أبو حيان التوحيدي

                                      الصداقة والصديق

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم! خذ بأيدينا فقد عثرنا، واستر علينا فقد أعورنا، وارزقنا الألفة التي بها تصلح القلوب، وتنقى الجيوب، حتى نتعايش في هذه الدار مصطلحين على الخير، مؤثرين للتقوى، عاملين شرائط الدين، آخذين بأطراف المروءة، آنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين، متزودين للعافية التي لابد من الشخوص إليها، ولا محيد عن الاطلاع عليها، إنك تؤتي من تشاء ما تشاء.
سمع مني في وقت بمدينة السلام كلام في الصداقة، والعشرة، والمؤاخاة، والألفة، وما يلحق بها من الرعاية، والحفاظ، والوفاء، والمساعدة، والنصيحة، والبذل، والموآساة، والجود، والتكرم، مما قد ارتفع رسمه بين الناس، وعفا أثره عند العام والخاص، وسئلت إثباته ففعلت، ووصلت ذلك بجملة مما قال أهل الفضل والحكمة، وأصحاب الديانة والمروءة، ليكون ذلك كله رسالة تامة يمكن أن يستفاد منها في المعاش والمعاد.
وسمعت الخوارزمي أبا بكر محمد بن العباس الشاعر البليغ يقول: اللهم نفق سوق الوفاء فقد كسدت، وأصلح قلوب الناس فقد فسدت، ولا تمتني حتى يبور الجهل كما بار العقل، ويموت النقص كما مات العلم.
وأقول: اللهم اسمع واستجب، فقد برح الخفاء، وغلب الجفاء، وطال الانتظار، ووقع اليأس، ومرض الأمل، وأشفى الرجاء، والفرج معدوم، وأظن أن الداء في هذا الباب قديم، والبلوى فيه مشهورة، والعجيج منه معتاد.
فأول ذلك أني قلت لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية. فمن أين هذا؟ وكيف هو؟ فقال: يا بني! اختلطت ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكوناً لا يرثان على الدهر، ولا يحولان بالقهر، ومع ذلك فبيننا بالطالع، ومواقع الكواكب مشاكلة عجيبة، ومظاهرة غريبة، حتى أنا نلتقي كثيراً في الإرادات، والاختيارات، والشهوات، والطلبات، وربما تزاورنا فيحدثني بأشياء جرت له بعد افتراقنا من قبل، فأجدها شبيهة بأمور حدثت لي في ذلك الأوان حتى كأنها قسائم بيني وبينه، أو كأني هو فيها، أو هو أنا، وربما حدثته برؤيا فيحدثني بأختها فنراها في ذلك الوقت أو قبله بقليل، أو بعده بقليل.
قال: ورأيته قد ملكه التعجب من هذا وشبهه فحدثته بما تنقاسمه من قوى الفلك، وأن سهامنا واحدة، وأنصباءنا منها متساوية، أو قريبة من التساوي، فعجب وازداد بصيرة في إخلاص الصداقة، وتوكيد العلاقة.
فقلت لأبي سليمان: كيف يصح هذا، وأنت مطالبك في الفلسفة، وصورك مأخوذة من الحكمة، وجعبتك مجموعة من الحقائق، وخوضك في الغوامض والدقائق، وذاك رجل في عداد القضاة، وجلة الحكام، وأصحاب القلانس، ومخاضه الظاهر الذي عليه الجمهور، ومأخذه مما عليه السواد الأعظم.
فقال: هذا هو الذي انفردنا عنه بعد أن ازدوجنا عليه والأصل أبداً مخالف للفرع، لا خلاف الضد للضد، ولكن خلاف الشكل للشكل، وكانت مشتريه خالياً من قوة زحل، فبرز في حلبة القضاة، وكان المشتري لي مقتبساً من زحل، فظهرت بما ترى، فجمعتنا المشاكلة على العلم، وفرقنا الاختلاف بالفن.
قلت: هذا والله طريف، ومما يزيد في طرافته أنك من سجستان وهو من الصيمرة. فقال: الأمكنة في الفلك أشد تضاماً من الخاتم في أصبعك، وليس لها هناك هذا البعد الذي تجده بالمسافة الأرضية من بلد إلى بلد بفراسخ تقطع، وجبال تعلى، وبحار تخرق.
فقلت: هل تجد عليه في شيء أو يجد عليك في شيء؟ فقال: وجدي به في الأول قد حجبني عن موجدتي عليه في الثاني، على أنه يكتفي مني فيما خالف هواي باللمحة الضئيلة، وأكتفي أنا أيضاً منه في مثل ذلك بالإشارة القليلة، وربما تعاتبنا على حال تعرض على طريق الكناية عن غيرنا كأننا نتحدث عن قوم آخرين، ويكون لنا في ذلك مقنع، وإليه مفزع، وقل ما نجتمع إلا ويحدثني عني بأسرار ما سافرت عن ضميري إلى شفتي، ولا ندت عن صدري إلى لفظي، وذاك للصفاء الذي نتساهمه، والوفاء الذي نتقاسمه، والباطن الذي نتفق عليه، والظاهر الذي نرجع إليه، والأصل الذي رسوخنا فيه، والفرع الذي تشبثنا به، والله ما يسرني بصداقته حمر النعم، ولا أجد بها بحياتي، ما أجد بحياتي لي، وإذا كنت أعشق الحياة لأني بها أحيا، كذلك أعشق كل ما وصل الحياة بالحياة، وجنى لي ثمرتها، وجلب إلي روحها، وخلط بي طيبها وحلاوتها.

وكان أبو سليمان يحدثني عن ابن سيار بعجائب، وأما أنا فما عرفته إلا قاضياً جليلاً، صاحب جد وتفخيم وتوقير وتعظيم، وكان مع ذلك بسيط اللسان، شريف اللفظ، واسع التصرف، لطيف المعاني، بعيد المرامي، يذهب مذهب أبي حنيفة.
ثم قال أبو سليمان: الصداقة التي تدور بين الرغبة والرهبة شديدة الاستحالة، وصاحبها من صاحبه في غرور، والزلة فيها غير مأمونة، وكسرها غير مجبور.
قال: فأما الملوك فقد جلوا عن الصداقة، ولذلك لا تصح لهم أحكامها، ولا توفي بعهودها، وإنما أمورهم جارية على القدرة، والقهر، والهوى، والشائق، والاستحلاء، والاستخفاف، وأما خدمهم وأولياؤهم فعلى غاية الشبه بهم، ونهاية المشاكلة لهم، لانتشابهم بهم، وانتسابهم إليهم، وولوع طورهم بما يصدر عنهم، ويرد عليهم.
وأما التناء وأصحاب الضياع، فليسوا من هذا الحديث في عير ولا نفير.
وأما التجار فكسب الدوانيق سد بينهم وبين كل مروءة، وحاجز لهم عن كل ما يتعلق بالفتوة.
وأما أصحاب الدين والورع فعلى قلتهم فربما خلصت لهم الصداقة لبنائهم إياها على التقوى، وتأسيسها على أحكام الحرج، وطلب سلامة العقبي.
وأما الكتاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس، والتحاسد، والتماري، والتماحك فربما صحت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل.
وأما أصحاب المذاب والتطفيف فإنهم رجرجة بين الناس، لا محاسن لهم فتذكر، ولا مخازي فتنشر، ولذلك قيل لهم همج، ورعاع، وأوباش، وأوناش، ولفيف، وزعانف، وداصة، وسقاط، وأنذال، وغوغاء، لأنهم من دقة الهمم، وخساسة النفوس، ولؤم الطبائع على حال لا يجوز معها أن يكونوا في حومة المذكورين، وعصابة المشهورين، فلهذه الأمور الحائلة عن مقارها، الزائغة إلى غير جهاتها علل وأسباب لو نفس الزمان قليلاً لكنا ننشط لشرحها، وذكر ما قد أتى النسيان عليه، وعفى أثره الإهمال، وشغل عنه طلب القوت، ومن أين يظفر بالغداء، وإن كان عاجزاً عن الحاجة، وبالعشاء وإن كان قاصراً عن الكفاية، وكيف يحتال في حصول طمرين للستر لا للتجمل، وكيف يهرب من الشر المقبل، وكيف يهرول وراء الخير المدبر، وكيف يستعان بمن لا يعين، ويشتكى إلى غير رحيم، ولكن حال الجريض دون القريض، ومن العجب والبديع أنا كتبنا هذه الحروف على ما في النفس من الحرق، والأسف، والحسرة، والغيظ، والكمد، والومد، وكأني بغيرك إذا قرأها تقبضت نفسه عنه، وأمرس نقده عليها، وأنكر علي التطويل والتهويل بها. وإنما أشرت بهذا إلى غيرك لأنك تبسط من العذر ما لا يجود به سواك، وذاك لعلمك بحالي، وأطلاعك على دخلتي، واستمراري على هذا الأنقاض والعوز اللذين قد نقضا قوتي، ونكثا مرتي، وأفسدا حياتي، وقرناني بالأسى، وحجباني عن الأسى، لأني فقدت كل مؤنس، وصاحب، ومرفق، ومشفق، والله! لربما صليت في الجامع فلا أرى إلى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال، أو عصار، أو نداف، أو قصاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، مجتنفاً على الحيرة، محتملاً الأذى، يائساً من جميع من ترى، متوقعاً لما لابد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص.
وفي تمجيد الصمت مر بي كلام لبعض الحكماء القدماء أنا أرويه لك ههنا لا لأجدد به عليك ما ليس عندك، ولكن لأذكرك، فإن الإذكار بالخبر بعث على الاهتمام به، والبعث عليه سلوك لطريقه.
قال هذا الحكيم: لو لم يكن للصامت في صمته إلا الكفاية لأن يتكلم، فحكي عنه محرفاً، فيضطر إلى أن يقول: ليس هكذا قلت، وإنما قلت كذا وكذا، فيكون إنكاره إقراراً، ويكون اعترافه بأصل ما حكي عنه شاهداً لمن وشى به، وادعاؤه التحريف غير مقبول منه بلا بينة يأتي بها، لكان ذلك من أكبر فضائل الصمت، وأدع هذا وأقول:

كان سبب إنشاء هذه الرسالة في الصداقة والصديق أني ذكرت شيئاً منها لزيد بن رفاعة أبي الخير، فنماه إلى ابن سعدان الوزير أبي عبد الله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة، وتدبيره أمره الوزارة، حين كانت الأشغال خفيفة، والأحوال على إذلالها جارية، فقال لي ابن سعدان: قال لي زيد عنك كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك، قال: فدون هذا الكلام، وصله بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم، فإن حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب، فجمعت ما في الرسالة، وشغل عن رد القول فيها، وأبطأت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره ما كان.
فلما كان هذا الوقت وهو رجب سنة أربع مائة عثرت على المسودة وبيضتها على نحيلها، فإن راقتك فذاك الذي عزمت بنيتي، وحولي، واستخارتي، وإن تزحلقت عن ذلك فللعذر الذي سحبت ذيله، وأرسلت سيله.
وقبل كل شيء ينبغي أن نثق بأنه لا صديق، ولا من يتشبه بالصديق، ولذلك قال جميل بن مرة في الزمان الأول حين كان الدين يعانق بالإخلاص، والمروءة تتهادى بين الناس، وقد لزم قعر البيت، ورفض المجالس، واعتزل الخاصة والعامة، وعوتب في ذلك فقال: لقد صحبت الناس أربعين سنة فما رأيتهم غفروا لي ذنباً، ولا ستروا لي عيباً، ولا حفظوا لي غيباً، ولا أقالوا لي عثرة، ولا رحموا لي عبرة، ولا قبلوا مني عذرة، ولا فكوني من أسرة، ولا جبروا مني كسرة، ولا بذلوا لي نصرة، ورأيت الشغل بهم تضييعاً للحياة، وتباعداً من الله تعالى، وتجرعاً للغيظ مع الساعات، وتسليطاً للهوى في الهنات بعد الهنات، ولذلك قال الثوري لرجل قال له أوصني قال: أنكر من تعرفه، قال: زدني، قال: لا مزيد.
وكان ابن كعب يقول: لا خير في مخالطة الناس، ولا فائدة في القرب منهم، والثقة بهم والاعتماد عليهم، ولذلك قال الأول:
إخاء الناس ممتزج ... وأكبر فعلهم سمج
فإن بدهتك مقطعة ... فما لذنبهم فرج
فقومهم بهجرهم ... فإن لم يهجروا اعتوجوا
صروف الدهر دانية ... تقطع بينها المهج
وأنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الكاتب الصابي في إخوان الزمان لنفسه:
أيا رب كل الناس أبناء علة ... أما تعثر الدنيا لنا بصديق
وجوه بها من مضمر الغل شاهد ... ذوات أديم في النفاق صفيق
إذا اعترضوا دون اللقاء فإنهم ... قذى لعيون أو شجى لحلوق
وإن أظهروا برد الوداد وظله ... أسروا من الشحناء حر حريق
ألا ليتني حيث انتوت أفرخ القطا ... بأقصى محل في الفلاة سحيق
أخو وحدة قد آنستني كأنني ... بها نازل في معشري وفريقي
فذلك خير للفتى من ثوائه ... بمسبعة من صاحب ورفيق
وكان العسجدي يقول كثيراً: الصداقة مرفوضة، والحفاظ معدوم، والوفاء اسم لا حقيقة له، والرعاية موقوفة على البذل، والكرم فقد مات، والله يحيي الموتى! استرسال الكلام في هذا النمط شفاء للصدر، وتخفيف من البرحاء، وانجياب للحرقة، واطراد للغيظ، وبرد للغليل، وتعليل للنفس، ولا بأس بإمرار كل ما لاءمه، ودخل في حوزته، وإن كان آخره لا يدرك، وغايته لا تملك.
قال صالح بن عبد القدوس:
بني عليك بتقوى الإله ... فإن العواقب للمتقي
وإنك ما تأت من وجهه ... تجد بابه غير مستغلق
عدوك ذو العقل أبقى عليك م ... ن الصاحب الجاهل الأخرق
وذو العقل يأتي جميل الأمو ... ر ويعمد للأرشد الأوفق
فأما الذي قال في أصدقائه وجلسائه الخير، وأثنى عليهم الجميل، ووصف جده بهم، ودل على محبته لهم، فغريب! قال بعضهم:
أنتم سروري وأنتم مشتكي حزني ... وأنتم في سواد الليل سماري
أنتم وإن بعدت عنا منازلكم ... نوازل بين أسراري وتذكاري
فإن تكلمت لم ألفظ بغيركم ... وإن سكت فأنتم عقد إضماري
الله جاركم مما أحاذره ... فيكم وحبي لكم من هجركم جاري
وقال آخر:
أخ لمته أو لامني ثم نرعوي ... إلى ثائب من حلمنا غير مخدج

أهون إذا عز الجليل وربما ... أزمت برأس الحية المتمعج
أخبرنا أبو سعيد السيرافي، قال: أخبرنا ابن دريد قال: قال أبو حاتم السجستاني: إذا مات لي صديق سقط مني عضواً.
كتب علي بن عبيدة الريحاني البصري إلى صديق له: كان خوفي من أن لا ألقاك متمكناً، ورجائي خاطراً، فإذا تمكن الخوف طفيت، وإذا خطر الرجاء حييت.
وقال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: صحبة عشرين يوماً قرابة.
وقال رجل لضيغم العابد: أشتهي أن أشتري داراً في جوارك حتى ألقاك كل وقت، قال ضيغم: المودة التي يفسدها تراخي اللقاء مدخولة.
وكتب آخر إلى صديق له: مثلي هفا، ومثلك عفا، فأجابه: مثلك اعتذر، ومثلي اغتفر.
وقال أعرابي: الغريب، من لم يكن له حبيب.
وقيل لأعرابي: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إن قرب منح، وإن بعد مدح، وإن ظلم صفح، وإن ضويق فسح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح.
وقال الفضل بن يحيى: الصبر على أخ تعتب عليه خير من آخر تستأنف مودته.
وقال عبد الله بن مسعود: ما الدخان على النار بأدل من الصاحب على الصاحب.
كتب رجل إلى صديق له: أما بعد: فإن كان إخوان الثقة كثيراً، فأنت أولهم، وإن كانوا قليلاً فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحداً فأنت هو! وقال آخر:
تركت لك القصوى لتدرك فضلها ... وقلت ترى بيني وبين أخي فرق
ولم يك بي عنها نكول وإنما ... توانيت عن حقي فتم لك الحق
ولا بد لي من أن أكون مصلياً ... إذا كنت أهوى أن يكون لك السبق
قال العباس بن الحسن العلوي يصف جليساً له: لطيب عشرته أطرب من الإبل على الحداء، والثمل على الغناء! وقال آخر:
ذهب التواصل والتعارف ... فالناس كلهم معارف
لم يبق منهم بينهم ... إلا التملق والتواصف
وعناق بعضهم لبعض ... في التساير والتواقف
صارفهم عن المود ... دة إنهم قوم صيارف
إني انتقدت خيارهم ... فالقوم ستوق وزائف
وقال آخر:
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوماً دماً فهو آكله
وكتب يحيى بن زياد الحارثي إلى عبد الله بن المقفع يلتمس معاقدة الإخاء، والاجتماع على المخالصة والصفاء، فلما لم يجبه كتب إليه يعتب، فكتب له عبد الله: إن الإخاء رق، وكرهت أن أملكك رقي قبل أن أعرف حسن ملكتك.
شاعر:
وأعرض عن ذي المال حتى يقال لي ... قد احدث هذا جفوة وتعظما
وما بي جفاء عن صديق ولا أخ ... ولكنه فعلي إذا كنت معدما
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله كان يأكل تمراً ومعه جليس له، فكان النبي صلى الله عليه وسلم وآله إذا رأى حشفة عزلها، فقال جليسه: يا رسول الله أعطني الحشفة حتى آكلها، قال: لا أرضى لجليسي إلا ما أرضاه لنفسي.
وقال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: لن لمن يجفو فقل من يصفو.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: قليل للصديق الوقوف على قبره.
أبو زبيد الطائي:
إذا نلت الإمارة فاسم فيها ... إلى العلياء بالحسب الوثيق
فكل إمارة إلا قليلاً ... مغيرة الصديق على الصديق
ولا تك عندها حلواً فتحسى ... ولا مراً فتنشب في الحلوق
وأغمض للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديق
وقال موسى بن جعفر رضي الله عنهما؛ خير إخوانك المعين لك على دهرك، وشرهم من لك بسوق يومه.
كان أبو داود السجستاني أيام شبابه وطلبه للرواية قاعداً في مجلس، والمستملي في حدته، فجلس إليه فتى وأراد أن يكتب فقال له: أيها الرجل استمد من محبرتك، قال: لا، فانكسر الرجل، فأقبل عليه أبو داود، وقد أحسن بخجله: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان، فقد استوجب بالحشمة الحرمان، فكتب الرجل من محبرته، وسمي أبو داود حكيماً.
وقال شاعر:
مولاك مولى عدو لا صديق له ... كأنه نفر أو عضه صفر
وقال ابن الحشرج:
فلا وأبيك لا أعطي صديقي ... مكاشرتي وأمنعه تلادي
وقال العجير:
بعيد من الشيء القليل احتفاظه ... عليك ومنزور الرضا حين يغضب
وقال آخر:

