

بِزَاكٍ ولو طهّرتَه بابن طاهر

للأقيشر ومرّ الأقَيْشِر بمَطَر بن نَاجِية اليربوعي حين غَلَبَ على الكُوفة في أيام الضًحاك بن قيس الشّارِي ومَطَرٌ يخطُبُ، فقال:

أبني تَميم ما لمنبر ِمُلْكـكـم

لا يستمِرّ قعوده يتَمـرْمَـرُ

إنّ المنابرَ أنكرتْ أشباهَكـم

فادعُوا خُزَيْمةَ يستقِرّ المنبرُ

خلعُوا أمِيرَ المؤمنين وبايَعُوا

مَطَراً لعمرُك بَيْعةً لا تظهرُ

واستخلفوا مطراً فكان كقائلٍ

بَدَلٌ لعمرُك من أمَيّة أعورُ

لقتيبة بن مسلم وقد سقط القضيب من يده وهو يخطب خَطَب قُتَيْبة بن مُسْلم على منبر خُرَاسان فسَقَط القضِيبُ من يده، فتفاءل له عدوّه بالشرّ واغتمّ صديقُه، فعَرَف ذلك قُتَيبة فقال: ليس الأمرُ على ما ظَنّ العدوّ وخاف الصديقُ، ولكنه كما قال الشاعر:

فألقتْ عَصَاها واستقرّ بها النَّوَى

كما قَرّ عَيْناً بالإيابِ المُسافـرُ

لواثلة بن خليفة يهجو عبد الملك بن المهلب وقال واثلةُ بن خَلِيفة السًدُوسيّ يهجو عبد الملك بن المُهَلَب:

لقد صَبَرتْ للذُّلِّ أعواد منـبـرٍ

تقوم عليها في يديك قـضـيبُ

بكى المنبرُ الغربيُ إذ قُمْتَ فوقَه

وكادت مساميرُ الحديد تـنـوبُ

تم كتاب العلم وهو الكتاب الخامس من عيون الأخبار لابن قتيبة رحمه الله، ويتلوه في الكتاب السادس كتاب الزهد.
والحمد للهّ رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين.
صورة ما كتبه الناسخ بخطه في آخر النسخة كتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد بن علي الواعظ الجزريّ، وذلك في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة.
وقال بعضهم: بُنِي الإسلامُ على خمسة: التواضع عند الدولة، والعفو عند القدرة، والسخاء مع القِلّة، والعطيّة من غير مِنّة، والنصيحة للعامّة.
لبعض الشعراء في الصبر وقال بعض الشعراء في الصبر:

وإذا ابتُلِيتَ بمِحْنةَ فالبس لـهـا

ثوبَ السكوتِ فإن ذلك أسلـمُ

لا تشكوَن إلى العباد فـإنـمـا

تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يَرْحَم

للشافعي رضي الله عنه وُيرْوَى للشافعيّ رضي اللّه عنه:

نَعِيبُ زمانَنا والعيبُ فـينـا

وما لزماننا عيبٌ سـوانـا

وقد نهجُو الزمانَ بغير جُرْم

ولو نطق الزمانُ بنا هجانا

فدُنْيانا التصنُعُ والـتـرائيً

ونحن به نُخادع من يرانـا

وليس الذئبُ يأكل لحمَ ذئبٍ

ويأكلُ بعضُنا بعضاً عِيانـا

 

تم هذا كتاب  ويليه كتاب الزهد.