أخوك أخوك من تدنو وترجو ... مودته وإن دعي استجابا
وقال ميمون بن مهران: صديق لا تنفعك حياته، لا يضرك موته.
أنشدنا علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح قال: أنشدنا ابن دريد عن الأشنانداني لأعرابي:
إن كنت تجعل من حباك بوده ... ظهر البعير فثق بأنك عاقره
من ذا حملت عليه كلك كله ... إلا اشمأز فظن أنك حاقره
كلف جوادك ما يطيق فبالحري ... أن يستقل بما تطيق حوافره
أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى، أخبرنا ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي، قال عبد الله بن جعفر: كمال الرجل بخلال ثلاث: معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة؛ فذو الثلاثة سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق.
قال ابن أبي دؤاد: صديق عدوك حربك.
قال محمد بن علي بن الحسين الباقر رضي الله عنهم لأصحابه: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ حاجته من الدراهم والدنانير؟ قالوا: لا، قال: فلستم إذاً بإخوان.
شاعر:
ومن يرع بقلاً من سويقة يغتبق ... قراحاً، ويسمع قول كل صديق
قال العتابي لصاحب له: ما أحوجك إلى أخ كريم الأخوة، كامل المروءة،، وإذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنفك، وإذا نكرت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كف عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثثته استرحت.
وقال الخليل بن أحمد: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال.
وقيل للخليل: استفساد الصديق أهون من استصلاح العدو؟ قال: نعم، كما أن تخريق الثوب أهون من نسجه.
وقيل لابن المقفع: الصديق أحب إليك أم القريب؟ قال: القريب أيضاً يجب أن يكون صديقاً.
مرض قيس بن سعد بن عبادة فأبطأ إخوانه عنه، فسأل عنهم، فقيل: إنهم يستحيون ممالك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله ما يمنع الإخوان من العيادة، ثم أمر منادياً فنادى؛ ألا من كان لقيس عليه حق، فهو منه في حل وسعة، فكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده.
قال عبد الملك بن مروان: من كل شيء قد قضيت وطراً، إلا من محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفو.
شاعر:
وقل الذي يرعاك إلا لنفسه ... وللنفع يعتد الصديق معده
قال أبو عثمان الجاحظ: كان ابن أبي دواد إذا رأى صديقه مع عدوه قتل صديقه. قال أبو حامد المروروذي: هذا هو الإسراف والتجاوز والعداء الذي يخالف الدين والعقل، لعل صديقك إذا رأيته مع عدوك يثنيه إليك، ويعطفه عليك، ويبعثه على تدارك فائتة منك، ولو لم يكن هذا كله لكان التأني مقدماً على العجل، وحسن الظن أولى به من سوء الظن. ثم قال: ذهب الإنصاف في العداوة والصداقة، وأصبح الناس أبناء واحد في الرغبة، والرهبة، والجهل، والجبرية، والعمل على سابق الهوى، وداعية النفس، وهذا لأن الدين مرخي الرسن، مخدوش الوجه، مفقوء العين، مزعزع الركن، والمروءة ممزقة الجلباب، مهجورة الباب، ليس إليها داع، ولا لها محبب، والله المستعان.
قال الأصمعي: كان يقال: البخيل من أقرض إلى ميسرة.
قال عمر بن شبة: التقى أخوان في الله، فقال أحدهما لصاحبه: والله يا أخي إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلمه من نفسي لأبغضتني في الله. فقال: والله يا أخي لو علمت منك ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي.
وقال المدائني: إذا ولي صديق لك ولاية، فأصبته على العشر من صداقته فليس بأخ سوء.
قال فيلسوف: من عاشر الإخوان بالمكر كافأوه بالغدر.
وقال إبراهيم بن أدهم: أنا منذ عشرين سنة في طلب أخ إذا غضب لم يقل إلا الحق فما أجده.
وقال عبيد الله بن قيس الرقيات: يستأسدون على الصديق وللعدو ثعالب.
اعتل بعض إخوان الحسن بن سهل، فكتب إليه الحسن: أجدني وإياك كالجسم الواحد، إذا خص عضواً منه ألم عم سائره، فعافاني الله بعافيتك، وأدام لي الإمتاع بك.
قال ثعلب: كان يقال: لعداوة يحيى بن برامك أنفع لعدوه من صداقة غيره لصديقه.

أخبرنا القدسي، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى، قال ابن الأعرابي عن المفضل: جاء رجل إلى مطيع بن إياس فقال: قد جئتك خاطباً، قال: لمن؟ قال: لمودتك، قال: قد أنكحتكها وجعلت الصداق أن لا تقبل في مقالة قائل.
قال أبو الدرداء: معاتبة الأخ خير من فقده، ومن لك بأخيك كله، أطع أخاك، ولن له، ولا تسمع فيه قول حاسد وكاشح، غداً يأتيك أجله فيكفيك فقده، كيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله؟ قال بعض السلف: عليك بالإخوان، ألم تسمع قوله تعالى: " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم " .
وأنشدنا الأندلسي:
لي صديق هو عندي عوز ... من سداد لا سداد من عوز
شاعر:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس فيصلح
وقال جعفر بن محمد رضي الله عنهما: حافظ على الصديق ولو في الحريق.
وقال شاعر: لست ذا ذلة إذا عضني الدهر ولا شامخاً إذا واتاني.
أنا نار في مرتقى نفس الحاسد ماء جار مع الإخوان كان على حاتم أبي نواس الحسن بن هانىء إخوان ذا الزمان دود وود وزوان.
أخبرنا الطبراني، قال: سمعت عبد الله بن المعتز يقول: قال بعض الملاح: إن الناس قد مسخوا خنازير، فإذا وجدت كلباً فتمسك به.
قال أبو العيناء في رجلين أفسد ما بينهما: تنازعا ثوب العقوق حتى صدعاه صدع الزجاجة ما لها من جابر.
قال شريح القاضي: الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق من الجار، والجار أحق ممن سواه.
قال رجل لأبي مجنب: إني لا أودك، فقال: إني لأجد رائد ذاك.
كاتب: قد أهديت لك مودتي رغبة، ورضيت منك بقبولها مثوبة، وأنت بالقبول قاض لحق، ومالك لرق، والسلام.
سئل صعصة عن طلحة فقال: كان حلو الصداقة، مر العداوة.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الإخوان بمنزلة النار، قليلها متاع وكثيرها بوار.
قال الأحتف: كانت المودة قبل اليوم محضاً، فليتها تكون اليوم مذقاً قال أحمد بن أبي فنن: حدثنا عمرو بن سعيد بن سلام قال: كنت في حرس المأمون ليلة من الليالي نائباً. فبرز المأمون في بعض الليل متفقداً من حضر، فعرفته، فقال لي: من أنت؟ فقلت: عمرو - عمرك الله - بن سعيد - أسعدك الله - بن سلام - سلمك الله - فقال: أنت تكلأنا مذ الليلة. قلت يكلأك الله.
فقال المأمون:
إن أخا الهيجاء من يسعى معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا صرف زمان صدعك ... بدد شمل نفسه ليجمعك
ادفعوا إليه أربعة آلاف دينار، فوددت أن الأبيات طالت.
قيل للعتابي: إنا نراك زاهداً في استطراف الإخوان؟ قال: إني لم أحمد تالدهم.
تمثل عبد الملك بقول الشاعر:
فاستبق ودك للصديق ولا تكن ... قتباً يعض بغارب ملحاحا
واهجرهم هجر الصديق صديقه ... حتى تلاقيهم عليك شحاحا
أخبرنا أبو سعيد السيرافي قال أخبرنا ابن دريد، حدثنا عبد الرحمن، قال: عرض عمي الأصمعي برجل كان حاضراً فأنشد:
صديقك لا يثني عليك بطائل ... فماذا ترى فيك العدو يقول
فقال الرجل:
وحسبك من لؤم وخبث سجية ... بأنك عن عيب الصديق سؤول
شاعر:
يصافيني الكريم إذا التقينا ... ويبغضني اللئيم إذا رآني
قال ابن عائشة: جزعك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك.
قال أبو جعفر المنصور: من أعطى إخوانه النصفة، وعاشرهم بجميل العشرة قوي بهم عضده، وزاد بهم جلده، وبذلوا دونه المهج، وخاضوا في رضاه اللجج.
شاعر:
بيني وبين لئام الناس معتبة ... ما تنقضي وكرام الناس إخواني
إذا لقيت لئيم القوم عنفني ... وإن لقيت كريم القوم حياني
شاعر:
وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... وأشرقني على حنق بريقي
عفوت ذنوبه وصفحت عنه ... مخافة أن أعيش بلا صديق
قال بعض السلف: استطرد لعدوك، وأبقه بإظهار الرضا عنه، والمداراة له حتى تصيب الفرصة فتأخذه على غرة.
قال طلحة بن عبد الله: أعظم لخطرك أن لا تري عدوك أنه لك عدو.
قال الحسن بن وهب: طرف الصداقة أملح من طرف العلاقة، والنفس بالصديق آنس منها بالعشيق.
شاعر:
ولقد طويتكم على علاتكم ... وعرفت ما فيكم من الأدغال

قيل لروح بن زنباع: ما معنى الصديق؟ قال: لفظ بلا معنى.
وأنشد هلال بن العلاء الرقي:
لما عفوت ولم أحقد على أحد ... أرحت نفسي من غم العداوات
إني أحيي عدوي عند رؤيته ... لأدفع الشر عني بالتحيات
وأظهر البشر للإنسان أبغضه ... كأنه قد ملا قلبي محبات
والناس داء، وداء الناس قربهم ... وفي الجفاء لهم قطع الأخوات
فلست أسلم ممن لست أعرفه ... فكيف أسلم من أهل المودات
ألقى العدو بوجه لاقطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
وأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من مودات
قال الشعبي: تعايش الناس بالدين زماناً حتى ذهب الدين، ثم تعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زماناً طويلاً.
لسعية بن عريض اليهودي:
وإذا تصاحبهم تصاحب خانة ... ومتى تفارقهم تفارق عن قلى
إخوان صدق ما رأوك بغبطة ... فإذا افتقرت فقد هوى بك ما هوى
إن الكريم إذا أردت وصاله ... لم يلف حبلي واهناً رث القوى
أرعى أمانته وأحفظ عهده ... جهدي فيأتي بعد ذلك ما أتى
يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
قرع رجل باب بعض السلف في ليل فقال لجاريته: أبصري من القارع؟ فأتت الباب فقالت: من ذا؟ قال: أنا صديق مولاك، فقال الرجل: قولي له: والله إنك لصديق، فقالت له ذلك فقال: والله إني لصديق، فنهض الرجل وبيده سيف، وكيس، يسوق جارية، وفتح الباب وقال: ما شأنك؟ قال: راعني أمر، قال: لابك، ما ساءك، فإني قد قسمت أمرك بين نائبة فهذا المال، وبين عدو فهذا السيف، أو أيمة فهذه الجارية؟! فقال: الرجل: لله بلادك ما رأيت مثلك.
قال الأحنف: من حق الصديق أن يحتمل له ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة.
قال بزرجمهر: إياك وقرناء السوء، فإنك إن عملت قالوا: رائيت، وإن قصرت قالوا: أثمت، وإن بكيت قالوا: شهرت، وإن ضحكت قالوا: جهلت، وإن نطقت قالوا: تكلفت، وإن سكت قالوا: عييت، وإن تواضعت قالوا افتقرت، وإن أنفقت قالوا: أسرفت، وإن اقتصدت قالوا: بخلت.
وقال أبو بكر: قارب إخوانك في خلائقهم تسلم من بوائقهم، وترتع في حدائقهم.
قال أعرابي: دع مصارمة أخيك وإن حثا التراب في فيك.
قال عمرو بن العاص: من أفحش الظلم أن تلزم حقك في مال أخيك، فيبذله لك، ويلزمك حقه في تعظيمك إياه فتمنعه، فإذا أنت جشمته إفضال المنعمين، وابتذلته ابتذال الأكفاء.
وقال أعرابي لصديق له: كن ببعضك لي حتى أكون بكلي لك.
وفي كليلة ودمنة: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إذا مرت على النتن حملت تنناً، وإذا مرت على الطيب حملت طيباً.
وقال أيضاً: المودة بين الصالحين بطيء انقطاعها، سريع اتصالها، كآنية الذهب، بطيئة الانكسار، هينة الإعادة، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها، بعيد اتصالها، كآنية الفخار التي يكسرها أدنى شيء، ولا وصل له.
قال عثمان بن عفان: ما ملك رفيقاً من لم يتجرع بغيظ ريقاً.
قال أبو عثمان النيسابوري، وكان من الزهاد العباد: أنكر علي أبو حفص، أيام ملازمتي وخدمتي له شيئاً، فضقت ذرعاً، وهممت لو أني بطي الأرض حتى لا يراني، فخيل إليه ذاك مني، فلما رآني قال لي: يا أبا عثمان! لا تثق بمودة من لا يحبك إلا معصوماً، قال: فسكنت وعدت إلى العادة.
قال الأصمعي فيما روي لنا المرزباني عن ابن دريد، عن عبد الرحمن، عن الأصمعي قال أعرابي: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، واعجز منه من ضيع من ظفر به منهم.
قيل لمسور بن مخرمة الزهري: أي الندماء أحب إليك؟ قال: لم أجد نديماً كالحائط، إن بصقت في وجهه لم يغضب علي، وإن أسررت إليه شيئاً لم يفشه عني.
قال ابن مناذر: كنت أمشي مع الخليل فانقطع شسع نعلي فخلع نعله فقلت له: ما تصنع؟ قال: أواسيك بالحفاء! وقال بعض السلف: إياك وكره الإخوان، فإنه لا يؤذيك إلا من تعرف وأنشد:

جزى الله عنا الخير من ليس بيننا ... ولا بينه ود ولا نتعارف
فما سامنا ضيماً ولا شفنا أذى ... من الناس إلا من نود ونألف
قال شبيب بن شيبة: إخوان الصديق خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء.
قال أعرابي لصاحب له: أنزلني من نفسك منزلة عبد، أنزلك من تفسي منزلة مولى، فإنك إذا فعلت ذلك تطاوعنا بلا أمر، وتناهينا بلا زجر، وإذا كان رقيبنا العقل، الهادي إلى الرضا، الذائد عن الأذى، فلا عتب يسود به وجه، ولا عذر يغض منه طرف، والسلام.
كاتب. أما بعد، فقد استجبت لإخائك، ثقة مني بوفائك، فلما أن طعمت فضلك، وسرت مسيرك، واستفرغتني مودتك، واستغرقتني مقتك، فاجأتني بتغير لونك، وانزواء ركنك، وفاحش لفظك، وشانيء لحظك.
شاعر:
ستنكت نادماً في الأرض مني ... وتعلم أن رأيك كان عجزا
وقال الراجز:
إن الرفيق لاصق بقلبي ... إذا أضاف جنبه بجنبي
أبذل نصحي، وأكف لعبي ... ليس كمن يفحش أو يحظنبي
قال بعض السلف: ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، ولعدوك عدلك وإنصافك.
شاعر: ترك التعهد للصديق يكون داعية القطيعة قال أبو بكر في دعائه: اللهم! إني أعوذ بك من نظرة غيظ نفذت من عين حاسد، غائبها حرب، وشاهدها سلم.
شاعر:
فلا تقطع أخاك من أجل ذنب ... فإن الذنب يغفره الكريم
وأنشد:
إذا أنكرت أحوال الصديق ... فلست من التحيل في مضيق
طريق كنت تسلكه زماناً ... فأسبع فاجتنبه إلى طريق
كاتب: عرضت عليك مودتي فأعرضت عني، وأعرض عنك غيري فتعرضت له، فالله المستعان على فوت ما أملته لديك، وبه التعزي عما أصبت به منك.
مر بخالد بن صفوان صديقان، فعرج عليه أحدهما وطواه الآخر، فقيل له في ذلك، فقال: عرج علينا هذا لفضله، وطوانا ذاك لثقته. ويروي في مثله: عرج علينا هذا بالمقة وانصرف ذاك عنا بالثقة.
شاعر:
أعاتب ليلى إنما الهجر أن ترى ... صديقك يأتي ما أتى لا تعاتبه
قال أعرابي لصاحب له: قد درن ذات بيننا، فهلم إلى العتاب لنغسل به هذا الدرن، فقال له صاحبه: إن كان كما تصف فذاك لبادرة ساءتك مني، إما لك وإما لي، فهلا أخذت بقول القائل:
إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالاً لزلته عذرا
والله لا صفت مودتنا، ولا عذب شربها لنا إلا بعد أن يغفر كل واحد منا لصاحبه ما يغفره لنفسه من غير من ولا أذى.
شاعر:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ... على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب حد السيف من أن تضيمه ... إذا لم يكن عن جانب السيف مزحل
قال العوامي: الصديق يرتفع عن الإنصاف، ويجل أيضاً عن الهجران، لأن الإنصاف ينبغي أن يكون عاماً مع الناس كلهم، وأما الهجران، فالعاقل لا يسرع إليه لعدم الإنصاف بل يستأني، ويقف، ويكظم، ويتوقع، ويرى أن العارض في الأمر لا يزال به الأمر الثابت، والعرق النابت.
شاعر:
إذا رأيت ازوراراً من أخي ثقة ... ضاقت علي برحب الأرض أوطاني
فإن صددت بوجهي كي أكافئه ... فالعين غضبي وقلبي غير غضبان
وقال العتبي:
وصاحب لي أبنيه ويهدمني ... لا يستوي هادم يوماً وبنآء
إذا رآني فعبد خاف معتبة ... وإن نأيت فثم الغمر والداء
بلغ الإسكندر الملك موت صديق له فقال: ما يحزنني موته أني لم أبلغ من بره ما كان أهله مني.
قال ابن أبي ليلى: لا أماري صديقي، فإما أن أكذبه، وإما أن أغضبه.
وكان بين القاضي أبي حامد المروروذي وبين ابن نصرويه العداوة الفاشية، والشحناء الظاهرة، فكان إذا جرى ذكر ابن نصرويه أنشد:
وأبي ظاهر العداوة إلا ... طغياناً، وقول ما لا يقال

وكان يقول: والله إني بباطنه في عداوته أوثق مني بظاهر صداقة غيره، وذاك لعقله الذي هو أقوى زاجر له عن مساءتي، إلا فيما يدخل في باب المنافسة، ولهذا استمر أمرنا أربعين سنة، من غير فحاشة ولا شناعة، ولقد دعيت إلى الصلح فأبيت فقلت: لا نحرك الساكن منا، فلقديم العداوة بالعقل، والحفاظ من الذمام والحرمة ما ليس لحديث الصداقة بالتكلف والملق، ولقد وقفني مرة على ضربة تأتت له علي كان فيها البوار، كف عنها، وأخذ بالحسنى، فأريته أختها، وكانت خافية عنده، فقال: لولا علمي بأنك تسبق إلى مثل هذه ما قابلتك بتلك، فقلت: هو والله ذاك، ووالله لقد ضرني ناس كانوا ينتحلون مودتي، ويتبارون في صداقتي، لضعف نحائزهم، ولؤم غرائزهم، ولقد ثبت لي هو في عداوته على عقل وتذمم أفضيا بهما إلى سلامة الدين، والنفس، والحال. وورد معز الدولة هذا المصر، فسأله عني سراً، فأثنى خيراً وقال: ما قطن مصرنا غريب أعظم بركة منه، وإنه لجمالنا عند المباهاة، ومفزعنا عند الخلاف. ولقد سألني معز الدولة عنه سراً، فأثنيت خيراً وقلت: أيها الأمير! والله ما نشأت فتنة في هذا المصر إلا وهو كان سبب زوالها، وإطفاء ثائرتها، وإعادة الحال إلى غضارتها ونضارتها. فقال معز الدولة لأبي مخلد سراً، كيف الحال بينهما، يعنينا، فقال: بينهما نبو لا ينادى وليده، وتعاد لا يلين أبداً شديده. فقال: لئن كان كما تقول فإنهما ركنا هذا البلد، وعدتا هذا السواد، اجعلهما عيني أبصر بهما أحوال الناس في هذا المكان، وأعول عليهما في ما يريان ويشيران، فخلا بي أبو مخلد وبصاحبي، وتقدم إلينا عن صاحبه بما زادنا بصيرة وتألفاً إلى هذه الغاية، ثم قال أبو حامد: والله إن عداوة العاقل لألذ وأحلى من صداقة الجاهل، لأن الصديق الجاهل يتحاماك بعداوته، ويهدي إليك فضل عقله ورأيه، ومن فضل عداوة الجاهل أنك لا تستطيع مكاشفته حياء منه، وإيثاراً للإرعاء عليه، ومن فضل عداوة العاقل أنك تقدر على مغالبته بكل ما يكون منه إليك، ثم قال: وما أظن أنه كان فيما مضى إلى وقتنا هذا متصادقان على العقل والدين مثل أبي بكر وعمر، ومن يتحرى أخبارهما، ويقفو آثارهما وقف على غور بعيد، هذا مع العنجهية المصحوبة أيام الجاهلية، والعجرفية المعتادة أوان الكفر، فلما أنار الله قلوبهما بالإيمان رجعا إلى عقل نصيح، ودين صحيح، وعرفان بالعرف والنكر، ونهوض بكل ثقل وخف، وإني لأرحم الطاعن فيهما، والنائل منهما، لضعف عقله ودينه، وذهابه عما خصا به، وعما فيه، وميزا عنه، ورقيا إليه، واندفع في هذا وشبهه، وكان والله بليل الريق، يستحضر كيف شاء بالطويل والعريض، والجليل والدقيق.
أطلنا هذا الفصل على ما اعتن، والمعذرة فيه مقدمة إليك، وأنت أولى من يقبلها، وزادني تفضلاً من عنده عليهما، جامعاً لما شت من الكرم، حافظاً لما قد ضاع من الذمم.
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: شر الإخوان من تكلف له، وخيرهم من أحدثت لك رؤيته ثقة به، وأهدت إليك غيبته طمأنينة إليه.
شاعر:
لو قيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثان
لما أخذت أماناً ... إلا من الإخوان
أنشد عمر بن عبد العزيز:
إني لأمنح من يواصلني ... مني صفاء ليس بالمذق
وإذا أخ لي حال عن خلق ... داويت منه ذاك بالرفق
والمرء يصنع نفسه ومتى ... ما تبله ينزع إلى العرق
وأنشد آخر:
يا أكرم الناس في ضيق وفي سعة ... وأنطق الناس في نظم وفي خطب
إنا وإن لم يكن ما بيننا نسب ... فرتبة الود تعلو رتبة النسب
كم من صديق يراك الشهد عن بعد ... ومن عدو يراك السم عن قرب
وأنشد آخر:
فما منك الصديق ولست منه ... إذا لم يعنه شيء عناكا
قال أعرابي: المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة.
قال محمد بن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد بداً من معاشرته حتى يجعل الله له من ذلك مخرجاً.
قال أبو بكر: حق الجليس إذا دنا أن يرحب به، وإذا جلس أن يوسع له، وإذا حدث أن يقبل عليه، وإذا عثر أن يقال، وإذا أنقص أن ينال، وإذا جهل أن يعلم.

كان بعض السلف يقول في دعائه: اللهم احفطني من أصدقائي، فسئل عن ذلك فقال: إني أحفظ نفسي من أعدائي. قال أبو سليمان: إن كانوا عندك أصدقاء فما أقر عينك بهم لأنك محفوظ فيهم، وإن كانوا غير أصدقاء فما وجه فكرك فيهم.
وقال الشاعر:
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك، ليس النوك عنك بعازب
وليس أخي من ودني رأي عينه ... ولكن أخي من ودني في المغائب
ومن ماله مالي إذا كنت معدماً ... ومالي له إن عض دهر بغارب
فما أنت إلا كيف أنت ومرحباً ... وبالبيض رواغ كروغ الثعالب
قيل لبزرجمهر: ما بال معاداة الصديق أقرب مأخذاً من مصادقة العدو؟ قال: لأن إنفاق المال أهون من كسبه، وهدم البناء أسهل من رفعه، وكسر الإناء أيسر من إصلاحه.
قال أبو سليمان: لم يعمل شيئاً في الجواب لأنه ماثل مسألة السائل بمسألة مثلها، فلو سأله السائل عن هذه كلها ما كان جوابه، ثم أجاب هو بكلام لا يدخل في هذه الرسالة لأنه من الفلسفة التي هي موقوفة على أصحابها لا نزاحمهم عليها، ولا نماريهم فيها.
وقال الشاعر:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
قال معاوية: المودة بين السلف ميراث بين الخلف.
قال أبو العتاهية: قلت لعلي بن الهيثم: ما يجب للصديق؟ قال: ثلاث خلال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة عند الشدة، وإقالة العثرة.
قال عبد الملك بن صالح: مشاهدة الإخوان أحسن من إقبال الزمان، وألذ من نيل الأمان، وأحلى من رضا السلطان.
وقال بزرجمهر: الإخوان كالسلاح، فمنهم من يجب ان يكون كالرمح يطعن به من بعيد، ومنهم كالسهم يرمى به ولا يعود إليك، ومنهم كالسيف الذي لا ينبغي أن يفارقك.
شاعر:
وأبثثت عمراً بعض ما في جوانحي ... وجرعته من مر ما أتجرع
ولابد من شكوى إلى ذي حفيظة ... إذا جعلت أسرار نفس تطلع
وسمعت أبا عثمان أحد الخالديين يحكي أن عياراً سمع رجلاً يقول: إذا عز أخحوك فهن، فقال للقائل: أخطأت، إذا عز أخوك فأهن شأنه وأنا أقول: لو كان هذا الحكم من رجل نبيه له في الحكمة قدم، وفي الفضل قدم، لتأوله متأول على وجه بعيد أو قريب، ولكنه روى عن عيار، وهذا الرهط ليس لأحد فيهم أسوة، ولا هم لأحد قدوة، لغلبة الباطل عليهم، وبعد الحق عنهم، ولأن الدين لا يلتاط بهم، والفتوة التي يدعونها بالاسم لا يحلون بها في الحقيقة، وكيف تصح الفتوة إذا خالفها الدين، وكيف يستقر الدين إذا فارقته الفتوة، الدين تكاليف من الله تعالى، والفتوة أخلاق بين الناس، ولا خلق إلا ما هذبه الدين، ولا دين إلا ما هذبه الخلق، على أن ابن المعتز أبا العباس قال: لست لمن خاشنني ألين، ولا إذا عز أخي أهون، ولعل هذا مسلم لأبي العباس لسموق رتبته، وشرف نسبه، ومستفيض أدبه وكرمه، وبعد فالصراخ ممن يظن به أنه صديق ثم يخرج في مسك عدو قديم، والتشكي منه مردد، وليس إلا الصبر والإغضاء، ودفع الوقت، وطرح الأذى عن الفكر، وأنا أقول هذا لأني نظرت في حال الإنسان، وصوبت طرفي فيه وصعدت، وحسبت ماله وما عليه وحصلت، وأجملت ما به وفيه وفصلت، فلم أجد له شيئاً خيراً من الصبر، فيه يقاوم المكروه، وتستدفع، البلية، وبه يؤدى شكر النعمة، وما أحلى ما أشار إليه الشاعر حين قال:
إن الزمان على اختلاف مروره ... ما زال يخلط حزنه بسروره
لم يصف عيشاً منذ كان لمعشر ... إلا وعاد يجد في تكديره
فالعاقل النحرير يلزم نفسه ... صبراً عليه في جميع أموره
وأحق ما صبر امرؤ من أجله ... ما لا سبيل له إلى تغييره
وحكى العلماء أن رجلاً كتب على باب داره: جزى الله من لم نعرفه ولم يعرفنا خيراً. فإننا ما أتينا في نكبتنا هذه إلا من المعارف، وقد قال الآخر:
كفاني الله شرك يا ابن عمي ... فأما الخير منك فقد كفاني
نظرت فلم أجد أشفى لغيظي ... من أني لا أراك ولا تراني
ولقد قلت لابن أبي كانون: لم لا تخالط أصحاب ابن الرازي فأنشد:
إن السلامة من سلمى وجارتها ... أن لا تمر بواديها على حال

وإذا أردت الحق علمت أن الصداقة، والألفة، والأخوة، والمودة، والرعاية، والمحافظة قد نبذت نبذاً، ورفضت رفضاً، ووطئت بالأقدام، ولويت دونها الشفاه، وصرفت عنها الرغبات.
ولما غنى علويه المأمون قول الشاعر:
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو إن كدرت عليه
عذيري من الإنسان لا إن جفوته ... صفا لي ولا إن صرت طوع يديه
استعاده المأمون مرات ثم قال: هات يا علويه هذا الصاحب، وخذ الخلافة، قد صرنا، ولله الحمد نرضى اليوم من الصاحب، والجار، والمعامل، والتابع، والمتبوع أن يكون فضلهم غامراً لنقصهم، وخيرهم زائداً على شرهم، وعدلهم أرجح من ظلمهم، وأنهم إن لم يبذلوا الخير كله لم يستقصوا الشر كله، بل قد رضينا بدون هذا، وهو أن نهب خيرهم لشرهم، وإحسانهم لإساءتهم، وعدلهم لجورهم، فلا نفرح بهذا، ولا نحزن لذاك، ونخرج بعد اللتيا والتي بالكفاف والعفاف!.
أخبرنا ابن مقسم النحوي، أخبرنا ثعلب عن أبي زيد عمر بن شيبة قال: قال مطيع بن إياس في صديق كان له يصفه بالنميمة:
إن مما يزيدني فيك زهداً ... أنني لا أراك تصدق حرفا
لا ولا تكتم الحديث ولا تن ... طق جداً ولا تمازح ظرفاً
وإذا منصف أرادك للنص ... ف أبيت الوفاء وازددت خلفا
وإذا قال عارفاً قلت سوءاً ... وإذا قال منكراً قلت عرفا
وأنشد ابن الأعرابي فيما روى ابن مقسم عن ثعلب:
وصلتكم جهدي وزدت على جهدي ... فلم أر فيكم من يدوم على العهد
تأنيتكم جهد الصديق لتقصدوا ... وتأبون إلا أن تحيدوا عن القصد
فإن أمس فيكم زاهداً بعد رغبة ... فبعد اختبار كان في وصلكم زهدي
إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم ... تدلون إدلال المقيم على العهد
صلوا وافعلوا فعل المدل بوصله ... وإلا فصدوا وافعلوا فعل ذي الضد
فكم من نذير كان لي قبل فيكم ... وها أنا ذا فيكم نذيراً لمن بعدي
تعزوا بيأس عن هواي فإنني ... إذا انصرفت نفسي فهيهات من رد
أرى الغدر ضداً للوفاء وإنني ... لأعلم أن الضد ينبو عن الضد
قال لقمان: من يصحب صاحب الصلاح يسلم، ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم.
وقال أيضاً: جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.
قال الفضيل بن عياض: قال لي ابن المبارك: ما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخاً في الله قال: فقلت له: لا يهيدنك هذا فقد خبثت السرائر، وتنكرت الظواهر، وفني ميراث النبوة، وفقد ما كان عليه أهل الفتوة.
قال بكر بن عبد الله المزني: إذا انقطع شسع نعل صاحبك فلم تقف عليه فلست له بصاحب، وإذا جلس يبول فلم تلبث له فلست له برفيق.
كان عامر بن قيس إذا توجه للغزو توسم الرفاق، فإذا رأى قوماً لهم هدى قال: يا قوم إني أريد أن أصحبكم على ثلاث خلال فيقال له: ما هن؟ قال: أكون خادماً لكم، ومؤذناً بينكم، وأنفق عليكم. فإذا قالوا: نعم صحبهم وإلا تركهم.
قيل لفيلسوف: من أطول الناس سفراً؟ قال: من سافر في طلب صديق.
سمع ابن عطاء رجلاً يقول: أنا في طلب صديق منذ ثلاثين سنة فلا أجده، فقال له: لعلك في طلب صديق تأخذ منه شيئاً، ولو طلبت صديقاً تعطيه شيئاً لوجدت! قال أبو سليمان: هذا كلام ظالم، الصديق لا يراد ليؤخذ منه شيء، أو ليعطي شيئاً، ولكن ليسكن إليه، ويعتمد عليه، ويستأنس به، ويستفاد منه، ويستشار في الملم، وينهض في المهم، ويتزين به إذا حضر، ويتشوق إليه إذا سفر، والأخذ والإعطاء في عرض ذلك جاريان على مذهب الجود والكرم، بلا حسد، ولا نكد، ولا صدد، ولا حدد، ولا تلوم، ولا تلاوم، ولا كلوح، ولا فتوح، ولا تعريض بنكير، ولا نكاية بتغيير.
قيل لأرسطاطاليس الحكيم معلم الإسكندر الملك من الصديق؟ قال: إنسان هو أنت، إلا أنه بالشخص غيرك!

سئل أبو سليمان عن هذه الكلمة وقيل له: فسرها لنا فإنها وإن كانت رشيقة فلسنا نظفر منها بحقيقة. فقال: هذا رجل دقيق الكلام، بعيد المرام، صحيح المعاني، قد طاعت له الأمور بأعيانها، وحضرته بغيبها وشهادتها، وكان ملهماً مؤيداً، وإنما أشار بكلمته هذه إلى آخر درجات الموافقة التي يتصادق المتصادقان بها، ألا ترى أن لهذه الموافقة أولاً، منه يبتدئانها، كذلك لها آخر ينتهيان إليه، وأول هذه الموافقة توحد، وآخرها وحدة، وكما أن الأنسان واحد بما هو به إنسان، كذلك يصير بصديقه واحداً بما هو صديق، لأن العادتين تصيران عادة واحدة، والإرادتين تحولان إرادة واحدة، ولا عجب من هذا، فقد أشار إلى هذه الغريبة الشاعر بقوله:
روحه روحي، وروحي روحه ... إن يشأ شئت، وإن شئت يشا
وليس يبعد هذا عليكم إلا لأنكم لم ترو صديقاً لصديق، ولا كنتم أصدقاء على التحقيق، بل أنتم معارف يجمعكم الجنس المقتبس، وينظمكم النوع المقتبس من الإنسان، ويؤلفكم بعد ذلك البلد أو الجوار أو الصناعة أو النسب، ثم أنتم في كل ذلك الذي اجتمعتم عليه، وانتظمتم به، وتألفتم له على غاية الافتراق، للحسد الذي يدب بينكم، والتنافس الذي يقطع علائقكم، والتدابر الذي يثير البينونة منكم، ولو استصحبتم ما شملتكم به الطبيعة الكبرى في الأول، لم تميلوا إلى ما حابتكم فيه الطبيعة الصغرى في الثاني، أعني أنكم معمومون بصورة الإنسان من ناحية النوع، كما أنكم معمومون بصورة الحيوان من ناحية الجنس، ومعرضون لنيل صورة الملائكة بالاختيار الجيد، كما أنكم معرضون لنيل صورة الشياطين بالاختيار الرديء، فلو ثبتم على الصراط المستقيم، وعلقتم حبل العقل المتين المستبين، واعتصمتم بالعروة الوثقى من الهدى والدين، كنتم كنفس واحدة في كل حال، ذلت أو صعبت، تجمعت أو تشعبت، تعرفت أو تنكرت، وكانت هذه الشريفة أعني الموافقة والوحدة تسري في الصديق والصديق، ثم في الثاني والثالث، ثم في الصغير والكبير، وفي المطيع والمطاع، والسائس والمسوس، وفي الجار والجار، وفي المحلة والمحلة، والبلد والبلد، حتى تبلغ الأغوار والنجود، وتشتمل على الأداني، والأقاصي، فحينئذ ترى كلمة الله العليا، وطاعته العالية، إلا أن هذا لما كان متعذراً جداً لأن المادة الأولى لا تنقاد لهذه الصورة، والصورة الأولى لا تلابس هذه المادة، طلب هذا المتعذر في الواحد مع الواحد، في الزمان بعد الزمان، على السنن بعد السنن، على المكان بعد المكان، بالدعوة بعد الدعوة، والهيئة بعد الهيئة، بالتعاون بعد التعاون، وإذا بعد المطلوب من جهة عامة لعلة مانعة فليس ينبغي أن يقنط من الظفر به من جهة خاصه لعله معطية، ومن المحال أن يكون المطلوب يدل على صحته العقل ثم لا يوجد في أحد المعدنين اللذين له، ولو استحال الوصول إليه، والتمكن منه، لكان العقل لا يدل على صحته، والرأي لا يشتاق إلى تحصيله، والطبيعة لا تنحو نحو مظنته، والاختيار لا يحول في طلبه، قال فعلى هذا يحمل رمز الحكيم في قوله: الصديق إنسان هو أنت، إلا أنه بالشخص غيرك.
وكان كلامه أتم من هذا وأنفس، ولكني ظفرت بهذا القدر فرويته على ذلك، وقول هذا الحكيم شبيه بقول روح بن زنباع وقد سئل عن الصديق فقال: لفظ بلا معنى، أي هو شيء عزيز، ولعزته كأنه ليس بموجود، ولو جهل معنى الصديق لجهل معنى الصاحب، لجهل معنى الخليل، وعلى هذا، الحبيب، والرفيق، والأليف، والوديد، والموآخي، والمساعد، وهذه كلها على رزدق واحد، وإنما تختلف بالمرتبة في الأخص، والأعم، والألطف، والأكثف، والأقرب، والأبعد، والأخلص، والأريب.
قال الإسكندر لديوجانس: بم يعرف الرجل أصدقاءه، قال: بالشدائد، لأن كل أحد في الرخاء صديق.
قيل لديوخانس: ما الذي ينبغي للرجل أن يتحفظ منه؟ قال: من حسد أصدقائه، ومكر أعدائه.
قيل لثيفانوس الفيلسوف: من صديقك؟ قال: الذي إذا صرت إليه في حاجة وجدته أشد مسارعة إلى قضائها مني إلى طلبها منه.
قال فيلسوف: ليس يحسر العاقل على الصديق، لأنه إن كان فاضلاً تزين به، وإن كان سفيهاً راض حلمه به.
قال انكساغورس: كيف تريد من صديقك خلقاً واحداً وهو ذو طبائع أربع وفي مثله قال الشاعر:
وأنى له خلق واحد ... وفيه طبائعه الأربع

قال أبو سليمان: يعني ألبسته على هذه الحال التي هو عليها من ناحية الطبيعة، فإنك في مسكه، وخلط على مسلكه، فاجتهد بالاختيار الرشيد، والرأي السديد أن تجعل طبائعك الأربع طباقاً لطبائعه الأربع، أو طبائعه الأربع، طباقاً لطبائعك الأربع، فإنك إذا قدرت على ذلك، قدرت بعده على أن تتعرف روائد هذه الأربع، ذاهباً بها نحو الاعتدال الذي هو صورة من صور الوحدة، فإذا أنت صديقك، وصديقك أنت، على ما صرح به كانياً، أو على ما كنى عنه مصرحاً، فقد بان هذا الحديث من ناحية اللفظ، والنطق، والعبارة، والإشارة، وإن كان قد بقي علينا أن نجد هذا المطلوب من ناحية العيان والمشاهدة فإنا إن وجدنا ذلك غنينا عن الخبر والاستخبار، لأن الأثر لا يطلب بعد العين، والحلم لا يتمنى بعد اليقظة، والسكر لا يحمد بعد الصحو.
سمعت برهان الصوفي الدينوري يقول: سمعت الجنيد يقول: لو صحبني فاجر حسن الخلق كان أحب إلي من أن يصحبني عابد سيء الخلق. قال برهان: لأن الفاجر الحسن الخلق يصلحني بحسن خلقه، ولا يضرني فجوره، والعابد السيىء الخلق يفسدني بسوء خلقه، ولا ينفعني بعبادته، لأن عبادة العابد له، وسوء خلقه علي، وفجور الفاجر عليه، وحسن خلقه لي.
وفي الأخلاق كلام واسع نفيس على غير ما وجدت كثيراً من الحكماء يطيلون الخوض فيه، ويعوصون المرام منه، بتأليف محرف عن المنهج المألوف، ولو ساعد نشاط، والتأم عتاد، وقيض معين، وزال الهم بتعذر القوت لعلنا كنا نحرر في الأخلاق رسالة واسطة بين الطويلة والقصيرة نفيد فيها ما وضح لنا بالمشاهدة والعيان، وبالنظر والاستنباط، ولكن دون ذلك أوق ثقيل، وعوق طويل، والله المستعان.
شاعر:
إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى ... كأنك مملوك لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذباً وبارداً ... على كبد حرى لكل صديق
أخبرنا علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح، حدثنا ابن دريد قال: أنشدنا عبد الأول لرجل من بني تميم:
كم من أخ لست تنكره ... ما دمت من دنياك في يسر
متصنع لك في مودته ... يلقاك بالترحيب والبشر
يطري الوفاء وذا الوفاء ويل ... حى الغدر مجتهداً وذا الغدر
فإن عدا، والدهر ذو غير، ... دهر عليك عدا مع الدهر
فارفض بإجمال مودة من ... يقلي المقل ويعشق المثري
وعليك من حالاه واحدة ... في العسر إما كنت واليسر
لا تخلطنهم بغيرهم ... من يخلط العقيان بالصفر؟
رأيت الزهيري أبا بكر يعاتب العوامي على هجر جماعة كان يألفهم ويألفونه، ويعيد القول في ذاك ويبدي، والعوامي لا ينبس بحرف، فقال له الزهيري: إن كنت تسكت استهانة بخطابي عذلتك؟ فقال العوامي: لا ولكني كما قال إسماعيل بن يسار النسائي:
إني لصعب على الأقوام لو جعلوا ... رضوى لأنفي خشاشاً لم يقودوني
نفسي هي النفس آبى أن أواتيها ... على الهوان وتأبى أن توآتيني
وقال: والله ما يفي أنسي بهم بالغداة باستيحاشي منهم بالعشي.
قال الزهيري: اعلم أن النداراة مطية وطيئة، وروضة موبقة، ما لبس أحد ثوبها إلا وجده فضفاضاً، وقد قال صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلم: مداراة الناس صدقة، وقالت العرب: من لم يدار عيشه ضل، قال العوامي: لو كانت المداراة تثنيهم لي، أو تعطفهم علي كانت مبذولة، ولكنها مضرة لهم على ما أنكر منهم، ومضرة لي فيما أعرف، ولا خير في بث خير لا يورث خيراً.
ورأيت ابن سعدان ينشد يوماً وقد أنكر شيئاً في بعض الندماء:
عدو راح في ثوب الصديق ... شريك في الصبوح وفي الغبوق
له وجهان: ظاهره ابن عم ... وباطنه ابن زانية عتيق
يسرك ظاهراً ويسوء سراً ... كذاك تكون أبناء الطريق
وأنا أسمي لك، وأروي كلاماً له وصفهم به منهم: أبو علي عيسى بن زرعة النصراني المتفلسف، وابن عبيد الكاتب، وابن الحجاج الشاعر، وأبو الوفاء المهندس، وأبو بكر، ومسكويه، وأبو القاسم الأهوازي، وأبو سعد بهرام بن أردشير.

وكان أوزنهم عنده وألصقهم بقلبه هو ابن شاهويه. هؤلاء أهل المجلس، سوى الطارئين من أهل الدولة، لا فائدة في ذكرهم. قال زيد بن رفاعة، وكان قريباً له من جهة الخوف له: رأيت الوزير اليوم يصف ندماءه بكلام يصلح أن يكتب على الأحداق، ويعرض على أهل الآفاق، ليستفيده الصغير والكبير.
قال: أصحابي طرائق قدد، كما قال عبد الحميد الكاتب: الناس أخياف مختلفون: وأصناف متباينون، فمنهم علق مضنة لا يباع، ومنهم غل مظنة لا ينباع، وكما قال الآخر:
الناس أخياف وشتى في الشيم ... وكلهم يجمعهم بيت الأدم
وأما ابن زرعة فكبره بالحكمة، وخيلاؤه بالثروة، قد قدحا في حافة عقله، وهو لا يحس بذلك القدح، فليس لنا منه إذا جالسنا إلا النفج، والتعظيم، والتهويل بأرسطاطاليس، وأفلاطون، وسقراط، وبقراط، وفلان وفلان، ومجالس الشراب تتجافى عن هؤلاء، وهؤلاء يجلون عن مجالس الشراب، يا نائم، يا غافل، يا ساهي، وأين أنت من هؤلاء الحكماء القدماء، أسيرتك سيرتهم، أحالك حالهم؟ إنما تدعي عقائدهم باللسان، وتنتحل أسماءهم باللفظ، فإذا جاءت الحقيقة كنت على الشط تلعب بالرمل، ولولا أنه يكدر هزل جدنا بجد هزله، لكان محمولاً مقبولاً، ولكنه يأبى إلا ما ألفه، وأفاد المران عليه، وما أخوفنا أن يمل الجماعة، وإن لم تمله الجماعة.
وأما ابن عبيد فكلفه بالخطابة، والبلاغة، والرسائل، والفصاحة، قد طرحه في عمق لج لا مطمع في انتقاذه منه، ولا طريق إلى صرفه عنه، هذا مع حركات غير متناسبة، وشمائل غير دمثة، ومناظرة مخلوطة بذلة أهل الذمة، ودالة أصحاب الحجة.
وأما ابن الحجاج فقد جمع بين جد القاضي أبي عمر في جلسته، وحديثه، وقيامه، وتخطئته مع حياء كأنه مستعار من الغانية الشريفة، وبين سخف شعره الذي لا يجوز أن يكون لراويه مروءة به فكيف لقائله، فنحن إذا نظرنا إليه تخلينا صورة سخف شوهاء في صورة عقل حسناء، ولا تخلص هذه من هذه، ولا جرم استمتاعنا به قاصر عن مرادنا منه، ودنوه منا ناب عن مراده له.
وأما أبو الوفاء فهو والله ما يقعد به عن الموآنسة الطيبة، والمساعدة المطربة، والمفاكهة اللذيذة، والمواتاة الشهية، إلا أن لفظه خراساني، وإشارته ناقصة، هذا مع استفاده بمقامه الطويل ببغداد، والبغدادي إذا تخرسن كان أحلى وأظرف من الخراساني إذا تبغدد، وإن شئت فضع الاعتبار على من أردت، فإنك تجد هذا القول حقاً، وهذه الدعوى مسموعة.
وأما مسكويه فإنه يسترد بدمامة خلقه ما يتكلفه من تهذيب خلقه، وأكره له المشاغبة في كل ما يجري، لا يجد في نفسه من المكانة والقرار ما يعلم معه أن مضاءه في فن آخر هو فيه قصير الباع، بليد الطباع، وصاحب هذا المذهب ممكور به، مصاب بجيد رأيه، وقد أفسدهن قال المهلبي، وسمعت المهلبي، كما لم يصلحه، قال ابن العميد، وفعل ابن العميد، وما ذكره لهذين إلا استطالة على الحاضرين، والتشيع بذكر الرجال واضع من قدر الرجال.
وأما أبو بكر فهو تميمة المجلس، ولا بد للدار وإن كانت قوراء من مخرج، وهو بجهله مع خفة روحه، وقبح وجهه أدخل في العين، وألصق بالقلب من غيره مع علمه، وثقل روحه، وحسن ظاهره.
وأما الأهوازي أبو القاسم فلا حلاوة، ولا مرارة، ولا حموضة، ولا ملوحة، وإنما هو كالبصل في القدر، وكالإصبع الزائدة في اليد، على أنا نرعى فيه حقاً قديماً، ونرحمه الآن رحمة حديثة.
وأما سيدي أبو سعيد فو الله إني لأجد به وجداً أتهم فيه نفسي، وما وجدت ألم سهر معه قط، وإني أرى حديثه آنق من المنى إذا أدركت، ومن الدنيا إذا ملكت، وإن تمازجنا بالعقل، والروح، والرأي، والتدبير، والنظر، والإرادة، والاختيار، والعادة ليزيد على حال توأمين تراكضا في رحم، وتراضعا من ثدي، ونوغيا في مهد، وما أخوفني أن يؤتى من جهتي، أو أوتى من جهته، وإن عاقبته موصولة بعاقبتي، لأني مأمنه وهو مأمني، وما أكثر ما يؤتى الإنسان من مأمنه، والله المستعان.
وأما ابن شاهويه فشيخ ليس لنا فيه فائدة إلا ما يلقي إلينا من تجاربه ومشاهداته، ولولا زيادته التي يضع بها من نفسه، وبعض من تجاربه لكان هدك من رجل ولكن من لك بالمهذب، ألم يقل الأول: أي الرجال المهذب

قال زيد بن رفاعة: قلت أيها الوزير إن طلوعك على ثنايا ضمائرهم، وعلمك بخفايا سرائرهم يطالبانك بالإفراج عنهم، وقلة الاكتراث بهم قال: لا نفعل، والله ما لهذه الجماعة بالعراق شكل ولا نظير، وإنهم لأعيان أهل الفضل، وسادة ذوي العقل، وإذا خلا العراق منهم، فرقن على الحكمة المروية، والأدب المتهادى، أتظن أن جميع ندماء المهلبي يفون بواحد من هؤلاء، أو تقدر أن جميع أصحاب ابن العميد يشتهون أقل من فيهم؟ قال: قلت: هذا ابن عباد بالري وهو من يعرف ويسمع قال: ويحك! وهل عند ابن عباد إلا أصحاب الجدل الذين يشغبون، ويحمقون، ويتصايحون إلى أن تبح حلوقهم، وهو فيما بينهم يصيح ويقول: قال شيخانا أبو علي وأبو هاشم، دعنا من حديثه، وغثاثته، وسعبذته، فما أحب أن أزيد في وصفه على ما أشرت إليه، والله لو تصدى إنسان متوسط في العلم، والأدب، والحنكة، والإنصاف، لذكر شأنه وسيرته، ووصف حاله وطريقته، لحكي كل غريبة، وأتى بكل أعجوبة، الرجل مجدود، وفي زمرة أهل الفضل معدود.
رويت هذا الخبر على ما اتفق، وكنت أطلب له مكاناً مذ زمان فلم أجد إلا هذه الرسالة الآتية على حديث الصداقة والصديق.
قال الشاعر:
إذا لم تدر ما الإنسان فانظر ... من الخدن المفاوض والمشير
وقال الآخر:
لا تسألن عن امرىء واسأل به ... إن كنت تجهل أمره ما الصاحب
وقال عدي بن زيد الشاعر:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن مقتدي
وقال بعض السلف: الصاحب كالرقعة في الثوب، فإن كان مشاكلا لم ينب عنه الطرف، وإن كان غير مشاكل كان الفضوح.
وذكر عند النبي صلى الله عليه وآله رجل كان يألفه قبل أن بعثه الله نبياً يقال له أبو السائب فقال: نعم الصاحب كان أبو السائب كان لا يماري، ولا يشاري.
سمعت أبا سعيد السيرافي يقول في تفسير هذين الحرفين: أي كان لا يشغب، ولا يلج، وقال: قيل في نبزهم الشراة أنهم إنما نبزوا بهذا للجاجهم في دينهم، كما قيل أيضاً: إنما نبزوا بهذا الاسم لأنهم باعوا أنفسهم لما سمعوا الله تعالى يقول: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " .
كتب أبو تمام الزينبي إلى ابن معروف:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد. فإن الحال التي نزدوج عليها، ونستبصر فيها، ونتقاسم حقيقتها وخالصتها، ونتذاوق حلاوتها ومرارتها، ونتهادى خلقها وجديدها تحدثني بأن العتب على تقصير يكون من أحدنا قدح في عينها، ونحت لجانبها، وخدش لوجهها، فإن كان هذا صحيحاً فالعتب محظور، وصاحب التقصير معذور، وإن كان فيه لو، أو لا، أو لعل، أو نعم فأحدنا عليه مستزاد وملوم، وأنا أعوذ بالله من أن يرد على أحدنا من صاحبه مالا يطيق، أو يعدل بصاحبه من السعة إلى الضيق، وقد نمي إلي نبيذ مما دار بينك - أطال الله بقاءك - وبين مولانا المطيع - أدام الله أيامه - في حديث كنت مخصوصاً به من أمر البصرة، وما أفضى إليه إصعادي عنها على الوجه المشهور عند الصديق الجافي على العدو، فسبح ظني في واد من الظنة إن كان الله قد برأك منها فقد ابتلاني بها، وإن كنت غنياً عنها فأنا فقير إليها، وقد جد بي الفكر في تعرف ذلك منك، فلسانك أنطق بالصدق من لسان العابد الزاهد، وعقلك أعلى وأشرف من أن تتخذني غير شاكر ولا حامد، وبالله الذي لا إله إلا هو، ما يقوم لي شعث ما بيني وبينك في المنام بحيازتي جميع الأماني في اليقظة، فإن رأيت أن تجعل لي إلى لقائك طريقاً، إما بالزيارة المشرفة، وإما بالاستزارة المستشرفة فعلت إن شاء الله.
فأجابه أبو محمد:
؟بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد: فإن الحال التي أشرت إليها ببيانك الناصع، من أدبك البارع، فهي والله محوطة بالنفس والروح، مذبوب عنها بالخاطر، عند اللمحة والسنوح، وتالله أعوذ كما عدت من ريب تتوجه نحوها، أو شوب يدب إليها، وكيف ذاك والشفقة عليها مرفرفة، والرأفة بها موكلة، ويد الثقة بعينها وشهادتها حاضنة، والنفس إلى كل ما يرد منها أو يصدر إليها ساكنة، فهذا باب ينبو عن الكلام فيه لمغالطة مخوفة تجري عليه، فأما الحديث الذي نمى إليك نبيذ منه مما دار بيني وبين مولانا - حرس الله مكانه - ونصر سلطانه، فليس فيه إلا ما يجذب بصنعك إلى العلياء، ويقر عينك بين الأولياء، ويطيل باعك على الأعداء، ويجعلك واحد الدنيا بين الأرض والسماء، فثق بما قلت، واسكن إلى ما كتبت، فإن الخير متيقن، والسعادة مظلة، والولي مرفوع، والعدو موضوع، والله على جميع ذلك مشكور محمود، ولولا أن القلم لا يطيق صريح ما همك، لحملته كيف ما كان إليك، واللقاء صبحة يوم الاثنين عندك على الروشن الميمون: فإن رأيت أن تصرف عن بالك، كل شاغل عن ذلك، وتملأه بكل سار بذلك فعلت، مهدياً به إلي روحاً أتعجله، وسروراً أنتظره، إن شاء الله.
وكتب ابن عبيد الكاتب إلى ابن الجمل الكاتب كاتب نصر الدولة شاشنيكير:
بسم الله الرحمن الرحيم
الصداقة - أطال الله مدتك - التي قد وكدها الله بيننا بالدين أولاً، ثم بالجوار ثانياً، ثم بالصناعة ثالثاً، ثم بالممالحة رابعاً، ثم بالمنشأ خامساً، ثم بالمعاقرة سادساً، ثم بالتجربة سابعاً، ثم بالإلف ثامناً، ثم بالميلاد تاسعاً، ثم بانتظام هذه كلها عاشراً تتقاضاني لك حقوقاً، أنت عن التقصير فيها أغنى، وأنا بالإعفاء عنها أملى، وإذا كنا على هذا السياج دارجين، وفي هذه الحومة داخلين، وعنها خارجين، فليس لحاسد إلينا سبيل، ولا لمتكلف علينا دليل، والله إنك لتذكر، وأجد لذكرك عبقاً يزيد على عبق العنبر، وتوصف فأرى لوصفك مالا يراه أحد من البشر لأحد من البشر، وربما حلمت بك في الرؤيا، فيكون في ذلك قوتي طول يومي، ومن كان هذا نعته من أجلك، فكيف ينمق بالقلم شوقه إليك، وكيف يذكر ما يختصه لك، وكيف يجهز ما يشتمل عليه من خالصته ومحبته إليك قد يقصر اللفظ للطف المعنى، كما يطول المعنى لقصر اللفظ، والإخاء إذا قدم استحصدت مرائره، واستوسقت سرائره، وعند ذلك يكون الوصف باللسان تكلفاً، والتكلف للوصف تأففاً، وقد حضر لعبدك ولدي ختان أنت أولي الناس فيه بالقيام والقعود، بين الناي والعود، فإن رأيت أن تبدر إلى ذلك غداة غد، مكافحاً للشمس عند الطلوع، غير عائج إلى غيره فعلت إن شاء الله.
فأجابه ابن الجمل:
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أوتيت - مد الله في عمرك - لساناً، وبياناً، وقلماً، وخطاً، فمن رام شأوك انقعص، ومن توهم اللحاق بك نكص، فلله درك من ساحر بلفظه، وخالب بقلمه، ومؤيد بعقله، ومسعود بفضله، ومقدم بفرعه وأصله، ومشهور بإنصافه وعدله، ذكرت الصداقة التي وكدها الله بيننا بالأسباب التي أحصيتها، والوجوه التي سردتها، ولو لم يكن الحال على ما وصفت لكان الذي أوجبه لك على نفسي من الطاعة إذا دعوتني، والائتمار إذا أمرتني، والتشرف إذا ناجيتني، والانتساب إليك إذا قبلتني، والاعتماد عليك إذا أذنت لي فوق مودات أهل الزمان، بدرجات عاليات، وقامات مديدات، وباقيات صالحات، فكيف ونحن نجتمع في نصاب، ونجتلي في نقاب، ليس لنا في إخلاص المودة شريك، ولا يتقدمنا فيها ضريب، وما أسأل الله بعد هذا كله إلا دوامها، وصرف العيون عنها، ومد الإمتاع بها، وسكون النفس والروح إليها. فأما ما أومأت إليه من البدار إلى خدمة ولدك سيدي - نماه الله - فإني غير ملتفت إلى فرض ونفل دونه والسلام.
وقال جعفر بن يحيى لبعض ندمائه: كم لك من صديق؟ قال: صديقان قال: إنك لمثر من الأصدقاء.
وقال سهل بن هارون: الصديق لا يحاسب، والعدو لا يحتسب له.
قيل لأبي العيناء: هل ظفرت بصديق موال؟ قال: ولا بعدو مرائي.
ولما احتاج زياد إلى الحقنة وصفت له فتفحشها فقيل له: إنما يتولاها الطبيب، قال: إن كان لابد منها فالصديق.
قيل للجنيد: ابن عطاء يدعي صداقتك فهل هو كما يقول؟ قال: هو فوق ما يقول، وأجد ذلك له من قلبي بشواهد لا تكذبني عنه، ولا تكذبه عني.

قيل لأبي علي النصير: لم لا تتخذ الأصدقاء؟ قال: حتى أفرغ من الأعداء، فو الله لقد شغلوني بأنفسهم عن كل صديق يعينني عليهم، وإحالة العدو عن العداوة أولى من استدعاء الصداقة من الصديق.
قيل لرويم: ما الذي أقعدك عن طلب الصديق؟ قال: يأسي من وجدانه.
قيل لأعرابي: ألك صديق؟ قال: أما صديق فلا، ولكن نصف صديق، قيل: فكيف انتفاعك به؟ قال: انتفاع العريان بالثوب البالي.
قيل لصوفي: صف لنا الصديق؟ قال: هو الذي إذا عرض لك بالمكروه، صرحت أنت له بالمحبوب، وإذا صرح لك بالمحبوب ساعدته عليه.
قلت للأندلسي: مم أخذ لفظ الصديق؟ قال أخذ بنظر من الصدق، وهو خلاف الكذب. ومرة قال من الصدق، لأنه يقال: رمح صدق أي صلب، وعلى الوجهين، الصديق يصدق إذا قال، ويكون صدقاً إذا عمل، قال: وصدقة المرأة وصداقها وصدقتها كله منتزع من الصدق والصدق، وكذلك الصادق، والصديق، والصدوق والصدقة، والمتصدق والمصدق، كل هذا متواخ.
سمعت القاضي أبا حامد يقول: قلت للمنصوري: ما أشغفك بابن عبدك مع تشاكس ما بينكما في البلد والمذهب فقال: ذاك لأني وجدته كما قال الشاعر:
موفق لسبيل الرشد متبع ... يزينه كل ما يأتي ويجتنب
تسمو العيون إليه كلما انفرجت ... للناس عن وجهه الأبواب والحجب
له خلائق بيض لا يغيرها ... صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب
وحدثنا حمد بن محمد كاتب ركن الدولة قال: دب بيني وبين أبي الفضل يعني ابن العميد بعض المفسدين فكتب إلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إن تسفيق الكلام بيني وبينك موضوع، لأنك عن ذلك مرفوع، وقد رضيت أن تستأني فيما تسمع، فإذا صح به ذنب عاقبت بقدره، أباد أم أبقى، توسط أم تطرف، ولا أقول إلا ما قال الأول:
أطعت الوشاة الكاشحين ومن يطع ... مقالة واش يقرع السن من ندم
أتاني عدو كنت أحسب أنه ... علينا شفيق ناصح كالذي زعم
فلما تباثثنا الحديث وصرحت ... سرائره عن بعض ما كان قد كتم
تبين لي أن المحرش كاذب ... فعندي لك العتبي على رغم من زعم
قيل لصوفي: من الصديق؟ قال: من لم يجدك سواه، ولم يفقدك من هواه.
وقيل للشبلي: من الرفيق؟ قال: من أنت غاية شغله، وأوكد فرضه ونفله. قيل له: فمن الشفيق؟ قال: من إن دهمتك محنة قذيت عينه لك، وإن شملتك منحة قرت عينه بك. قيل له: من الوافي؟ قال: من يحكي بلفظه كمالك، ويرعى بلحظه جمالك. قيل له: فمن الصاحب؟ قال: من إن غاب تشوفت إليه الأحباب، وإن حضر تلقحت به الألباب. قيل: فمن النديم؟ قال: من إن نأى ذكر عند الكاس، وإن دنا ملك بالاستئناس.
كتب محمد بن عبد الملك بن محمد الزيات إلى إبراهيم بن العباس الصولي أيام مقامه بالأهواز كتاباً يقول فيه: قلة نظرك لنفسك حرمتك سنا المنزلة، وإغفالك حظك حطك عن أعلى الدرجة، وجهلك بقدر النعمة أحل بك اليأس والنقمة حتى صرت من قوة الأمل معتاضاً شدة الوجل، ومن رجاء الغد متعوضاً يأس الأبد، وركبت مطية المخافة بعد مجلس الأمن والكرامة، وصرت معرضاً للرحمة بعد ما تكنفتك الغبطة، وقد قال الشاعر:
إذا ما بدأت امرءاً جاهلاً ... ببر فقصر عن حمله
ولم تره قابلاً للجمي ... ل ولا عرف الفضل من أهله
فسمه الهوان فإن الهوا ... ن دواء لذي الجهل من جهله
قد فهمت كتابك، وإغراقك وإطنابك، وإضافة ما أضفت بتزويق الكتب بالأقلام، وفي كفاية الله غنى عنك يا إبراهيم، وهوض منك، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فكتب إليه إبراهيم يستعطفه:
أخ كنت آوي منه عند إدكاره ... إلى ظل أفنان من العز باذخ
سعت نوب الأيام بيني وبينه ... فأقلعن منا عن ظلوم وصارخ
وإني وإعدادي لدهري محمداً ... كملتمس إطفاء نار بنافخ
فما نجع فكتب:
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حرباً عوانا
وكنت أذم إليك الزمان ... فأصبحت منك أذم الزمانا
وكنت أعدك للنائبا ... ت فها أنا أطلب منك الأمانا
فلم يثن ذلك محمداً فكتب إليه كتاباً غليظاً وكتب في آخره:

أبا جعفر خف نبوة بعد دولة ... وعرج قليلاً عن مدى غلوائكا
فإن يك هذا اليوم يوماً حويته ... فإن رجائي في غد كرجائكا
فما مرت الأيام حتى كان من أمر محمد ما كان، وولي إبراهيم ديوان الرسائل فأمر أن ينشأ فيه رسالة بقلة طاعته ففعل.
كان بين أبي الخطاب الصابي وبين أبي كعب الداهية التي لا ترام بعد صداقة كانت زائدة على شبكة الرحم، ولحمة النسب، فقيل له - أعني أبا الخطاب - كيف أنت مع ابن كعب فأنشد:
خليلان مختلف شأننا ... أريد العلاء ويبغي السمن
وكان ابن الجلاء الزاهد بمكة يقول لأصحابه: اطلبوا خلة الناس في هذه الدنيا بالتقوى تنفعكم في الدار الأخرى، ألم تسمعوا الله تعالى يقول: " الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " .
وقال الحراني في تصنيف الناس: منهم من هو كالغذاء الذي يمسك رمقك ولابد لك منه على كل حال، لأنه قوام حياتك، وزينة دهرك، ومنهم من هو كالدواء يحتاج إليه في الحين بعد الحين على مقدار محدود، ومنهم من هو كالسهم الذي لا ينبغي أن تقربه فإنه سبب هلكتك.
قيل لأعرابي: كيف أنسك بالصديق؟ قال: وأين الصديق، بل أين الشبيه به، بل أين الشبيه بالشبيه به؟ والله ما يوقد نار الضغائن والذحول في الحي إلا الذين يدعون الصداقة، وينتحلون النصيحة، وهم أعداء في مسوك الأصدقاء وما أحسن ما قال حضريكم:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق
وقال آخر:
إذا نوبة نابت صديقك فاغتنم ... مرمتها فالدهر بالناس قلب
وبادر بمعروف إذا كنت قادراً ... وحاذر زوالاً من غنى عنك يعقب
فأحسن ثوبيك الذي هو لابس ... وأفره مهريك الذي هو يركب
أيضاً:
اجعل صديقك من إذا أحببته ... حفظ الإخاء وكان دونك يضرب
واطلبهم طلب المريض شفاءه ... ودع اللئيم فليس ممن يصحب
يعطيك ما فوق المنى بلسانه ... ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
واحذر ذوي الملق اللئام فإنهم ... في النائبات عليك ممن يخطب
فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... والنصح أفضل ما يباح ويوهب
آخر:
خير إخوانك المشارك في الض ... ر وأين الشريك في الضر أينا؟
لا يني جاهداً يحوطك في الحض ... ر فإن غبت كان أذناً وعينا
أنت في معشر إذا غبت عنهم ... بدلوا كل ما يزينك شينا
وإذا ما رأوك قالوا جميعاً: ... أنت من أكرم البرايا علينا
وقلت لأبي المتيم الصوفي الرقي: كيف حالك مع فلان؟ قال: نتداوى بالرياء إلى أن يفرج الله، قلت: هلا تخالصتما عن الرياء والنفاق؟ فقال: والله إن خوفي من أن يصير الرياء والنفاق مكاشفة، والمكاشفة مفارقة، أشد من خوفي من الرياء. والعجب أن المؤونة علينا في الصبر على هذه الحال أغلظ من المؤون لو تصافينا، إلا أن التصافي لا يكون مني وحدي، ولا منه وحده، ولعله يتمنى ذلك مني، كما أتمنى ذلك منه، ولكن لا يطابق ذلك مطابقة لحيلولة الزمان، والفساد العام، وغلبة ما لا سبيل إلى تغييره، طلعت الأرض بأهلها، والحاجة ماسة إلى كلمة طرية، ودعوة فاشية، وأمر جامع، حتى تأتلف القلوب، وتنتفي العيوب، وهذا إلى الله الذي خلق الخلق، ودبر الشأن، وتفرد بالغيب، وتعزز بالقدرة، وكما أن في السنة الواحدة للزمان أحوالاً في الحر المفرط، والحر المتوسط، والبرد المتوسط، كذلك للدهر المديد أحوال في الخير العام، والشر العام، والخير الخاص، والشر الخاص، والعاقل من لا يتمنى مالا يوجد، ولكن يصبر على ما يجد إن حلواً فحلواً، وإن مراً فمراً، إلى أن يأذن الله بالفرج من حيث لا يحتسب.
قال معمر صاحب عبد الرزاق: ما بقي من لذات الدنيا إلا محادثة الإخوان، وأكل القديد، وحك الجرب، والوقيعة في الثقلاء.
قال الشاعر:
وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال ذوي العقول
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً ... فقد صاروا أقل من القليل
قال الأحنف: لا خير في صديق لا وفاء له، ولا خير في منظر لا مخبر له، ولا خير في فقه لا ورع معه.

قال العتبي: قال أعرابي: إذا استخار العبد ربه، واستشار صديقه، واجتهد رأيه فقد قضى ما عليه لنفسه، ويقضي الله في أمره ما أحب.
توفي ابن ليونس بن عبيد فقيل له: إن ابن عون لم يأتك. فقال: إنا إذا وثقنا بمودة أخ لا يضرنا أن لا يأتينا.
وحدثني العروضي قال: لما دعا السلطان علي بن عيسى من مكة تلقاه قوم من بغداد إلى زبالة وإلى ما فوقها ودونها، فلما قرت به الدار بمدينة السلام أتاه قوم لم يجشموا لقيه، فقال: كم من إنسان قعد لم يرم مجلسه حتى وافيناه فكان ألوط بقلوبنا، وأسكن في أسرارنا من قوم جشموا المسير إلى زبالة، إلا أن المودة هي الأصل، والصداقة هي الركن، والثقة هي الأساس، وما عدا ذلك فمحمول عليه، ومردود إليه.
قال يحيى بن أكثم: كنت أرى شيخاً يدخل على المأمون في السنة مرة، وكان يخلو به خلوة طويلة ثم ينصرف فلا نسمع له خبراً، ولا نرى له أثراً، لا نقدم على المسألة عنه فلما كان بعد قال لنا المأمون: واأسفاً على فقد صديق مسكون إليه، موثوق به، يلقى إليه العجر والبجر، ويقتبس منه الفوائد والغرر، قلنا وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: أما كنت ترى شيخاً يأتينا في الفرط، ونخلو به من دون الناس؟ قلت: بلى، قال: فإنه قد تأخر عن إبانه، وأظن أنه قد قضى، قلت: الله يمد في عمر أمير المؤمنين، وما في ذلك؟ قال: كان صديقي بخراسان، وكنت أستريح إليه استراحة المكروب، وأجد به ما يوجد بالولد السار المحبوب ولقد كنت أستمد منه رأياً أقوم به أود المملكة، وأصل به إلى رضاء الله في سياسة الرعية، وآخر ما قال لي عند وداعه أن قال: يا أمير المؤمنين إذا استقش ما بينك وبين الله تعالى فابلله، قلت: بماذا يا صاحب الخير؟ قال: بالاقتداء به في الإحسان إلى عباده، فإنه يحب الإحسان إلى عباده، كما تحب الإحسان إلى ولدك من حاشيتك، والله ما أعطاك الله القدرة عليهم إلا لتصر على إحسانك إليهم بالشكر على حسناتهم، والتغمد لسيئاتهم، وأي شيء أوجه لك عند ربك من أن تكون أيامك أيام عدل وإنصاف، وإحسان، وإسعاف، ورأفة، ورحمة، ومن لي يا يحيى بمثل هذا القائل، وأنى لي بمن يذكرني بما أنا إليه صائر.
لما وقع الاختلاف بالمدينة خرج عروة بن الزبير إلى العقيق، واعتزل الناس، فعاتبه إخوانه فقال: رأيت ألسنتهم لاغية، وأسماعهم صاغية، وقلوبهم لاهية، فخفت أن تلحقني منهم الداهية، وكان لي فيما هنالك عنهم عافية.
قال سويد الصامت:
ألا رب من تدعو صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشهد ما كان شاهداً ... وبالغيب صاب مستفيض من الثغر
يسرك باديه وتحت أديمه ... نمية غش تلوها دبر الظهر
تحدثني العينان ما القلب كاتم ... ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر
فرشني بخير طالما قد اردته ... فخير الموالي من يريش ولا يبري
قال يحيى بن معاذ: بئس الصديق صديق تحتاج معه إلى المداراة، وبئس الصديق صديق تحتاج أن تقول له: أذكرني في دعائك، وبئس الصديق صديق يلجئك إلى الاعتذار.
قال الأعمش: أدركت أقواماً كان الرجل منهم لا يلقى أخاه شهراً وشهرين فإذا لقيه لم يزده على كيف أنت، وكيف الحال، ولو سأله شطر ماله لأعطاه، ثم أدركت أقواماً لو كان أحدهم لا يلقى أخاه يوماً سأله عن الدجاجة في البيت، ولو سأله حبة من ماله لمنعه.
كأن معالم الخيرات س ... دت دونها الطرق
وخان الناس كلهم ... فما أدري بمن أثق
فلا عقل ولا حسب ... ولا دين ولا خلق
لقي رجل صاحباً له فقال له: إني أحبك، فقال: كذبت، لو كنت صادقاً ما كان لفرسك برقع وليس لي عباءة.
وقيل لأبي العريب المصري: إذا كان الرجل يحب صاحبه، ويمنعه ماله، أيكون صادقاً؟ قال: يكون صادقاً في حبه، مقصراً في حقه.
قال مالك بن دينار: إخوة هذا الزمان مثل مرقة الطباخ في السوق طيب الريح لا طعم له.
قال الأحنف: خير الإخوان من إذا استغنيت لم يزدك في المودة، وإذا احتجت إليه لم ينقصك.

قال أبو يعقوب: دخلنا على أبي المطيع القرباني نسأله الحديث فقدم إلينا طعاماً فأمسكنا عنه فقال: يا هؤلاء كانت المواساة بين الإخوان قبلنا بالضياع، والرباع، والبراذين، والمماليك، والدور والبدور، فصارت اليوم إلى هذا وهو مروؤتنا، فإن أمسكتم عن هذا أيضاً ذهب هذا القدر، وماتت سنة السلف فلا تفعلوا، فأقبلنا عليه وأكلنا.
قال بلال بن سعد: أخ لك كلما لقيك ذكرك برؤيته ربك، خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً.
قال يحيى بن معاذ: واشوقاه إلى حبيب إذا غضب عفا، وإذا رضي كفى.
قلت لأبي سليمان: هل يلاث ما بين الصديقين، وهل يفضيان إلى هجر، وهل يفزعان إلى عتب؟ فقال: أما ما دامت الصداقة قاصرة عن درجتها القاصية، فقد يعرض هذا كله بينهما، لكنهما يرجعان فيه إلى أس المودة، وإلى شرائط المروءة، وإلى مالا يهتك سجف الفتوة، وأما الهجر فإن حدث حدث جميلاً، ولا مستمر لحوافز الشوق إلى المعهود، ومحركات النفس إلى التلاقي، وأما العتب فربما أصلح ورد الفائت، وشعب الصدع، ولم الشعث، والإكثار منه ربما عرض بالحقد، وأحدث نوعاً من النبو، وقد قيل: وما صافيت من لا تعاتبه، وربما كان العود إلى الصفاء بعد هذا الكدر فوق ما عهداه في الأول. وقال الأول:
أناس أمناهم فنموا حديثنا ... فلما كتمنا السر عنهم تقولوا
ولم يحفظوا الود الذي كان بيننا ... ولا حين هموا بالقطيعة أجملوا
قلت فما الفرق بين الصداقة والعلاقة؟ فقال: الصداقة أذهب في مسالك العقل، وأدخل في باب المروءة، وأبعد من نوازي الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وأرمى إلى حدود الرشاد، وآخذ بأهداب السداد، وأبعد من عوارض الغرارة والحداثة.
فأما العلاقة فهي من قبل العشق، والمحبة، والكلف، والشغف، والتتيم، والتهيم، والهوى، والصبابة، والتدانف، والتشاجي. وهذه كلها أمراض أو كالأمراض بشركة النفس الضعيفة، والطبيعة القوية، وليس للعقل فيها ظل، ولا شخص، ولهذا تسرع هذه الأعراض إلى الشباب من الذكران والإناث، وتنال منهم، وتملكهم، وتحول بينهم وبين أنوار العقول، وآداء النفوس، وفضائل الأخرق، وفوائد التجارب، ولهذا وأشباهه يحتاجون إلى الزواجر، والمواعظ، ليفيئوا إلى ما فقدوه من اعتدال المزاج، والطريق الوسط. على أن العشق والمحبة وما يحويهما فيهما كلام من نحو آخر. وأنشد أبو عبيدة:
إن كنت لا تصحب إلا فتى ... مثلك لم تقرن بأمثالكا
فأغض عينيك على ما ترى ... فالمسك قد يستصحب الرامكا
يقال: رامك ورامك، سمعته من الحسن بن عبد الله الإمام السيرافي.
عتب ابن ثوابة أبو العباس على سعيد بن حميد في شيء فكتب إليه سعيد:
أقلل عتابك فالزمان قليل ... والدهر يعدل مرة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه حين يزول
والمنتمون إلى الإخاء جماعة ... إن حصلوا أفناهم التحصيل
ولكل نائبة ألمت مدة ... ولكل حال أقبلت تحويل
فلئن سبقت لتبكين بحسرة ... وليكثرن علي منك عويل
ولتفجعن بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقت، ولا سبقت، ليمضين ... من لا يشاكله لدي عديل
وليذهبن جمال كل مروءة ... وليقفرن فناؤها المأهول
ولذاك نكلف بالعتاب وودنا ... باق عليه من الوفاء دليل
ود بدا لذوي الإخاء صفاؤه ... وبدت عليه بهجة وقبول
ولعل أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول؟
آخر:
إذا ما أتت من صاحب لك زلة ... فكن أنت محتالا لزلته عذرا
آخر:
البس أخاك على تصنعه ... فلرب مفتضح على النص
ما كدت أفحص عن أخي ثقة ... إلا ذممت عواقب الفحص
آخر:
احذر مودة ماذق ... مزج المرارة بالحلاوه
يحصي الذنوب عليك ... أيام الصداقة للعداوه
سعيد بن حميد:
لقد ساءني أن ليس لي عنك مذهب ... ولا لك في حسن الضيعة مرغب

أفكر في ود تقادم بيننا ... وفي دونه قربى لمن يتقرب
وأنت سقيم الود رث حباله ... وخير من الود السقيم التجنب
تسيىء وتأبى أن تعقب بعده ... بحسنى وتلقاني كأني مذنب
واحذر إن جازيت بالسوء والقلى ... مقالة قوم، ودهم عنك أجنب
أساء اختياراً أو عرته ملالة ... فعاد يسيء الظن أو يتعقب
فخبت من الود الذي كنت أرتجي ... كما خاب راجي البرق، والبرق خلب
وقال أعرابي: كثرة العتاب إلحاف، وتركه استخفاف.
وحدثنا ابو السائب عتبة بن عبيد الله القاضي قال: كتب إلي أبو الشهم الحرمي أيام الشبيبة في خلافة المعتمد، والزمان موآت، والعيش رفيق، والأمل قوي، وطائر السعد مرنق، وغدير الأنس مغدودق: ما أحوجك أيها الفتى المقتبل، والصاحب المؤمل، إلى أخ كريم الأخوة، كامل المروة، إذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنفك، وإن لقي صديقك استزاده لك من المودة، وإن لقي عدوك كف عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثثته استرحت. قال: فأجبته، هون عليك فليس هذا بأول متمنى فائت والسلام.
أخبرني المرزباني، حدثنا الصولي، حدثنا المبرد، حدثنا أبو عمر قال الأصمعي: دخلت على الخليل وهو جالس على حصير صغير فقال: تعال واجلس، فقلت: أضيق عليك، فقال: مه فإن الدنيا بأسرها لا تسع متباغضين، وإن شبراً في شبر يسع متحابين!.
قال بعض السلف: ضربة الناصح خير لك من تحية الشانىء، ولا فضل للمرائي بالود على مظهر الشنآن.
قال أبو جعفر الشاشي: قد أصاب في الكلمة الأولى، فأما في الكلمة الثانية فهو مقصر، لأن المرائي له ظاهر يحمد وإن كان له باطن يذم، وليس كذلك الشنآن، فإنه ليس له باطن يحمد، ولا ظاهر يقبل، فقد بان فضل المرائي بالود على صاحبه. والمرائي قد يبلغ لك كثيراً من محابك، والرياء ستر سابغ، وليس بينه وبين الإخلاص إلا عقدنية، وضمير نفس، وصدق غيب، وصلاح سر.
وسمعت ابن شاهين يروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: استعيذوا بالله من شرار الناس، وكونوا من خيارهم على حذر.
شاعر:
ثلاثة أصفيتهم إخائي ... كأنهم كواكب الجوزاء
عطارديون يرون رأيي ... كأنما أهواؤهم أهوائي
آخر:
خلان لي أمرهما عجيب ... كل لكل منهما حبيب
ما لي في نجواهما نصيب ... كأنني بينهما رقيب
وقال الأول:
قد ألبس المرء فيه العيب أعرفه ... ولا أحب إخاء الكاذب الملق
حيناً وأطويه أستبقي ملولته ... طي الرداء على أثنائه الخرق
آخر:
لحى الله من لا ينفع الود عنده ... ومن حبله إن مد غير متين
ومن هو إن تحدث له العين نظرة ... تقضت بها أسباب كل قرين
ومن هو ذو لونين ليس بدائم ... على خلق، خوان كل أمين
آخر:
عاشر الناس بالجميل ... وسدد وقارب
واحترس من أذى الكرام وج ... د بالمواهب
لا يسود الجميع من ... لم يقم بالنوائب
ويحوط الأدنى وير ... عى ذمام الأقارب
فهم ذو فطانة ... عالم ذو تجارب
لا تواصل إلا ال ... شريف الكريم الضرائب
واجتنب وصل كل و ... غد دنىء المكاسب
نيرب لا يزال يو ... قد نار الحباحب
لا تبع عرضك المص ... ون بعرض المكالب
أنا للشر كاره ... وله غير هائب
آخر:
بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
يبيحك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
والذين ضجوا من إخوانهم الذين وثقوا بهم فخانوهم، وبكوا بالدموع الغزيرة على ما فاتهم منهم، وساءت ظنونهم بغيرهم، فكثير بثير لا يحصيهم إلا الله تعالى. هذا فرار بن سيار روى له ابن الأعرابي قوله:
جزى الله عني مرة اليوم ما جزى ... شرار الموالي حيث يجزي المواليا

إذا ما رأى من عن يميني أكلباً ... عوين عوى مستجلباً عن شماليا
ويسألني أن كيف حالي بعده ... على كل شيء ساءه الدهر حاليا
فحالي أني قد حللت ببلدة ... أصبت بها داراً لأهلي وماليا
وحالي أني سوف أهدي له الخنا ... وأمشي له المشي الذي قد مشى ليا
وهذا الأسود بن يعفر يقول:
إن امرءاً مولاه أدنى داره ... فيما ألم وشره لك باد
إن قلت خيراً قال شراً غيره ... أو قلت شراً مده بمداد
فلئن أقمت لأظعنن لبلدة ... ولئن ظعنت لأرسين أوتادي
كان التفرق بيننا عن ميزة ... فاذهب إليك فقد شفيت فؤادي
آخر:
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا ... شراً أذاعوا، وإن لم يعلموا كذبوا
آخر:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... مني، وما سمعوا من صالح دفنوا
فهذا باب طويل لا طمع في بلوغ آخره.
وقال آخر:
ما ودني أحد إلا بذلت له ... صفو المودة مني آخر الأبد
ولا قلاني، وإن كنت المحب له ... إلا دعوت له الرحمن بالرشد
ولا ائتمنت على سر فبحت به ... ولا مددت إلى غير الجميل يدي
ولا أقول نعم يوماً فأتبعها ... منعاً ولو ذهبت بالمال والولد
ولا أخون خليلي في حليلته ... حتى أغيب في الأكفان واللحد
آخر:
لله في الأرض أجناد مجندة ... أرواحها بيننا بالصدق تعترف
فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف
وقال إبراهيم بن العباس الصولي الكاتب:
من يشتري مني إخاء محمد ... بل من يريد إخاءه مجانا
بل من يخلص من إخاء محمد ... وله رضاه كائناً من كانا؟
آخر:
قل لمن شط المزار به ... ليت شعري عنك ما خبرك
أعلى حفظ لحرمتنا ... أم عفا من ودنا أثرك
وكتب الحراني إلى صديق له:
؟بسم الله الرحمن الرحيم
إن كان ذهولك عن الدنيا اخضلت، وهطل عليك سماؤها، وأربت بك ديمها، فإن أكثر ما يجري في الظن بك، بل في اليقين منك، أملك ما يكون لغنانا أن يجمع بك، ولنفسك أن تستعلي عليك، إذا لانت لك أكنافها، وانقاد في كفك زمامها، لأنك لم تنل ما نلته خطفاً وخلساً، ولا عن مقدار أزحف إليك غير حقك، ومال إليك سوى نصيبك، فإن ذهبت إلى أن حقك قد يحتمل في قوته وسعته أن يضاف إليه الجفوة والنبوة، فيتضاءل في جنبه ويصغر عن كبيره، فغير مدفوع عن ذلك، وايم الله لولا ما منيت به النفس من الضن بك، وأن مكانك منها لا يسده غيرك لتنحيت عنك، وذهلت عن إقبالك وإدبارك، ولكان في جفائك ما يكسر من غربها، ويبرد من غليلها، ولكنه كما تكاملت النعمة لك، تكاملت الرغبة فيك.
بشار:
ربما يثقل الجليس وإن كا ... ن خفيفاً في كفة الميزان
سمعت أحمد بن محمد الكاتب يحكي: قال العتابي: لا أحب رجلاً نقل إلي ما كرهت عن صديقي فغيرني له، ولا عن عدو فحملني على طلب الانتصار منه، ومع ذلك فلم يستحي بأن واجهني بما ساءني سماعه. أما قوله :
قد كنت أبكي على ما فات من سلفي ... وأهل ودي جميعاً غير أشتات
فاليوم إذ فرقت بيني وبينهم ... نوى: بكيت على أهل المودات

فليس ما نحن فيه بسبيل، لأن الكلام في الصداقة على كرم العهد، وبذل المال، وتقديم الوفاء، وحفظ الذمام، وإخلاص المودة، ورعاية الغيب، وتوقر الشهادة، ورفض الموجدة، وكظم الغيظ، واستعمال الحلم، ومجانبة الخلاف، واحتمال الكل، وبذل المعونة، وحمل المؤونة، وطلاقة الوجه، ولطف اللسان، وحسن الاستنابة والثبات على الثقة، والصبر على الضراء، والمشاركة في البأساء، والعلاقة، وإن كانت تستعير من هذه الأبواب شيئاً فليس ذلك لأنه من عتادها وأساسها، ولا ما لا يتم إلا به، ولكن من أجل التحسن والتزين، وهذا الذي قاله هذا الشيخ كلام قصد، قريب، سليم، مقبول، ولسنا نتعقبه بنقص، ولا نقدح فيه باعتراض، لأن العاشق والمعشوق ليسا من الصديق والصديق، وإن كانوا يتشابهون ببعض الأخلاق، ويتلاقون في بعض الأحوال، فليكن هذا الرسم كافياً محفوظاً، فإن المغالطة قد تقع في هذا كثيراً، والإنصاف يقوم عليه دائماً.
قال القرباني محمد بن يوسف: قلت للثوري: إني أريد الشام فأوصني قال: إن قدرت أن تنكر كل من تعرف فافعل، وإن استطعت أن تستفيد مائة أخ، حتى إذا خلصوا لك تسقط منهم تسعة وتسعين، وتكون في الواحد شاكاً فافعل.
قد شدد هذا الشيخ كما ترى، ولست أرى هذا المذهب محيطاً بالحق، ولا معلقاً بالصواب، ولا داخلاً في الإنصاف، فإن الإنسان لا يمكنه أن يعيش وحده، ولا يستوي له أن يأوي إلى المقابر، ولابد له من أسباب بها يحيى، وبأعمالها يعيش، فبالضرورة ما يلزمه أن يعاشر الناس، ثم بالضرورة ما يصير له بهذه المعايشة، بعضهم صديقاً، وبعضهم عدواً، وبعضهم منافقاً، وبعضهم نافعاً، وبعضهم ضاراً، ثم بالضرورة يجب عليه أن يقابل كل واحد منهم بما يكون له مرد من دين، أو عقل، أو فتوة، أو نجدة، ويستفيد هو من ذلك كله ما يكون خاصاً به، وعائداً بحسن العقبي عليه، إما في العاجل، وإما في الآجل، ولعزة الحال في وجدان الصديق، وتعذر السلامة على القريب والبعيد، قال القائل:
كن لثغر البيت حلسا ... وارض بالوحدة أنسا
واغرس الناس بأرض ال ... زهد ما عمرت غرسا
وليكن يأسك دو ... ن الطمع الكاذب ترسا
لست بالواحد حراً ... أو ترد اليوم أمسا
ما وجدنا أحداً س ... اوى على الخبرة فلسا
قال علي بن عبيدة: إنه لا دواء لمن لا حياء له، ولا حياء لمن لا وفاء له، ولا وفاء لمن لا إخاء له، ولا إخاء لمن يريد أن يجمع هوى أخلائه له حتى يحبوا ما أحبل، ويكرهوا ما كره، وحتى لا يرى منهم زللاً ولا خللاً.
بعث النضر بن الحارث إلى صديق له بعبادان نعلين مخصوفتين وكتب إليه: إني بعثت بهما إليك، وأنا أعلم أنك عنهما غني، لكني أحببت أن تعلم أنك مني على بال والسلام.
فأجابه: ما أنا بغني عن برك الذي يحثني على شكرك، ويخرطني في سلكك، ويزيدني بصيرة بزيادة الله عندك ومحبتك لأن أعلم أني منك على بال لأن يقيني بذلك راسخ، وحمدي عليه غاد ورائح، لاعدمتك لي أخاً باراً، ولا عدمتني لك قائلاً ساراً.
وقال الشاعر:
تكثر من الإخوان ما استطعت إنهم ... كنوز إذا ما استنجدوا وظهور
وما بكثير ألف خل وصاحب ... وإن عد منهم واحد لكثير
وقيل: لو تكاشفتم ما تدافنتم.
قال أبو غسان غناة بن كليب: اجتمعت أنا ومحمد بن النضر الحارثي وعبد الله بن المبارك، والفضييل ورجل آخر فصنعت لهم طعاماً فلم يخالف محمد بن النضر علينا في شيء، فقال له ابن المبارك: ما أقل خلافك فأنشد:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ... ذا حياء وعفاف وكرم
قوله للشيء لا إن قلت: لا ... وإذا قلت: نعم قال: نعم
وأنشد أبو حاتم:
لعمري لقد ألفتني الهموم كما يألف الصاحب الصاحبا
فأما السرور فمثل العدو إذا ما رآني نأى جانبا
قيل لعبد الله بن أبي بكرة: أي شيء أمتع؟ قال: ممازحة محب، ومحادثة صديق، وأماني تقطع بها أيامك.
وقال الشاعر:
الناس أشباه السباع فانشمر ... فمنهم الذئب ومنهم النمر
والضبع العثواء والليث المبر
آخر:
أخ لي يعطيني إذا ما سألته ... ولو لم أعرض بالسؤال ابتدانيا
آخر:

ومن نكد الدنيا على الحرأن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد
آخر:
إذا أنت عاتبلت الخليل فلم يكن ... بودك لم يعتبك حين تعاتبه
سمعت ابن كعب يقول: العتاب مذلة، وقل من بدأ به متظاهراً إلا وثاب عنه خاسراً، وربما أورث ما هو أضر مما عتب عليه، ومن نكده أنه يضطر إليه، وله ورد حلو، وصدر مر، ومأخذ سهل، ومترك صعب، على أن المودة كلما كانت أخلص، كانت أعراضها المفسدة أكثر، وقد قال الأول:
وما أنا في عتبي بأول ذي هوى ... رأى بعض مالا يشتهي فتعتبا
ولقد أحسن الآخر في قوله:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أوصل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه
آخر:
وليس بمغن في المودة شافع ... إذا لم يكن بين الضلوع شفيع
آخر:
رأيتك تفرى للصديق نوافذاً ... عدوك من أوصابها الدهر آمن
وتكشف أسرار الأخلاء مازحاً ... ويا رب مزح عاد وهو ضغائن
سأحفظ ما بيني وبينك صائناً ... عهودك، إن الحر للعهد صائن
فألقاك بالبشر الجميل مداهناً ... فلي منك خل، ما علمت، مداهن
أنم بما استودعته من زجاجة ... ترى الشيء فيها ظاهراً وهو باطن
آخر:
عذيري من صديق لا يبالي ... أأعذر في الحوادث أم ألاما
سرت نحوي نوائبه فرادى ... فلم أجفل بها فسرت تؤاما
وأظمأني فلما رمت سقياً ... سقاني غير مكترث سماما
آخر:
لا تطفئن جوى بعتب إنه ... كالريح تغري النار بالإحراق
آخر:
ولا خير في ود امرىء متكاره ... عليك، ولا في صاحب لا توافقه
آخر:
ألا أن خير الود ود تطوعت ... به النفس، لا ود أتى وهو متعب
آخر:
إني إذا ما الخليل أحدث لي ... صرماً ومل الإخاء أو قطعا
لا أحتسي ماءه على رنق ... ولا يراني لبينه جزعا
سمع هذا ابن كعب فقال: ظلم، لم لا أحتسي ماءه على رنق، ولم لا أجزع لبينه، ولم لا أستصلحه، وأتلطف له، ولم أحرج عنه إذا أحدث لي صرماً؟ ولعل صرمه عارض، وملله عن غير عقيدة، وقطعه غلط، كأن الصديق مكسوب بسهولة، وموجود متى طلب، وهيهات! قال المأمون لعبد الله بن طاهر:
أخي أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه
وما أحببت من أمر ... فإني الدهر أهواه
وما تكره من شيء ... فإني لست أرضاه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
وقال آخر:
ومولى كأن الشمس بيني وبينه ... إذا ما التقينا لست ممن أعاتبه
آخر:
أكاشره وأعلم أن كلا ... على ما ساء صاحبه حريص
وقال آخر:
أكرم رفيقك واعلم حين تصحبه ... أن الرفيق أخ ما ضمه السفر
آخر:
الصدق أفضل ما حصرت به ... ولربما نفع الفتى كذبه
ومن البلاء أخ جنايته ... علق بنا، ولغيرنا نشبه
وقال عروة بن الورد:
فدع ما لمت صاحبه عليه ... فشين أن يلومك من تلوم
كتب المعتصم إلى ابن ظاهر عبد الله: إياك أن تريني وجهك، فإني لست آمن نفسي عليك، ولك من قلبي مكان، ما أوثر أن يؤثر فيه ما يحيله عن صورته، ولأن تكون بعيداً وأنا لك، خير من أن تكون قريباً وأنا عليك، ولأن لا تراني وأنا واثق بك، أنفع لك من أن أراك وأنا ظنين فيك، وإذا صدقتك عما حنيت عليه ضلوعي من أمرك، فقد قضيت حقك في كفايتك، واستدمت به صفاء ضميرك، ولة قرأت لي ألف كتاب بالورود، فلا تعمل عليه، ولا يرخصن عندك هذا القول فإن تحته وجداً بك، واستنامة إليك، وابتهاجاً بمكانك، وازدياناً بخبرك وعيانك، واكتم هذه الحروف عن كل عين رائية، ولا تدل على شيء منه مصرحاً، ولا معرضاً، والزم فناء عزك، واستنشق نسيم شوقي إليك، وتطعم حلاوة ثقتي بك، وشم بارقة عتب إذا مع نقع، وإذا أمسك أهلك، وإذا در بر، وإذا أقلع أجزع.

كتب أبو بكر لرجل كتاباً في شيء جعله قطيعة له فحمله الرجل إلى عمر بن الخطاب ليمضيه: فلما نظر عمر فيه بزق عليه ومحاه، فعاد الرجل مستعراً إلى أبي بكر فقال: فعل عمر كذا وكذا، والله ما أدري أأنت الخليفة أو عمر، فقال أبو بكر: هو، إلا أنه أنا! وكان الزهري يرويه: إلا أنه أبلى، وعلى الوجهين المراد صحيح، والمرمى عال، والغاية بعيدة.
قيل لأعرابي: أبا لصديق أنت آنس أم بالعشيق؟ فقال: يا هذا الصديق لكل شيء، للجد والهزل، وللقليل والكثير، ولا عاذل عليه، ولا قادح فيه، وهو روضة العقل، وغدير الروح.
فأما العشيق فإنما هو للعين، وبعض الريبة، والعذل إليه من أجله سريع، وفي الولوع به إفراط مزجور عنه، وحد موقوف دونه، فأين هذا من ذاك؟ نهار بن توسعة:
عتبت على سلم فلما فقدته ... وجربت أقواماً بكيت على سلم
آخر:
ونعتب أحياناً عليه ولو مضى ... لكنا على الباقي من الناس أعتبا
قال أعرابي: تصف عقلك مع أخيك فالقه واستشره.
شاعر:
واحفظ صديق أبيك حين وجدته ... واحب الكرامة من بدا فحباكها
آخر:
قبح الإله عداوة لا تتقي ... وقرابة يدلى بها لا تنفع
آخر:
فتى لا يرزأ الخلان إلا ... مودتهم ويرزأه الخليل
آخر:
وكل إمارة عما قليل ... مغيرة الصديق على الصديق
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن مألفة.
قال أبو سعيد السيرافي: معناه أنه يؤلف ولا يجوز أن يؤلف حتى يألف، فذكر المثال الذي يقع الفعل فيه ومنه.
وقال بعض السلف: خير الناس إلف الناس للناس.
وقال الشاعر:
أقلل زيارتك الصدي ... ق تكن كثوب تستجده
إن الصديق يغمه ... أن لا يزال يراك عنده
وقال أبو هريرة: لقد دارت كلمة العرب: زرغباً تزدد حباً إلى أن سمعت من الرسول صلى الله عليه وآله وأصحابه، ولقد قالها لي.
قال العسجدي: ليست هذه الكلمة محمولة على العام، ولكن لها مواضع يجب أن تقال فيها، لأن الزائر يستحقها، ألا يرى أنه صلى الله عليه وآله وأصحابه لا يقول ذلك لأبي بكر، ولا لعلي بن أبي طالب وأشباههما، فأما أبو هريرة فأهل لذاك لبعض الهنات التي يلزمه أن يكون مجانباً لها، وحائداً عنها وقد قال الشاعر:
إذا شئت أن تقلى فزر متواتراً ... وإن شئت أن تزداد حباً فزرغبا
آخر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
آخر:
زر قليلاً لمن يودك غباً ... فدوام الوصال داعي الملال
للعتابي:
ولقد أقول تصبراً وتكرماً ... لما تخرم ودك الأيام
إن تجفني فلطالما قربتني ... هذا بذاك وما عليك ملام
سعيد بن حميد:
إذا كثرت ذنوب من خليل ... فقفه بين وصل واجتناب
وأنظره فللأيام حكم ... بذلك كل ماضي العزم آب
وعاتبه فكم أبدي عتاب ... جلية مشكل بعد ارتياب
ورج النفع في الإعراض عنه ... إذا أخفقت من نفع العتاب
وراجعه بعفوك حين يثني ... عناناً للرجوع أو الإياب
فإن العفو عن ذي الحزم أولى ... إذا قدرت يداك على العتاب
فإنك واجد للحي ذنباً ... وتعدم ذنب من تحت التراب
آخر:
تغير لي فيمن تغير حارث ... وكم من فتى قد غيرته الحوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما ... عتبنا وما بيني وبينك ثالث
سعيد بن حميد:
جعلت لأهل الود ألا أريبهم ... بغدر، وإن مالوا إلى جانب الغدر
وإن أجزي الود الجميل بمثله ... وأقبل عذراً جاء من جهة العذر
واحملهم مني على حكم منصف ... تعلم حزم الرأي من عقب الدهر
وإن يدعني وصل أجبه ملبياً ... وإن يدعني هجر أجب داعي الهجر
وقال:
وكنت إذا ما صاحب مل صحبتي ... صددت، وبعض الصد في الحب أمثل
وقلت جميلاً حين أصرم حبله ... فإن كان لم يأت التي هي أجمل
وقال:

أشكو إلى الله جفاء امرىء ... ما كان بالجافي ولا بالملول
كان وصولاً دائماً عهده ... خير الأخلاء الكريم الوصول
ثم ثناه الدهر عن رأيه ... فحال والدهر بقوم يحول
فإن يعد اشكر له فعله ... وإن يطل هجراً فصبر جميل
آخر:
أردت عتابكم فصفحت إني ... رأيت الهجر مبدأه العتاب
آخر:
من كان لا يرجى لرفع شان ... ودفع لأواء عن الإخوان
وليس في الدين بمستعان ... فعيشه وموته سيان
آخر:
الناس من خادع ومختدع ... وكلهم مانع لما حازا
تعاملوا بالخداع بينهم ... ما جوز الناس بينهم جازا
آخر:
وصاحب كان لي وكنت له ... أشفق من والد على ولد
كنا كساق يمشي بها قدم ... أو كذراع نيطت إلى عضد
وكان لي مؤنساً وكنت له ... ليست بنا وحشة إلى أحد
حتى إذا استرفدت يدي يده ... كنت كمسترفد يد الأسد
وروي عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه حتى يحبه فإن القلوب تتجارى.
وروي أيضاً أنه قال صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة تتلاقى في الهواء، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
وقال رجل لشبيب بن شيبة: إني لأخلص لك الثقة، وأصفي لك المودة، قال شبيب: أشهد على صدقك وعلى صحة ودك، قال: وكيف تشهد على غيبتي وليس معي من الشاهد إلا قولي، قال: لأنك لست بجار قريب، ولا ابن عم نسيب، ولا مشاكل في صناعة فنسترهنك أسباب المحاسدة.
قال عدي بن زيد:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وقلت لأبي سليمان: لم صار التنافس والتعادي وما أشبههما في ذوي القربى أكثر وأشد، وهذا كالشيء المتعالم، وهو غني عن البرهان وإعادة القول والبيانن وليس ذلك كذلك مع الأجانب والأباعد، فإن كان كالشاذ، كما أن التصافي والتخالص أيضاً في ذوي الرحم كالشاذ؟ فقال: إن ذوي القرابة والرحم والنسب يرى كل واحد منهم أنه أولى وأحق بحيازة ما لأبيه وعمه، وأن غيره في ذاك كالمزاحم والدخيل والمتدلي، فتحفزه أعراض كثيرة من الحسد والغيرة والتنافس، على أن يكون هو وحده حاوياً لتلك المواريث من المال، والجاه، والقدر، والمنزلة، وهذه الأعراض لا تعتري الإنسان في البعيد والنسب، والبلد، واللغة، والصناعة والخلق. وكان كلامه أكثر من هذا لكني أوجزته، لأن الرسالة قد طالت، وأخاف أن تمل عند القراءة، وينسب واضعها إلى سوء الاختيار.
كان من دعاء ابن هبيرة: اللهم إني أعوذ بك من بوائق الثقات، ومن الاغترار بظاهر المودات.
وقال أيضاً: اللهم إني أعوذ بك من صديق مطر، وجليس مغر، وعدو يسر.
وقال علي بن ثابت:
إذا أديت حقاً لم أطأطىء ... برأسي عند لقيان الصديق
وليس على مؤدي الحق لوم ... وما هو للملامة بالحقيق
وإن ضيعت حقاً حدث عنه ... كأني قد زنيت على الطريق
آخر:
لعمرك ما أبقى لي الدهر من أخ ... حفي ولا ذي خلة أواصله
ولا من خليل ليس فيه غوائل ... وشر الأخلاء الكثير غوائله
النمر بن تولب العكلي:
أحبب حبيبك هوناً رويداً ... إذا أنت حاولت أن تحكما
آخر:
إذا المرء لم يحببك إلا تكرهاً ... بدا لك من أخلاقه ما يغالبه
ابن سحيم:
إنما مولاك من ترمي به ... من ترامي حين يشتد الوهل
وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
لقد عجبت وما بالدهر من عجب ... يد تشح وأخرى منك تأسوني
وقال عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب:
لا يزهدنك في أخ ... لك أن تراه زل زله
ما من أخ لك لا يعيب ولو حرصت الحرص كله
وله أيضاً:
لا تركبن الصنيع الذي ... تلوم أخاك على مثله
ولا يعجبنك قول امرىء ... يخالف ما قال في فعله
شاعر:
وأبيض قد نادمته فدعوته ... إلى بدوات الأمر حلو شمائله

أخي ثقة إن ابتغ الجد عنده ... أجده ويلهيني إذا شئت باطله
آخر:
وجرب حتى لو يشاء إذا رأى ... أخا وجر أنباه بما ضمن الصدر
آخر:
دعاني أخي والخيل بيني وبينه ... فلما دعاني لم يجدني بقعدد
أي بضعيف. قال أبو سعيد السيرافي هذا أحد موضعي قعدد.
شاعر:
فما أصب إلى إلف أفارقه ... وما تصدع أحشائي من الشفق
آخر:
أن المحب إذا تقادم عهده ... نسي الحبيب وسام صاحبه القلى
العرب تقول: السؤال عن الصديق إحدى القرابتين.
آخر:
بأي جريرة أشكو الزمانا ... لأول من وثقت به فخانا
آخر:
تجنب صديق السوء واصرم حباله ... فإن لم تجد منه محيصاً فداره
وصادق إذا صادقت حراً أو امرءاً ... كريماً من الفتيان يرعى لجاره
وقال:
هبوني امرءاً منكم أضل بعيره ... له ذمة إن الذمام كبير
وللصاحب المتروك أعظم حرمة ... على صاحب من أن يضل بعير
آخر:
وفيت كل صديق ودني ثمناً ... إلا المؤمل دولاتي وأيامي
فإنني ضامن ألا أكافئه ... إلا بتسويغه فضلي وإنعامي
آخر:
إذا كنت رباً للقلوص فلا يكن ... رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخها فاردفه فإن حملتكما ... فذاك، وإن كان العقاب فعاقب
آخر:
كنا نعاتبكم ليالي عودكم ... حلو المذاق وفيكم مستعتب
فالآن إذ ظهر التعتب منكم ... ذهب العتاب فليس عنكم مذهب
آخر:
وما أنا بالنكس الدنيء ولا الذي ... إذا صد عني ذو المودة أحرب
ولكنني إن دام دمت، وإن يكن ... له مذهب عني فلي عنه مذهب
ولست إذا ذو الود ولى بوده ... بمنصرف آثو عليه وأكذب
ألا إن خير الود ود تطوعت ... به النفس لا ود أتى وهو متعب
يقال: أثا فلان بفلان إذا وشى به أثوا وإثاوة، سمعت ذلك من أبي سعيد السيرافي.
وأنشد اليزيدي فيما رواه لنا ابن سيف:
ألا إن إخوان الصفاء قليل ... فهل لي إلى ذاك القليل سبيل
قس الناس تعرف غثهم من سمينهم ... فكل عليه شاهد ودليل
آخر:
دعني من المرء وأعراقه ... وماله الجم وأوراقه
فما الفتى كل الفتى غير من ... يستعبد الناس بأخلاقه
أخوك من إن خفت من حادث ... حللت منه بين آماقه
ليس بغدار ولا خائن ... ولا كذوب الوعد مذاقه
ولا الذي يخبر عن وده ... والفعل لا يأتي بمصداقه
طوعك ما دامت له سوقة ... حتى إذا ارتاب بأسواقه
وأبصر الشر بدا مقبلاً ... شمر للمكروه عن ساقه
يذم عند الناس إخوانه ... ويمدح الذم بإشفاقه
يا ليته أعفاك من لسعة ... ومن أياديه وأرقاقه
لا خيره قام به شره ... ولا أفاعيه بدرياقه
وقال آخر:
وأغضي على أشياء لو شئت قلتها ... ولو قلتها لم أبق للصلح موضعا
وإن يك عودي من نضار فإنني ... لأكره يوماً أن أحطم خروعا
آخر:
ويلقونني بالبشر ما دمت فيهم ... فإن غبت عنهم قطعوا الجلد بالسب
وأغضي على أشياء منهم تريبني ... ولولا اصطباري فاض من عظمها قلبي
آخر:
إذا المرء لم يحببك إلا تكرها ... عراض العلوق لم يكن ذاك باقيا
كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشد تغانيا
ولست بهياب لمن لا يهابني ... ولست أرى للمرء مالا يرى ليا

كان ابن كعب يقول: أنا أستجفي هذا القائل، ولم لا أرى لصديقي فوق ما يرى لي؟ ولم لا أعتبده بالإعضاء، والإحسان، والتفضل، والصبر؟ ولم لا أفارضه وأقايضه؟ ولم أرى أني مغبون إذا كان الربح له، ولم لا أظلم نفسي في مرضاته وإن وجب أن نتسوى أبداً في الفعل والقول، ونتكايس في الانقباض والانبساط، ونتحافظ على اختلاس الحظ والنصيب، فهل تركنا لأصحاب المذاب والتطفيف شيئاً من الدناءة إلا وأخذنا به، ورأيناه مرغوباً فيه، تالله! ما هذا من الصداقة في شيء، وإنه إلى الخساسة والنذالة أقرب.
وقال بعض العلماء: التمس ود الرجل العاقل في كل حين، وود الرجل ذي النكر في بعض الأحايين، ولا تلتمس ود الرجل الجاهل في حين.
قيل لديوجانيس: ألك صديق؟ قال: نعم، ولكني قليل الطاعة له، قيل: لعله غير ناصح فلذلك أنت على ذاك قال: لا بل هو غاية في النصح، نهاية في الشفقة، قيل: فلم أنت على دأبك هذا المذموم مع إقرارك بفضل صديقك؟ قال: لأن جهلي طباع، وعلمي مكسوب، والطباع سابق، والمكسوب تابع، قيل: فدلنا على صديقك هذا الناصح المشفق حتى نخطب إليه صداقته، ونجتهد في الطاعة له، والقبول منه، قال: صديقي هو العقل، وهو صديقكم أيضاً، ولو أطعتموه لسعدتم ورشدتم، ونلتم مناكم في أولاكم وأخراكم، فأما الصديق الذي هو إنسان مثلك فقلما تجده، فإن وجدته لم يف لك بما يفي به العقل، ولم يبلغ بك ما يبلغ بك العقل، وربما أتعبك، وربما حزبك، وربما أشقاك، فاكبحوا أعنتكم عن الصديق الذي يكون من لحم ودم وعظم، فإنه يغضب فيفرط، ويرضى فيسرف، ويحسن فيعدد، ويسيء فيحتج، ويشكك فيضل.
قال الشاعر:
أخي لن تستفيد، الدهر، مثلي ... شريكاً في الحياة وفي الممات
أتتركني وأنت ترى مكاني ... وتطلبني إذا حانت وفاتي
فليس بنافعي طلب بثأري ... وأخذك من بغاني بالترات
فإن أهملتني وطرحت حقي ... عليك فلا تغافل عن وصاتي
بني إذا هلكت فلا تضعهم ... وصن عمن يعاديني بناتي
فلو كنت الأسير ولا تكنه ... عزمت على حياتك لي حياتي
قال عيسى بن مريم عليه السلام فيما حدثنا ابن الجمل الكاتب النصراني لتلامذته: علامتكم التي تعرفون بها أنكم مني؛ أن يود بعضكم بعضاً.
وقال عيسى أيضاً لأيشوع تلميذه: أما الرب فينبغي أن تحبه بكل قلبك، ثم تحب قرينك كما تحب نفسك، قيل له: بين لنا يا روح الله ما بين هاتين المحبتين حتى نستعد لهما بتبصرة وبيان، قال: إن الصديق تحبه لنفسك، والنفس تحبها لربك، فإذا صنت صديقك فلنفسك تصون، وإذا جدت بنفسك فلربك تجود.
وقال الشاعر:
ومن لم يكن منصفاً في الإخاء ... إن زرت زار وإن عدت عادا
أبيت عليه أشد الإباء ... وإن كان أعلى قريش عمادا
وقارضته الوصل كيلاً بكيل ... ووزناً بوزن علي لدادا
فإن هو صحح في وده ... جعلت اللسان له والفؤادا
وإن بدل القول دون الفعال ... بذلت اللسان وصنت الودادا
قيل لعبد الله بن المبارك: إن قوما يلتقون بالبشر والسلام فإذا تفرقوا طعن بعضهم على بعض. فقال: أعداء غيب، إخوة تلاق، تباً لهذه الأخلاق، كأنما شقت من النفاق.
وقال آخر:
وإذا صفا لك من زمانك واحد ... فهو المراد، وأين ذاك الواحد
آخر:
وإن امرءاً يصلي الصديق بشره ... لأول من يبقى بغير صديق
قال سعيد بن ميمون: لقيت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود فصافحني ثم قال:
إذا شئت أن تلقى خليلاً مصافياً ... لقيت، وإخوان الثقات قليل
فقلت: أمثلك يقول الشعر؟ فقال: أو ما علمت أن المصدور إذا نفث برأ.
وقال بزرجمهر: عاملوا أحرار الناس بمحض المودة، والعامة بالرغبة والرهبة، وسوسوا السفلة بالمحاور صراحاً.
شاعر:
إذا صديق نكرت جانبه ... لم تعيني في مرامه الحيل
آخر:
إذا المرء لم يبذل من الود مثل ما ... بذلت له فاعلم بأني مفارقه
فإن شئت فارفضه فلا خير عنده ... وإن شئت فاجعله صديقاً تماذقه

قلت للهائم أبي علي: من تحب أن يكون صديقك؟ قال: من يطعني إذا جعت، ويكسوني إذا عرين، ويحملني إذا كللت، ويغفر لي إذا زللت، فقال له علي بن الحسين العلوي: أنت إنما تريد إنساناً يكفيك مؤونتك، ويكفلك في حالك، كأنما تمنيت وكيلاً فسميته صديقاً، فما أحار جواباً.
وقلت للبنوي ولقيته بالدسكرة سنة خمس وستين: من تحب أن يكون صديقك؟ قال: من يقيلني إذا عثرت، ويقومني إذا ازوررت ويهديني إذا ضللت، ويصبر علي إذا مللت، ويكفيني ما لا أعلم وما علمت.
وسمعت أبا عامر النجدي يقول: الصديق من صدقك عن نفسه لتكون على نور من أمرك، ويصدقك أيضاً عنك لتكون على مثله، لأنكما تقتسمان أحوالكما بالأخذ والعطاء، في السراء والضراء، والشدة والرخاء، فليس لكما فرحة، ولا ترحة، إلا وأنتما تحتاجان فيهما إلى الصدق والانكماش، والمساعدة على اجتلاب الحظ في طلب المعاش.
وقال أيضاً: قيل لأعرابي: ألك صديق؟ قال: لا ولكن أليف.
شاعر:
ويلقونني بالبشر ما دمت فيهم ... فإن غبت عنهم قطعوا الجلد بالسب
وأغضي على أشياء منك تريبني ... ولولا اصطباري فاض عن عظمها قلبي
وما ذاك من ضعف ولا سوء محتد ... ولكن تناسي الذنب أقطع للذنب
آخر:
لقد أسمع القول الذي كاد كلما ... تذكرنيه النفس قلبي يصدع
فأبدي لمن أبداه مني بشاشة ... كأني مسرور بما منه أسمع
وما ذاك من عجب به غير أنني ... أرى أن ترك الشر للشر أقطع
آخر:
نغيب إذا غبنا بنصح ونلتقي ... بأحسن ما إلفان ملتقيان
ونخفي الهوى عمن أخاف وإننا ... إلى من أمناه لمشتكيان
آخر:
يحيي ويستحيي إذا ما لقيته ... وإن غبت أو وليت أرتع في عرضي
ولو شئت قد عض الأنامل نادماً ... وأوطأته عن ذاك في منزل دحض
ولكنه إحدى يدي فلم إجد ... سبيلاً إلى صول لبعضي على بعض
عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر:
فأنت أخي ما لم يكن لي حاجة ... فإن عرضت أيقنت أن لا أخاليا
فلا ازداد ما بيني وبينك بعدما ... بلوتك في الحاجات إلا تماديا
وله:
أصد صدود امرىء مجمل ... إذا حال ذو الود عن حاله
ولست بمستعتب صاحباً ... إذا جعل الصرم من باله
ولكنني صارم حبله ... وذلك فعلي بأمثاله
وإني على كل حال له ... من إدبار ود وإقباله
لراع لأحسن ما بيننا ... لحفظ الإخاء وإجماله
وأنشد الأصمعي:
إذا ما امرؤ ساءتك منه خليقة ... ففي الصفح طي للذنوب جميل
وإني لأعطي المال من ليس سائلاً ... حفاظاً وإخوان الحفاظ قليل

حدثني أبو حامد العلوي، وكان من الحجاز، سنة سبعين وثلاثمائة بمدينة السلام قال: رمى أعرابي من بني هلال عن حيه إلى أطراف الشام فقيل له: من خلفت وراءك؟ قال: خلفت والداً ووالدة، وأختاً، وابن عم، وبنت عم، وعشيقة، وصديقاً، قيل له: فكيف حنينك إليهم؟ قال: أشد حنين، قيل: فصفه لنا؟ قال: أما حنيني إلى والدي فللتعزز به، فإن الوالد عضد وركن يعاذ بهما، ويؤوى إليهما، وأما نزاعي إلى الوالدة فللشفقة المعهودة منها ولدعائها الذي لا يعرج إلى الله مثله، وأما شوقي إلى الأخت فللصيانة لها، والتروح إليها، وأما شوقي إلى ابن العمم فللمكانفة له والانتصار به، وأما ابنة العم فلأنها لحم على وضم أتمنى أن أشبل عليها بالرقة، أو أصلها ببعض من يكون لها كفؤاً، ويكون لنا إلفاً، وأما صبابتي بالعشيق فذاك شيء أجده بالفطرة والارتياح الذي قلما يخلو منه كريم له في الهوى عرق نابض، وفي المجون جواد راكض. وأما الصديق فوجدي به فوق شوقي إلى كل من نعته لك لأني أباثه بما أجل أبي عنه، وأجبأ من أمي فيه، وأطويه عن أختي خجلاً منها، وأداجي ابن عمي عليه خوفاً من حسد يفقأ ما بيني وبينه، وأكني عن بنت عمي بغيرها لأنها شقيقة ابن العم، ومعها نصف ما معه، وهي من الشجرة التي تلفنا عيصها، وتلتقي علينا أفنانها، ويجمعنا ظلها. فأما العشيقة فقصاري معها أن أشوب لها صدقاً بكذب، وغلظة بلين لأفوز منها بحظ من نظر، ونصيب من زيادة، وتحفة من حديث، وكل هؤلاء مع شرف موقعهم مني، وانتسابهم إلي دون الصديق الذي حريمي له مباح، وسارحي عنده مراح، أرى الدنيا بعينه إذا رنوت، وأجد فائتي عنده إذا دنوت، إذا عززت به ذل لي، وإذا ذللت له عز بي، وإذا تلاحظنا تساقينا كأس المودة، وإذا تصامتنا تناجينا بلسان الثقة، لا يتوارى عني إلا حافظاً للغيب، ولا يتراءى لي إلا ساتراً للعيب. قيل له: فهل نمى إليك خبره منذ بان عنك أثره؟ قال: نعم، لحقني بعض فتيان الحي أمس فسألته قرابتي وعشيرتي فنعت لي كلاً، وأطاب أخبارهم، حتى إذا سألته عن الصديق قال: ماله هجيري سواك، إن عبر فباسمك يستقل، وإن تنفس فبذكرك يقطع، وإذا أوى إلى ندوة الحي فبلسانك ينش وجودك يذكر، لا يمر بمعهد لك إلا حياه، ولا بمكان حله معك إلا تبواه، فقلت له: كف قليلاً فقد أججت في صدري ناراً كانت طافئة، وأبديت صبابة كانت خافية، وما أراني منتفعاً بالعيش دون أن أشخص إليه غير مبال بهذه الميرة والغيرة التي خرجت من جراهما.
قال أبو حامد: فضرب والله كبد راحلته إلى حيه، وترك ما كان فيه مستعراً مستقتراً. قلت لأبي حامد: ما أفصح هذا اللفظ، وما أرق هذا الحديث، لكني أنكرت قوله: جواد راكض، قال: أراد ذو ركض، ومثل هذا يندر في كلامهم.
شاعر:
طوى الكشح عمرو للصديق على حقد ... وغنى له من شدة الكرب والوجد
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... لقد زادني مسراك وجداً على وجد
أما في صروف الدهر أن ترجع النوى ... بلى وبذاك القرب يوماً من البعد
وسمعت أبا دلف الخزرجي يقول: أنا أستجفي الشاعر الذي يقول:
والله لا كنت في حسابي ... إلا إذا كنت في حسابك
فإن تزرني أزرك أو إن ... تقف ببابي أقف ببابك
وكان يقول: ما هذه الغلظة والفظاظة، وما هذه المكايسة والمصادقة، أفليس لو قابلك صاحبك بمثل هذا الأمر وقف الأمر بينكما، وانتكث حبل المودة عنكما، ودبت الشحناء في طي حالكما.
وكتب أبو النفيس إلى صاحب له كان يغشاه كثيراً، ويباثه طويلاً:
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس ينبغي - أبقاك الله - أن تغضب على صديقك، إذا نصح لك في جليلك ودقيقك، بل الأقمن بك، والأخلق لك أن تتقبل ما يقوله، وتبدي البشاشة في وجهه، وتشكره عليه حتى يزيدك في كل حال ما يجملك، ويكبت عدوك، والصديق اليوم قليل، والنصح أقل، ولن يرتبط الصديق إذا وجد بمثل الثقة به، والأخذ بهديه، والمصير إلى رأيه، والكون معه في سرائه وضرائه، فمتى ظفرت بهذا الموصوف فاعلم بأن جدك قد سعد، ونجمك قد صعد، وعدوك قد بعد والسلام.
شاعر:
وكان الصديق يزور الصديق ... لشرب المدام وعزف القيان
فصار الصديق يزور الصديق ... لبث الهموم وشكوى الزمان
شاعر:

أتطلب صاحباً لا عيب فيه ... وأي الناس ليس له عيوب
قال معاوية بن أبي سفيان: أكلت الطعام حتى لم أجد طعمه، وركبت الدواب حتى استرحت إلى المشي، ونكحت الحرائر والإماء حتى ما أبالي وضعت ذكري في فرج أو حائط، وما بقي من لذتي إلا جليس اطرح بيني وبينه الحشمة.
شاعر:
وواثق باعتقادي ليس ينصفني ... إذا تزيدت رفقاً زاد عدوانا
أضربي حسن خلقي عند عشرته ... وربما ضر حسن الخلق أحيانا
وأنشد العطافي فيما رواه لنا المرزباني عن أبي عمرو عنه:
عنف العتاب ملجة ... فتوق من عنف العتاب
واستبق خلة من يلو ... م فذاك أدنى للإياب
واصفح عن الأمر الذي ... إعلانه هتك الحجاب
آخر:
كفى حزناً ألا صديق ولا أخ ... أفاد غنى إلا تداخله كبر
وإلا التوى أو ظن أنك دونه ... وتلك التي جلت فما عندها صبر
فلا زاد فوق القوت مثقال ذرة ... صديق ولا أوفى على عسره يسر
وما ذاك إلا رغبة في إخائه ... وإلا حذار أن يميل به الغدر
ومن صحب الأيام عاتب صاحباً ... وحالف عذالاً وأدبه الدهر
امرؤ القيس:
وخليل قد أفارقه ... ثم لا أبكي على أثره
شاعر:
لا مرحباً بوصال ذي ملق ... تكدي مودته ولا تجدي
وإذا الصديق ذممت خلته ... صيرت قطع حباله وكدي
حتى أرى خلاً يعاشرني ... بمودة أطرى من الورد
آخر:
وصلتك لما كان ودك خالصاً ... وأعرضت لما صار نهباً مقسماً
ولن يلبث الحوض الوثيق بناؤه ... على كثرة الوراد أن يتهدما
شاعر:
ليهنئك بغض في الصديق وظنة ... تحدثك الشيء الذي أنت كاذبه
وكتب عبد الله بن المعتز إلى صديق له: قد أعدت ذكر تصحيح المودة وإخلاص الموالاة بعد أن أكدهما الله لك مني، ومنك عني، وحللت أعلى المراتب من قلبي، وحزت أجزل الحظوظ من ودي، وخاطبك بذلك ضميري، وظهر شاهده من فعلي، فلا تزرين على ما بيننا بالاستزادة بما لا مزيد فيه، والتذكير بما لا ينسى، والتجديد لما لا يخلق، والوصف لما قد عرف، حتى كأن الإخاء معتل، وعقد الوصل منحل، والثقة لم تقع، والهجر متوقع، وسوء الظن يفري ويدع.
لآخر: أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما.
وكتب آخر: أنا والله الولي المخلص، والواد المصحح، ومن إذا شد عقدة أوثقها، وإذا عقد مودة صدقها، والمماذق أخو المنافق، والشاهد هدف للغائب، والرجل يعرف موقع رأيه إذا مال ووالى، وإذا انحرف وعادى، وإذا اجتنب واجتبى، وحركات الإنسان ملحوظة، وأعماله محفوظة، وتصرفه بين ولي مشفق، وعدو مطرق، وكل يرصده وينقده، وللسانه فلتات، ولقلبه هفوات.
وقال بعض البلغاء: ليس تكمل محاسن الصفح إلا بالإضراب عن مذلة التوبيخ، فإن التأنيب أوجع وقعاً في وجه الكريم، من وقع الضرب في بدن اللئيم.
وقال أعرابي: الموبخ بعد العفو أولى بالتوبيخ، لأنه أفسد النعمة بالتذكير، وقبح الصفح بالتعبير.
وقال سهل بن هارون: العفو الذي يقوم مقام العتق ما سلم من تعداد السقطات، وخلص من تذكار الزلات.
وقال رجل للفضل بن سهل ذي الرئاستين: أنت أحق من تغمد هذه الفرطة، واغتفر هذه السقطة.
وقال أعربي: الودود من عذر أخاه، وآثره على هواه.
وكتب النصير إلى صديق له: سقياً لدهر لما خلي بنا، خلا منا، ولما تصدى لنا، تولى عنا، تلك أحق الأيام بالذكرى.
وقال الأحوص المدني: اجعل أنسك آخر ما تبذل من ودك ومن الاسترسال، حتى تجد له مستحقاً.
وقال أعرابي: إذا جاد لك أخوك بأكثره، فتجاف له عن أيسره.
وقال آخر: الحر يؤثر كرم الاستبقاء، على لؤم الاستقصاء.
وكتب الجراحي إلى صديق له: حرسني الله من الشك في إخلاصك، وأعاذني من سوء التوكل عليك، وأجارني مما يوحش منك، ويباعد عنك.
وقال النصير لصاحب له: أرجو أن يكون فيما لنا عندك، دليل على ما عندنا لك، وإن كنت بالفضل أولى، وبالمكرمة أحرى.

وأخبرنا علي بن عيسى قال: أنبأنا ابن دريد قال: أنشدنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال: وأظنها لابن قيس الرقيات:
لا يعجبنك صاحب ... حتى تبين ما طباعه
ماذا يضن به عليك ... وما يجود به اتساعه
أو ما الذي يقوى عليه ... وما يضيق به ذراعه
وإذا الزمان رمى صفات ... ك بالحوادث ما دفاعه
فهناك تعرف ما ارتفاع ه ... وى أخيك وما اتضاعه
آخر:
فمن يك لا يدوم له وصال ... وفيه حين يغترب انقلاب
فعهدي دائم لهم وودي ... على حال إذا شهدوا وغابوا
وأنشد الأصمعي ولم يسم قائله:
تبدي لك العين ما في نفس صاحبها ... من الشناءة أو ود إذا كانا
إن البغيض له عين يصد بها ... لا يستطيع لما في الصدر كتمانا
وعين ذي الود ما تنفك مقبلة ... ترى لها محجراً بشاً وإنسانا
والعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
قال أبو هاشم الحراني: ومن طباع الكريم وسجاياه رعاية اللقاءة الواحدة، وشكر الكلمة الحسنة الطيبة، والمكافأة بجزيل الفائدة، وأن لا يوجد عند عرض الحاجة مستعملاً سوم عالة.
وأنشدنا ابن كعب لعبد الله بن معاوية:
العهد عهدان فعهد امرىء ... يأنف أن يعذر أو ينقضا
وعهد ذي لونين ملالة ... يوشك إن ودك أن يبغضا
إن لم تزره قال قد ملني ... وبالحري إن زرت أن يعرضا
شيمته مثل الخضاب الذي ... بينا تراه قانياً إذا نضا
قال العباس بن الحسن العلوي لما مات الزبيري: رحم الله أبا بكر فقدته فما تمسكت بعده من أخ بعروة إلا تجذمت في يدي.
وعزى يزيد بن جرير آخر فقال: إني لم آتك شاكاً في عزمك، ولا زائداً في علمك، ولكنه حق الصديق على الصديق، فإن استطعت أن تسبق السلوة بالصبر فافعل.
وكتب عبد الله بن العباس بن الحسن العلوي إلى صديق له: أما بعد فمثل إعظامي إياك دعا إلى الانقباض عنك، ومثل ثقتي بك دعا إلى الانبساط إليك، فلما تكافأ هذان في نفسي كان أملكهما بي، وأولاهما بالأثرة عندي أقربهما إلى موافقتك، وأوقعهما بمحبتك. فعلمت أن أسر إخوانك لك أفزعهم عند الملمات إليك، وأوثقهم عند حوادث الأمور بك، ثم شفع ذلك عندي ما يدعو إليه المرء نفسه، وتنازعه نحوه من الطلب وتثقل عليه المؤونة فيدمن الإمساك.
وكتب غسان بن عبد الحميد المدني إلى جعفر بن سليمان الهاشمي يعاتبه: بلغني أن غاشاً ظالماً أتاك بأمر لم أكن له أهلاً، ولم تكن بقبوله خليقاً، لأنني لم أكن بأشباهه معروفاً، ولم تكن على استماع مثله مخوفاً، فوجد له فيك مساغاً، وعندك مستقراً، وكنت أحسب منازل إخوانك عندك، والثقة لهم منك في حصن حصين، ومحل مكين، لا تناله أكاذيب الكاذبين، ولا أقاويل المفترين، وذلك أن الكاذب كان بالتهمة علي في منزلي وحرمتي أحق مني بالتهمة على رأيي وخلقي، وأنا كنت عندك بالثقة في وفائي أحق منه بالتصديق في عضيهته إياي، فإن الأخ المخبور أولى بالثقة من الساعي بالكذب والزور، وإذا كان تحافظ الإخوان إنما هو معلق بأيدي السفهاء إذا شاؤوا سعوا، فقيل قولهم، فكيف تبقى على ذلك أخوة، أو ترعى معه حرمة، أو يصلح عليه قلب، أو يسلم معه صبر؟.
سهل بن هارون:
وما العيش إلا أن تجود بنائل ... وإلا لقاء الأخ بالخلق العالي
وكتب محمد بن عبد الملك الزيات إلى الحسن بن وهب:
لعمرك ما عيشة رغدة ... لدي إذا غبت بالراضيه
وإني إلى وجهك المستنير ... في ظلمة الليلة الداجيه
لأشوق، من مدنف خائف ... لقاء الحمام، إلى العافيه
قيل لأبي زياد الكلابي: إنك فيما نراك تداجي إخوانك كثيراً، وهذا خلق أنت عالق به قال: لأن أداجيهم مستديماً لما بيني وبينهم أحب إلي من أن أدع المداجاة التي أملكها ولا أملك المصافاة التي قد فقدتها.
وسمعت ابن كعب الأنصاري ينشد كثيراً:

يا أخاً كان يرهب الدهر من ذكري له عند نائبات الحقوق كنت تحتل حبة القلب من قلبي وتجري مجرى دمي في عروقي كنت مني مكان بعضي من بعضي فأصبحت في مدى العيوق ما قذى عينك التي كنت ترعاني بها مرة وأنت صديقي أم بدت حاجة إليك أحلتني محل البعيد منك السحيق صرت تشري إذا التحفت بثوبي وتوحي إذا سلكت طريقي سمعت علي بن القاسم الكاتب يقول: قلت لأبي الفضل، يعني ابن العميد: ما ينقضي عجبي من إقدامك على الحاجب النيسابوري بعد التصافي الذي كنتما عليه، والملح الذي تجتمعان له، والرضاع الذي تتراوحان فيه، ووالله ما يفصل الناظر بينكما الظالم من المظلوم منكما، وإن إشكال الحال فيكما يدعو إلى سوء الظن بكما، وتوجيه اللائمة الشنيعة إليكما. فقال: يا أبا الحسن والله لقد كدت أن أكونه لولا أن الله بسط يدي عليه، وأظفرني به، إنه لما استحال الحال بليني وبينه أظلم الجو في عيني، وعزب عني رأيي، ووجلت من صولته وجولته، وكان كما علمت خطيب اللسان، بعيد الغور، خفيف الفور، يمري من ثبج بحر، ويتلقى جميع أموره بصدر ونحر، فما هنأني عيش، ولا طاب لي شرب، ولا فارقني وسواس حتى كان منه ما كان، فقلت له: كيف استحالت الحال بعد توكدها وتعهدها؟ قال: طلب من الحظوة عند ركن الدولة ما كنت أنا قد أفنيت شبابي، وعمري، وذخري له، فلم تسمح نفسي أن أفرج له عنه، ومنازل الأولياء عند الملوك محوطة بالغيرة الشديدة، والحمية المشتعلة، وليست الغيرة عليها إلا فوق الغيرة على السراري الحظيات، وبنات العم الموافقات، وفوق غيرة الضرة من الضرة، وإن الذي يعتري الرجال في هذه الأحوال أزيد من الذي يعتري النساء، إلا أن الرجال لا يتواصون بترك هذا الخلق، ولا يغير بعضهم بعضاً باستعماله، فقلت له: أفكان يرتقي لو بقي إلى أكثر من الحجابة التي أنت مسلم لها إليه، وغير منازع له في شيء منها؟ فقال: ما أسلم صدرك، وأصدأ نصلك، الرجل كان يحدث نفسه بالوزارة، ويوسوس إلى صاحبه بإثارة المال من الوجوه المجهولة، أفكان يجوز لي أن أحلم بهذا في النوم، ثم أتمتع بالعيش باليقظة؟ لا والله! وبعد فأنا كما قال الشاعر:
ولست مكلفاً أبدا صديقاً ... معاشرتي على خلق ممض
ولا أن يستقيم على اعوجاجي ... ويغفر بعض أحوالي لبعض
ولكني له عبد مطيع ... على علاته أرضى واغضي
حرير حين يلمسني صديقي ... حديد تحت ضرس رام عضي
فإن باشرتني فإليك أمري ... وإن باغضتني فإليك بغضي
وكما قال الآخر:
ألم تعلمي يا عصم كيف حفيظتي ... إذا السر خاضت جانبيه المجارح
أفر حذار الشر والشر تاركي ... وأطعن في أنيابه وهو كالح
قلت لعلي بن القاسم: كيف كان يستجيز قتل النفوس وهو يتفلسف؟ قال: يا هذا الدين الذي نشره على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ينافق به، ويكذب فيه، والفلسفة التي وضعت على ألسنة قوم مجهولين لا يجوز أن ينافق بها، ويكذب فيها، إنما كان يتشيع بما يقوله ويدعيه، ويجب أن تكون مبايناً لهذا السواد الذي هو فيه، وحب الجاه، وحب الرئاسة، وحب المال مهالك الخلق أجمعين، نسأل الله تعالى أن يكره إلينا الدنيا، ويرغبنا في التقوى، ويختم لنا ولك بالحسنى بمنه وقدرته.
شاعر:
عدو صديقي داخل في عداوتي ... وإني لمن ود الصديق صديق
أخبرنا أبو السائب القاضي قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: سمعت علي بن عبيدة يقول لصديق له: قسم الله لنا من صفحك ما يتسع لتقصيرنا، ومن حلمك ما يردع سخطك عنا، ويعيد ما كان منك لنا، وزين ألفتنا بمعاودة وصلك، واجتماعنا بزيارتك، وأيامنا الموحشة لغيبتك برؤيتك، وسر بقربك القلوب، وبحديثك الأسماع.
شاعر:
فلا تله عن كسب ود الصديق ... ولا تجعلن صديقاً عدواً
ولا تغترر بهدو امرىء ... إذا هيج فارق ذاك الهدوا
آخر:
فبعدك يا شغب اجتويت صحابتي ... ولاحظني الأعداء بالنظر الشزر
وأبدى لي الشحناء من كان مخفياً ... عداوته لما تغيب في القبر
آخر:
ولئن كنت لا تصاحب إلا ... صاحباً لا يزل ما عاش نعله

 

 

                                     هيا إلى الجزء الثاني من الكتاب